الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقولنا: خاصيةِ كيفيَّةِ دلالتِه: هي إعجازُه، ومعانيه البيانيَّةُ، وما فيه من علمِ البديعِ الذي يذكره الزَّمَخْشَرِيُّ، ومن نحا نحوه» (1).
* وقال الكَافِيجِيُّ (ت:879): «وأمَّا التَّفسيرُ في العُرْفِ، فهو كشفُ معاني القرآنِ، وبيانُ المرادِ.
والمرادُ من معاني القرآنِ أعمُّ، سواءً كانت معاني لغويَّةً أو شرعيَّةً، وسواءً كانت بالوضعِ أو بمعونةِ المقامِ وسَوْقِ الكلامِ وبقرائنِ الأحوالِ؛ نحو: السمَّاء والأرض والجنَّة والنَّار، وغير ذلك. ونحو: الأحكام الخمسة. ونحو: خواصِّ التَّركيب اللازمة له بوجه من الوجوه» (2).
تحليل هذه التَّعريفاتِ:
أوَّلاً: أنَّ بعضَ هذه التَّعريفاتِ قد نصَّ على مهمَّةِ المفسِّرِ، وضابطِ التَّفسيرِ، وهي الشَّرحُ والبيانُ والإيضاحُ.
ثانياً: أنَّ بعضها قد أدخل جملةً من علومِ القرآنِ في تعريفِ التَّفسيرِ، وأنَّها قد جاءت في بعضِها على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، وسبب ذلك: كثرةُ هذه العلومِ، كتعريف أبي حيَّان (ت:745) والزركشيِّ (ت:794).
(1) تفسير ابن عرفة، برواية الأبي (1:59).
(2)
التيسير في قواعد التفسير، للكافيجي (124 - 125).
ويظهرُ أنَّ أصحابَ هذه التَّعريفاتِ لم يُميِّزوا بين التَّفسيرِ وعلوم القرآن، فأدخلوا في مصطلحِ التَّفسيرِ ما ليس منه.
ثالثاً: أنَّ بعضَهم قد توسَّعَ في تعريفِه، وجعلَ بعضَ العلومِ التي ليست من علمِ التَّفسيرِ، ولا من مُهِمَّةِ المفسرِ، جعلَها من صلبِ تعريفِ التَّفسيرِ؛ كابن عرفة (ت:803) الذي جعل علم الإعجازِ من علمِ التَّفسيرِ، والكافيجيِّ (ت:879) الذي أدخل في تعريفه علم أصول الفقه.
وهذا ليسَ بصحيحٍ، ويظهرُ أنَّ سببَ ذلك؛ أنهم لم يُحدِّدُوا مهمةَ المفسِّرِ، حتَّى أنَّ بعضَ من تحدَّث عن العلوم التي تلزمُ المفسِّرَ ذكرَ جملةَ العلومِ الإسلاميَّةِ التي لو كانت في مفسِّرٍ لكان مجتهداً مطلقاً في الشَّريعةِ.
وهذه العلوم، وإن كان المفسِّرُ بحاجةِ شيءٍ منها، إلَاّ أنَّ من ذكرَها لم يذكر المقدارَ الذي يحتاجُه المفسِّرُ من كلِّ علمٍ منها.
كما يظهر أنَّ التخصص الذي يغلب على المفسر يجعله لا يرى أحداً أحقَّ بالتفسير حتى يكتمل في العلم الذي برز هو فيه، لذا ترى الزمخشري (ت:538) لا يرى المفسر مفسراً حتى يكون له نصيب من علم المعاني وعلم البيان (أي: علم البلاغة).
قال الزمخشري: (ت:538): «ثُمَّ إن أملأَ العلوم بما يغمرُ القرائحَ، وأنهضَها بما يبهرُ الألبابَ القوارحَ من غرائبِ نكتٍ يلطفُ مسلكُها، ومستودعاتِ أسرارٍ يدقُّ سِلْكها = علمُ التفسير الذي لا يتمُّ لتعاطيه وإجالةِ النظرِ فيه كلُّ ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن.
فالفقيهُ وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلمُ وإن بزَّ أهلَ الدنيا في صناعةِ الكلامِ، وحافظُ القصصِ والأخبارِ وإن كان من ابن القِرِّيَّة أحفظ، والواعظُ وإن كان من الحسنِ البصري أوعظ، والنحويُّ وإن كان أنحى من سيبويه، واللغويُّ وإن علك اللغاتِ بقوة لحييه = لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجلٌ قد برعَ في علمين مختصين بالقرآنِ، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهَّلَ في ارتيادِهما آونةً، وتعبَ في التنقيرِ عنهما أزمنةً، وبعثته على تتبُّعِ مظانِّهما هِمَّةٌ في معرفةِ لطائفِ حجةِ اللهِ، وحرصٌ على استيضاحِ معجزةِ رسولِ اللهِ، بعد أن يكونَ آخذاً من سائرِ العلومِ بحظٍ، جامعاً بين أمرين: تحقيقٍ وحفظٍ
…
» (1).
(1) الكشاف (1: 15 - 17).
وإذا تأمَّلت هذا العلم الذي نصَّ عليه الزمخشري (ت:538) ـ أي: علم البلاغة ـ وجدت أنه إنَّما يحتاجُه من كانَ عملُه زائداً عن مهمَّةِ التَّفسيرِ، كمن يريدُ بيانَ إعجازِ القرآنِ الكريمِ ببلاغتِهِ، فإنَّه لا شكَّ بحاجةٍ إلى التَّبحُّرِ في علم البلاغةِ ليُبيِّنَ البلاغةَ القرآنيَّةَ، ولكن هذا ليس من مهمةِ المفسِّر، واللهُ أعلمُ.
ولو جُرِّدَ التَّفسيرُ من كثيرٍ من هذه المعلوماتِ، لتقاربتْ مناهجُ المفسِّرين، ولكان جلُّ الخلافِ بينهم في وجوهِ التَّفسيرِ، وترجيحِ أقوالِ المتقدِّمينَ.
ولا شكَّ أنَّ هذا لو كانَ، لما كان هناكَ معلوماتٌ كثيرةٌ ومفيدةٌ مما يُرَى الآن في التَّفاسيرِ، ولذا فإنَّ هذه المرحلةَ المهمَّة ـ وهي بيانُ القرآنِ ـ يحسنُ أن تُبرز ويُعتَنَى بها، ثمَّ يمكن أن يؤتَى بعد ذلك بالمعلوماتِ التي ليست من صلبِ التَّفسير.
ولو أخذتَ مجموعةَ آياتٍ، وقرأتها في عددٍ من التَّفاسيرِ، فإنَّكَ ستجدُ اتِّفاقَها في المعلوماتِ المتعلِّقةِ بالبيانِ، وإن اختلفت في طريقةِ عرضِها لها، وفي تحديدِ الوجه المرادِ بالآيةِ، وطريقتِها في التَّرجيحِ.
ثمَّ ستجدُ أنَّ كلَّ تفسيرٍ يتميَّزُ بمعلوماتٍ لا تَجدُها عند الآخرِ، وهذه المعلومات لا حصرَ لها، فقد تكونُ في
علم اللُّغةِ، أو علمِ النَّحوِ، أو علم الصَّرفِ، أو علمِ البلاغةِ، أو علمِ الفقهِ، أو علم الحديثِ، أو علومٍ أخرى.
كما ستجدُ تميُّزاً في ذكرِ بعضِ فوائدِ الآي والاستنباطِ منها، فقد يذكر بعضهم فوائدَ مستنبطةً لا يشيرُ إليها غيرُه، كقول ابن كثيرٍ (ت:774) في تفسير قوله تعالى: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16]، قال:«وقوله: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16]، أي: خُلُقُهم كريمٌ حَسَنٌ شريفٌ، وأخلاقهم وأفعالُهم بارَّةٌ طاهرةٌ كاملةٌ [يعني: الملائكة]. ومن ها هنا ينبغي لحامل القرآنِ أن يكونَ في أفعالِه وأقوالِه على السَّدادِ والرَّشادِ» (1).
ولمَّا كان المقصدُ من التَّعريفِ تحريرُ المرادِ بالعلمِ، كانَ ما ذكرتُ لكَ من نقدِ بعضِ التَّعريفاتِ، أمَّا ما سلكه بعضُ العلماءِ من منهجٍ في كتابةِ تفاسيرِهم، فهذا لا يوجَّهُ إليه النَّقدُ من هذه الجِهةِ؛ لأنَّه أرادَ أن يكونَ في تفسيرِه مثلُ هذه المعلوماتِ الفقهيَّةِ أو النَّحويَّةِ أو الأصوليَّةِ أو غيرِها، لكن إن جُعلتْ هذه المعلوماتُ التي هي خارجةٌ عن حدِّ البيانِ من صلبِ التَّفسيرِ، فها هنا يكونُ النِّقاشُ وتحريرُ المرادِ بمصطلحِ التَّفسيرِ.
(1) تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (8:321).