الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذا يظهر أنك سواءً قطعت أو لم تقطع، فأنت مؤوِّلٌ؛ أي: مفسرٌ، ولا معنى لتخصيص التأويل بأنه ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، والله أعلم.
الاحتمال الثاني:
أن لا يرجع شيءٌ من هذه الفروق إلى هذه المعاني الصحيحةِ، ومن ثمَّ، فإنَّه قولٌ غيرُ مقبولٍ؛ لأنَّه مخالفٌ لمصطلح القرآنِ، ومصطلح السَّلفِ واللُّغةِ. ولأنه لا دليلَ عليه من نقل ولا عقل.
وبهذا يكونُ ما وردَ في بيانِ مصطلحِ التَّفسيرِ والتَّأويلِ الواردِ عن السَّلفِ وأهلِ اللُّغةِ أصلاً يقاسُ عليه ما يذكرُه المتأخِّرُون من فروقٍ.
مسألة: هل في مصطلح التأويل الحادث حظٌّ من الصِّحة في تطبيقه على بعض الأمثلة
؟
إنَّه إذا عُلِمَ أنَّ المتكلِّمَ أراد المعنى الذي يقال: إنَّه خلافُ الظَّاهرِ، فإنَّه إمَّا أن يكونَ من بيانِ كلامِ المتكلِّمِ، فيكونُ من باب التَّفسيرِ، وإمَّا أن يكونَ هو الحقيقةُ التي يؤولُ إليها الكلامُ، فإذا كان ذلك كذلك كان تأويلاً صحيحاً مندرجاً تحت هذين النَّوعينِ، وإن سُمِّيَ بهذا الاسمِ؛ لأنَّ العبرةَ بصحَّةِ المعنى المذكورِ.
وإذا ظهرَ أنَّ المفسِّرَ أخرجَ الكلامَ عن مرادِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم، كان ذلك تحريفاً، وإن سُمِّيَ تأويلاً، لأنَّ النَّظرَ هنا إلى خطأ المعنى المذكورِ، فيكونُ من التَّفسيرِ الباطلِ.
قال شيخُ الإسلامِ ابن تيميَّة (ت:728): «وأمَّا التَّأويلُ؛ بمعنى: صرف اللَّفظِ عن مفهومِه إلى غير مفهومِه، فهذا لم يكن هو المرادُ بلفظِ التَّأويلِ في كلامِ السَّلفِ، اللَّهمَّ إلا أنه إذا عُلِمَ أنَّ المتكلِّمَ أرادَ المعنى الذي يقال أنَّه خلافُ الظَّاهرِ، جعلوه من التَّأويلِ الذي هو التَّفسيرُ؛ لكونه تفسيراً للكلامِ وبياناً لمرادِ المتكلِّمِ به، أو جعلوه من النَّوعِ الآخرِ الذي هو الحقيقةُ الثَّابتةُ في نفسِ الأمرِ التي استأثرَ اللهُ بِعِلْمِهَا؛ لكونِه مندرجاً في ذلك، لا لكونِه مخالفاً للظَّاهرِ.
وكان السَّلفُ ينكرونَ التَّأويلاتِ التي تُخْرِجُ الكلامَ عن مرادِ اللهِ ورسولِه التي هي من نوعِ تحريفِ الكلمِ عن مواضعِه، فكانوا ينكرونَ التَّأويلَ الباطل الذي هو التَّفسيرُ الباطلُ، كما نُنْكِرُ قولَ من فسَّرَ كلامَ المتكلِّمِ بخلافِ مرادِهِ» (1).
(1) الصَّفديَّة (1:291).
ولأضرب لك مثالاً يتضح به هذا المقال:
في المراد بالشاهد في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10]، قولان عن السلف:
الأول: أنَّ الشاهد عبد الله بن سلام، وهو الوارد عن سعد بن أبي وقاص (ت:55)، وعبد الله بن سلام (ت:43)، وابن عباس (ت:68)، ويوسف بن عبد الله بن سلام، ومجاهد (ت:104)، والضحاك (ت:105)، وقتادة (ت:117)، وابن زيد (ت:182).
الثاني: أنَّ الشاهد موسى عليه السلام، وهذا قول مسروق بن الأجدع (نحو: 63) والشَّعبي (ت:103)، واحتجَّا بأنَّ السورة مكيَّة، وشأن عبد الله بن سلام (ت:43) كان بالمدينة، وإنما هي مُحَاجَّةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه.
وإذا تأمَّلت هذا الخلاف وجدتَ أنَّ قول مسروقٍ (ت: نحو: 63) والشعبي (ت:103) أنسب للسياق، وهو الأَولى لأنه يجعل الآية مكيةً في سورة مكيةٍ، ولا يُخرَجُ عن هذا إلا بدليل، وهذا يجعلك تميل إلى هذا القول. لكن يصرفك عنه أنَّ قول الجمهورِ على خلافِه، وفيهم ثلاثة من
الصحابة، وهم أعلم بتأويل معاني القرآن، وفيمَ نزل، فتختار هذا القولَ لهذه العلَّةِ، وهذا ما فعله ابن جرير الطبري (ت:310) عند هذا الاختلاف، فقال:
«والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنْزيل؛ لأن قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} في سياق توبيخ الله ـ تعالى ذكره ـ مشركي قريش، واحتجاجاً عليهم لنبيِّه، وهذه الآية نظيرةُ سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دلَّ على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى.
غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله بأن ذلك عنى به عبد لله بن سلام، وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وشهد عبد الله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني: على مثل القرآن وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمداً مكتوب
في التوراة أنه نبي تجده اليهود مكتوباً عندهم في التوراة كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي» (1).
فإذا رجَّحت هذا وسمَّيته تأويلاً؛ لأنَّك صرفت المعنى عن ظاهر السياق لأجل قرينة أخرى، فإنَّك لم تخرج به عن المعنى الصحيح للآيةِ، وتسمية ذلك تأويلاً لا تُخرجُ هذا المثال عن أن يكون تفسيراً.
مثال آخر:
في تفسير قوله تعالى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، ورد تفسير المعتزلة الذين ينكرون رؤية الباري على خلاف المعنى الظاهر المتبادر الذي فيه إثبات النظر إلى وجه الباري تعالى، ومن ذلك تفسير الأخفش المعتزلي (ت:215) قال: «يعني ـ والله أعلم ـ بالنظرِ إلى اللهِ: إلى ما يأتيهم منْ نِعَمِهِ ورزقِهِ، وقد تقولُ: واللهِ ما أنظرُ إلا إلى اللهِ وإليك؛ أي: أنتظرُ ما عندَ اللهِ، وما عندك» (2).
وقال: «وقولُه: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، يقول: تَنْظُرُ في رزقِها وما يأتيها من اللهِ؛ كما يقولُ الرجلُ: ما أنظرُ إلا إليك.
(1) تفسير الطبري، طـ: الحلبي (26:12).
(2)
معاني القرآن (2:558)، وينظر (1:223، 330، 336).
ولو كان نَظَرَ البصرِ كما يقول بعضُ النَّاسِ، كانَ في الآية التي بعدها بيانُ ذلكَ، ألا ترى أنَّه قالَ:{وَوَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24 - 25]، ولم يقلْ: ووجوهٌ لا تنظرُ ولا تَرَى.
وقولُه {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] يدلُّ الظَّنُّ ها هنا على أنَّ النظرَ ثَمَّ: الثقةُ باللهِ وحُسْنُ اليقينِ، ولا يدلُّ على ما قالوا. وكيفَ يكونُ ذلكَ، واللهُ يقولُ:{لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]» (1).
وهذا المثال من التأويل المذموم الذي هو باسم الانحراف أولى، فتراه صرف اللفظ عن معناه الظاهر، إلى معنى آخر؛ لأجل أنه يعتقد أنَّ الله لا يُرى يوم القيامةِ، وهذا الاعتقاد باطلٌ، لذا فإنَّ التأويل الذي ذكره الأخفش (ت:215) سيكون باطلاً، وهذا التأويل المنحرف مما لا يوافق عليه؛ لأنَّ فيه سلباً لمعاني القرآن، وإخراجاً لها عن ظاهرها بلا حجَّةٍ.
وقد ردَّ الأزهريُّ (ت:370) ما فسَّرَ به الأخفشُ (ت:215)، فقال: «ومنْ قالَ: إنَّ معنى قولِه: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
(1) معاني القرآن (1:330).