الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[القيامة: 23]؛ بمعنى: مُنْتَظِرَة، فقد أَخطأَ؛ لأنَّ العربَ لا تقولُ: نَظَرْتُ إلى الشيءِ؛ بمعنى: انْتَظَرْتُهُ، إنما تقولُ: نَظَرْتُ فلاناً؛ أي: انْتَظَرْتُهُ، ومنه قولُ الحطيئةِ (1):
وَقَدْ نَظَرْتُكُمْ أَبْنَاءَ صَادِرَةٍ
لِلْوِرْدِ طَالَ بِهَا حَوزِي وَتَنْسَاسِي
فإذا قلتَ: نَظَرْتُ إليه، لمْ يكنْ إلَاّ بالعينِ. وإذا قلتَ: نَظَرْتُ في الأمرِ، احتملَ أنْ يكونَ تَفَكُّراً وَتَدَبُّراً بالقلبِ» (2).
هل للتأويل بالمصطلح الحادث حدٌّ يقف عنده
؟
التَّأويل بالمصطلح الحادث لا حدَّ له؛ لأنَّ معتمدَه العقلُ، والعقولُ تختلفُ في مذاهبِها، وطريقتِها في فهم نصوصِ الشَّرعِ، فما لم يكن سائغاً تأويلُه عند قومٍ، هو عند غيرِهم صالحٌ لأن يؤوَّلَ؛ لأنه جارٍ على القواعدِ العقليةِ التي سارَ عليها ذلك المؤوِّلُ الذي رفضَ التَّأويلَ في هذا الموضعِ، ولا تكادُ تجدُ ضابطاً يبيِّنُ سببَ الرَّفضِ، سوى احتمالاتٍ لا تقومُ على علمٍ، ومن أمثلةِ ذلك:
تحدَّث ابن عطيَّةَ (ت:542) عن الميزان في قوله تعالى:
(1) البيت في ديوانه (ص:46).
(2)
تهذيب اللغة (14:371).
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8]، وذكر مذهبين في المرادِ بالميزانِ:
الأوَّلُ أنه مجازٌ استعيرَ به اللَّفظُ للعدلِ.
والثاني: أنه ميزانٌ حقيقيُّ له كفتانِ، كما هو معروفٌ من موازين الناسِ، وأنه توزنُ به الأعمالُ.
ثمَّ رجَّحَ القول الثاني، فقال: «وهذا القولُ أصحُّ من الأوَّلِ من ثلاثِ جهاتٍ:
أوَّلُها: أنَّ ظواهرَ كتاب الله عز وجل تقتضيه، وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام ينطق به، ومن ذلك قوله لبعضِ الصَّحابةِ ـ وقد قال له: يا رسول الله، أين أجدك في يومِ القيامةِ؟ ـ فقال: اطلبني عند الحوضِ، فإن لم تجدني، فعند الميزانِ.
ولو لم يكن الميزانُ مرئيَّاً محسوساً لما أحاله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الطلبِ عنده.
وجهةٌ أخرى: أنَّ النَّظَرَ في الميزانِ والوزنِ والثِّقَلِ والخِفَّةِ المقترناتِ بالحسابِ لا يفسدُ شيءٌ منه، ولا تختلُّ صِحَّتُهُ. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فَلِمَ نخرجُ من حقيقةِ الأمرِ إلى مجازِه دون علَّةٍ؟.
وجهةٌ ثالثةٌ: وهي أنَّ القولَ في الميزانِ هو من عقائدِ الشَّرعِ الذي لم يُعرفْ إلَاّ سَمْعاً، وإن فتحنا فيه باب المجازِ غَمَرَتْنَا أقوالُ الملحدة والزَّنادقةِ في أنَّ الميزانَ والسِّراطَ والجنَّة والنَّار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظٌ يرادُ بها غيرُ الظَّاهرِ.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فينبغي أن يُجرى في هذه الألفاظِ إلى حملها على حقائقها
…
» (1).
وهذا الذي حَذِرَ منه ابن عطيَّةَ (ت:542) قد وقعَ، وقد اعتمدَ بعضُ الفلاسفةِ الذينَ عاشوا في ظلِّ الإسلامِ على مبدئه في التَّأويلِ، وليسَ له أن يقولَ: هذه الأمورُ إنما تُعلمُ من جهةِ السَّمعِ فقط؛ لأنَّ من يؤوِّلُ نصوص المعادِ يمكنُ أن يقولَ: للعقلِ فيها مدخلٌ. وبهذا تضطربُ الأمورُ ولا يسلمُ في الشَّريعةِ بابٌ؛ لأنَّه يمكنُ أن يُحملَ على المجازِ العقليِّ.
وقد اعتمدَ على مبدأ التَّأويلِ الفاسدِ فيلسوفٌ من الفلاسفةِ الذين عاشوا في ظلِّ الإسلامِ، وهو الفيلسوفُ ابن رُشدٍ الحفيد، فقد ذكرَ في كتابه «فصل المقال فيما بين
(1) المحرر الوجيز، طـ: قطر (5:432 - 433).
الحكمة والشريعة من الاتصال» أنَّ الشَّريعةَ على ثلاثةِ أقسامٍ:
ظاهرٌ لا يجوزُ تأويله
…
وظاهرٌ يجبُ على أهلِ البرهانِ تأويلُه، وحملهم إياه على ظاهره كفرٌ، وتأويل غير أهل البرهانِ له، وإخراجه عن ظاهره كفرٌ في حقِّهم أو بدعة، ومن هذا الصِّنفِ آيةُ الاستواء وحديث النُّزول
…
والصِّنف الثَّالث من الشَّرع متردِدٌ بين هذين الصنفينِ، يقع فيه شكٌ، فيلحقُه قومٌ ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوزُ تأويله، ويلحقه آخرونَ بالباطنِ الذي لا يجوزُ حمله على الظاهرِ (1).
ثمَّ قال: «فإن قيل: فإذا تبين أن الشَّرع في هذا على ثلاث مراتب، فمن أي المراتبِ الثلاثِ هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله؟.
فنقول: إنَّ هذه المسألة الأمر فيها بيِّنٌ أنها من الصِّنفِ المختلَفِ فيه، وذلك أنَّا نرى قوماً ينسبون أنفسهم
(1) ينظر: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لابن رشد (ص:27 - 28).
إلى البرهان يقولون: إنَّ الواجبَ حملُها على ظاهرِها، إذ كان ليس هناك برهان يؤدي إلى استحالة الظَّاهر فيها، وهذه طريقة الأشعريَّة.
وقوم آخرون ممن يتعاطون البرهان (1) يتأوَّلونها، وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً، وفي هذا الصِّنف أبو حامد (2) معدودٌ هو وكثيرٌ من المتصوِّفة» (3).
وهنا ترى أنَّ الفيلسوفَ اعتمد التَّأويلَ، فما الذي يدلُّ على خطئه لو كانَ العقلُ المجرَّدُ هو المعتمدُ في ذلكَ؟!.
لقد استطالَ هذا الفيلسوفَ وغيرُه على نصوصِ الوحي، وأدخلوا كثيراً من نصوصِه في باب التَّأويلِ الفاسدِ، اعتماداً على هذا المصطلحِ الحادثِ، ولم يقدرْ من سلكَ سبيلَ التَّأويلِ أن يتصدَّى لهم، بل كانَ مُنتقصاً عندهم إذا أرادَ ردَّهم عنه؛ لأنَّ الفيلسوفَ يرى أنَّه سلكَ سبيلاً هم سلكوها، وليست حكراً عليهم، بل هي مُشَاعٌ لجميعِ العقولِ، وانظر مصداقَ ذلك في كتاب الفيلسوفِ ابن رشدٍ
(1) يقصدُ بالبرهان: الطرق الفلسفيَّةِ التي يعتمدُها.
(2)
هو الغزالي.
(3)
فصل المقال (ص:28).