المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الأول ـ التدبر والتفسير: - مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر

[مساعد الطيار]

فهرس الكتاب

- ‌المقدّمة

- ‌تطبيق على مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي

- ‌مناقشة هذا المصطلح:

- ‌أولاً: في تحديد التفسير بالمأثور في هذه الأنواع الأربعة:

- ‌ثانياً: علاقة المأثور بالرأي:

- ‌القسم الأول:الرأي المحمود، وهو المبني على علم، وهو نوعان:

- ‌النوع الأول:

- ‌النوع الثاني:

- ‌القسم الثاني:

- ‌وبعد هذا يتبين ما يأتي:

- ‌ثالثاً: ما ترتب على مصطلح التفسير بالمأثور:

- ‌الأولى: الحكم على التفسير بالمأثور بأنه يجب الأخذ به

- ‌الثانية: افتراض وقوع الاختلاف بين المأثور والرأي

- ‌الثالثة: تقسيم كتب التفسير بين المأثور الرأي

- ‌تصحيح المسار في مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي

- ‌أولاً: التفسير الذي لا يدخله الرأي:

- ‌ثانياً: التفسير الذي يدخله الرأي:

- ‌مفهوم التفسير

- ‌نظرة في المعلومات الواردة في كتب التفسير

- ‌تعريفاتُ العلماءِ للتَّفسيرِ

- ‌تحليل هذه التَّعريفاتِ:

- ‌زيادات المتأخرين في كتب التفسير:

- ‌تطبيق على سورة الكوثر

- ‌أولاً ـ التفسيرُ:

- ‌ الكوثر

- ‌وجوه التفسير في السورة:

- ‌الصلاة والنَّحرُ:

- ‌ثانياً ـ المعلومات التي تأتي بعد التَّفسيرِ:

- ‌فائدة معرفة مفهوم التفسير:

- ‌مفهوم التأويل

- ‌ما الفرق بين معنيي التأويل

- ‌آثار في إطلاقِ التَّأويلِ على التَّفسيرِ:

- ‌آثار في إطلاقِ التَّأويلِ على ما تؤول إليه حقيقة الشيء:

- ‌المصطلحُ المتأخِّرُ في مفهومِ التَّأويل:

- ‌ مثال لأثر هذا المصطلح في حملِ كلام الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم عليه:

- ‌تنبيه:

- ‌سبب ظهور هذا المصطلح الحادث:

- ‌هل هناك فرق بين التفسير والتأويل

- ‌الاحتمال الأول:

- ‌الاحتمال الثاني:

- ‌مسألة: هل في مصطلح التأويل الحادث حظٌّ من الصِّحة في تطبيقه على بعض الأمثلة

- ‌هل للتأويل بالمصطلح الحادث حدٌّ يقف عنده

- ‌تفسير آية التأويل من سورة آل عمران:

- ‌علاقةُ المتشابِه بالتَّأويلِ من خلال آيةِ آل عمران:

- ‌ أوَّلاً ـ إذا كانَ التَّأويلُ بمعنى التَّفسيرِ:

- ‌ثانياً ـ إذا كان التَّأويلُ بمعنى: ما تؤول إليه حقيقةُ الشيءِ:

- ‌القول في الأحرف المقطعة:

- ‌مفهوم الاستنباط

- ‌معنى الاستنباط:

- ‌مِمَّ يكونُ الاستنباط

- ‌تحليل عملية الاستنباط، وذكر أنواعه المندرجة تحته:

- ‌حكم الاستنباط:

- ‌القانون الكليِّ لصحة الاستنباط من عدمه:

- ‌أمثلة للاستنباطات من النص الظاهر، ومن النصِّ الذي يحتاج إلى تفسير:

- ‌أوَّلاً ـ الاستنباط من النص الظَّاهرِ الذي لا يحتاج إلى تفسير:

- ‌1 - أنْ يكونَ الاستنباطُ صحيحاً

- ‌2 - أنْ لا يكون الاستنباطُ صحيحاً

- ‌ثانياً ـ الاستنباطُ من نص غير ظاهر يحتاج إلى تفسير:

- ‌1 - أن يكونَ التفسيرُ صحيحاً، والاستنباطُ صحيحاً، وهذا كثيرٌ جِدًّا

- ‌2 - أن يكونَ التفسير صحيحاً، والاستنباط غير صحيح

- ‌3 - أن يكونَ التَّفسيرُ غيرَ صحيحٍ، ويكونَ الاستنباطُ غيرَ صحيحٍ كذلك

- ‌4 - قد تكون الفائدة المستنبطة في ذاتها صحيحة، لكن حملها على معنى الآية غير صحيح

- ‌ثالثاً ـ الاستنباطُ من ربطِ آيتينِ ببعضهما:

- ‌رابعاً ـ الاستنباطُ بإعمالِ مفهومِ المخالفةِ:

- ‌مفهوم التدبر

- ‌القسمُ الأوَّلُ ـ التدبر والتفسير:

- ‌القسم الثَّاني: التَّدبُّر والاستنباط:

- ‌القسم الثَّالث: ـ التدبر والتأويل: ما تؤول إليه حقيقة الشيء:

- ‌المعاني المقاربةِ للتَّدبرِ:

- ‌الفرقُ بين التَّدبُّرِ والتَّأثُّرِ من سماعِ القرآن:

- ‌مفهوم المفسِّرِ

- ‌الأول ـ طبقة المجتهدين الأُوَلِ:

- ‌الثاني ـ نَقَلَةُ التفسير:

- ‌الثالث ـ المفسر الناقد:

- ‌الرابع ـ المفسر المتخيِّر قولاً واحداً:

الفصل: ‌القسم الأول ـ التدبر والتفسير:

استأثر الله بعلمه منه دون خلقه، الذي قد قدمنا صفته آنفاً = عارفون. وإذ صَحَّ ذلك، فسد قول من أنكر تفسير المفسرين من كتاب الله وتنْزيله ما لم يحجب عن خلقه تأويله» (1).

ولربطِ هذا المبحثِ بسابق مباحث هذا الكتاب يمكن تقسيمُ مستويات التَّدبُّرِ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

‌القسمُ الأوَّلُ ـ التدبر والتفسير:

سبق الإشارةُ إلى أنَّ التدبُّر يكون بعد فهم المعنى، لكن يحسن هنا أنْ أنبِّه إلى أنه قد لا يُفهم المعنى المراد، فتحتاج إلى البحث عنه. وتطلُّب المعنى يحتاجُ نَظَراً وفِكْراً، وهذا نوع من التدبر يكون سابقاً للفهم، والله أعلم.

وقد يكون عدم فهم الآية وقع من جهة جهل لغة أو سبب نزول، أو غيرها من الجهات وهذا يعني أنَّ التَّدبُّرَ يتعلَّقُ بالمعنى، وفي الغالب يكونُ هذا في فهم المتشابهِ النِّسبيِّ الذي قد يخفى على بعض الناس.

وقد يكون التَّدبُّر باختيار أحد الأقوال المذكورة في

(1) تفسير الطبري، طـ: الحلبي (1:36 - 37).

ص: 189

الآية، والاختيار يحتاج إلى فِكْرٍ ونَظَرٍ يدلُّ على القول الصحيح المحتمل للآية.

وأمثلةِ هذا القسمِ كثيرةٌ، فمنها ما يقعُ من بحثِ آيةٍ مشكلةٍ، ومنها نقاشاتُ المفسِّرينَ التي يظهرُ فيها ترجيحُهم لوجهٍ من وجوهِ التَّفسيرِ، وغيرَها مما يحتاجُ إلى اختيارٍ من أجلِ البيانِ، وهذا ما لا تخلو منه كتب التفسير، ومن أمثلته:

قال الطبري (ت:310): «القول في تأويل قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:

فقال بعضهم بما: حدثني موسى بن هارون

عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، يقول: لم تكونوا شيئاً فخلقكم ثم يميتكم ثم يحييكم يوم القيامة.

عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: {أَمَتَّنَا

ص: 190

اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: هي كالتي في البقرة: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28].

عن حصين، عن أبي مالك في قوله:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: خلقتنا ولم نكن شيئاً، ثم أمتَّنا، ثم أحييتنا.

عن حصين، عن أبي مالك في قوله:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: كانوا أمواتاً، فأحياهم الله، ثم أماتهم، ثم أحياهم.

عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28]، قال: لم تكونوا شيئاً حين خلقكم، ثم يميتكم الموتة الحق، ثم يحييكم، وقوله:{أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] مثلُها.

عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: هو قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11].

عن الربيع، قال: حدثني أبو العالية في قول الله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]، يقول: حين لم يكونوا شيئاً، ثم أحياهم حين خلقهم، ثم أماتهم،

ص: 191

ثم أحياهم يوم القيامة، ثم رجعوا إليه بعد الحياة.

عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: كنتم تراباً قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة. ثم أحياكم فخلقكم، فهذه إحياءة. ثم يميتكم فترجعون إلى القبور، فهذه ميتة أخرى. ثم يبعثكم يوم القيامة، فهذه إحياءة، فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].

وقال آخرون بما: حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن السدي، عن أبي صالح:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]، قال: يحييكم في القبر، ثم يميتكم.

وقال آخرون بما: حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} الآية [البقرة: 28]. قال: كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان.

ص: 192

وقال بعضهم بما: حدثني به يونس، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قال: خلقهم من ظهر آدم حين أخذ عليهم الميثاق، وقرأ:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} حتى بلغ {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172 - 173] قال: فكسبهم العقل، وأخذ عليهم الميثاق، قال: وانتزع ضلعاً من أضلاع آدم القُصَيرى فخلق منه حواء ـ ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وذلك قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، قال: وبثَّ منهما بعد ذلك في الأرحام خلقاً كثيراً، وقرأ:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6]، قال: خلقاً بعد ذلك. قال: فلما أخذ عليهم الميثاق أماتهم، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم، ثم أحياهم يوم القيامة، فذلك قول الله:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} [غافر: 11]، وقرأ قول الله:{وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، قال: يومئذٍ. قال: وقرأ قول الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7].

ص: 193

قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال التي حكيناها عمن رويناها عنه وجه ومذهب من التأويل.

فأما وجه تأويل من تأول قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]؛ أي: لم تكونوا شيئاً، فإنه ذهب إلى نحو قول العرب للشيء الدارس والأمر الخامل الذكر: هذا شيء ميت، وهذا أمر ميت؛ يراد بوصفه بالموت: خمولُ ذِكْرِهِ ودُرُوسُ أثرِه من الناس.

وكذلك يقال في ضد ذلك وخلافه: هذا أمرٌ حَيٌّ وذِكْرٌ حَيٌّ؛ يراد بوصفه بذلك: أنه نَابِهٌ متعالم في الناس، كما قال أبو نخيلة السعدي:

فأحييت لي ذكري وما كنت خاملا

ولكن بعض الذكر أنبه من بعض

يريد بقوله: فأحييت لي ذكري؛ أي: رفعته وشَهَرْتَهُ في الناس حتى نَبُهَ فصار مذكوراً حيًّا بعد أن كان خاملاً ميتاً. فكذلك تأويل قول من قال في قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]: لم تكونوا شيئاً؛ أي: كنتم خُمُولاً لا ذِكْرَ لكم، وذلك كان موتكم، فأحياكم فجعلكم بشراً أحياء تُذكرون وتُعرفون، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم، كالذي كنتم قبل أن يحييكم، من دُرُوسِ ذِكْرِكم، وتعفِّي آثارِكم، وخمول أموركم، ثم يحييكم بإعادة أجسامكم إلى

ص: 194

هيئاتها، ونفخ الروح فيها، وتصييركم بشراً كالذي كنتم قبل الإماتة لتعارفوا في بعثكم وعند حشركم.

وأما وجه تأويل من تأول ذلك: أنه الإماتة التي هي خروج الروح من الجسد، فإنه ينبغي أن يكون ذهب بقوله:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] إلى أنه خطاب لأهل القبور بعد إحيائهم في قبورهم، وذلك معنى بعيد؛ لأن التوبيخ هنالك إنما هو توبيخ على ما سلف وفرط من إجرامهم، لا استعتاب واسترجاع، وقوله جل ذكره:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28] توبيخُ مستعتبٍ عبادَه، وتأنيبُ مسترجعٍ خلقَه من المعاصي إلى الطاعة ومن الضلالة إلى الإنابة، ولا إنابة في القبور بعد الممات، ولا توبة فيها بعد الوفاة.

وأما وجه تأويل قول قتادة ـ: ذلك أنهم كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم ـ فإنه عنى بذلك: أنهم كانوا نُطَفاً لا أرواح فيها، فكانت بمعنى سائر الأشياء الموات التي لا أرواح فيها، وإحياؤه إياها تعالى ذكره نفخه الأرواح فيها، وإماتته إياهم بعد ذلك قبضه أرواحهم، وإحياؤه إياهم بعد ذلك نفخ الأرواح في أجسامهم يوم ينفخ في الصور ويبعث الخلق للموعود.

ص: 195

وأما ابن زيد، فقد أبان عن نفسه ما قصد بتأويله ذلك، وأن الإماتة الأولى عنده إعادة الله ـ جل ثناؤه ـ عبادَه في أصلاب آبائهم بعد ما أخذهم من صلب آدم، وأن الإحياء الآخر هو نفخ الأرواح فيهم في بطون أمهاتهم، وأن الإماتة الثانية هي قبض أرواحهم للعود إلى التراب، والمصير في البرزخ إلى اليوم البعث، وأن الإحياء الثالث هو نفخ الأرواح فيهم لبعث الساعة ونشر القيامة.

وهذا تأويل، إذا تدبره المتدبر، وجده خلافاً لظاهر قول الله الذي زعم مفسِّره أن الذي وصفنا من قوله تفسيره، وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه عن الذين أخبر عنهم من خلقه أنهم قالوا:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، وزعم ابن زيدٍ في تفسيره أن الله أحياهم ثلاث إحياءات وأماتهم ثلاث إماتات.

والأمر عندنا، وإن كان فيما وصف من استخراج الله جل ذكره من صلب آدم ذريته وأخذه ميثاقه عليهم كما وصف، فليس ذلك من تأويل هاتين الآيتين؛ أعني قوله:{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} الآية [البقرة: 28]، وقوله:{رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] في شيء؛ لأن أحداً لم يَدَّعِ أنَّ الله أمات من ذرأ يومئذٍ غير

ص: 196

الإماتة التي صار بها في البرزخ إلى يوم البعث، فيكون جائزاً أن يوجَّه تأويل الآية إلى ما وَجَّهه إليه ابن زيدٍ.

وقال بعضهم: الموتة الأولى: مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي ميتة من لدن فراقها جسده إلى نفخ الروح فيها، ثم يحييها الله بنفخ الروح فيها، فيجعلها بشراً سوياً بعد تاراتٍ تأتي عليها، ثم يميته الميتة الثانية بقبض الروح منه، فهو في البرزخ ميت إلى يوم ينفخ في الصور، فيرد في جسده روحه، فيعود حيًّا سوياً لبعث القيامة، فذلك موتتان وحياتان.

وإنما دعا هؤلاء إلى هذا القول؛ لأنهم قالوا: موت ذي الرُّوحِ مفارقة الرُّوحِ إياه، فزعموا أن كل شيء من ابن آدم حي ما لم يفارق جسده الحي ذا الروح، فكل ما فارق جسده الحي ذا الروح، فارقته الحياة فصار ميتاً؛ كالعضو من أعضائه، مثل: اليد من يديه، والرِّجل من رِجليه، لو قطعت وأُبِينَتْ، والمقطوع ذلك منه حي، كان الذي بان من جسده ميتاً لا روح فيه بفراقه سائر جسده الذي فيه الروح.

قالوا: فكذلك نطفته حيَّة بحياته ما لم تفارق جسده ذا الروح، فإذا فارقته مباينةً له صارت ميتة، نظير ما وصفنا من حكم اليد والرجل وسائر أعضائه، وهذا قول ووجه من

ص: 197

التأويل، لو كان به قائل من أهل القدوة الذين يرتضي للقرآن تأويلهم.

وأولى ما ذكرنا من الأقوال التي بينا بتأويل قول الله جل ذكره: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28]، القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وعن ابن عباس من أن معنى قوله:{وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا} [البقرة: 28]: أموات الذِّكْرِ، خمولاً في أصلاب آبائكم، نطفاً لا تُعرَفون ولا تُذكَرون، فأحياكم بإنشائكم بشراً سوياً حتى ذكرتم وعرفتم وحييتم، ثم يميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رفاتاً لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك؛ كما قال:{ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28]؛ لأن الله ـ جل ثناؤه ـ يحييهم في قبورهم قبل حشرهم، ثم يحشرهم لموقف الحساب، كما قال ـ جل ذكره ـ:{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43]، وقال:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51].

والعلة التي من أجلها اخترنا هذا التأويل، ما قد قدمنا

ص: 198