الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآنفِ الذِّكرِ، فقد استطالَ على الأشاعرةِ، واستخدم مبدأ التأويل الذي يستخدمونه (1).
وإذا أردت أن تعرفَ أنَّه لا حدَّ لأوجه التَّأويلِ التي يذكرُها المؤوِّلونَ، فانظرْ في كتابِ «مجازات القرآنِ» للشَّريفِ الرَّضيِّ الرَّافضيِّ المعتزليِّ، فإنَّك ستجدُ في الكتابِ تطبيقاتِ متأوِّلٍ يستخدمُ المجازَ مطيَّةً له في تحريفِ النُّصوصِ.
تفسير آية التأويل من سورة آل عمران:
إن من أشهر ما وقعَ فيه الانحرافُ بسببِ مفهومِ التَّأويلِ هذا، تفسيرُ آيةِ آل عمران، وهي قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].
(1) ينظر في هذا الموضوعِ: موقف ابن تيمية من الأشاعرةِ، للدكتور: عبد الرحمن بن صالح المحمود (2:896 - 923)، فقد تكلَّم عنه تحت عنوان:(تسلط الفلاسفة والباطنية على المتكلمين).
وقد تتبَّعت كلامَ شيخِ الإسلامِ ابن تيميَّةَ (ت:728) في هذه الآيةِ، وتخلَّصَ عندي منه ما يأتي:
1 -
أنَّ الآيةَ نزلت بسببِ النَّصارى الذين احتجُّوا بألفاظٍ توهم الجمعَ، مثل «نحن» ، «إنَّا» ، واستدلُّوا بها على صحَّةِ التَّثليثِ الذي يدينون به، وأنهم داخلون في من يتبعون ما تشابه منه.
2 -
أنَّ لفظَ التَّأويل في الآيةِ يحتملُ وجهينِ صحيحين، كلاهما حقٌّ، وهما واردانِ عن السَّلفِ.
الأوَّل: أنَّ التَّأويلَ بمعنى التَّفسيرِ، وبهذا يكونُ
(1) دقائق التَّفسير (1:329).
الراسخونَ يعلمونَ تأويلَ القرآنِ؛ أي: تفسيره، ويكونُ الوقفُ على هذا القولِ على قوله تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1)، وتكون الواو عاطفةً.
الثَّاني: أنَّ التَّأويلَ بمعنى ما تؤول إليه حقيقةُ الأشياءِ مما استأثرَ اللهُ بعلمِه، من كيفيَّاتٍ ووقت وقوعٍ، مما أخبر عنه اللهُ في كتابِه من أخبار القيامة وأشراطِها، أو غيرِها من المغيَّبات.
ويكونُ الوقفُ على هذا القولِ على لفظ الجلالةِ من قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ} ، وتكونُ الواو مستأنفةً؛
(1) إذا عَلِمْتَ صحَّةَ هذا الوجه التَّفسيريَّ، ظهرَ لك خطأُ جعلِ الوقف على لفظِ الجلالةِ من الوقف اللازم، الذي عرَّفه واضعُه «السِّجاونديُّ» بقوله:«فاللازم من الوقوف: ما لو وُصِلَ طرفاه غيَّرَ المرام وشنَّعَ معنى الكلام» . علل الوقوف (1:62)، وعلى هذا سارت جلُّ المصاحف التي اعتمدت وقوفه، سوى مصحف المدينة النَّبويَّةِ الذي جعل علامة الوقف الأولى (قلى)، وفيها ترجيحٌ للمعنى الثاني على الأوَّل، لكن ليس فيها ردٌّ للمعنى الأوَّلِ كما يُفهَمُ من الوقف اللازم.
والصَّوابُ أن يكونَ على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وقف معانقة، بحيثُ إذا وقف على الأول، لم يُوقف على الثاني، ويكونُ لكل وقفٍ معنى يغايرُ الآخرَ، وهذا الوقف يشتملُ على القولين الواردين عن السلف بلا ترجيحٍ بينها.
أي أنَّ جملةَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} جملةٌ مستأنفةٌ (1).
3 -
أنه قد وقع من بعض المتأخِّرينَ حملُ التَّأويل على الاصطلاحِ الحادثِ، وهو صرف اللَّفظِ عن الاحتمالِ
(1) ينظر في هذين الوجهين وما يترتَّبُ عليهما من الوقف والإعراب: دقائق التَّفسير (1:329 - 330)، ودرء تعارض العقل والنقل (1:205 - 206)، والصفدية (1:291)، وتفسير سورة الإخلاص (ص:186 - 194).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (5:382).
الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ لدليلٍ يقترنُ بذلك، وتسميةُ هذا وحده تأويلاً هو من اصطلاحِ طائفةٍ من المتأخِّرين من الفقهاء والمتكلِّمين وغيرِهم.
وقد نشأ عن ذلك أن يعتقدوا أنَّ لهذه الآيات والأحاديث معاني تخالفُ مدلولَها المفهومَ منها، وانقسموا إلى فريقين:
الأول: من أجازَ تأويلها، بل أوجبه في بعضِ الأحيانِ؛ لاعتقادِه أنَّ ظاهرَها يفيدُ معنى لا يصحُّ.
الثاني: من قال إنَّ ذلك المعنى المراد لا يعلمه إلَاّ اللهُ، لا يعلمُه الْمَلَكُ الَّذِي نزلَ بالقرآنِ، ولا يعلمُه محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، ولا غيرُه من الأنبياء، ولا يعلمُه الصَّحابةُ الَّذِين نزلَ القرآنُ بلسانِهم.
قال شيخ الإسلام (ت:728): «
…
وتجد هؤلاء حائرين في مثل قوله تعالى: {تَاوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، حيث ظنُّوا أنَّ المرادَ بالتَّأويلِ صَرْفُ النُّصوصِ عن مقتضاها.
وطائفةٌ تقولُ: إنَّ الرَّاسخين في العلمِ يعلمون هذا
التأويل، وهؤلاء يجوِّزُون مثل هذه التَّأويلات التي هي تأويلاتُ الجهميَّةِ النُّفاةِ. ومنهم من يوجُبهاتارةً، ويجوِّزُها تارةً. وقد يحرِّمُونها على بعض النَّاسِ، أو في بعض الأحوالِ لعارضٍ، حتَّى أنَّ الملاحدةَ من المتفلسفةِ والمتصوِّفةِ وأمثالِهم قد يحرِّمون التَّأويلاتِ، لا لأجل الإيمانِ والتَّصديقِ بمضمونِها، بل لعلمِهم بأنَّه ليس لها قانونٌ مستقيمٌ، وفي إظهارِها إفساد الخلقِ، فيرون الإمساكَ عن ذلك مصلحةً، وإن كان حقًّا في نفسِه، وهؤلاء قد يقولون: الرُّسلُ خاطبوا الخلقَ بما لا يدلُّ على الحقِّ لأن مصلحةَ الخلقِ لا تَتِمُّ إلَاّ بذلك، بل لا تَتِمُّ إلا بأنْ تَخَيَّلوا لهم في أنفسهم ما ليس موجوداً في الخارجِ لنوعٍ من المصلحةِ، كما يُخَيَّلُ للنَّائمِ والصبِيِّ والقليلِ العقلِ ما لا وجودَ له؛ لنوعٍ من المناسبةِ لما له في ذلك من المصلحةِ.
وطائفةٌ يقولون: هذا التَّأويلُ لا يعلمه إلا اللهُ، ثمَّ من هؤلاء من يقول تُجْرَى على ظواهرِها، ويتكلَّمُ في إبطالِ التَّأويلاتِ بكل طريقٍ. ومن المعلوم أنه إذا كان لها تأويل يخالفُ ظاهرَها لم يُحْمَلْ على ظاهرِه، وما حُمِلَ على ظاهرِه لم يكن له تأويلٌ يخالف ذلك، فضلاً عن أنْ يُقَال: يعلمه الله أو غيره. بل مثل هذا التَّأويلِ يقال فيه كما قال
تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ} [يونس: 18]، فإنَّ ما كان منتفياً لا وجودَ له، لا يعلمُه اللهُ إلا منتفياً لا وجود له، لا يعلمه ثابتاً موجوداً.
وسببُ هذا الاضطرابِ أنَّ لفظَ التَّأويلِ في عرفِ هؤلاءِ المتنازعين ليس معناه معنى التَّأويلِ في التَّنْزيلِ، بل ولا في عرفِ المتقدِّمين من مفسري القرآنِ، فإن أولئك كان لفظ التَّأويلِ عندهم بمعنى التَّفسيرِ، ومثل هذا التَّأويلِ يعلمُه من يعلمُ تفسيرَ القرآنِ.
ولهذا لما كان مجاهدٌ إمامَ أهلِ التَّفسيرِ، وكان قد سألَ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما عن تفسيرِ القرآنِ كلِّه وفسَّرَه له = كان يقولُ: إنَّ الرَّاسخينَ في العلمِ يعلمون التَّأويلَ؛ أي التَّفسيرَ المذكورَ، وهذا هو الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله ممن يقولُ إنَّ الرَّاسخين في العلم يعلمون التَّأويل، ومرادهم به التَّفسير. وهم يثبتون الصفات، لا يقولون بتأويل الجهميَّة النُّفاة، التي هي صرفُ النُّصوصِ عن مقتضاها ومدلولِها ومعناها
…
وأمَّا التَّأويلُ؛ بمعنى: صرف اللَّفظِ عن الاحتمالِ الرَّاجحِ إلى الاحتمالِ المرجوحِ؛ كتأويلِ من تأوَّلَ استوى بمعنى: استولى ونحوه، فهذا عند السَّلفِ والأئمَّةِ باطلٌ لا