الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: معرفته بالبلاغة ومدى اهتمامه بها في تفسيره
من أظهر ما في تفسير الشيخ من النواحي المتعلقة بالعربية وعلومها ما يتعلق بفن البلاغة وضروبها، فقد استفاد الشيخ منها أيما استفادة بل نص على كثير من فنونها وأغراضها، وذلك لأنها تخدم كثيراً منهج الشيخ في إيضاح المعنى والاستنباط، كما أنه يظهر من خلال النص عليه في بيان عظمة أسلوب القرآن، ودقة ألفاظه وتراكيبه وبلاغته وبذلك يظهر للقارئ روعة هذا الكتاب وعظمته. وهو عرض من أغراض التفسير لدى الشيخ.
والناظر في تفسيره واستنباطاته يجد أنه يمتلك دقة في النظر والتأمل وتذوقاً للبلاغة، ويهتم من خلال ذلك ببيان بعض المعاني والنكت وتقريرها أولفت أنظار إليهم أو التحذير من بعض المخالفات وهو يسير في بيان اللمحات والأساليب البلاغية على منهجه العام في الاختصار.
فانظر إلى فهمه ودقته في الاستنباط عند قول الله تعالى لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} 1.
حيث قال تعظيم الفعل بقوله: {إِذْ أَمَرْتُكَ} 2.
ووجه هذا التعظيم الذي أشار إليه أن المسألة أمرٌ وتكليف وليست إباحة أو ندباً، ثم إن الآمر هو الرب عز وجل، والمأمور به داخل في جمله العباد المأمورين، ففعله الذي هو النكوص عن السجود عظيم مع توفر هذه الدواعي للامتثال.
وقوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} 3.
حيث قال تأكيد النهي4.
1 سورة الأعراف: آية "12".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "72".
3 سورة الأعراف: آية "19".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "74".
ووجه هذا التأكيد- والله أعلم- أن الله تعالى نهاهما عن قربان الشجرة مبالغة في النهي عن الآكل منها، وفي هذا معنى تأكيد النهي عن الأكل.
كما أن في قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} ما يقوي هذا النهي أيضاً إذ يترتب على مخالفته كون المخالف ظالماً في فعله هذا.
- وقوله مستنبطاً من قول الله تعالى إخباراً عن مقالة يوسف عليه السلام....: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} الآية1 حيث يقول: كرمه عليه السلام في قوله: {أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} ولم يقل: من الجب. وكرمه في قوله: {نَزَغَ} ولم يقل من بعدما ظلمونى2.
وهذا تأمل عجيب، ودليل حس بلاغي، ونظر دقيق لدى الشيخ رحمه الله.
- وقوله عند قول الله تعالى: {نبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} 3 حيث يقول: 4
إن المغفرة والرحمة وصف بها نفسه، وأما العذاب الأليم فوصف به عذابه. وقد اقتصر هاهنا على لفت الأنظار إلى هذه الدقيقة، ولم يعللها، ولعله أراد أن يتأمل الناظر ويبحث عن السبب، فإن ما يتوصل إليه بعد بحث وعناء تكون العناية به أشد.
وقد عُلِّل هذا الأسلوب في الآية بترجيح جانب الوعد على الوعيد، والرحمة على الغضب5.
- وقوله مستنبطاً من قول الله تعالى في شأن قوم فرعون وطغيانهم: {فَلَمَّا
1 سورة يوسف: آية "100".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "176".
3 سورة الحجر: الآيتان "41، 50".
4 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "190" وانظر قسم التحقيق ص "413".
5 انظر البحر المحيط لأبي حيان "457:5".
كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} 1 {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
…
} الآية2. حيث قال: قوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالفاء.
ولم يذكر الغرض من ذلك ولعل ذلك لما سبق من إرادة تأمل القارئ وبحثه عن السبب، أو لظن عدم خفاء مثل ذلك على القارئ لشهرته.
والغرض من هذا- والله أعلم- أن الانتقام مترتب على طغيان قوم فرعون ومتسبب عن نكثهم، وذلك أن من أغراض العطف بالفاء السببية والتعقيب3.
فظهر بما تقدم الحس البلاغي والنظر المتأمل عند الشيخ.
وقد وظف الشيخ البلاغة بشكل واضح لترسيخ بعض المعاني أو شرحها واستنباطها أو التحذير مما يخالفها.
فانظر إلى قوله- منبهاً على أعظم الأمور في حياة المسلم وهو التوحيد بدلالة أسلوب بلاغي بديع وهو الحصر بطريق النفي والإثبات الذي يذكره كثيراً حيث يقول: إن كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تتضمن النفي والإثبات، نفي الإلهية عما سوى الله سبحانه وتعالى، وإثباتها لله عز وجل4.
ومما يستدل بها على هذا النفي والإثبات قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 5 فهذا دليل النفي، ودليل الإثبات:{إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} 6.
1 سورة الأعراف: الآيتان "135، 136".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "304".
3 انظر مغني اللبيب لابن هشام "161:1- 163".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الخامس/ الرسائل الشخصية رقم "16" ص "105""106"، ورقم "35" ص "174" والقسم الأول/ العقيدة/ الثلاثة الأصول ص "190" وتلقين أصول العقيدة للعامة ص "371".
5 سورة الزخرف: آية "36".
6 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول/ العقيدة/ الثلاثة الأصول ص "190" وتلقين أصول العقيدة للعامة ص "371".
ويقول أيضاً مقررا هذا المعنى عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1: أنه لا بد مع الإثبات من النفي2 كما يوضح هذا المعنى جليا فيقول في شرح كلمة التوحيد:
…
فإن "لا" في قولك "لا إله إلا الله" هي النافية للجنس، تنفى جميع الآلهة و "إلا" حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل3.
ويقول أيضاً مرسخا هذا المعنى من خلال هذا الأسلوب- أسلوب الحصر- ولكن بطريق تقديم ما حقه التأخير ما نصه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيها توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فيها توحيد الألوهية: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيها توحيد الربوبية4.
ويوضح هذا المعنى في موضع آخر بأبسط من هذا وبه يتبين جليا اعتباره لهذا المعنى البلاغي فيقول عند نفس الآية:
فالعبادة: كمال المحبة، وكمال الخضوع، والخوف والذل، قدم. المفعول وهواه {إِيَّاكَ} وكرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، فالأول: التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة، فقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي إياك نوحد، ومعناه أنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحداً لا ملكاً ولا نبياً ولا غيرهما5.
ويقول مرسخا هذا المعنى أيضاً بهذا الأسلوب- أسلوب الحصر- ولكن بطريق تقديم المسند إليه حيث يقول مستنبطاً من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي
1 سورة النحل: آية: "36".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "309" وقسم التحقيق ص "27".
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الخامس/ الرسائل الشخصية رقم "16" ص "105، 106".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول/ العقيدة والآداب الإسلامية/ بعض فوائد سورة الفاتحة.: ص "383".
5 مؤلفات الشيخ/القسم الربع/ التفسير ص "16".
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} 1، فيها الاستدلال بإنزال المطر، وأن غيره لا يقدر عليه2.
ونحوه أيضاً قوله عند قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} الآية3.
حيث يقول تسخير البحر، وأنه الذي فعله لا غيره 4.
فقوله: أن الذي فعله لا غيره، هو تقرير لربوبية الله وتفرده بالتعرف والإنعام لم ومما يدل على التفرد هنا الحصر في الآيتين.
وقد نص الشيخ على طرق أخرى من أساليب الحصر مستفيداً منها كالحصر "بإنما" في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 5 حيث يقول: حصر الكذب فيمن لم يؤمن بآيات الله6.
والحصر المستفاد من توسط الضمير كما في قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} الآيات إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 7 حيث يقول:- ذكر حصر الغفلة فيهم.
- حصر الخسران في الآخرة فيهم8.
ومن الأساليب التي نص الشيخ عليها مراراً مستفيداً من دلالتها الاستفهام بأنواعه من إنكار أو تقرير أو نحوه.
1 سورة النحل: آية. "10".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "203".
3 سورة النحل: آية "10".
4 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص"303".
5 سورة النحل: آية "105".
6 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "329".
7 سورة النحل: آية "106- 109".
8 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص"230".
ومن ذلك قوله: تقرير التوحيد بقوله: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} الآية1
وقوله: استفهاماً التقرير الدال على عظمه القصة في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} 2.
وقوله: استفهام الإنكار في هذا الأمر الباهر في قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} 3.
وقد يكتفي أحياناً بقوله: "استفهام التقرير" أو "استفهام الإنكار" مثلا4. ومن توظيف البلاغة أيضاً لترسيخ بعض المعاني العقدية قوله مستنبطا من قول الله تعالى إخباراً عن قول يوسف "عليه السلام": {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 5.
حيث يقول: قوله: {مِنْ شَيْءٍ} عام كل ما سوى الله6.
ووجه ذلك أن "شيء" نكرة في سياق النفي فتعم، "ومن" لتأكيد النفي فنبه من خلال الاستفادة من هذا الأسلوب، إلي تقرير التوحيد والنهي عن إشراك آي شيء مع الله تعالى.
هذا ولا أريد أن استقصي جميع ما نص عليه الشيخ، أو استفاد منه من أوجه البلاغة، وإنما الغرض هو الإشارة إلى معرفة الشيخ بهذا الفن، بل واهتمامه به في حدود ما يبين المعنى ويوضحه، أو يلفت الأنظار إليه مع السير على منهجه في الاختصار.
1 المرجع السابق ص "335" والآية في الزمر رقم "19".
2 المرجع السابق ص "395" والآية في طه رقم "9".
3 المرجع السابق ص "330" والآية في النحل رقم "73".
4 انظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "19،335،336،337،330" وغيرها.
5 سورة يوسف: آية. "38".
6 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "145" انظر قسم التحقيق ص "329".
وليس من غرض الشيخ بيان التشقيقات البلاغية وضروبها لذاتها، وللزهو بها، ولهذا لما ورده سؤال "ابن عفالق" 1 المتنطع عن أضرب.
البلاغة في "سورة العاديات"2 لم يتكلف الجواب عليه، ولم أعلم ألف رد عليه في رسالته هذه، إذ لا يجب الجواب على المتنطعين الذين يقصدون من أسئلتهم إظهار ملكتهم أو إحراج المسئول أو نحو ذلك، إذ ليس هو بمسترشد فيرشد أو مستفيد فيفاد.
"وبالله التوفيق".
1 هو محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الأحسائي، من فقهاء الحنابلة، وكان من المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وقد ألفا رسالة وجهها إلى الشيخ محمد وكان عنوانها "تهكم المقلدين في مدعى تجديد الدين" وضمنها أسئلة تهكميه تعجيزيه تحمل طابع التحدي والغرور.
وتوفي ابن عفالق عام "1164هـ" في الأحساء.
انظر السحب الوابلة ص "382، 383" ترجمة "597" وعلماء، نجد "3: 818" ترجمة"288".
2 انظر - إن شئت- طرفاً من هذه الأسئلة في كتاب دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقض لعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف ص"43" ذكرها نقلاً عن الرسالة الموسومة "بتهكم المقلدين".