الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: تفسيره القرآن بالسنة
يذهب الشيخ محمد رحمه الله إلى أن النبي "صلى الله عليه وسلم" فسر للصحابة رضوان الله عليهم ألفاظ القرآن كما بلغها. وقد مال إلى هذا القول من قبل الإمام ابن جرير الطبري1، وقرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله2.
والذي يظهر أن مرادهم بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ما يحتاج إلى بيان وإيضاح، كما تدل عليه عباراتهم، واستدلالاتهم، كما سيأتي، وأما ما سوى ذلك فمجرد إبلاغه بيان له، على ما سيأتي توضيحه.
فإن قول الشيخ محمد: "فسر" مشعر بذلك، حيث أن التفسير في اللغة: هو الكشف والبيان3. والذي يحتاج إلى كشف وبيان هو ما كان مستوراً غامضاً، وهو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه في قول الله تعالى له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 4 فتولى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالبيان على أوجه كثيرة: كبيان المجمل، وتوضيح المشكل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وغير ذلك، والأدلة على بيانه صلى الله عليه وسلم كثيرة منها:
1-
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فالبيان في الآية يتناول بيان معاني القرآن، كما يتناول بيان ألفاظه بتبليغها.
2-
قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} 5 وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 6 وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} 7، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
1 انظر ترجمته فيما يأتي ص "286" من قسم التحقيق.
2 انظر مؤلفات الشيخ/ التفسير ص"254"، وتفسير الطبري "1: 73 وما بعد ها" ومقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية ص "35".
3 انظر لسان العرب "5: 55". والمصباح المنير "472" مادة: فسر.
4 سورة النحل: آية "44".
5 سورة "ص": آية "29".
6 سورة النساء: آية "82".
7 سورة المؤمنون: آية "68".
وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 1. وعقل الكلام متضمن لفهمه. ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه لا مجرد ألفاظه. فالقرآن أولى بذلك.
ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يبقون مدة في حفظ السورة.
قال أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا2.
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين. قيل: ثمان سنين. كما ذكره مالك "رحمه الله" 3، وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من "النبي صلى الله عليه وسلم" عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم والعمل جميعا4.
3-
ما أخرجه أحمد وابن ماجة عن عمر أنه قال: من آخر ما نزل آية الربا وأن الرسول "صلى الله عليه وسلم" قبض قبل أن يفسرها5.
فقد دل فحوى الكلام أنه كان يفسر لهم كل ما نزل، وأنه إنما لم يفسر هذه الآية لسرعة موته بعد نزولها، وإلا لم يكن للتخصيص بها وجه6.
4-
أن العادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله تعالى الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم7؟!
1 سورة يوسف: آية "3"
2 رواه الإمام أحمد في مسنده "3: 120".
ومعنى قوله: جد فينا أي صار ذا حظوة وقدر عظيم بيننا.
3 أخرجه مالك في الموطأ/ كتاب القرآن/ باب ما جاء في القرآن "1: 205" اثر "11".
4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "5: 410" والطبري في تفسيره "1: 80" تحقيق: أحمد شاكر، وابن أبي شيبة في المصنف/ كتاب فضائل القرآن/ في تعليم القرآن كم آية "6: 117" أثر "29929".
5 أحمد في مسنده "36:1، 50" وابن ماجة/ كتاب التجارات/ باب التغليظ في الربا "2/764" حديث "2276" قال الساعاتي في الفتح الرباني "18: 54" وسنده ضعيف لانقطاعه لأن سعيد بن المسيب لم يدرك عمر لكن يعضده ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا.
6 الإتقان "205:2".
7 انظر مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية "37".
بيد أن بعض العلماء: "ومنهم الخويي1" و "السيوطي2" قد ذهبوا إلى أن النبي "صلى الله عليه وسلم" لم يفسر من القرآن إلا آيات قلائل.
فيقول الخويي:- وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول "صلى الله عليه وسلم" وذلك متعذر إلا في آيات قلائل3.
1 هو شمس الدين أحمد بن الخليل بن سعادة المهلبي الخويي- نسبة إلى خوي مدينة بأذربيجان- الشافعي أبو العباس ولد سنة "ثلاث وثمانين وخمسمائة" دخل خراسان وقرأ بها الكلام والأصول على الفخرالرازي "سمع من ابن الصلاح وقرأ الفقه على الرافعي.
قال الذهبي:- كان فقيهاً، إماماً، مناظراً، خبيراً بعلم الكلام، أستاذاً في الطب والحكمة ديناً كثير الصلاة والعبادة.
وقال التاج السبكي: حفظ القرآن على كبره. وله مصنفات كثيرة ونظم كثير.
توفي في شعبان سنة "سبع وثلاثين وستمائة".
انظر: سير أعلام النبلاء "33: 64، 65" وطبقات الشافعية للسبكي "8: 16، 17"" وشذرات الذهب "183:5".
2 هو الإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد الخضيري السيوطي.
ولد سنة "تسع وأربعين وثمانمائة" وحفظ القرآن وهو دون الثامنة، كما حفظ كثيراً من المتون.
وقال عن نفسه إنه رزق التبحر في سبعة علوم وهي: التفسير، والحديث والفقه، والنحو، والمعاني والبيان، والبديع.
وله مؤلفات جمه، منتشرة في الآفاق، وكثير منها حسن مفيد.
توفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة.
انظر: الضوء اللامع "4: 65" وحسن المحاضرة "188:1" والكواكب السائرة "1: 226" وشذارت الذهب "8: 51".
3 نقله عنه السيوطي في الإتقان "174:2".
ويقول السيوطي: الذي صح من ذلك- أي من النقل عن "النبي صلى الله عليه وسلم" في التفسير- قليل جداً بل أصل المرفوع منه في غاية القلة1.
وقد استدلوا على ما ذهبوا إليه بأدلة منها:
1-
ما أخرجه البزار والطبري عن عائشة "رضي الله عنها" قالت:- ما كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يفسر من كتاب الله إلا أيا بعدد علمه إياهن جبريل2.
2-
ما أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه، وغيرهم أن النبي "صلى الله عليه وسلم" دعا لابن عباس بقوله:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"3.
فلو كان التأويل مسموعاً كالتنزيل لما كان لتخصيص ابن عباس بهذا الدعاء فائدة4.
3-
إنه يتعذر أن يفسر النبي "صلى الله عليه وسلم" القرآن كله، ولا يمكن ذلك إلا في آيات قلائل، والعلم بالمراد من الآيات يستنبط بأمارات ودلائل، والحكمة فيه أن الله تعالى- أراد أن يتفكر عباده في كتابه، فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد في جميع آياته5.
والرأي الذي ارتضيه بعد هذا هو ما ذهب إليه الشيخ محمد رحمه الله ومن سبقه إليه، وهو أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قد امتثل أمر ربه وبين كل ما يحتاج إلى بيان من معاني القرآن الكريم ويظهر الحق جلياً إن شاء الله تعالى إذا علمت الأمور التالية:
1-
أن بيان السنة للكتاب ليس مقتصراً على تفسير كلمة قرآنية بكلمة نبوية، بل هو أعم من ذلك، فيشمل ما كان بياناً بالقول، أو الفعل، أو التقرير، أو الوصف، وكل ذلك سنة، وبها يكون البيان.
1 المرجع السابق "2: 179".
2 تفسير الطبري "1: 84" بتحقيق: أحمد شاكر.
3 انظر مسند الإمام أحمد في مواضع منها "226:1" والإحسان بترتيب صحيح ابن حبان "9/98" ح "7015". والمستدرك "3: 534".
4 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي "33:1".
5 الإتقان "3: 174".
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق رسول الله "صلى الله عليه وسلم""كان خلقه القرآن"1 فما تحلى به "صلى الله عليه وسلم" من كمال العبودية لله تعالى، وكريم الشمائل هو من قبيل تفسير القرآن بالسنة، فتحليله لما أحل القرآن، وتحريمه لما حرم، والتزامه بشرائعه وآدابه، في جميع شؤونه، كل ذلك هو ما قصدته عائشة "رضي الله عنها". فهو داخل ضمن التفسير.
2-
أن تفسير القرآن الكريم على أربعة أوجه، كما ذكر ذلك ابن عباس بقوله "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلاهما، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى2.
فمعلوم أن القسم الأول مجرد تبليغ لفظه كاف عن تفسيره، وذلك لظهور معناه، وبخاصة لدى الصدر الأول، أهل العربية والفصاحة، فإن تفسير الواضح قد يعميه، فمثل هذا لا يحتاج إلى أن يبين الرسول صلى الله عليه وسلم معناه.
وكذا ما لا يعذر أحد بجهالته، لظهور معناه أيضاً.
ولهذا كان الشيخ الإمام رحمه الله يشنع على الذين يقولون بأن القرآن لا يفهم معناه، وأنهم لا يستطيعون أن يستفيدوا منه مباشرة بل يأخذون من أقوال متبوعيهم دون النظر إلى نصوص الكتاب3.
وأما ما استأثر الله بعلمه، كوقت قيام الساعة، وحقيقة الروح، ونحو ذلك، فهذا لم يطلع الله عليه نبيه "صلى الله عليه وسلم"، فمعلوم أنه غير مراد بالبيان، ولكن الغرض من ذكر ذلك في القرآن قد حصل وهو الابتلاء والامتحان،
1 أخرجه أحمد في مسنده في مواضع منها "6/ 91" ومسلم في صحيحه في حديث طويل / كتاب صلاة المسافرين وقصرها/ باب جامع صلاة الليل "1/ 512" ح "129" وغيرهما.
2 أخرجه الطبري في تفسيره "1: 75" بتحقيق: أحمد شاكر.
3 انظر ما يأتي ص "93-95".
ليتميز من يؤمن ويسلم ويعمل، ممن يتبع المتشابه ويجادل.
فأما ما يحتاج إلى بيان وإيضاح من النبي "صلى الله عليه وسلم"، ولا يدرك علمه إلا ببيانه، من تفصيل المجمل، وتوضيح المشكل، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، ونحو ذلك فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان.
وأما ما زاد بعد ذلك من تفاسير المفسرين فالأمرين:
الأمر الأول: لبعد الناس شيئاً فشيئاً عن اللغة العربية الصحيحة، والذوق السليم، والفهم الصافي، فاحتاجوا بقدر بعدهم إلى إيضاح ما كان واضحاً لمن قبلهم.
الأمر الثاني: ولعظمة كتاب الله تعالى وإعجازه في كل زمان ومكان، فيجد فيه كل ناظر حصيف حاجته وكفايته، فتستنبط المعاني، الكثيرة من الآية الواحدة في كافة العلوم من عقيدة، وفقه، ودعوة، ونحو ذلك.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فالذي يظهر لي أنه لا تنهض به حجة على المدعي. وتوضيح ذلك:
1-
أن حديث عائشة متكلم فيه حيث روي من طريق جعفر بن محمد الزبيري. وقد قال فيه البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال الأزدي: منكر الحديث1.
وعلى فرض صحته فهو محمول على بيان بعض مغيبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو ذلك مما لا سبيل إلى معرفة معناه إلا بتوقيف من الله تعالى، وذلك في أي ذوات عدد بلا شك2.
وقد أجاب الإمام ابن جرير الطبري على الاستدلال بهذا الحديث بكلام حسن يحسن إثباته حيث قال:
ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – أنه لا يفسر من القرآن شيئاً إلا آيا بعدد3 – وهو ما يسبق إليه أوهام أهل الغباء، من أنه لم
1 انظر ميزان الاعتدال "1: 416" ولسان الميزان "2: 124".
2 انظر تفسير الطبري "1: 87" بتحقيق: أحمد شاكر.
3 سبق تخريجه ص "51".
يكن يفسر من القرآن إلا القليل من آية، واليسير من حروفه كان إنما أنزل إليه "صلى الله عليه وسلم" الذكر ليترك للناس بيان ما أنزل إليهم، لا ليبين لهم ما أنزل إليهم.
وفي أمر الله جل ثناؤه نبيه "صلى الله عليه وسلم" ببلاغ ما أنزل إليه، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم، وقيام الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأدى ما أمره الله ببلاغه وأدائه على ما أمر به، وصحة الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن1، ما ينبي عن جهل من ظن أو توهم أن معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله "صلى الله عليه وسلم": أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئاً إلا آيا بعدد، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه.
هذا مع ما في الخبر الذي روي عن عائشة من العلة التي في إسناده، التي لا يجوز معها الاحتجاج به لأحد ممن علم صحيح سند الآثار وفاسدها في الدين، لأن راويه ممن لا يعرف في أهل الآثار وهو: جعفر بن محمد الزبيري2. أ. هـ.
قلت: وقد تقدم ذكر بعض كلام العلماء في جعفر هذا3.
2-
وأما دعاؤه "صلى الله عليه وسلم" لابن عباس فلا يلزم منه عدم بيانه فمعاني القرآن واسعة، وأغراضه كثيرة.
وأيضاً فقد دعا له بالفقه في الدين، ولا يلزم منه عدم بيان "صلى الله عليه وسلم" الأحكام الشرعية، كما أن غير ابن عباس قد شاركه في الفقه والتأويل، كعلي وابن مسعود وغيرهما فلا يدل على تخصيصه بالفقه والتأويل.
3-
وأما كون بيان النبي "صلى الله عليه وسلم" لكل معاني القرآن متعذر فلا وجه له. ولكن لعل أصحاب القول الثاني قد قصروا التفسير على معنى ضيق وهو بيان
1 أخرجه الطبري في تفسيره "1: 80" بتحقيق أحمد شاكر وتقدم نحوه ص "49".
2 انظر تفسير الطبري "1: 39".
3 انظر ما سبق ص "53".
كلمة قرآنية بكلمة نبوية لفظاً فحسب والله أعلم.
فإذا ثبت ما تقدم من بيان النبي "صلى الله عليه وسلم" لأصحابه مع قوله: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" 1 وقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2 علمت أهمية تفسير القرآن بالسنة.
فيجب على من أراد فهم كتاب الله عز وجل فهماً سليماً، وتفسيره تفسيراً صحيحاً، ألا يهمل هذا الجانب بل يهتدي بهداه، ويستنير بضياه.
وذلك هو ما سار عليه الشيخ من واقع سلفيته، فتجد في تفسيره ملامح كثيرة لهذا المسلك القويم، يتجلى فيها ما أسلفته من نظره شمولية لتفسير السنة للقرآن الكريم، سواء أكان تفسير كلمة بأخرى، أو ما هو أوسع من ذلك. وهذا هو الأكثر في تفسيره. ومن خلال استقرائي لمنهج الشيخ في هذا النوع من التفسير أتضح لي أن له طريقتين في تفسير القرآن بالسنة والاستفادة منها في بيان المعنى:-
الطريقة الأولى: إيراد نص الحديث أو بعضه مميزاً إياه عن أسلوبه بما يعرف به أنه حديث كقوله: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذا أو نحو ذلك ومثل هذا كثير ومنه:
- قوله عند قول الله تعالى في شأن إبليس لعنه الله: {..وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
…
} الآية3 ما نصه:
.... ومعنى ذلك أن الله فطر عباده على الفطرة وهي الإسلام كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية4.
1 جزء من حديث رواه أحمد في مسنده "4: 131" وأبو داود في سننه/ كتاب السنة/ باب في لزوم السنة "4: 200" ح "4604".
2 سورة النجم: الآيتان "3، 4".
3 سورة النساء: آية "118، 119".
4 سورة الروم: آية "30".
وفي الصحيح "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه" الحديث1 فجمع "صلى الله عليه وسلم" بين الأمرين: تغيير الفطرة بالتهويد وغيره، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما اللذان أخبر إبليس أنه لا بد أن يغيرهما2. أ. هـ.
ويعني الشيخ بتغيير الخلقة بالجدع ما ورد في بعض ألفاظ الحديث في آخره ".... كما تنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها"3.
- وقوله عند قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 4 ما نصه:
"...... ولما كان تعبيرها- أي الرؤيا- خضوعهم له، خشي إن حدثهم أن يحسدوه فيبغون له الغوائل. وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من رأى ما يحب أن يحدث به، ولا يحدث إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر ويتفل عن يساره ثلاثاً ويتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره5؟ " أ. هـ.
فهذا من بيان التأكيد كما يأتي إيضاحه في الفصل التالي، إذ أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه.
الطريقة الثانية: تضمين تفسيره معاني واردة في بعض الأحاديث، ولا يصرح بنص الحديث بل يمتزج أسلوبه مع نص الحديث أو يرويه بالمعنى
1 رواه البخاري في صحيحه في مواضع منها/ كتاب الجنائز/ باب إذا أسلم الصبي فمات هل يصلى عليه/ انظر الفتح "3: 260" ح "1358، 1359" ومسلم في صحيحه/ كتاب القدر/ باب معنى: "كل مولود يولد على الفطرة""2047:4- 2049" ح "2658".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص90.
3 رواه البخاري في صحيحه/ كتاب القدر/ باب: الله أعلم بما كانوا عاملين.
انظر الفتح "502:11" ح "6599" ومسلم في الموضع السابق في هامش رقم "1".
4 سورة يوسف: آية "4، 5".
5 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "129" وانظر تخريج هذه الأحاديث في موضعها من التحقيق ص "293".
وذلك لإيضاح بعض المعاني أو تقرير بعض المسائل.
ومن أمثلة ذلك:
- قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} 1 حيث يقول- أن صلاة البر دين بالإخلاص توصل إلى المراتب العالية2.
فهو بهذا قد ضمن تفسيره معنى الحديث الشريف "من صلى البردين دخل الجنة" 3، واستفاد منه في تأييد معان مستنبطة من هذه الآية بدون ذكره نص الحديث ومن هذه المعاني المرادة هنا والمستفادة من إيراد هذا الحديث:
أ- شمول الدعاء للصلاة أيضاً، وذلك أن الصلاة في اللغة: هي الدعاء4.
ب- تفسير الغداة والعشي بأنهما وقت البردين أي أول النهار وآخره وهما الفجر والعصر5.
جـ- فضل المحافظة على صلاة البردين.
- قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} 6 ما نصه:
أنه لو دعا ناديه، أودنا من النبي "صلى الله عليه وسلم" لعوجل، ولكن دفع عنه ذلك لكونه ترك ما في نفسه7.
1 سورة الكهف: آية "28".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "249".
3 رواه البخاري في صحيحه/ كتاب مواقيت الصلاة/ باب فضل صلاة الفجر انظر الفتح "63:2" ح "574". ومسلم في صحيحه/ كتاب المساجد/ باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما "1: 440" ح "635".
4 انظر المصباح المنير "346" مادة: صلى.
5 انظر فتح الباري "2: 64" ومؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "57".
6 سورة العلق: آية "17، 18".
7 مؤلفات الشيخ/ التفسير ص 373.
فقد ضمن الشيخ تفسيره هذا معنى مستفاداً من قوله "صلى الله عليه وسلم" في أبي جهل: "لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوا عضوا"1.
فلم يورد نص الحديث بل اكتفى بالاستفادة من معناه، وإن كان في كلامه ما يشعر بأن هذا المعنى مبني على حديث، إذ أن هذا الاستنباط الذي ذكره لا مجال للعقل فيه، بل لا بد فيه من نص من الشرع.
- قوله فمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى في سورة "المسد": {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} 2 ما نصه:- إن الولد من الكسب، ففيه دليل على أن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وأن أولادكم من كسبكم3.
فقد ضمن استنباطه هذا الحديث الشريف وهو قوله "صلى الله عليه وسلم""إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم"4.
والغرض هنا هو التمثيل والاستدلال لبيان المنهج لا استقصاء جميع ما ورد.
وحيث أن سنن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" مع كتاب الله وجهان5، فقد استفاد الشيخ من كلا الوجهين، وأوردهما في تفسيراته وهذان الوجهان هما:
الوجه الأول: نص من السنة موافق لنص الآية. فيعتبر نص السنة في هذه الحال من قبيل بيان التأكيد ومن أمثلة ذلك من تفسير الشيخ ما يلي:-
1 أخرجه البخاري في صحيحه/ كتاب التفسير/ باب {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} انظر الفتح "8/ 595" ح "4958". ومسلم في صحيحه كتاب صفات المنافقين وأحكامهم/ باب قوله: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} "5/2154" ح "2797".
2 سورة المسد: آية "2".
3 مؤلفات الشيخ/ التفسير ص "382".
4 أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مواضع منها "2: 179" وابن ماجة في سننه/ كتاب التجارات/ باب ما للرجل من مال ولده "2: 768" ح "2290" والترمذي في جامعه "كتاب الأحكام" باب ما جاء أن الوالد يأخذ من مال ولده "3: 630" ح "1358".
5 انظر الرسالة للشافعي ص "91".
1-
قوله فهن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 1 ما نصه2:- الأمر بالاقتراب. ففيه معنى "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" 3
فيلاحظ في هذا الحديث أنه لم يزد على ما في الآية شيئاً بل ولم يوضح مبهماً فيها وإنما أكد معنى ظاهراً في الآية ظهوره في الحديث.
2-
قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 4.
حيث يقول5: جوابه عليه السلام لهم فيدل على قوله: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"6.
فالذي يظهر لي أن هذا أيضاً من قبيل بيان التأكيد وذلك أن يعقوب عليه السلام أراد من قوله هذا أنه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وهذا ما أكده حديث نبينا "صلى الله عليه وسلم".
الوجه الثاني:- نص من السنة مفسر أو مبين لمعاني مفردات أو معان متعلقة بالآية فمن أمثله ذلك:
1-
ما أورده الشيخ رحمه الله في تفسيره لسورة الفاتحة حيث يقول7: ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة حديث أبي هريرة الذي
1 سورة العلق: آية "19".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير "373".
3 رواه مسلم في صحيحه/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود "1: 350" خ "482".
4 سورة يوسف: آية "63، 64".
5 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير "160".
6 رواه الشيخان ويأتي تخريجه في موضعه من التحقيق ص "361".
7 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير "8".
في صحيح مسلم قال: سمعت رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"1.
فبين في هذا الحديث القدسي معاني بعض المفردات، والجمل، وبعض متعلقاتها.
2-
قوله عند تفسير قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.
ما نصه3:
…
في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على المنبر وقال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه" ثم ذكر تمجيد الرب تبارك وتعالى نفسه، وأنه يقول:"أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم"، قال ابن عمر: فرجف برسول الله "صلى الله عليه وسلم" حتى قلنا ليخرن به4.
فهناك نوع مناسبة وبيان بين التسبيح في آخر الآية، والإخبار عن الله أنه يمجد نفسه ويقول:"أنا الجبار، أنا المتكبر.. " الحديث.
والله أعلم.
1 أخرجه مسلم في صحيحه/ كتاب الصلاة/ باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة "1: 369" ح "395".
2 سورة الزمر آية "67".
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير "345".
4 رواه من حديث "ابن عمر" أحصد في مسنده "73:3" ومسلم في صحيحه/ كتاب صفة القيامة والجنة والنار. "4: 2147" ح "2788" واللفظ لأحمد.
ومما ورد من السنة في بيان هذه الآية ما أورده الشيخ في كتاب التوحيد "باب {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} " الآية1 من الأحاديث المفسرة لمعناها حيث قال بعد سياق هذه الآية التي ترجم بها: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، والماء على أصبع، والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر.
ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} .
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على أصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك أنا الله".
وفي رواية للبخاري "يجعل السموات على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع" أخرجاه2.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً "يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "3.
ففي هذه الأحاديث زيادة تفسير وبيان لمعنى الآية.
3-
ما أورده في كتاب التوحيد/ باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحديد ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله4، من حديث عدي بن
1 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول/العقيدة/ كتاب التوحيد باب "66" ص "148، 149".
2 رواه البخاري في صحيحه في مواضع منها/ كتاب التفسير/ باب: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} انظر الفتح "8: 412، 413"" ح "4811" ومسلم في صحيحه/ كتاب صفة القيامة والجنة والنار "4: 2147، 2148" ح "2786".
3 رواه مسلم في صحيحه/ كتاب صفة القيامة والجنة والنار "4: 2148" ح "2788".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول/ العقيدة كتاب التوحيد/ باب "37" ص "102".
حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحرمون ما أحل الله، فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه"، فقلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسنه2.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي هنا بيان وإيضاح لمعنى العبادة المذكورة في الآية.
4-
وقوله ضمن الفوائد المستنبطة من قصة آدم وإبليس3: ومنها أن في القصة معنى قوله "صلى الله عليه وسلم": "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه" 4 إلى آخره.
ومن ذلك قوله حكاية عن إبليس: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} 5. فإنهم ذكروا في معناه: أي آمرهم بتغيير خلق الله، وهي فطرته التي فطر عباده عليها، وهي الإسلام لله وحده لا شريك له6.
فان قوله صلى الله عليه وسلم "فأبواه يهودانه.." الحديث هو كالتفسير للآية المذكورة.
وللشيخ "رحمه الله" غرض ثالث في إيراد نصوص السنة، وهو الاستشهاد بها على معان مستنبطة من الآيات فمن أمثلة ذلك:
1 سورة التوبة: آية "31".
2 رواه الترمذي في جامعه/ كتاب تفسير القرآن/ باب ومن سورة التوبة "278:5" ح "3095" والطبري في تفسيره "10: 114" وغيرهما.
3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير "96".
4 تقدم تخريجه ص "56".
5 سورة النساء: آية "119".
6 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير "96".
1-
قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} 1.
ما نصه2: إن من المقامات ما يحسن من شخص، ويلام في تركه، ويذم من شخص آخر، كما نهى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" من أراد الإقتداء به في الوصال بقوله:"إني لست كهيئتكم"3.
2-
قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ} 4 الآيات.
من نصه:- النصيحة ولو لغير المسلمين كما قال "صلى الله عليه وسلم": "في كل كبد رطبة أجر"5. وأما المسلم فنصحه من الفرائض6.
3-
قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 7- ما نصه8: إن هذا في مثل هذا المقام ليس من الفخر كما قال النبي "صلى الله عليه وسلم": "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"9.
4-
قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً
1 سورة يوسف: آية "42".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير "149".
3 سيأتي تخريجه في موضعه من التحقيق ص "337".
4 سورة يوسف: آية "47".
5 سيأتي تخريجه في موضعه من التحقيق ص "343".
6 مؤلفات الشيخ "القسم الرابع، التفسير "152".
7 سورة يوسف: آية "86".
8 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير "170".
9 سيأتي تخريجه في موضعه من التحقيق ص "381".
فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} 1.
ما نصه2:- إن هذه المهنة لا نقص فيها، كيف وقد قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم":"ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم"3.
ويتضح من كل ما تقدم نظرة الشيخ الشمولية لتفسير القرآن بالسنة، حتى إنه يوضح بعض المعاني المستنبطة من الكتاب بفعل النبي "صلى الله عليه وسلم"، "وهو من السنة" ومن ذلك قوله ضمن المسائل المستنبطة من قوله تعالى للوط عليه السلام:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} 4.
ما نصه5: معرفة قدر كونه آخر الرفقة في السفر، كما كان النبي "صلى الله عليه وسلم" يتخلف في آخرهم6.
ويوضح المعاني أحياناً بتقرير النبي "صلى الله عليه وسلم" مما يؤكد النظرة الشمولية لمعنى السنة وتفسير القرآن بها ويتضح هذا من إيراده الحديث الآتي بعد قوله في كتاب التوحيد "باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 7.
ولحديث الذي أورده بعد هذه الآية مبيناً لها هو ما ورد عن أبن مسعود، رضي الله عنه قال جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع، والماء على إصبع، والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع
1 سورة القصص: آية "27".
2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير "290".
3 رواه البخاري في صحيحه/ كتاب الإجارة/ باب رعي الغنم على قراريط "انظر البخاري مع الفتح "4: 516" ح "2262" من حديث أبي هريرة ونحوه عند مسلم. كتاب الأشربة/باب فضيلة الأسود من الكباث "3: 1621" ح "2050" من حديث جابر وفيه: وهل من نبي إلا وقد رعاها.
4 سورة الحجر: آية "65"
5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير "193".
6 سيأتي تخريجه في موضعه من التحقيق ص "415"
7 سورة الزمر: آية "67".
فيقول: أنا الملك. فضحك النبي "صلى الله عليه وسلم" حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقد تقدم الحديث برواياته1.
ومما يدل على أن الشيخ رحمه الله أورد هذا الحديث مورد التفسير للآية قوله ضمن المسائل المستنبطة من هذا الباب: الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2 والله أعلم.
1 انظر ما تقدم ص "61".
2 مؤلفات الشيخ / القسم الأول/ التوحيد "150".