المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس: ما ذكره الشيخ من علوم القرآن في تفسيره - منهج شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في التفسير

[مسعد بن مساعد الحسيني]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌تمهيد

- ‌قسم الدراسة - الباب الأول: تفسير الشيخ القرآن بالمأثور

- ‌الفصل الأول: تفسيره القرآن بالقرآن

- ‌الفصل الثاني: تفسيره القرآن بالسنة

- ‌الفصل الثالث: تفسيره القرآن بأقوال السلف من الصحابة والتابعين

- ‌المبحث الأول: تفسيره القرآن بأقوال الصحابة

- ‌المبحث الثاني: تفسيره القرآن بأقوال التابعين

- ‌المبحث الثالث: موقف الشيخ من اختلاف السلف في التفسير

- ‌الباب الثاني: التفسير بالرأي أو بالمعلول

- ‌الفصل الأول: نظرته إلى العقل ومكانته من الشرع

- ‌الفصل الثاني: نظرته إلى التفسير بالرأي

- ‌الفصل الثالث: توفر أدوات التفسير بالرأي لدى الشيخ

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: معرفته باللغة ومدى اهتمامه بها في تفسيره

- ‌المبحث الثاني: معرفته بالنحو والإعراب ومدى اهتمامه به في تفسيره

- ‌المبحث الثالث: معرفته بالبلاغة ومدى اهتمامه بها في تفسيره

- ‌الفصل الرابع: مظاهر التفسير بالرأي عند الشيخ

- ‌مدخل

- ‌المبحث الأول: التفسير الإفرادي

- ‌المبحث الثاني: التفسير الإجمالي

- ‌المبحث الثالث: الاستنباط المباشر من الآيات

- ‌الفصل الخامس: السمات العامة لتفسيره بالرأي

- ‌المبحث الأول: تمشيه مع روح الشريعة الإسلامية

- ‌المبحث الثاني: تمشيه مع تفسيرات السلف وأقوالهم

- ‌الباب الثالث: أهم الأغراض التي تناولها الشيخ أو حققها من خلال تفسيره

- ‌الفصل الأول: التركيز على العقيدة من خلال تفسيره

- ‌المبحث الأول: اهتمامه بالعقيدة من خلال تفسيره بصفة عامة

- ‌المبحث الثاني: أهم المباحث العقدية التي بين لها الشيخ في تفسيره

- ‌المطلب لأول: اهتمامه ببيان أقسام التوحيد من خلال تفسيره

- ‌المطلب الثاني: اهتمامه بتقرير أركان الإيمان من خلال تفسيره

- ‌المبحث الثالث: استنباطه جوانب حماية العقيدة من الآيات

- ‌الفصل الثاني: اهتمام الشيخ في تفسيره بالردود على المخالفين

- ‌الفصل الثالث: الاتجاه الإصلاحي في تفسير الشيخ

- ‌الفصل الرابع: اهتمامه بجانب الفقه والتأصيل في تفسيره

- ‌المبحث الأول: اهتمامه بالفقه في تفسيره

- ‌المبحث الثاني: اهتمامه بالتأصيل في تفسيره

- ‌المطلب الأول: التأصيل العام في تفسيره

- ‌المطلب الثاني: اهتمامه بأصول الفقه في تفسيره

- ‌الفصل الخامس: القصص في تفسير الشيخ ومدى اهتمامه به

- ‌المبحث الأول: نظرته إلى القصص واهتمامه به

- ‌المبحث الثاني: طريقته في دراسة القصص والاستنباط منها

- ‌المبحث الثالث: المنهج الموضوعي في تفسير القصص لدى الشيخ

- ‌المبحث الرابع: موقف الشيخ من القصص الإسرائيلي

- ‌الفصل السادس: ما ذكره الشيخ من علوم القرآن في تفسيره

- ‌قسم التحقيق - مقدمة

- ‌النص المحقق

- ‌ذكر ما ذكر الشيخ محمد رحمه الله على سورة يوسف من المسائل

- ‌ مسائل مستنبطة من سورة الحجر

- ‌مسائل مستنبطة من سورة النحل

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الفصل السادس: ما ذكره الشيخ من علوم القرآن في تفسيره

‌الفصل السادس: ما ذكره الشيخ من علوم القرآن في تفسيره

.

اشتمل تفسير الشيخ واستنباطاته على ذكر بعض ما يندرج تحت علوم القرآن، وإن كان ذلك على وجه الندرة والاختصار في بعض ما ذكر منها. إلا أنه رغبة مني في التطرق لكل ما يتعلق بعلم التفسير لديه آثرت آن أنبه القارئ إلى تلك العلوم وبعض مواضعها في تفسيره ليتبين جلياً شمولية تفسيره.

1-

القراءات:

من المعلوم أنه من الضروري لمن يطلع على كلام المفسرين أن يطلع على ما ذكروه من قراءات ولكن لا يشترط لمن يفسر القرآن، وخصوصاً على منهج الشيخ أن يذكر القراءات الواردة في الآيات. فلذا لم يكثر الشيخ من ذكر القراءات وإن كان الظن أنه قد اطلع على كثير منها بل أنه قد أجيز بما يشمله ثبت أبي المواهب وهو مشتمل على القراءات كما تقدم1. فمن المواضع التي أورد فيها القراءات في تفسيره:

- قوله في تفسير سورة الفاتحة عند قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وفى قراءة "ملِكِ يَوْمِ الدِّينِ"2.

وقوله في سورة يوسف عند قوله تعالى إخباراً عن مقالة إخوة يوسف {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} 3 وفى قراءة "نرتع ونلعب"4.

وعند قوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} 5.

1 انظر ما تقدم ص"8".

2 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "13" وانظر حجة القراءات ص "77- 79" والكشف عن وجوه القراءات "1:25- 33".

3 سورة يوسف: آية "12".

4 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "131" وانظر قسم التحقيق ص"300".

5 سورة الكهف: آية "26".

ص: 256

قال: النهي عن إشراك مخلوق في حكم الله على قراءة الجزم1.

وفى هذا- وإن لم أجد له نظيراً في تفسيره- دليل على أنه يولي القراءات نظرا ويستفيد منها طالما أنها قراءة صحيحة، وإن لم يسر عليها في بقية تفسيره واستنباطاته.

ولبيان ما أراده الشيخ أقول: إن هذه هي قراءة ابن عامر "ولا تشركْ" بالتاء والجزم.

وقراءة الباقين "ولا يشركُ" بالياء والرفع.

ووُجِّهت قراءة ابن عامر بأن المعنى "لا تشرك أيها الإنسان في حكم ربك أحدا" نهي عن الشرك، وهو رجوع من غيبة إلى الخطاب2.

وهذا المعنى هو الذي عناه الشيخ في استنباطه.

ومما يدل على اهتمامه بالقراءات ومعانيها أنه اختصر بعض المسائل، والفوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه "رحمه الله" وكان مما أورده في اختصاره، بعض ما يتعلق بالقراءات ومعلوم أن المختصر إنما يقتصر على ما يرى أهميته وفائدته أكثر من غيره، كما أن الاختصار في ذاته غرض من أغراض التأليف. يقول الشيخ "رحمه الله" في هذا الاختصار:.... وقرئ {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} 3 بالرفع والنصب، أي تستبين أنت سبيلهم، فالإنسان يستبين الأشياء وهم يقولون: بأن الشيء، وبينته، وتبين، وتبينته، واستبان

واستبنته، كل هذا يستعمل لازماً ومتعدياً.

فقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 4 هنا متعد.

وقوله: {فَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} 5 فهنا لازم. فالبيان بمعنى تبيين الشيء، وبمعنى

1 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "248".

2 انظر حجة القراءات ص "415" والكشف عن وجوه القراءات "58:2، 59".

3 سورة الأنعام: آية "55".

4 سورة الحجرات: آية "6".

5 سورة النساء: آية "19" وسورة الطلاق: آية "1".

ص: 257

بينت الشيء، أي أوضحته، وهذا هو الغالب1.

فمثل هذا النقل دال بلا شك على اهتمام الشيخ واعتباره لجانب القراءات واستفادته منها. وإن كان قد جرى في تفسيره على قراءة حفص عن عاصم.

وبالله التوفيق.

1 انظر مؤلفات الشيخ: ملحق المصنفات/ مسائل لخصها الشيخ من كلام ابن تيمية ص "184" ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام "9: 64".

وانظر حجه القراءات "253" والكشف عن وجوه القراءات "433:1، 434".

ص: 258

2-

فضائل القرآن:

بين الشيخ مراراً أهمية كتاب الله تعالى وعظمته ومنزلته، وأنه منبع الهداية، وطريق النجاة، وأن فيه الكفاية عما سواه من الكتب عند تعرضه لما يتعلق بهذا كما في أول سورة يوسف "عليه السلام"1، وفي كلامه في تفسير آيات من سورة "طه" وخصوصاً عند قوله تعالى في نهاية قصة آدم:

{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 2.

وأورد هنالك قول ابن عباس رضى الله عنه: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة3..

وفي غير ذلك من المواضع.

ولاشك أن هذا من أعظم فضائل القرآن بل هو أعظمها، وجميع ما يذكر من فضائله يرجع إلى هذه المعاني العظيمة.

ومع هذا فقد ذكر في بعض المواضع بعض ما ورد من الأحاديث والآثار في بيان فضل القرآن.

فقد ذكر عند تفسير سورة الإخلاص الحديث المروي عن عبد الله بن خبيب قال: خرجنا في ليلة مطيرة، وظلمة شديدة، نطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا، قال: فأدركته، فقال:"قل". فلم أقل شيئاً ثم قال: "قل"، فلم أقل شيئاً قال:"قل"، قلت: ما أقول؟ قال: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين. حين تمسي وتصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء"4.

1 انظر مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/التفسير ص "1027" وقسم التحقيق ص "288".

2 سورة طه آية: "123". وانظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص464-468.

3 أخرجه الطبري في تفسيره "225:16".

4 انظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "383".

والحديث أخرجه أبو داود في سننه/ كتاب الأدب/ جاب ما يقول إذا أصبح "322:4" ح "5082". والترمذي في جامعه/ كتاب الدعوات/باب 17 "567:5" ح "3575" والنسائي في سننه/كتاب الاستعاذة باب 1 "8: 250" ح "5428".

ص: 259

ومن أعظم ما يدل على اهتمام الشيخ بهذا الجانب- وإن لم يسهب فيه كثيراً في تفسيره مراعاة لمنهجه- أنه ألف كتاباً نفيساً في فضائل القرآن ذكر فيه من الآيات والأحاديث والآثار المعزوة إلى مخرجيها كثيرا مما يبين عظيم قدر القرآن، ومنزلته، وفضله. ووجوب تعلمه واحترامه، وعدم المراءاة به، أو الغلو فيه، أو اتباع متشابهه أو تفسيره بالرأي المجرد. وغير ذلك.

وقد اشتمل على "ثمانية عشر باباً" بدأها بـ "باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه". واختتمها بـ "باب ما جاء في التغني بالقرآن".

3-

علم قصص القرآن:

وهو من أكثر ما تعرض له الشيخ في تفسيره من علوم القرآن وذلك لما فيها من عظة وعبرة، وقد ذكرت اهتمامه بالقصص في فصل خاص لاهتمامه ومنهجه الظاهرين في عرضه وبيانه، والنظرة إليه، والاستنباط منه فليرجح إليه1.

4-

أسباب النزول:

من علوم القرآن التي أولاها الشيخ اهتماما كما يظهر ذلك من خلال تفسيره أسباب النزول. وذكره لها- مع ما يقتضيه منهجه الاستنباطي المختصر غالباً- دليل على اهتمامه به لفائدته إذ العلم بالسبب مما يعين على العلم بالمسبب. وله في ذكر أسباب النزول طريقتان:-

1-

فأحياناً يذكر القصة التي هي سبب النزول على وجه البسط نوعاً ما كذكره لسبب نزول أول سورة يوسف2، وأول سورة الكهف3، وكذا في أول سورة الجن حيث قال: روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انطلق

1 انظر ص "226 وما بعدها" فيما سبق.

2 انظر مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "137" وقسم التحقيق ص "286- 288".

3 انظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "239".

ص: 260

النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء؟

فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا إليه، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك حين رجعوا إلى قومهم {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} الآية فانزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} 1 يعني أنهم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لهم هذا2.

وغير ذلك من المواضع.

2-

وأحياناً يشير إلى السبب إشارة، ويستنبط منه استنباطات دالة على معرفته بذلك السبب دون أن يذكره وذلك في مواضع منها:

عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ – إلى قوله- وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} 3.

1 أخرجه البخاري في صحيحه في مواضع منها/ كتاب التفسير / باب سورة "قل أوحي" انظر الفتح "538:8" ح "4921".

ومسلم في صحيحه في كتاب الصلاة/ باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن "1: 331" ح "449".

2 انظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "355".

3 سورة آل عمران الآيات "100- 108".

ص: 261

- معرفة سبب النزول يدل على شدة الحاجة لها فإذا احتاجوا فكيف بغيرهم1.

ولم يذكر سبب النزول، وإنما استفاد منه في فهم الآية.

وكذا قوله: قصة سبب نزول {تَبَّتْ} إلى آخرها فيها مسائل:

ثم ذكر المسائل وما فيها من استنباطات دالة على معرفته بالقصة مع عدم ذكره إياها2، كقوله:

1 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "48".

وقد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزولها ما حصل من تحريش اليهودي "شاس ابن قيس" بين الأوس والخزرج، لما رأى ما هم عليه من التآلف والتآخي وغاظه ذلك فأراد أن يوقع بينهم بالتحريش بتذكيرهم بما حصل بينهم في الجاهلية من حروب فاستثار أضغان الجاهلية حتى كاد أن يقع بينهم قتال لولا أن لطف الله فعلم الرسول "صلى الله عليه وسلم" بذلك فأتاهم فوعظهم وتلا عليهم الآيات فتابوا إلى رشدهم وعلموا أنها نزعة من الشيطان وكيد من العدو.

وانظر في ذلك تفسير الطبري "23:14- 25" وأسباب النزول للواحدي "ص 149" والدر المنثور للسيوطي "3: 278- 280".

2 وسبب نزول سورة تبت ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ورهطك منهم المخلصين" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: "يا صباحاه". فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "، قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". قال أبو لهب: تباً لك. ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .

"وقد تب" هكذا قرأها الأعمش.

رواه البخاري في صحيحه في مواضع منها/ كتاب التفسير / باب سورة تبت يد أبي لهب وتب، انظر الفتح "8: 609" ح "4971" ومسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان/ باب في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} "193:1، 194" ح "208".

ص: 262

- إن هذا هو العقل والصواب- أعني صعود الجبل والصياح في هذه المسألة ولو عده أكثر الناس سفها بل جنونا.

وقوله: لعل الكلمة التي لا يلقي لها بالا يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، ولعلة يعتقدها نصيحة أو صلة رحم.

والشيخ في استفادته من أسباب النزول يوسع دائرة النظر والاستنباط، فلا يقصر الآية على سبب نزولها، ولا يفسرها بمعزل عن سبب نزولها.

بل يعتبر بسبب نزولها ويستفيد منه، إذ أن معرفة السبب تعين على فهم المسبب كما تقدم. ولا يقصرها على سبب نزولها إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم ولهذا يقول رحمه الله:

فمازال العلماء من عصر الصحابة فمن بعدهم يستدلون بالآيات التي نزلت في اليهود وغيرهم على من يعمل بها1.

وهذا أمر متقرر ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن كلام له....... والآية التي لها سبب معين إن كانت أمراً أو نهياً فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وان كانت خبراً بمدح أو ذم فهي متناولة ذلك الشخص ولمن كان بمنزلته2.

وهذه هي النظرة الصحيحة لأسباب النزول. ومما يشهد لتطبيقه هذا المنهج الذي سلكه:

قوله عند قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآيتين3:

"إذا عرفت أن سبب نزولها قول أهل الكتاب: نحن مسلمون نعبد الله، إلا إن كنت تريد أن نعبدك4، عرفت أنها من أوضح ما في القرآن من تقرير الإخلاص

1 انظر مؤلفات الشيخ/ القسم الثالث/ الفتاوى ص "23، 24" والقسم الخامس/ الرسائل الشخصية "241".

2 انظر مقدمة في أصول التفسير ص "47".

3 سورة آل عمران، آية "79- 81".

4 انظر هذا السبب في تفسير الطبري "325:3" وأسباب النزول للواحدي ص "146".

ص: 263

والبراءة من الشرك، ومن أعظم ما يبين لك طريق الأئمة المهديين من الأئمة المضلين، وذلك أن الله وصف أئمة الهدى بالنفي والإثبات فنفى عنهم أن يأمروا أتباعهم بالشرك بهم أو بالشرك بالملائكة والأنبياء وهم أصلح المخلوقات، وأثبت أنهم يأمرون أتباعهم أن يصيروا ربانيين. فإذا كان من أنزله الله بهذه المنزلة لا يتصور أن يأمر أتباعه بالشرك به ولا بغيره من الأنبياء والملائكة فغيرهم أظهر وأظهر1.

فانظر - يرحمك الله- إلى استفادة الشيخ من هذه الآيات مع اقترانهما بهذه القصة التي هي سبب نزولها والإفادة من عموم لفظها في ترسيخ ما تتضمنه من معان وما يستنبط منها من فوائد غير مقصورة على من نزلت فيه.

ومن ذلك أيضاً قوله عند قول الله تعالى في أول سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية2.

لما قدم وفد بني تميم قال أبو بكر: يا رسول الله أمر فلاناً وقال عمر: بل فلاناً، قال: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردته، فتجادلا حتى ارتفعت أصواتهما3.

ففيه مسائل:

الأولى: الأدب مع رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وتعظيم حرمته.

الثانية: إذا كان هذا التغليظ في الشيخين فكيف بغيرهم.

فقد ذكر سبب النزول هنا لبيان معنى الآية، ثم استنبط منها هذين الاستنباطين العامين وغيرهما4 مما هو مقرر لما ذكرته من سيره على هذا المنهج في أسباب النزول.

1 انظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "45".

2 سورة الحجرات: آية "1، 2".

3 أخرجه البخاري في مواضع منها/ كتاب التفسير / باب {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} انظر الفتح "8: 454" ح "4845".

4 انظر مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "349، 350".

ص: 264

5-

تعرضه للنسخ:

تعرض الشيخ في تفسيره في بعض المواضع لذكر النسخ على وجه الاختصار البالغ مستنبطاً ذلك مما تشير إليه الآيات.

فمن ذلك قوله عند قول الله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1.

حيث قال: ذكر النسخ2.

والآية دالة على وقوع النسخ، ولهذا يستدل بها العلماء على جوازه شرعا3. وقوله،: عند قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4.

حيث يقول: الإشعار بالنسخ قبل وقوعه5.

ووجه ذلك عنده والله أعلم- أن الله تعالى أمر المؤمنين بالعفو والصفح عن أهل الكتاب بقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} وجعل غاية ذلك إلى أن يأتي الله بأمره ففيه إشارة إلى نسخ حكم العفو قبل وقوعه، وهو ما تم بعد، إذ نسخ بقتال الكفار كافة، وقد قال بنسخ العفو والصفح عنهم ابن عباس وقتادة وغيرهما كما أخرجه عنهم الطبري6.

الموضع الثالث: قوله عند قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 7 إنها ناسخة. وهو يعني بذلك نسخها للحال الأولى وهى المرحلة السرية للدعوة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم8.

1 سورة النحل: آية "101".

2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/التفسير ص "227".

3 انظر الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي "61".

4 سورة البقرة: آية "109".

5 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "196".

6 انظر بسط القول في ذلك في تفسير الطبري "490:1" والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخة لمكي "125، 126" ونواسخ القرآن لابن الجوزي "136-138"

7 سورة الحجر: آية "94".

8 انظر التعليق على هذا القول في قسم التحقيق ص "422".

ص: 265

كما نص في اختصاره لتفسير سورة الأنفال على بعض الآيات المنسوخة منها ومن ذلك قوله1:

وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إلى قوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} 2 يأمر تعالى نبيه محمداً "صلى الله عليه وسلم" بتحريض المؤمنين على القتال، ويخبرهم أنه حسبهم أي كافيهم وناصرهم وإن كثر عددهم، ثم قال مبشراً وآمراً:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية ثم نسخ الأمر.

قال ابن عباس: "لما نزلت شق على المسلمين حين فرض ألا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية، ونقص من الصبر بقدر ما خفف3.

وغير ذلك من المواضع4.

وبهذا يتبين اهتمام الشيخ بالنسخ، وتجويزه إياه، تمشياً مع كتاب الله تعالى. ومعلوم أن الشيخ لم يفسر القرآن كاملا حتى تظهر إحاطته بناسخ القرآن ومنسوخه. والله أعلم.

1 مؤلفات الشيخ/ ملحق المصنفات/ مختصر تفسير سورة الأنفال ص "؟ 3، 35"

2 سورة الأنفال: آية "65، 66".

3 رواه البخاري في صحيحه/ كتاب التفسير / تفسير سورة الأنفال انظر الفتح "8: 162" ح "4652، 4653" والطبري في تفسيره "38:10، 39" وانظر تفسير ابن كثير "4: 31".

4 انظر مؤلفات الشيخ/ ملحق المصنفات/ مختصر تفسير سورة الأنفال ص "24، 26".

ص: 266