الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: المنهج الموضوعي في تفسير القصص لدى الشيخ
ينحى الشيخ في دراسته للقصص في بعض الأحيان منحى الجمع الموضوعي لاحتواء أطراف القصة وأحداثها، ولتحقيق الوحدة الموضوعية وإن كان ذلك في نطاق محدود فيتسنى بذلك جمع الاستنباطات والفوائد المستنبطة من القصة، والمستوحاه منها، في موضع واحد ليسهل بذلك الاطلاع عليها، وتعم الفائدة المرجوه.
فمن ملامح هذا الجمع الموضوعي صنيعة في التعرض لتفسير قصة يوسف بأكملها دون اختيار أجزاء منها مما حدا به إلى تفسير السورة بأكملها حيث شغلت القصة منها حيزاً كبيراً.
وهذه القصة تتجلى فيها الوحدة الموضوعية في أبدع أشكالها، وأبهى حللها، إذ تسير القصة سيرا موضوعيا، منسجما، متكاملا كل جزئية منها متصلة بالجزئية الأخرى اتصالا وثيقا، منذ بداية القصة بالرؤيا:{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} 1 ومن ثم الأحداث المتتالية المنتهية بتأويل تلك الرؤيا بعد زمن طويل كان ظرفا لأحداث كثيرة: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} الآية2.
ولعل اختيار الشيخ لهذه القصة المتكاملة الأحداث في مكان واحد، واستنباط ما فيها من العبر والدروس اعتبار منه لهذه الوحدة الموضوعية، وإن كان لا يستغرب على من تصدى لتفسير كتاب الله أن يتعرض لتفسير سورة يوسف بما فيها قصة يوسف "عليه السلام".
إلا أن الشيخ كما هو معلوم لم يرد فيما يبدو أن يفسر القرآن كله، بل آيات مختارة منه، فكون سورة يوسف بما فيها من تلك القصة التي تحققت فيها
1 سورة يوسف: آية "4".
2 سورة يوسف: الآيتان "99، 100"
الوحدة الموضوعية من تلك المختارات اعتبار منه لهذا الأمر. والله أعلم. وتتجلى ملامح هذا الجمع الموضوعي واضحة عند تعرفه للاستنباط من قصة "موسى وفرعون"، فقد أهتم في ذكرها بجمع الآيات ذات العلاقة في موضع واحد، حيث جمع أكثر الآيات التي تعرضت لذكر هذه القصة فبدأ بسورة القصص، واستنبط ما فيها من الفوائد حسبما ذكر من أحداثها في هذه السورة ثم انتقل لذكر ما ورد في سورة "طه" من الزيادة مستنبطاً ما فيها من الفوائد ثم ما ورد في سورة الأعراف ثم الشعراء وهكذا حتى أتى على استنباط الفوائد المتعلقة بهذه القصة من خلال ورودها في خمس عشرة سورة هي:- "الأعراف" و "يونس" و "هود" و "الإسراء" و "المؤمنون" و "الشعراء" و "النمل" و "القصص" و "المؤمن" و "غافر" و "الزخرف" و "الدخان" و "الذاريات" و "القمر" و "المزمل" و "النازعات".
ومن ملامح هذا الجمع الموضوعي أيضاً صنيعه في قصة "آدم وإبليس" فقد تكلم عن القصة والفوائد المستنبطة منها مستفيداً من ورود أحداثها في سور متعددة.
فمثلا قوله: ومنها أن فيها معنى القاعدة الكبرى في الشريعة، المذكورة في مواضع منها قول النبي "صلى الله عليه وسلم":"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 1 وهي من قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} فإنهم ذكروا أن معناه قطع آذان البحيرة تقرباً إلى الله على عادات الجاهلية.
مستفاد من آية النساء المذكورة رقم "119".
وقوله: "ومنها أن كشف العورة مستقر قبحة في الفطر والعقول لقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} وقد سماه الله فاحشة2". مستفاد من آية الأعراف المذكورة رقم "20".
1 تقدم تخريجه ص "234".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "93".
وقوله: "ومنها أن زخرفة القول قد تخرج الباطل في صورة الحق كما في الحديث "إن من البيان لسحرا" 1 فإن اللعين زخرف قوله بأنواع منها: تسمية الشجرة "شجرة الخلد" ومنها تأكيد قوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وغير ذلك مما ذكر في القصة.."2.
مثل له بما ذكر في آيتين الأولى في سورة "طة" وهي قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} الآية".
والأخرى في سورة "الأعراف" وهي قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} .
وهكذا بقية الفوائد المستنبطة من القصة هي مستنبطه من سور عديدة، فتحقق بهذا الجمع الموضوعي لهذه القصة بشكل شامل مبسط.
ومما يجدر التنبيه إليه هنا صنيع الشيخ في تصنيف الفوائد المستنبطة من قصة "موسى والخضر" تصنيعاً موضوعيا بديعا مستوحى من هذه القصة وما ورد من بيانها في الكتاب والسنة.
حيث صنف الفوائد المستنبطة إلى أقسام يندرج تحت كل قسم ما يتعلق به من فوائد وعبر عن هذه الأقسام بمسائل وكل مسألة مشتملة على مسائل3.
فالأولى: ما يتعلق بجلال الله وعظمته وفيه مسائل:
الأولى: معرفة سعة العلم لقوله "ما نقص علمي وعلمك" 4 وهذا من أعظم ما سمعنا من عظمة الله.
1 تخدم تخريجه ص "233".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "93، 94".
3 انظر هذه المسائل في المرجع السابق ص "251" وما بعدها.
4 هذه اللفظة جزء من الحديث المتفق عليه في قصة موسى والخضر عليهما السلام وفيه "فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين قال له الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر".
رواه البخاري في صحيحه في مواضع منها كتاب أحاديث الأنبياء/ باب حديث الخضر مع موسى عليهما السلام "الفتح 497:6- 499" ح "3400- 3402" ومسلم في صحيحه/ كتاب الفضائل/ باب من فضائل الخضر عليه السلام "1847:4" ح "2380".
الثانية: الأدب مع الله لقوله: "فعتب الله عليه". 1
الثالثة:- الأدب معه أيضاً في قوله: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} 2 وقوله: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} 3.
ووجه ذلك- والله أعلم- أنه نسب العيب إلى نفسه. وإرادة الصلاح إلى الله تعالى وهكذا.
الثاني: ما يتعلق بأحوال الأنبياء وفيه مسائل:
الأولى: أن النبي يجوز عليه الخطأ.
قلت: وهي مأخوذة من قول موسى وقد سئل: "أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فقال: بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك" الحديث4.
الثانية: أنه يجوز عليه النسيان.
قلت: وهي مأخوذة من قوله تعالى إخباراً عن قول موسى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} 5.
وكذا قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} 6.
الثالثة: فضيلة نبينا "صلى الله عليه وسلم" بعموم الدعوة لقوله: "موسى بنى إسرائيل"7. وهكذا.
الثالث: مسائل الأصول. وفيه مسائل:
أعظمها التوحيد، ولكن سبق آنفاً فنقول:
الأولى: الدليل على اليوم الآخر، لأن من أعظم الأدلة إحياء الموتى في دار الدنيا.
الثانية: إثبات كرامات الأولياء على القول بعدم نبوة الخضر.
الثالثة: أنه قد يكون عند غير لنبي من العلم ما ليس عند النبي.
.... وهكذا
1 هذا جزء من الحديث السابق تخريجه ص "239".
2 سورة الكهف: آية "79".
3 سورة الكهف: آية "84".
4 جزء من الحديث السابق تخريجه ص "239".
5 سورة الكهف: آية "73".
6 سورة الكهف: آية "61".
7 جزء من الحديث السابق تخريجه ص "239".
الرابع: ما فيها من التفسير:
الأولى: أن المذكور هو الخضر لا كما قال الحر بن قيس1.
الثانية: أن موسى هو المشهور عليه السلام خلافاً لنوف2.
الثالثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر لهم ألفاظ القرآن كما بينها.
.... وهكذا.
الخامس: آداب العالم والمتعلم ففيه مسائل:
الأولى: تسمية التلميذ الخادم فتى.
الثانية: أن تلك الخدمة مما يرفع الله بها كما رفع يوشع3.
الثالثة: تعلم العالم عمن دونه.
..... وهكذا.
السادس: ما فيها من مسائل الفقه:
فالأولى: عمل الإنسان في مال الغير بغير إذنه إذا خاف عليه الهلاك.
الثانية: ليس من شروط الجواز خوف الهلاك بل قد يجوز للإصلاح لقصة الجدار.
الثالثة: أنه ليس من شروط المسكين في الزكاة أنه لا مال له.
..... وهكذا.
السابع: المنثور والجامع.
الأولى: القصة بجملتها من أعجب ما سمع، ولا يعرف في نوعها مثلها.
الثانية: عين الحياة ومالله من الأسرار في بعض المخلوقات.
1 هو صاحب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الحر بن قيس بن حصن الفزاري ابن أخي عيينة بن حصن وهو أحد الوفد الذين قدموا على رسول الله "صلى الله علية وسلم" مرجعه من تبوك، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر "رضي الله عنه". انظر ترجمته في أسد الغابة "393:1، 394" والإصابة "2: 5، 6".
2 هو نوف بن فضالة الحميري البكالي، إمام أهل دمشق في عصره، وكان راوياً للقصص وهو ابن زوجة كعب الأحبار. استشهد مع محمد بن مروان في الصائفه وذكره البخاري في فضل من مات ما بين التسعين إلى المائة. انظر في ترجمته حلية الأولياء "48:6" وتهذيب التهذيب "10: 490".
3 هو يوشع بن نون "فتى موسى" الذي خلفه في بني إسرائيل.
انظر تفسير الطبري "15: 271" وزاد المسير "5: 164".
الثالثة: ما أبتلى به موسى عليه السلام مما لا يحتمل مع وعده الصبر وتعليقه بالمشيئة.
...... وهكذا.