الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: طريقته في دراسة القصص والاستنباط منها
لم تجر دراسة الشيخ للقصص القرآني على نسق واحد من حيث الشكل، ولعل ذلك لتفاوت الزمن الذي ألف فيه تفسير كل قصة، والاستنباط منها شأنها في ذلك شأن بقية تفسيره، وإن كان بينها بعض السمات المشتركة المتحققة في تفسيراته كلها، وأهم هذه السمات هي المنهج الاستنباطي الذي يركز عليه الشيخ ويهتم به كثيراً، فقد حقق الشيخ هذا المنهج في جانب القصص، واستنبط منها المسائل والفوائد من خلال النظر في الآيات الدالة على أحداثها.
ولذلك فلا أستطيع أن أجد منهجاً شكلياً متحداً لدراسة القصص ولكن دراسته للقصص قد أتت على أنحاء مختلفة أهمها:
1-
أنه تارة ينحى منحى الإسهاب والتفصيل إلى حد ما ويركز في ذلك على الفائدة أكثر من تركيزه على أحداث القصة ذاتها.
ويتضح ذلك في قصة آدم وإبليس حيث كثيراً ما يذكر الفائدة ويوضحها بأسلوب يفهمه المتعلم والعامي، ويوضح مأخذها من الآيات مستشهداً لدعم تلك الفائدة أو الاستنباط بآيات أخر أو بالسنة، أو أقوال السلف فمن ذلك قوله ضمن الفوائد المستنبطة من هذه القصة:
- ومنها- أي من الفوائد- معرفة العداوة التي بين آدم وذريته، وبين إبليس وذريته وأن هذا سببها لما طُرِد عدو الله، ولُعِن بسبب آدم لما لم يخضع، وهذه المعرفة مما يغرس في القلب محبة الرب جل جلاله، ويدعوه إلى طاعته، وإلى شدة مخالفة الشيطان، لأنه سبحانه ما طرد إبليس، ولعنه، وجعله بهذه المنزلة الوضيعة، بعد تلك المنزلة الرفيعة، إلا لأنه لم يخضع بالسجود لأبينا آدم، فليس من الإنصاف والعدل موالاته، وعصيان المنعم جل جلاله، كما ذكر هذه الفائدة بقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ
دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} 1.
فقد أوضح الفائدة هنا، وهي معرفة العداوة التي بين آدم وذريته، وإبليس وذريته ومأخذها مما دلت عليه الآيات من نكول إبليس عن السجود لآدم وطرده بسبب ذلك واستدل على هذه الفائدة بذكره سبحانه هذه العداوة في الآية المذكورة.
وقوله2: ومنها- وهي أعظمها- أنها تفيد الخوف العظيم الدائم في القلب، وأن المؤمن لا يأمن حتى تأتيه الملائكة عند الموت تبشره، وذلك من قصة إبليس وما كان فيه أولاً من العبادة والطاعة، ففي ذلك شيء من تأويل قوله "صلى الله عليه وسلم": "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع
…
" إلى آخره3.
وقد دعم هذا الاستنباط بالسنة.
وقوله4:- ومنها معرفة شدة عداوة عدو الله لنا، وحرصه على إغوائنا بكل طريق فيعتد المؤمن لهذا الحرب عدته، ويعلم قوة عدوه وضعفه عن محاربته إلا بمعونة الله كما قال قتادة: إن عدوا يرآنا هو وقبيله من حيث لا نراهم أنه لشديد المؤنة إلا من عصمه الله، وقد ذكر الله عداوته في القرآن في غير موضع، وأمرنا باتخاذه عدوا5.
وقد دعم هذا الاستنباط بقول قتادة التابعي "رحمه الله".
وقد سار الشيخ على هذا النمط كثيراً في استنباطه الفوائد من قصة آدم وإبليس فمن ذلك قوله أيضاً:
1 سورة الكهف: آية "50" وانظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "86، 87".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "84".
3 تقدم تخريجه ص "139".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/التفسير ص "87".
5 تقدم تخريجه ص "76".
ومنها معرفة قدر الإخلاص عند الله، وحمايته لأهله، لقول اللعين:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 1 فعرف عدو الله أن لا سبيل له على أهل الإخلاص.
ومنها أن كشف العورة مستقر قبحه في الفطر والعقول لقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} 2. وقد سماه الله فاحشة. منها أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بالفجرة بل يكون على حذر منهم ولو قالوا ما قالوا، خصوصاً أولياء الشيطان، الذين تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، فإن اللعين حلف:{إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} 3.
ومنها أن زخرفة القول قد تخرج الباطل في صوره الحق، كما في الحديث "إن من البيان لسحرا" 4. فإن اللعين زخرف قوله بأنواع منها: تسمية الشجرة "شجرة الخلد"، ومنها تأكيد قوله:{إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وغير ذلك مما ذكر في القصة، فينبغي للمؤمن أن يكون من زخرف القول على حذر، ولا يقنع بظاهرة حتى يعجم العود5.
وهكذا يتضح في معظم استنباطاته من قصة آدم وإبليس الفائدة ومأخذها، حتى لا يكون هناك مجال لردها، أو ادعاء المبالغة أو التخيل فيها فهي نابعة من صميم القصة وأحداثها.
وقد تكون الفائدة المستنبطة دعما واستدلالا لقاعدة معروفة أو أمر مقرر في الشرع فيقول مثلا:
-ومنها أن في القصة شاهداً لما ذكر في الحديث "إن من العلم جهلا" 6 أي من بعض العلم ما العلم به جهل، والجهل به هو العلم فإن اللعين من أعلم الخلق بأنواع
1 سورة الحجر آية "40" وسورة "ص" آية: "83".
2 سورة الأعراف: آية "20".
3 سورة الأعراف: آية: "21".
4 رواه البخاري في صحيحه في مواضع منها/ كتاب الطب/ باب إن من البيان سحرا. انظر الفتح "10: 247" ح "5767" ومسلم في صحيحه كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة "594:2" ح "869".
5 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "93، 94".
6 رواه أبو داود في سننه/ كتاب الأدب/ باب ما جاء في الشعر "303:4" ح "5012".
وضعفه الألباني في ضعيف الجامع "1: 193" ح "1989".
الحيل التي لا يعرفها آدم، مع أن الله علمه الأسماء كلها، فكان ذلك العلم من إبليس هو الجهل، وفى الحديث:"إن الفاجر خب لئيم وإن المؤمن غر كريم" 1 وأبلغ من ذلك وأعم منه قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} 2 فقيل لهم ما قيل وعوتبوا، فكانت توبتهم أن قالوا:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} 3 فكان كمالهم ورجوعهم عن العتب وكمال علمهم أن أقروا على أنفسهم بالجهل إلا ما علمهم سبحانه، ففي هذه القصة شاهد للقاعدة الكبرى في الشريعة المنبة عليها في مواضع منها قوله "صلى الله عليه وسلم":"وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها"4.
وقوله5: ومنها أن فيها معنى القاعدة الكبرى في الشريعة المذكورة في مواضع منها قوله "صلى الله عليه وسلم": "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 6 وهي من قوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} 7 فإنهم ذكروا أن معناه قطع آذان البحيرة تقربا إلى الله على عادات الجاهلية8.
1 رواه الإمام أحمد في مسنده "2: 394" وأبو داود في سننه "كتاب الأدب/ باب في حسن العشرة "4: 251" ح "4790" والترمذي في جامعه/ كتاب البر والصلة باب ما جاء في البخيل "344:4" ح "1964" وقال: حديث غريب. وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي "2: 187" ح"1599".
2 سورة البقرة آية: "30".
3 سورة البقرة آية: "32".
4 أخرجه الطبري في تفسيره "85:7" والحاكم في مستدركه "4: 115".
5 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "96".
6 رواه البخاري في صحيحه في مواضع منها كتاب الصلح/ باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود انظر الفتح "5: 355" ح "2697" ومسلم في صحيحه كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور "1343:3" ح "1718".
7 سورة النساء: آية "119".
8 قاله الطبري ورواه عن قتادة والسدي وعكرمة. انظر تفسيره "5: 281، 282".
وقوله:1- ومنها أن فيها شهادة لما ذكر عن بعض السلف: أن من عقوبة السيئة السيئة بعدها.
وقوله: ومنها أنها تفيد القاعدة المعروفة: إن الجزاء من جنس العمل، وذلك أنه قصد الترفع، فقيل له:{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} 2 فقصد العز فأذله الله بأنواع من الذل3.
وهكذا يسعى الشيخ لتحقيق شمولية الاستفادة من القصة بكل ما فيها من عبرة وعظة أو استدلال وتقرير لقاعدة أو مسألة إذ القرآن الذي حكاها لنا من لدن حكيم خبير. وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما يخالفه.
2-
وتارة ينحى منحى الإيجاز في الاستنباط من القصة والإشارة إلى رؤوس الفوائد والمسائل وعدم التفصيل فيها فهو يسير بهذا على منهجه الاستنباطي المقتضب غالباً في تفسيره، وذلك كاستنباطه من قصة موسى وفرعون، فمن ذلك قوله مستنبطاً من قول الله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية4.
هذا وحي إلهام ففيه إثبات كرامات الأولياء.
الثانية: أنها أمرت بإلقائه في اليم وبشرت بأربع.
الثالثة: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} فيه حكمة هذا الالتقاط.
الرابعة: أن اللام لام العاقبة.
الخامسة: أن الإنسان قد يختار ما يكون هلاكه.
السادسة: أن ذلك القدر بسبب خطايا سابقه5.
وقوله: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} الآية6.
فيه أن المرأة الصالحة قد يتزوجها رجل سوء.
الثانية: قولها: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فيه محبة الفأل.
1 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "97".
2 سورة الأعراف: آية "13".
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "97".
4 سورة القصص: آية "7".
5 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "282، 283".
6 سورة القصص: آية "9".
الثالثة: ذكر الترجي.
الرابعة: عدم الشعور1.
وقوله: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً} 2 الآية فيه: ما ابتليت به.
الثانية: لولا منة الله عليها بالربط.
الثالثة: لتكون من المؤمنين.
الرابعة: أن الإيمان يزيد وينقص3.
وقوله: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ..} الآية4 فيه: أن التوكل واليقين لا ينافي السبب.
الثانية: تسبب الأخت أيضاً.
الثالثة: عدم شعورهم مع ذكائهم، وظهور العلامات5.
1 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "383".
2 سورة القصص: آية: "10".
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "383".
4 سورة القصص: آية "11".
5 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "383".