الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: أهم المباحث العقدية التي بين لها الشيخ في تفسيره
المطلب لأول: اهتمامه ببيان أقسام التوحيد من خلال تفسيره
…
المبحث الثاني: أهم المباحث العقدية التي بين لها الشيخ في تفسيره
كما أهتم الشيخ "رحمه الله" بالجانب العقدي في تفسيره وركز عليه في الجملة فقد نبه على كثير من المسائل عندما وجد لذكرها مجالا ومناسبة.
وقد آن لي أن أبين أهم النواحي العقدية التي تعرض لها في تفسيره، وسيكون إيضاحي لهذه النواحي من خلال الاستنباط- إن شاء الله- على وجه التنبيه والإعلام والاستدلال مع الاختصار في كل ذلك ما أمكن.
وأما تفصيل القول في تلك النواحي العقدية وغيرها، ومعتقد الشيخ فيها، وتقريره لها فأحيل الراغب في معرفتها إلى كتاب "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي" تأليف شيخنا الدكتور: صالح بن عبد الله العبود. فقد أفاد وأجاد وفصل القول في جوانب مهمة من العقيدة، فجزاه الله خيرا، وأجزل مثوبته.
وليكن أيضاً حي لأهم المباحث العقدية التي بينها الشيخ في تفسيره في مطلبين:-
المطلب لأول: اهتمامه ببيان أقسام التوحيد من خلال تفسيره
لقد أهتم الشيخ بهذا الجانب كثيراً وبينه وقرره واستنبط من الآيات ما يدل عليه حتى كان أظهر ما في تفسيره "رحمه الله" واليك بيانه:
أولاً: اهتمامه بتوحيد المعرفة والإثبات في تفسيره.
أهتم الشيخ في تفسيره بتوضيح توحيد المعرفة والإثبات وهو المشتمل على توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وهو التوحيد العلمي الخبري، وذلك لأنه الأصل، فلا يغلط في الإلهية إلا من لم يعطه حقه.
وقد سار الشيخ في إيضاح هذا التوحيد مع كتاب الله عز وجل، حيث الإشارة إلى وحدانية الله، وكماله، وتفرده بتعريف ملكوت السماوات والأرض، وذكر الدلائل الشرعية والعقلية لتقرير هذا التوحيد.
ففي مجال إيضاح توحيد الربوبية:
يوضح الشيخ معنى الرب في تفسير سورة الفاتحة بأنه المالك المتصرف ثم يقول:- وأما العالمين" فهو اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى، فكل ما سواه من ملك ونبي وانسي وجني وغير ذلك مر بوب مقهور يتصرف فيه، فقير، محتاج، كلهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصمد1.
ويستدل على توحيد الربوبية ببديهة العقل، لأن توحيد الربوبية ثابت مشهود، فيقول في قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} 2 الآيات:- فإن ذلك من أعظم الأدلة على المسألة- أي الربوبية- ببديهة العقل، أن من رأى نخلا لا يتخالجه شك أن المدبر له ليس نخلة واحدة منه، فكيف بملكوت السماوات والأرض3؟!
ويقول: والله من فضله أعطى الفطر ثم العقول ثم بعث الرسل وأنزل الكتب4، فمع ثبوت آيات الله الكونية الدالة عقلا على ربوبية الله تعالى إلا أن الله قد أقام الحجة على خلقه ببعث الرسل، وإنزال الكتب، لتنبيه الخلق على دلائل ربوبيته ووحدانيته وتقريرها.
وقد سار "رحمه الله" في إيضاح هذا التوحيد مع تلك الآيات القرآنية الدالة على ربوبية الله تعالى، وتفرده بخلق السماوات والأرض والملكوت كله، والتفرد بالضر والنفع والتصرف فيما شاء سبحانه.
فمن دلائل ربوبية الله تعالى خلق المخلوقات، والتصرف فيها، كما في قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} 5.
وقد ذكر الشيخ هذه الآية، ثم ذكر ما فيها من براهين دالة على الدين الحق وضده في مسائل مستنبطه وهي:
1 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "11".
2 سورة الأنعام: آية "75" وما بعدها.
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "64".
4 المرجع السابق ص "145".
5 سورة الزمر: آية "5".
الأولى: خلق السماوات والأرض.
الثانية: أنه الحق.
الثالثة: تكوير المكورين.
الرابعة: تسخير النيرين.
الخامسة: ذكر عزته في هذا.
السادسة: ذكر مغفرته1.
ثم ذكر براهين أخرى في الآية التي تليها وهي قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 2.
وقد ذكر هذه البراهين في مسائل تدعو إلى التفكر وهي:
الأولى: خلقنا من نفس واحدة مع هذه الكثرة.
الثانية: إنزاله لنا من الأنعام هذه النعم العظيمة.
الثالثة: خلقنا في البطون.
الرابعة: أنه خلق من بعد خلق.
السادسة: أنه في الظلمات الثلاث.
السابعة: كلمة الأخلاص.
الثامنة التعجب من الغلط في هذا مع كثرة هذه البراهين ووضوحها3.
ومن دلائل ربوبية الله تعالى إنعامه على عباده، بالنعم، وتربيتهم بها، كما قال:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ. وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} 4 فيض الشيخ على ما ذكرت هاتان الآيتان فيقول:
1 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير "319".
2 سورة الزمر: آية "6".
3 مؤلفات الشيخ /القسم الرابع/ التفسير ص "320".
4 سورة الأعراف: آية "10، 11".
الآية الأولى: فيها ذكر نعمته بالتمكين في الأرض.
الثانية: ذكر نعمته بما فيها من المعايش.
الثالثة: ذكر قلة شكرهم.
وفى الآية الثانية: ذكر نعمة الخلق.
الثانية: ذكر نعمة التصوير.
الثالثة: ذكر نعمة أمر الملائكة بالسجود لأبينا آدم1.
فيذكر ما في الآية من دلائل ربوبية الله عز وجل فيقول:
فيها ما جعل الله في البروج من الآيات سواء قيل: أنها النجوم، أو الكبار منها.
الثانية: تزيين السماء.
الثالثة: حفظها من الشياطين.
الرابعة: ذكر الاستراق.
الخامسة: ذكر عقوبته.
السادسة: مد الأرض.
السابعة: الرواسي.
الثامنة: إنبات البنات.
1 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/التفسير ص "71".
2 سورة الحجر: الآيات "16- 25".
التاسعة: كثرته، وكونه من كل شيء.
العاشرة: كونه موزونا.
الحادية عشرة: ذكر المعا يش.
الثانية عشرة: ذكر الأنعام.
الثالثة عشرة: كوننا لا نرزقهم مع كونهم لنا.
واستنبط من قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} مسألتين:
الأولى: فيها أن كل شيء خزائنه عنده.
الثانية: إنزاله بقدر معلوم.
كما استنبط من قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ
…
} إلى آخر الآيات ما يلي:
الأولى: فيها ذكر إنعامه بإرسال الرياح.
الثانية: أنها تلقح السحاب والشجر.
الثالثة: إنزال الماء من السماء.
الرابعة: تسهيل تناوله.
الخامسة: عجزهم عن خزانته.
السادسة: تفرده بالإحياء والإماتة.
السابعة: أنه الو ارث.
الثامنة: علمه بالمستقدم والمتأخر في الزمان وفي الطاعة.
التاسعة: تفرده بحشر الجميع.
العاشرة: ذكر حكمه وعلمه مع ذلك1.
ويوضح الشيخ أيضاً أن من دلائل ربوبية الله تعالى، تفرده سبحانه بالضر والنفع فيقول عند قوله تعالى:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 2.
1 مؤلفات الشيخ / القسم الرابع/ التفسير ص "186،187" وانظر قسم التحقيق ص "08-406".
2 سورة الأنعام: آية "80".
أنهم لما خصموا رجعوا إلى التخويف كفعل أمثالهم، فذكر أنه لا يخاف إلا الله المتفرد بالضر والنفع، بخلاف آلهتهم، فذكر النفي الإثبات1. ولله تعالى مقاليد السماوات والأرض ليس لأحد فيهما شرك بل الملك كله لله سبحانه.
يوضح الشيخ هذا مستنبطاً إياه من الآيات بقوله عند ذكر قصة نوح عليه السلام2:
- التحقيق بكون المخلوق ليس له من الأمر شيء ولو كان نبياً مرسلاً بسبب ما فيها من قمة ابن نوح.
- تبرؤ الرسل من دعوى أن عندهم خزائن الله وعلم الغيب مع أن الطواغيت في زماننا ادعوا ذلك وصدقوا وعبدوا أجل ذلك.
- معرفة شيء من حكمة الله في تأديبه الرسل كما قال لنوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} 3.
فالشيخ رحمه الله قد تمشى في إثبات ما تقدم من دلائل ربوبية الله "ووحدانيته مع كتاب الله عز وجل واكتفى بالله، والتنبيه على ما دلت عليه الآيات من الدلائل وذلك مدعاة ليجول الناظر بتفكيره في هذه الدلائل العظيمة ثم أن مجرد التنبيه على توحيد الربوبية والتذكير به كاف في إثباته لذوي العقول الإسلامية. كما أن هذا يوضح حقيقة هامة، وهي أن الشيخ يرى أن من كتاب الله ما لا يحتاج إلى شرح وتفسير بل هو واضح في نفسه، فلفظه دال دلالة ظاهرة على معناه، فالمرء بحاجة إلى لفت النظر، إلى نص كتاب الله تعالى فقط.
وفي مجال توحيد الربوبية أيضاً يوضح الشيخ أنه متقرر عند الكفار عبده الأوثان ربوبية الله عز وجل فهم يعرفون ذلك معرفة مجردة.
يقول الشيخ4: فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرف فيه، وهذا حق.
1 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "65".
2 المرجح السابق ص "124، 125".
3 سورة هود: آية "46".
4 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "13،12".
ولكن أقربه عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله "صلى الله عليه وسلم"، كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 1.
بل إن الكفار يعرفون بعض صفات الله عز وجل فقد استنبط الشيخ من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 2.
أنه متقرر عند الكفار، عبدة الأوثان، منكري البعث، أن الله سبحانه حكيم، يضع الأشياء في مواضعها "والاشاعرة يزعمون أنه لا يفعل شيئاً لشيء3 ".
ولكن الكفار لم يعبدوا الله وحده كما هو مقتضى شهادتهم بالربوبية كما قال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4.
وذلك لأنهم لم يعطوا هذا التوحيد حقه، وإلا فكيف يشرك بالله من يعلم أنه هو النافع الضار؟! وكيف يؤثر على الله شيئاً من يعلم أن الملك كله لله وحده؟! وكيف يشرك بالله من يعلم أن الله يعلم السر وأخفى؟! نسأل الله السلامة. وقد أشار الشيخ إلى نحو من هذه المعاني عند قوله تعالى:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} الآيات5.
حيث ذكر بعض المسائل التي يجاوب بها من أشير عليه بشيء يصير به مرتداً ومنها:
- الجواب بقوله: {أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} يعني كيف تدبر
1 سورة يونس: آية "31".
2 سورة الأنعام: آية "52".
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص"58". وهو يشير هنا إلى أنهم ينفون الحكمة.
4 سورة الزمر: آية "3".
5 سورة الأنعام الآيات "71-73".
عن هذا وتقبل على هذا؟
أن الملك كله له يوم ينفخ في الصور، فكيف تؤثر عليه مالاً، أوحالاً أو جاهاً، أو غير ذلك؟!.
- أنه عالم السر وأخفى فكيف لي بفعل ما تأمرني به وهو لا يغفى عليه1؟! ولهذا يبين الشيخ أن من عرف الله معرفة حقة، وعرف عظمته لم يشرك به، فيقول عند قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2.
ففي الصحيح أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قرأها على المنبر وقال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه"، ثم ذكر تمجيد الرب تبارك وتعالى نفسه، وأنه يقول:- "أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم" قال ابن عمر فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلنا ليخرن به3.
ويستنبط الشيخ من هذه الآية التنبيه على سبب الشرك، وهو أن المشرك بان له شيء من جلالة الأنبياء والصالحين، ولم يعرف الله سبحانه وتعالى، وإلا لو عرفه لكفاه وشفاه عن المخلوق، وهذا معنى قوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية4.
1 مؤلفات شيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "59، 60".
2 سورة الأنعام: آية "91".
3 سبق تخريجه ص "60".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "345، 346".
وأما في مجال إيضاح توحيد الأسماء والصفات:
فقد اهتم به الشيخ في تفسيره، نظراً لكثرة وروده وتقريره وتأكيده في كتاب الله تعالى، فكان الشيخ تبعاً لذلك يبين هذا القسم من التوحيد، ويهتم به، ويرى أنه أصل العلوم1.
فلذا يجب تعلمه والقيام بحقوقه، لأنه لا يستقيم للمرء توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات.
وهو يسير في تفسير، لآيات الأسماء والصفات على منهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة.
فعند تفسير سورة الفاتحة يبين الشيخ شيئاً مما يتعلق بالأسماء والصفات، وهو أن الله تعرف إلى عباده بأسمائه وصفاته فيقول:
....فذكر الله في أول هذه السورة التي هي أول المصحف الألوهية والربوبية والملك في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} كما ذكره في آخر سورة في المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ. مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد في آخر ما يطرق سمعك من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينهما في أول، القرآن ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصفات، فكل صفة لها معنى غير معنى الصفة الأخرى2.
ويقول عند الكلام في موضع آخر على سورة الفاتحة أيضاً منبهاً على ما فيها مما يتعلق بالأسماء والصفات:
وفي سورة الفاتحة معرفة الله على التمام، ونفى النقائص عنه تبارك وتعالى، وفيها معرفة الإنسان ربه، ومعرفة نفسه، فإنه إذا كان هنا رب فلا بد من مربوب، و، إذا كان هنا راحم فلا بد من مرحوم، وإذا كان هنا
1 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "372".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص"11،12".
مالك فلا بد من مملوك، وإذا كان هنا عبد فلا بد من معبود، وإذا كان هنا هاد فلا بد من مهدى، وإذا كان هنا منعم فلا بدمن منعم عليه، وإذا كان هنا مغضوب عليه فلا بد من غاضب، و، إذا كان هنا ضال فلا بد من مضل.
فهذه السورة تضمنت الألوهية، والربوبية، ونفي النقائص عن الله عز وجل، وتضمنت معرفة العبادة وأركانها1.
فانظر- يرحمك الله- إلى هذا النظر المستنير إلى ما تضمنته هذه السورة من مباحث تتعلق بالأسماء والصفات وغيرها، إذ أن هذه الجمل الشرطية معتمدة على فهم آيات الفاتحة ومتمشية معها، فتأمل.
ومن اهتمامه باستنباط ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات من الآيات أن ميزه عن غيره من العلوم وأفرده بالذكر وقدمه عند تصنيفه لصدر سورة هود، وذكر ما فيه من العلوم حيث قال:
ذكر ما في صدر سورة هود من العلوم:
الأول: علم معرفة الله:
الأولى2: ذكر أنه حكيم.
الثانية: أنه خبير.
الثالثة أنه قدير.
الرابعة: أنه ذكر شيئاً من تفصيل العلم في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 3.
الخامسة: ذكر شيء من تفصيل القدرة، في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ
1 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول/ بعض فوائد سورة الفاتحة ص "384".
2 ليست في الأصل وزدتها للبيان.
3 سورة هود: آية "5".
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 1
السادسة: خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
السابعة: كون عرشه على الماء.
الثامنة: ذكر شيء من تفصيل الحكمة في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2.
التاسعة- كونه وكيلاً على كل شيء3.
والشيخ من واقع منهجه السلفي يوضح أحياناً معاني بعض الأسماء والصفات الواردة في القرآن الكريم، فإن معانيها معلومة لأنها بلسان عربي مبين، أما الكيفية فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
يقول الشيخ:
"الرحمان الرحيم": اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر مثل العلام والعليم. قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما ارق من الآخر أي أكثر من الأخر رحمة.
ويقول: "وأما قوله: {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فالله علم على ربنا تبارك وتعالى ومعناه: الإله أي المعبود لقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} أي المعبود في السماوات والمعبود في الأرض {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} الآيتين4.
وأما الرب فمعناه المالك المتصرف 5.
ويقول: قوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 6 أي "عليم" بمن يصلح للاجتباء "حكيم" يضع الأشياء في مواضعها7.
1 سورة هود: آية "6".
2 سورة هود: آية "7".
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ ص "116".
4 سورة مريم: آية "93، 94".
5 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع التفسير ص "11".
6 سورة يوسف: آية "6".
7 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "129".
ويقول: إنه الحكيم الخبير فلا يتصور أنه يشتبه عليه من يعصيه بمن يطيعه، ولا يتصور أنه يجعل من أطاعه كمن عصاه، لأنه الحكيم الخبير يضع الأشياء في مواضعها1.
ويقول في تفسير سورة "الإخلاص" وما تضمنته من الأسماء والصفات:
و"الأحد" الذي لا نظير له.
و"الصمد" الذي تصمد الخلائق كلها إليه في جميع الحاجات، وهو الكامل في صفات السؤدد، فقوله:"الصمد" إثبات صفات الكمال.
وفى قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} نفي الصاحبة والعيال.
وفي قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} نفي الشركاء لذي الجلال2.
وقد وضح الشيخ في تفسيره من خلال الآيات مرارا أن العلم والقدرة هما أصل الأسماء والصفات لله تعالى.
فقال عند قوله تعالى"إخباراً عن إبراهيم": {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 3 ما نصه:-
- سعة العلم وما قبله سعة القدرة، وهاتان هما اللتان خلق العالم العلوي والسفلي لأجل معرفتنا لهما.
- أن من ادعى معرفتهما وأشكل عليه التوحيد فعجب ولذلك قال: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 4.
ويركز من خلال الآيات أيضاً على الاستفادة العملية التي يثمرها علم الأسماء والصفات، وهي من لوازم هذا التوحيد لمن عرف معرفة حقه، فإن فائدة العلم العمل.
1 المرجع السابق ص "61" ونحوه ص "62".
2 المرجع السابق ص "387".
3 سورة الأنعام: الآيتان "79، 80".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "65" وانظر ص "366،367".
فمن أوجه الاستفادة العملية:- ما تورثه هذه المعرفة من إجلال الله وتعظيمه ومحبته، فأسماء الله سبحانه دالة على صفاته، ومعرفة صفاته مستلزمة عبادته كما قال تعالى:{وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.
فاستنبط الشيخ من هذه الآية: الأمر بالتقوى في هذا الموضع أي النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله:- والاستدلال بالأسماء الحسنى على المسألة2 وذلك أن من علم أن الله "سَمِيعٌ عَلِيمٌ" أثبت لله صفة "السمع والعلم"، فإذا آمن بهما حقا فذلك مستلزم لتقوى "السميع والعليم" ومراقبته لئلا يسمع منه ولا يعلم إلا خيرا.
ومن خلال، الفهم الصحيح للآيات، والاستنباط الدقيق منها، المهتدى بالمنهج السلفي في التفسير نجد أن الشيخ يرى أن الأسماء والصفات قواعد كليه يستدل بها على جزئيات كثيرة، وأنه يستدل بها على ما أشكل على الإنسان من القدرة ونحوها، والاستدلال بصفات الله على أفعاله.
فيقول مستنبطاً من قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيه:-
الاستدلال بالصفات على الأفعال.
والاستدلال بالقدرة على ما لا يظن وقوعه.
والاستدلال بها على جعل العفو سببا لعز العافي وذل المعفو عنه.
ولكن أحسن ما فيها تنبيه أعلم الناس على أشكل المسائل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4.
1 سورة الحجرات: آية "1".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "350".
3 سورة البقرة: آية "109".
4 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "27".
ويقول عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} 1 ما نصه:-
- المسألة العظيمة الكبيرة، وهي الاستدلال بصفات الله على ما أشكل عليك من القدرة، لأنه سبحانه رد عليهم ما وقع في أنفسهم من استبعاد كون الله حرمهم، وخص هؤلاء بالكرامة.
- جلالة هذه المسألة، وهى مسألة علم الله، لأنه سبحانه رد بها على الملائكة لما قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} الآية2 ورد بها على الكفار الجهال في هذه الآية كما ترى3.
ومن خلال الآيات أيضاً يركز الشيخ على جانب آخر من الاستفادة العملية من معرفة الأسماء والصفات وهو دعاء الله عز وجل بها، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، كما أمر الله عز وجل بقوله:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 4 ولهذا ترجم الشيخ بهذه الآية في "كتاب التوحيد" فقال باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الآية5.
وكان أنبياء الله وأولياؤه يتوسلون إلى الله بأسمائه وصفاته كما أخبر عنهم فقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 6.
1 سورة الأنعام: آية "53".
2 سورة البقرة: آية "30".
3 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "58".
4 سورة الأعراف: آية "180".
5 مؤلفات الشيخ/ القسم الأول/ العقيدة/ كتاب التوحيد ص "124".
6 سورة البقرة: الآيات "127-129".
وقد نبه الشيخ على هذا أيضاً عند قول الله تعالى إخباراً عن يوسف: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1.
فقال- استفتاحه الدعاء بربه وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} 2.
فأشار بهذا إلى توسله إلى الله عز وجل بهذا الوصف وهو الربوبية "رب" ففيه معنى التربية والعناية، ومن كان بهذه الصفة فهو الذي يجأر إليه في الشدائد، ويدعى في الملمات، فكان من لطف هذا الرب المربي بالنعم التفضل على عبده بالإجابة، وصرف الكيد عنه وهذا من كمال عناية الرب تعالى بمربوبه. "والله أعلم ".
وهكذا يسير الشيخ في بيان آيات الصفات ومعانيها وما يستنبط منها على المنهج الصحيح فيقررها، ويبين معانيها، وأهميتها، وثمرتها، ولا يحرف معانيها أو يتاولها على غير تأويلها. "ولله الحمد والمنة".
1 سورة يوسف: آية "33، 34".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "142".
ثانيا: اهتمامه بتوحيد القصد والطلب وهو توحيد الإلهية والعبادة.
وقد ركز عليه في تفسيره كثيرا مستنبطاً إياه من الآيات ومقررا له.
فعند قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يوضح الشيخ معنى الإله وأنه المعبود فيقول: إذا عرفت أن معنى الله هو الإله، وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله أو ذبحت له أو نذرت له فقد زعمت أنه هو الله، فمن عرف أنه قد جعل "شمسان" أو "تاجا"1. برهة من عمره هو الله عرف ما عرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، فلما تبين لهم ارتاعوا، وقالوا ما ذكر الله عنهم: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2.
فقد بين هنا معنى الإله وشيئاً من كيفية تحقيق العبودية لله تعالى. كما بين ضروبا من الشرك في العبودية تحذيرا منها وحماية لجناب، التوحيد. وعند قوله تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يوضح أن العبودية كمال المحبة، وكمال الخضوع والخوف والذل، فيقول: وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
فالعبادة كمال المحبة، وكمال الخضوع، والخوف والذل، وقدم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع، إلى هذين المعنيين، فالأول: التبرؤ من الشرك والثاني: التبرؤ من الحول والقوة فقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي، إياك نوحد ومعناه أنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحدا ل املكا مقربا ولا نبيا ولا غيرهما كما قال للصحابة، {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3 فتأمل هذه الآية واعرف ما ذكرت لك في الربوبية أنها التي نسبت إلى "تاج ومحمد بن شمسان". فإذا كان الصحابة لو يفعلونها مع الرسل كفروا
1 انظر ما تقدم ص "140" هامش "2".
2 سورة الأعراف: آية "149" وانظر مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص"12".
3 سورة آل عمران: آية "80".
بعد إسلامهم، فكيف بمن فعلها في تاج وأمثاله1؟.
وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هذا فيه أمران أحدهما: سؤال الإعانة من الله وهو التوكل، "والثاني" التبريء من الحول والقوه، وأيضاً: طلب الإعانة من الله كما مرأنها من نصف العبد 2.
فقد بين هنا العبادة، وأهميتها، وان الدين كله دائر بين معاني:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ووضح معنى كل منهما.
ويوضح الشيخ عند قول الله تعالى إخبارا عن قول إبراهيم لأبيه: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} 3 أن أعظم شيء عند المسلم آلهة ومعبودة فيقول: قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} السؤال عن معنى الآلهه؟ فإنها جمع إله، وهو أعلى الغايات عند المسلم والكافر، فكيف يتغذ جمادا؟! وهذا أعجب وأبعد عن العقل من جعل الحمار قاضيا، لأن الحيوان أكمل من الجماد فإذا كان هذا من خشب أو حجر لم يعص الله فكيف بمن اتخذ فاسقا إلها مثل نمرود وفرعون؟! فإن كان اتخذه بعد موته فأعجب وأعجب4.
ويوضح الشيخ في بداية تفسيره عند الكلام على الاستعاذة والبسملة بعض أنواع العبادة والإخلاص فيها فيقول: فمعنى "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ألوذ بالله واعتصم بالله وأستجير بجنابه من شر هذا العدو أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد إذا أراد عمل الخير من صلاة أو قراءة وغير ذلك. وذلك أنه لا حيلة لك في دفعة إلا بالاستعاذة بالله لقوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} 5 فإذا طلبت
1 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "16".
2 المرجع السابق ص "8، 16".
3 سورة الأنعام: آية "74".
4 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "64".
5 سورة الأعراف: آية "27".
من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا سببا في حضور القلب، فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط كما عليه أكثر الناس.
وأما البسملة: فمعناها أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء، أو غير ذلك:"بِسْمِ اللَّهِ" لا بحولي ولا بقوتي، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله متبركا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمى في أوله من أمر الدين أو أمر الدنيا فإذا أحضرت في نفسك أن دخولك في القراءة بالله مستعينا به، متبرئا من الحول والقوة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب وطرد الموانع من كل خير1.
فقد قرر رحمه الله خلال شرح معنى الاستعاذة والبسملة معنى الاستعاذة والاستعانة والالتجاء إلى الله عز وجل والإخلاص في ذلك وبين ما يترتب عليه من عون الله وتوفيقه وحمايته لعبده.
وعند قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يتعرض الشيخ لإيضاح أنواع الحمد المستغرق في الآية فيقول:- اعلم أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري فأخرج بقوله: "الثناء باللسان" الثناء بالفعل الذي يسمى لسان الحال فذلك من نوع الشكر، وقوله:"على الجميل الاختياري" أي الذي يفعله الإنسان با رادته، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه مثل الجمال ونحوه فالثناء به يسمى مدحا لا حمدا، والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان إحسانا إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر، لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله يحمد على ماله من الأسماء الحسنى، وما خلقه في الآخرة والأولي، ولهذا قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} 2 الآية، وقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} 3 إلى غير ذلك من الآيات.
1 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "9".
2 سورة الإسراء: آية "111".
3 سورة الأنعام: آية "1".
وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخص من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} 1 والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه.
والألف واللام في قوله "الحمد" للاستغراق، آي جميع أنواع الحمد لله لا لغيره، فأما الذي لا صنع للخلق فيه مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر والسماء والأرض والأرزاق وغير ذلك فواضح، وأما ما يحمد عليه المخلوق مثل ما يثني به على الصالحين، والأنبياء، والمرسلين، وعلى من فعل معروفا، خصوصا إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضاً بمعنى أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحببه إليه، وقواه عليه، وغير ذلك من إفضال الله الذي لو يختل بعضها لم يحمد ذلك المحمود فصار الحمد لله كله بهذا الاعتبار2.
فقد أوضح الشيخ أولا معنى كل من الحمد والشكر والعلاقة بينهما وفصل القول في ذلك تفصيلا وافيا بالغرض وذكر أنواع الحامد ودخولها في {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ثم بين أنها لله وحده، ووجه ذلك.
وخلال تفسير الشيخ لسورة الفاتحة يذكر بضرورة حضور الذهن عند قراءتها وذلك لما تثمره في قلب صاحبها من كمال العبودية لله تعالى، إذا قرأها بتدبر لمعانيها، وما تتضمنه من الدعاء فإنه لا يستجاب الدعاء من قلب غافل.
يقول الشيخ: فإذا علم العبد أنها- أي الفاتحة- نصفان: نصف لله، وهو أولها، إلى قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ونصف للعبد، دعاء يدعو به لنفسه وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه
1 سورة سبأ: آية "13".
2 مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع/ التفسير ص "10،11".
بإخلاص وحضور قلب تبين له ما أضاع أكثر الناس1.
ومن خلال القرآن ومحاجة المعاندين به يبين الشيخ أن تلك الآيات فيها ترسيخ توحيد الألوهية والتحذير من الشرك فيه فيقول عند قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 2.
إذا كان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه والأئمة بعدهم قد أجمعنا أنهم ومن اتبعهم على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فنقول: هذه المسألة التي اختلفنا وإياكم فيها هل رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه على قولنا أو على قولكم؟ فإذا أقروا أن دعاء أهل القبور، والبناء عليها وجعل الأوقاف والسدنة عليها من دين الجاهلية، فلما بعث الله محمدا "صلى الله عليه وسلم" ونهى عن ذلك كله، وهدم البناء الذي جعلته الجاهلية على القبور، ونهي عن دعاء الصالحين، وعن التعلق بهم، وأمر بإخلاص الدعوة لله، وآمر بإخلاص الإستعانة لله، وبلغنا عن الله أنه يقول:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 3 ومضى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه والتابعون وأتباعهم والأئمة، وأصحابهم، على ذلك ولم يحدث هذا إلا بعد ذلك "أعني دعاء غير الله والبناء على القبور، وما يتبع ذلك من المنكرات، فكيف تقرون أن رسول الله "صلى الله عليه وسلم" وأصحابه والأئمة بعدهم على ما نحن عليه، ثم تنكرونه أعظم من إنكار دين اليهود والنصارى مع إقرار كم أنه الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة؟ أم كيف تنصرون الشرك وما يتبعه، وتبذلون في نصره النفس والمال مع إقراركم أنه دين الجاهلية المشركين؟!
1 مؤلفات الشيخ/القسم الرابع/ التفسير ص "8".
2 سورة البقرة- آية "140".
3 سورة الجن: آية "18".
هذا هو الشيء العجاب لأجعل الآلهة إلهاً واحداً1.
فقد بين في هذه المحاجة للمبطلين أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قد بعث بالحنيفية السمحة داعياً إلى التوحيد ومحذراً من الشرك وبين ذلك واستدل له ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
1 مؤلفات الشيخ / القسم الرابع/ التفسير ص "42، 43".