الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصول
جمع أصل. يطلق هذا اللفظ على مصطلحات مختلفة أشهرها تدل على ثلاثة فروع للعلوم الإسلامية، وهى: أصول الدين وأصول الحديث وأصول الفقه. وعلم أصول الدين مرادف لعلم الكلام أما علم أصول الحديث فيقصد به مصطلح الحديث وطرائقه ويسمى علم أصول الفقه غالبا علم الأصول فقط، وهو العلم بمبادئ الفقه الإسلامى:
1 -
ويعرّف علم أصول الفقه فى تصنيف العلوم الإسلامية بأنه العلم بقواعد الفقه الإسلامى باعتبار أنه العلم بالأدلة التى تؤدى إلى تقرير الأحكام الشرعية. والذى يبرر وجود هذا العلم هو أن الإنسان لم يخلق عبثًا (سورة المؤمنين، الآية 115) وأنه لا يترك سدى (سورة القيامة، الآية 36) وإنما تنظم الأحكام الشرعية أعماله جميعًا. على أنه ليس من الميسور أن يوجد حكم خاص لكل عمل شخصى، ولهذا يعتمد على الأدلة فى استنباط الأحكام الشرعية.
وتنقسم هذه الأدلة حسبما انتهى إليه الأمر إلى أربعة أنواع: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وفى أصول الفقه لا يهمنا كثير، معرفة المصادر المادية للشريعة الإسلامية بقدر ما يهمنا الوقوف على الأسس الشكلية للعادات الشخصية. وعلى هذا فإن الأصول الأربعة تتضمن الشرط العام للإجماع والقياس إلى جانب المصدرين الماديين وهما الكتاب والسنة اللذان يعتبران من جهة قوتهما الشرعية لا من جهة مادتهما، ولا يعترف بمصادر أخرى لا تقل شأنًا من الناحية التاريخية عن تلك الأدلة الأربعة.
وتطور هذه المصادر التى اعترف بها وغيرها هما لم يعترف به كان على النحو التالى:
2 -
إن اْول مصادر الشرع فى الإسلام وأكثرها قيمة هو الكتاب: وليس هناك من شك فى قطعية ثبوته وتنزهه عن الخطأ على الرغم من إمكان
سعى الشيطان لتخليطه (1) (سورة الحج، الآية 51؛ انظر Noldeke Schwally:
(1) كنا -ولا نزال- نرى أن أنفس ما يقتبس عن الغرب فى الدراسات الشرقية والاسلامية، إنما هو أساليب البحث العلمى، وطرائق النقد الدقيق الحر المنتظم. ولكنا نشهد بين الفينة والفينة، أن تلك الأساليب، وهاتيك الطرائق، تلتوى وتضطرب، بين أيدى رجال من المجلين فيهم، فلا يكاد يصلحها إلا ملحظ دقيق قد جرى عليه المشارقة فى دراستهم لتلك الشئون، التى هم أهلها الأولون، وأولو الرأى فيها، كما سنشهد فى مواضع النظر من هذه المادة.
وكاتب مادة "أصول" فى دائرة المعارف الاسلامية، عالم أقام فى مصر قلب الشرق دهرًا يغدو ويروح بين أهل العربية، وأصحاب تأويل القرآن، ودارسى الأدب، فتهيا له من سبيل العلم بذلك، ما عز على غيره، بل إنه قام فى أقوى معاهد الدراسة الأدبية الحديثة بمصر: قام فى كلية الآداب، يدرس فقه العربية لأبنائها، ويحدث عن سر اللباب من كيانها، وروح الحياة فى وجودها مما لا ينكشف إلا لخاصة العارفين بها، الذين افتقدتهم فى الشرق كله فلم تجدهم؛ ومن هنا كان أمل العلم فيه كثيرًا، وعتب الحق عليه فى سلامة أساليب التفكير، عتب على وزان ذلك الأمل ومقداره، وإنه لعظيم.
يقول الأستاذ "شاخت" إن المسلمين لم يشكوا فى قطعية ثبوت القرآن، وتنزهه عن الخطأ على الرغم من إمكان سعى الشيطان لتخليطه؛ ويستشهد لذلك بآية 51 - 52 فى المصحف المكى- من سورة الحج، ولا يزيد على ذلك بل يحيل على تاريخ القرآن لنولدكه. فالمسألة عنده تقررت وهو قد اطمأن إليها وساقها نتيجة نقدية مسلمة" وآية الحج هى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. وليس موضع شهادتها لما يراه الكاتب، إلا ما قد يذكره المفسرون فى سبب نزولها من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اعرض عنه قومه، وساقوه، وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به، تمنى لفرط ضجره من إعراضهم، ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفرهم لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم، واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ماتمناه حتى نزلت عليه سورة النجم وهو فى نادى قومه وذلك التمنى فى نفسه، فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} ألقى الشيطان فى أمنيته التى تمناها أى وسوس إليه بما شيعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، وروى الغرانقة؛ ولم يفطن له حتى أدركته العصمة، فتنبه عليه، وقيل نبهه جبريل عليه السلام؛ أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس؛ فلما سجد فى آخرها، سجد معه جميع من فى النادى، وطابت نفوسهم "- الزمخشرى جـ 2 كشاف ص 65 ط أميرية. هذا ما قد يقال إنه السبب فى النزول، وقد يروى بما يخالف هذا اللفظ وينتهى فى جملته إلى ماسبق. طبرى جـ 17، ص 131 وما بعدها بطرائق مختلفة.
تلك هى القصة، وغاية ما يتعلق به المتعلق فى القول بتخليط الشيطان، قصة قديمة الوجود كما هى قديمة النقد تولاها العلماء بالهدم، منذ عهد محمد بن إسحق فى القرن الثانى الهجرى، إلى عهد الأستاذ الإمام محمد عبده فى القرن الرابع عشر؛ ونالوها بصنوف مختلفة من التوهين الحاطم.
أ - فنقدوا سندها نقدًا مرًا، إذ سئل عنها محمد بن إسحق (150 هـ) فقال: هذا سن وضع الزنادقة، وصنف فى ذلك كتابًا (أبو حيان: البحر المحيط جـ 6، ص 381) وابن إسحق نفسه قد قيل فى الثقة به ما قيل، فكيف بما يعده هذا المصنف من وضع الزنادقة! كما قال البيهقى
Geshichte de Qorans، جـ 1 ص 100)، كما أنه ليس من شك أيضًا فى أنه
(458 هـ): هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم فى أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وقد روى البخارى فى صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم، وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن. وليس فيها حديث الغرانيق (نيسابورى هامش جـ 17، طبرى، ص 105) كما قال أبو حيان فى تفسيره- الموضع السابق-: "وليس فى الصحاح ولا فى التصانيف الحديثة شئ مما ذكروه، فوجب إطراحه، ولذلك نزهت كتابى عن ذكره فيه"، وكذلك قال فى توهين سند هذه الرواية القاضى عياض. وأبو بكر ابن العربى وغيرهم، كل هذا الجانب أن الروى فيها مرسل- أى سقط من سنده من بعد التابعى، والجمهور يتوقف عن الاحتجاج به- وحسبنا ذلك من طرق نقد سند هذه القصة، فالقوم كذلك:
(ب) نقضوا منها من نواحى مختلفة، منها:
1 -
مناقضتها القرآن من مثل قوله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} الحاقة (69) آية 44 - 46، وقوله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} النجم (53) آية 3 - 4. والعجب أن هذه الآية فى صدر السورة التى يحكى أن التخليط كان فيها. وقوله {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} يونس (10) آية 15، ونحو هذه الآيات- أبو حيان والنيسابورى فى الموضعين السابقين، وغيرهما أيضًا.
2 -
مناقضتها معقولات تنتهى إلى مسلمات دينية: من منافاة العصمة، وارتفاع الثقة بالوحى وما إلى هذا مما لا أفيض فيه، مؤثرًا الانتقال إلى ضرب من نقد المتن هو أمس بكاتب المادة، من حيث هو عالم عربى، وفقيه لغوى، وهذا الضرب هو:
3 -
نقدها بمناقضة اعتبارات عقلية محضة لا تتوقف على مسلمات دينية، ثم من تلك الاعتبارات ماهو عقلى صرف ومنها ما هو تاريخى ومنها ماهو أدبى. فالعقلى الصرف، أنها ليست إلا خيرًا واحدًا، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة (الفخر الرازى: مفاتيح الغيب، جـ 4، ص 572). ثم من الاعتبارات التاريخية ملاحظة أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] بمكة- حيث تروى القصة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولاسيما فى محفل غاص.
ومنها أن معاداة المشركين الرسول [صلى الله عليه وسلم] كانت أكبر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجدا قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر (نيسابورى فى الموضع السابق، الفخر الرازى فى الموضع السابق).
ومن الاعتبارات الأدبية ما يسوقه القاضى عياض بقوله "ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظرًا وعرفًا، وذلك أن الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبى صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن لا لا يخفى عليه ذلك، بل هذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه، واتسع فى باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه"! (القاضى عياض: الشفاء جـ 2 ص 130 طبعة الهند) وهذا القول يوضحه النظر فى السياق من سورة النجم وأنه تعييب للآلهة وحط من شأنها {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (23 النجم) فكيف يقحم قبل هذا قوله "تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتهن لترتجى"؟ ! وكيف يوضع هذا وسط ذلك السياق، فيسيغه المشركون، بل يعجبون به ويطربون له، ويسجدون مع النبى [صلى الله عليه وسلم] ويشاع إسلامهم جميعًا! وفى المقام بعد ذلك نفى الله لشفاعة الملائكة فى قوله {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} (آية 26 النجم) فكيف ترتجى شفاعة أصنامهم حين تنفى شفاعة الملائكة على هذا النحو، وكيف يتلاءم هذ فى المزاج الأدبى لأساطين القول، الذين تحدوا بالقرآن! بل لأى عربى!
وصل إلينا من غير تحريف (انظر المصدر المذكور آنفًا، جـ 1 ص 261؛ جـ 2، ص 93) على الرغم من نسيان الرسول لعدة من آيات الكتاب (سورة
ومن الاعتبارات الأدبية التى ينقد بها متن تلك القصة كذلك، ما ساقه الأستاذ الإمام رحمه الله
فى بحث له قيم ألم فيه بطائفة من نقد القدماء، ورفض القصة، وفسر آية الحج هذه بما يستقيم دون اتصال بالسبب المزعوم فى نزولها، والبحث المذكور منشور فى المجلد الرابع من مجلة المنار (ص 81 - 99) وذلك الملحظ الأدبى الناقض لمتن للك القصة هو: أن العرب لم يرد فى نظمها، ولا فى خطبها، ولا نقل عن أحد بطريق صحيح، أنها وصفت آلهتها بالغرانيق، وليس من معانى الكلمة شئ يلائم صفة الآلهة والأصنام حتى يطلق عليها فى القرآن (المنار م 4 ص 99).
فتلك الاعتبارات الأدبية وحدها، دون نظر إلى شئ وراءها، مما لا يليق أن يهمله من رجح حلمه، واتسع فى فقه اللغة علمه؛ حتى يحتج بعدها وبعد غيرها من قوى النقد بآية الحبم المذكورة على إمكان سعى الشيطان لتخليط القرآن. وتلك كلها مظاهر النقد فى الأسلوب القديم، فكيف بدقة الأساليب الغربية الحديثة! ! !
* * *
على أنك إن تهدر ذلك كله؛ وتقبل مع الأستاذ كاتب مادة "أصول " قصة الغرانيق، فلن تجد بذلك، الطريق للاستشهاد بآية الحج 52 على إمكان سعى الشيطان لتخليط القرآن. نعم تكون القصة وحدها شاهدًا على وقوع هذا مرة على النحو الذى ترويه، وتكون سببًا للنزول له أثره فى تفسير الآية، لكن مع ذلك كله لا تكون شاهدًا على هذه الدعوى، فى إمكان سعى الشيطان لذلك، لوجوه:
1 -
أن الآية- على أن هذا سبب النزول، وعلى فرض تخليط الشيطان على الأنبياء- ليست حديثًا عن تخليط حصل لنبى الاسلام [صلى الله عليه وسلم] ولا فيها إشارة إليه؛ "وإلى هذا يشير أبو حيان -فى الموضع السابق- اذ يقول "وهذه الآية ليس فيها إسناد شئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تضمنت حالة من كانوا قبله من الرسل والأنبياء، "إذا تمنوا" فليست الآية دليلا -فى حساب البحث العلمى- على تخليط خاص بالقرآن.
ولا يفوتك أن تلاحظ أن الآية تقول {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} فتعمم، ولكن الكاتب يخص القرآن بإمكان سعى الشيطان لتخليطه، وذلك ما نمسك عن تعليله.
2 -
أن معنى الآية- مع تسليم هذا السبب وتوجيه تفسيرها بمقتضاه- إنما هو أن ما يقع من التخليط الشيطانى مؤقت، لا يلبث أن ينسخه الله، ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم. فهو إمكان مؤقت لا يترك أثرًا، فلا يتجه مع هذا الاستدلال بالآية على إمكان التخليط.
وليس بشئ عندى ما قاله البيضاوى- أنوار التنزيل جـ 4، ص 58 - ونقله عنه الأستاذ الشيخ محمد عبده فى بحثه المشار إليه آنفًا موافقًا له فيه؛ من أن خطر عدم الوثوق بالقرآن لا يندفع بقوله تعالى {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} إذ يكون الكلام فى الناسخ كالكلام فى المنسوخ يجوز "إلقاء الشيطان فيه ". وليس هذا القول بشئ بعد قول الله إنه يحكم آياته، وأنه يجعل ذلك فتنة ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض، الآية. وإذا قرر الله أنه يحكم فلا محل للقول فى إمكان الإلقاء فى الناسخ كما كان الإلقاء فى المنسوخ لأن الأول مقصود لحكمة.
3 -
أن الذين فاتهم نقد هذه الآية من المفسرين، وكبوا فى هذا المقام كالزمخشرى والطبرى لم يجدوا فى هذا غضاضة، بل عدوا المسألة كما ورد فى الآيات محنة وابتلاء؛ وقال الزمخشرى "وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك " أى يعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق من ربك والحكمة- كشاف جـ 2، ص 65 - وما ذلك إلا لأن الآية -مع السبب المزيف- لا يقبل أن يستنتج منها أكثر مما استنتجه البيضاوى- فى الموضع السابق- إذ يقول "والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء، وتطرق الوسوسة إليهم، . فليست مع تسليم هذا التخليط كله فى سبب النزول المزيف حجة لإمكان سعى الشيطان لتخليط القرآن تخليطًا ينقض على المسلمين القول بقطعية ثبوته؛ ولا لهذا شيء من الأساس، الذى يجعل عالمًا يلقيه حجة مسلمة، وقولة مفروغًا منها؛ حرر الله عقولنا من أسر الهوى!
وتمام القول فى تفسير الآية وربطها بالسياق، ونقد سائر الرواية فيما نزل من آيات، لأسباب تتصل بهذه القصة وما إلى ذلك، لا محل للقول فيه هنا وإنما يستوفى فى مظانه.
أمين الخولي
البقرة الآية 100، سورة الأعلى، الآية 6 وما بعدها) (1) ولا يتعارض مع حجة
(1) يقول الكاتب إن النبى [صلى الله عليه وسلم] قد نسى عدة آيات من القرآن الكريم وهذا لا يتفق مع دعوى المسلمين أن القرآن الكريم وصل إلينا من غير تحريف، ويستشهد لنسيان الرسول [صلى الله عليه وسلم] عدة آيات من القرآن بآية 100 من سورة البقرة ولعلها ليست إلا آية 106 فى المصحف المكى، وهى؛ {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؛ كما يحتج لذلك بآية 6 من سورة الأعلى، وهو ولا شك يريد آيتى 6، 7 من هذه السورة وهما {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}. وهو احتجاج واضح الدخل وإليك إجمال القول فى بيان ضعفه وسوء حاله:
عن الآية الأولى:
1 -
فى آية {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا .. } قد فسرت الآية بالمعجزة، وما يؤيد الله به الأنبياء من الدلائل على نبوتهم. وهو من معنى الآية لغة؛ ويقويه جد التقوية ختم الآية بأن الله على كل شئ قدير؛ والتعقيب بأن له مُلك السموات والأرض وأن لا ولى من دونه ولا نصير، ثم القول فى إرادتهم أن يسألوا رسولهم كما سئل موسى من قبل من الآيات والدلائل المؤيدة والمعجزات؛ وهذا الرأى فى تفسيرها هو الذى ارتضاه الأستاذ الإمام وأوضح أوجه تأييده له- تفسير المنار جـ 1، ص 416 وما بعدها؛ وورد فى هذا الوضع تعليق من المرحوم صاحب المنار، أن هذا الرأء، قد سبق إليه ابن عربى فى تفسير له. ولا أخال الفقيه اللغوى كاتب مادة "أصول " ألا يجد بمزاجه الأدبى فى العربية قوة هذا الرأى وعذوبته. وعلى هذا التفسير تخرج الآية من موضوع النسيان تمامًا. وإن لم يرقه هذا الوجه فى تفسيرها فليقدر على فرض أن المراد من الآية القرآنية، ما يأتى:
2 -
أن كلمة "ننسها" فى آية البقرة، فيها أكثر من إحدى عشرة قراءة- أبو حيان: البحر المحيط جـ 1، ص 334 - وفيها عدة معان، فهى بمعنى التأخير، أو بمعنى الترك، أو من النسيان المعروف؛ - الطبرى: 1 - 379 وما بعدها، وكشاف 1، ص 229 وأبو حيان فى الموضع السابق وغيرهم من المفسرين. وإذا كانت الكلمة تحتمل هذه المعانى فكيف تحكم الكاتب فجعلها للنسيان فقط وطوى كل هذا فى استشهاده واحتجاجه؟ ! على أنّا لو فرضنا أنها من النسيان فقط. فسنجد:
3 -
أنها ليست شاهدًا مطلقًا على دعواه أن النبى [صلى الله عليه وسلم] نسى آيات، وأخل هذا بصيانة الكتاب عن التحريف؛ لأن الكلام فى إنساء الله إياه، لا فى نسيانه هو؛ وإنساء الله له الآية كعدم، إيحائها، وهو بالنسيان بعد ذلك يؤدي رسالته أما لو أراد الله إبلاغها فنسيها ولم يؤدها فهذا هو المحرف للوحى، وليس هو المذكور فى الآية: إلا أن يتحكم فى اختيار قراءة بعينها ويرفض ما عداها ولو لم تكن من القراءات القوية، على أنه إن يرد ذلك فسنسايره أيضًا فنرى:
4 -
أنه على أبعد التنزل والمسايرة، ومع فرض قصر الكلمة فى الآية على "تنسها" بتاء الخطاب وهو أبلغ ما يطمع فيه المستشهد، على هذا كله لا تشهد الآية لا على وقوع النسيان، ولا على الإخلال بصيانة الكتاب عن التحريف.
أما أنها لا تشهد بوقوع النسيان فعلا؛ فلأن الكلام على صورة الشرط- ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير
…
- وكل ما تفيده حصول الجواب إن حصل الشرط، لا وقوع الشرط فعلا، فكلمات الشرط تدخل على المستحيل مثل:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ولئن أشركت ليحبطن عملك، خطابًا للنبى [صلى الله عليه وسلم]. ونظير هذا أن تقول: ما ينصف الأستاذ يصل إلى الحق، تريد وقوع هذا بوقوع ذاك، وليس من معناه وقوع الإنصاف من الأستاذ فعلا، وهذا الملحظ قديم أورده المفسرون- بيضاوى جـ 1، ص 178 - نيسابورى جـ 1: هامش الطبرى ص 360 - فمعنى الآية: إن تنس تلاف الله نسيانك.
وأما أن الآية لا تشهد بشئ من الإخلال بصيانة الكتاب عن التحريف، فهو أن الله يحدث أنه مراقب الرسول [صلى الله عليه وسلم] مشرف على الحال، مبدله بما ينساه خيرًا منه،
القرآن القاطعة كذلك أن بعض آياته المتأخرة تنسخ ما قبلها "الناسخ والمنسوخ"(سورة البقرة، الآية 100، سورة النحل الآية 103 وما بعدها" Noldeke-Schwally الكتاب المذكور آنفا، جـ 2، ص 52 وما بعدها) وكان هم
المفسرين المتأخرين للتخلص من المتناقضات العديدة الواردة فى القرآن
فهو عالم بنسيانه، مغتفر له إياه، معوض له عما ينسى؛ فالآية على عكس ما يريد الأستاذ شاهدة -بفرض أن هذا تفسيرها وعلى كل هذا التنزل والتسليم - على عناية زائدة بمراقبة التبليغ، وإصلاح شأنه، فكيف جعلها الكاتب شاهد نسيان وتحريف! ! ! عن الآية الثانية فى آيتى الأعلى (6 و 7) قد فسر النسيان كذلك بمعنى ترك العمل، فالمعنى أنه لا يترك العمل إلا بما شاء الله ترك العمل به فينسخه- طبرى جـ 30، ص 98، وبهذا تخرج الآية من موضوع احتجاج الكاتب " وإن أبى إلا قصرها على معنى النسيان، فالاستثناء منه -إلا ما شاء الله- قد فسر بأنه استثناء غير حقيقى، وذلك لأوجه، منها:
1 -
أن الاستثناء إنما هو لاظهار قدرة الله، وأن عدم نسيان الرسول [صلى الله عليه وسلم] منحة من الله له وتفضل يؤيده به، ولهذا المقام نظائر قرآنية، أريد فيها بيان قدرة الله، وعدم مشيئه الله وقوع الأمر المقدور، المؤثر على مهمة الرسول [صلى الله عليه وسلم] وشخصيته، صو آيتى 86، 87 من سورة الاسراء (17) ولئن شئنا لنذهبن بالذى أوحينا إليك، ثم لا تجد لك به علينا وكيلا، إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرًا " مع القطع بأن الله لم يشأ ذلك؛ ومثل آية 65 من الزمر (39){وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . ومحال أن يشرك النبى [صلى الله عليه وسلم]- الفخر، جـ 6، ص 527، ط بولاق، الأستاذ الامام: تفسير المنار جـ 1، ص 419.
2 -
أن هذا الاستثناء بالمشيئة قد استعمل فى أسلوب القرآن للدلالة على الثبوت والاستمرار فهو استثناء صلة فى الكلام وليس ثم بشئ أريد إخراجه؛ وشواهد هذا الأسلوب القرآنى قوله عن أهل النار {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله فى أهل الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} آيتا 107 و 108 من سورة هود (11). ولعل منه كذلك قوله {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ} الأعراف (7) آية 188 ويقول الطبرى -فى الموضع السابق -وقد عزا هذا الرأى فى الاستثناء إلى بعض أهل العربية- ولعله يريد الفراء كما سماه أبو حيان- "قال: وأنت قائل فى الكلام، لأعطينك كل ما سألت إلا ما شئت، وإلا أن أشاء أن أمنعك، والنية أن لا تمنعه ولا تشاء شيئًا، قال: وعلى هذا مجارى الايمان يستثنى فيها ونية الحالف اللمام". وأقول هنا- على شئ من الاستطراد: وقد حققت فى درس الأخلاق أن الاستثناء المطلوب فى آيتى 22، 23 من الكهف (18): {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
…
} إنما معناه التاكيد وتقرير العزم، كما تشهد بذلك أوجه أصولية وأدبية ليس هنا موضع بيانها.
وقد أخذ الزمخشرى المعنى السابق فى تفسير الاستثناء فقال " .... والغرض نفى النسيان رأسًا كما يقول الرجل لصاحبه: أن سهيمى فيما أملك إلا فيما شاء الله، ولا يقصد استثناء شئ، وهو من استعمال القلة فى معنى النفى. وان لم يرتض الطبرى وأبو حيان هذا المعنى، فقد أيده الأستاذ الامام، بل اقتصر عليه فى تفسير سورة الأعلى، وإليه أميل، وقوته واضحة - أبو حيان: البحر، جـ 8، ص 459 - كشاف جـ 2، ص 538، تفسير المنار جـ 1، ص 419 - تفسير جزء عم، ص 68
* * *
وهناك أوجه أخرى لا تنقصها القوة، لبيان أن
والتى تصور لنا تدرج محمد فى نبوته (1) ، إما بما عمدوا إليه من التوفيق فيما بينها، وإما بالاعتراف بأن الآيات المتأخرة تنسخ ما قبلها، وذلك فى
الاستثناء غير حقيقى، كما أن هناك أوجه بيان الاستثناء الحقيقى دون ترتب محظور على ذلك- راجع المصادر القديمة السابقة، وبخاصة الفخر والكشاف.
على أنى أختصر الطريق، فاقول لكاتب المادة: لتكن الكلمة من النسيان بمعنى عدم الذكر لا غيره، وليكن استثناءٌ حقيقيًا قصد به إخراج شيء، فمع ذلك كله لا شاهد فى آيتى الأعلى على وقوع النسيان من الرسول فعلا ولا على الاخلال بصيانة الكتاب من التحريف، وبيانه على نحو ما أسلفنا فى آية البقرة، أن كل ما ذكرت إنما هو أن الرسول [صلى الله عليه وسلم] لاينسى إلا بمشيئة الله، لا أنه نسى فعلا، فإن نسى بعد ذلك فليس ذلك نقصًا فيه وليس لنسيانه أثر ما دام ذلك بمشيئة الله، كما دلت آية البقرة على جواز النسيان لا قوعه، وعلى أن الله مبدله بما ينساه خيرًا منه.
هذا أبعد ما فى الآيات على تسليم مالا يحتمل التسليم، فلا محل مطلقا للاحتجاج بها على وقوع النسيان وتحريف القرآن، ثم تلك مواضع رث القول فيها وبلى قديمًا وحديثًا حتى لم تبق صالحة لأن يمس بها القرآن اليوم باحث باسم العلم
أمين الخولى
(1)
يرى الكاتب أن وقوع النسخ فى القرآن يتعارض مع قطعية ثبوته. وهذا مالا يظهر وجهه، وإذا كان لما تعلق به الكاتب آنفا من التخليط والنسيان شبه من شبهة فليس يظهر شيء من ذلك فى النسخ، إذ هو -كما سنذكر- ليس إلا تدريجًا فى التشريع على وفق ناموس الترقى الذى يسود الكون، وليس لمساس النسخ بقطعية الثبوت وجه إلا أن يكون ذلك الذى قيل قديمًا من لزوم البداء أى ظهور شيء كان خافيًا على الله. وتلك شبهة واهية. وقد مل القول فيها كذلك، وواضح رد القدماء عليها بأن النسخ لم يكن إلا اتباعًا لمصلحة الخلق لا تغير، لعلم الله؛ والشرائع إنما قصد بها مصالح الناس الدينية والدنيوية، فتبدلت الخطابات بحسب تبدل المصالح كالطبيب يراعى أحوال العليل، فراعى الله ذلك فى خلق بمشيئته وإرادته، فخطابه هو الذى يتبدل وعلمه وإرادته لا تتغير- القرطبى: الجامع لأحكام القرآن "بتصرف" جـ 2، ص 64؛ والنيسابورى، والفخر وغيرهم من المفسرين عند تفسير آية "ما ننسخ" التى سبق الحديث عنها. على أنه كان يجب على الباحث العصرى العالم أن يقدر أن طوائف من المسلمين المتأخرين قد أنكروا جواز النسخ وفسروا الآيات المقول بنسخها تفسيرًا يتوقف على القول بالنسخ وفيه الكثير من الدقة، وهذا الرأى مبسوط فى كتب التفسير: القرطبى والنيسابورى فى المواضع السابقة، وغيرهما من المفسرين، كما هو مبسوط فى كتب الأصول التى اتصل بها كاتب المادة ولا بد.
فعلى القول بوقوع النسخ فعلا فى القرآن الكريم، لا يظهر له تأثير فى قطعية الثبوت على ما سبق بيانه؛ وعلى القول بعدم جواز النسخ يسقط الإيراد من أساسه.
ويشتد تعسف الكاتب فى وصفه الملاحظة الدقيقة التى فى الآيات المختلف عليها- إما على انها تدريج واما على القول بعدم نسخها- وصفة ذلك بأنه تناقض كان من هم المفسرين التخلص منه؛ على أنك إن تغتفر له هذا الاطلاق فلن ترى وجهًا علميًا لقوله إن هذه المتناقضات تصور لنا تدرج النبى [صلى الله عليه وسلم] فى نبوته فإنها تصور التدريج حقًا ولكن أتدريج التشريع أم تدريج المشرع؟ أما عمل المشرع فظاهر فى تدرجه ولكن هل ذلك تدرج للنبى؟ [صلى الله عليه وسلم] وهل يعتبر تدريج المعلم والمدرب والمروض والطبيب فى العناية بمن يعلم أو يدرب أو يطيب صدى لتغيير فى نفسه؟ . لا شك أن ذلك غير الواقع. وهب -تساهلا- أن هذا المظهر يحتمل تدرج النبى [صلى الله عليه وسلم] وتدرج الشرع فكيف تحكم الكاتب وجعله مظهر تدرج النبى لا غير؟ لا ندرى على أى أسلوب علمى يعتمد الكاتب فى ذلك، حتى يقرر أن التبديل يمثل توقى النبى [صلى الله عليه وسلم] فى نبوته ولا يمثل ترقية فى إعداد أمته وتلطفه فى تربيتها.
الحالات التى يشتد فيها التناقض بين تلك الآيات. ولم يكن قصد محمد خلق نظام يضبط به حياة أتباعه، أو وضع أصول هذا النظام على الأقل (1) بل ظل القانون العربى القديم -الذى تضمن كثيرًا من العناصر الدخيلة من رومية إقليمية وبابلية، ويمنية- يسير فى الإسلام سيره الطبيعى، ودخلت عليه بعض التغيرات لتلائم بينه وبين الظروف الإقليمية للبدو وأهل مكة وهى مدينة تجارية، وأهل المدينة وهى مركز زراعى. وكان هم محمد فى التشريع قاصرًا على تصحيح بعض المسائل مدفوعًا إلى ذلك باعتبارات دينية. وذلك لأن الأحكام التى تمس الحياة الاجتماعية تقوم أيضا على أساس دينى. وفى مثل هذه المسائل كانت الحوادث الخارجية هى الدفاع إلى معالجة أكثرها.
ويبلغ عدد الآيات المعروفة باسم الآيات الشرعية ما بين خمسمائة وستمائة آية، بما فيها الآيات الخاصة بالعبادات العامة والأمور الحربية
(1) يحكم الكاتب بأنه لم يكن قصد الرسول عليه السلام خلق نظام او وضع، صول هذا النظام على الأقل إلخ. وهذا الحكم على القصد غريب فى حساب المنطق العلمى، مهما يكن للاستاذ من قدرة على تبين النوايا والمقاصد، وهذا الحكم، شد غرابة حين ترى الواقع الخارجى من حياة الرسول [صلى الله عليه وسلم] شاهدًا على وضع هذا النظام وتقرير، أصوله فقد أخذ من حوله بنظامه ثم بعث بعوثه لتعليم هذا النظام، وولى قضاته ليحكموا به، وسأل بعضهم كيف يعملون فى أخذ الأحكام لما يعرض لهم من أقضية فقالوا نلتمس الحكم فى القرآن، وإلا ففى سنتك وإلا فاجتهاد برأينا. ولا حاجة بنا للاستشهاد على ذلك، فهو أشهر من أن يستشهد له.
ثم ما يذكره الكاتب بعد ذلك من سير العرف السير الطبيعى، وتعديله بما يلائم .. إلخ ليس فى شيء من الشهادة. لما ادعاه من عدم القصد إلى وضع نظام .. ولا معنى لإيراده إلا أن يكون الكاتب قد اعتد هذه الحسنة فى متابعة نواميس الاجتماع البشرى وعدم الإعنات بالاصلاح سيئة، ومن رأيه، أن التشريع ووضع النظام أو وضع أصول النظام على الأقل لا يكون إلا بقلب أوضاع الحياة للمجتمع المُرد تنظيمه وسلخ الأمة من ماضيها وتجريدها من وراثتها وتقاليدها، وهو مالا معنى للمناقشة فيه.
وإني لأعرف أن القول بعدم قصد الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى وضع نظام
…
إلخ قد قال به قبل ذلك بعض هؤلاء القوالين من دارسى الإسلاميات، لكن فى غير هذه المناسبة ولغير هذا الشاهد وإن لم يكن أقوى منه هنا. ولن تقصد الإطناب فى ذلك. ولكنما أشير إلى صنيع الكاتب فى تتبع متفرقات الشبه التى عرض بضعة منها فيما لا يجاوز الصفحة وعرضها قلقة فى مكانها تلتمس منزلًا غير مادة أصول الفقه، وحسب القارئ هذه الاشارة لئلا يتبدد عليه البحث. أمين الخولى
والسياسية. على أن جوانب هامة من التشريع الخاص بالعبادات -كشعائر الصلاة مثلا- لم ينظمها القرآن وإنما احتُذى فيها حذو النبى [صلى الله عليه وسلم] واهتُدى فيها بهداه. كما أن بعض الأحكام التى وضعها محمد [صلى الله عليه وسلم] لم ترد فى القرآن، وهى عادة قليلة الأهمية، ولم تطبق تطبيقًا عامًا بالرغم من صدورها عن النبى [صلى الله عليه وسلم](انظر- Noldeke Schwally المصدر المذكور آنفًا، جـ 1، ص 260).
ومن أول الأمر لم توضع حجية النبى [صلى الله عليه وسلم] فى الإسلام موضع الشك حتى فى الأمور التى لم ينص عليها الكتاب. ولكن فى الوقت نفسه كانت أفعاله تعتبر بشرية بحتة حتى ما مس منها أمور الدين، فكانت بهذا لا تعتبر معصومة عن الخطأ (1). ونقدت هذه الأفعال أكثر من مرة. وكأن الكتاب نفسه يلومه أحيانًا على بعض أفعاله (سورة 61، الآية 1).
3 -
وبموت النبى [صلى الله عليه وسلم] انتهى بالطبع التشريع الذى كان يقوم على التنزيل أو على حُجية النبوة، وكان من الطبيعى أن يحاول الخلفاء الأول السير بالأمة الاسلامية على سنة منشئها مسترشدين فى ذلك برأى كبار صحابة الرسول [صلى الله عليه وسلم]. وكانت المبادئ التى استرشدوا بها هى ما ورد فى الكتاب وماصح من أحكام الرسول [صلى الله عليه وسلم] فيما يرد له ذكر فى الكتاب. ولما حاولوا
(1) يقول الكاتب إن أفعال الرسول [صلى الله عليه وسلم] التى تمس أمور الدين لا تعتبر معصومة من الخطأ، وهذا القول- على إطلاقه- غير صحيح، إذ المقرر أن أفعال الرسول عليه السلام، وإذا ما كانت عن وحى لا تحتمل الخطا مطلقًا، وإذا كانت عن اجتهاد -والمختار أنه عليه السلام يجتهد فيما لا نص فيه من أمور الدين وغيرها- الآمدى: إحكام جـ 4، ص 222 وما بعدها - فإذ ذاك قد يقع فيها الخطأ وحينئذ تنقد. وأصوليو الحنفية حين يقسمون الوحى إلى ظاهر وباطن، ويريدون بالوحى الباطن اجتهاد الرسول [صلى الله عليه وسلم] يقولون: إن الوحى الظاهر لا يحتمل الخطأ، لا ابتداه ولا بقاء، والباطن- الاجتهاد -يحتمل الخطأ ابتداء لا بقاء- صدر الشريعة ابن مسعود: التوضيح فى أصول الفقه جـ 2، ص 16. على أن الكاتب يناقض نفسه فيما بعد هذا بقليل، حين يقول: "وإذا كان الجانب الأكبر من الفقه ينهض على سنة محمد [صلى الله عليه وسلم] .. فقد اعتبر المسلمون أن السنة منزهة عن الخطأ" فإن أفعال الرسول عليه السلام من السنة التى يعتبرونها منزهة عن الخطأ كما يقولون. فكيف كانت هنا غير معصومة عن الخطأ عندهم حتى فيما يمس امور الدين، وكانت هناك معتبرة عندهم منزهة عن الخطأ؟ !
أمين الخولى
بسط هذه المبادئ المحدودة نوعًا ما انتهى بهم الأمر إلى التوسع فى تأويلها توسعًا خرج بها عن معناها الأصلى، وربما كان سببا فى ظهور أحاديث جديدة.
وفى الوقت نفسه لم يكن الخلفاء- باعتبارهم رؤساء للدولة وخلفاء للنبى [صلى الله عليه وسلم]- محرومين من الجهود التشريعية بل ومن تغيير أحكام النبى [صلى الله عليه وسلم](انظر ماسبق). وربما صح تاريخيًا ما تقوله الروايات من أن أبا بكر كان يحتذى حذو النبى [صلى الله عليه وسلم] فى هذا الأمر، بينما كان عمر أكثر ميلا إلى التعديل والتغيير. على أن الصلة بالقانون العرفى ظلت كما هى دون تغيير، حتى بعد أن تعرض لكثير من المؤثرات الأجنبية نتيجة للفتوح العظيمة فى العراق والشام ومصر.
4 -
ولما جاء بنو أمية وانتقل مقر الحكم إلى دمشق، فقدت جماعات المؤمنين فى المدينة- التى كانت مقر الحكم قبل ذلك- كل نفوذ فعلى فى أمور الحكومة، فأخذوا يكرسون أنفسهم فى حمية وحماسة لتصوير المثل الأعلى لما يجب أن تكون عليه الأشياء، وكان ذلك المثل مباينًا لما كانت عليه فى الواقع.
وكان القانون العرفى يسود أقاليم الخلافة المتعددة دون منازع، ويتطور جنبا إلى جنب مع النظام الفعلى للقضاء. وذلك لأن خلفاء بنى أمية إلى عهد عمر بن عبد العزيز كانوا بوجه عام لا يميلون كثيرًا إلى تغيير ذلك القانون العرفى وإنشاء مقاييس تنهض على أساس دينى. وقامت مبادئ التشريع الإسلامى لأول مرة فى المدينة ثم فى العراق والشام. وأولئك الرجال الصالحون الذين عملوا بادئ الأمر دون أن تكون لهم خطة مرسومة أو منهج معين، كانت غايتهم تصحيح مادة القوانين التى كانت موجودة عند ذاك، والتوفيق بينها وبين مبادئ الدين الإسلامى وسلكها فى نظام خاص، واستمدوا آرائهم الدينية من الكتاب والحديث اللذين كانوا يتقيدون بهما. وكانوا يحتجون أيضًا باقوال الصحابة وأفعالهم (صحيحها ومنحولها)(1) ويعتبرون أنفسهم خلفاء لأولئك الصحابة، وإذا اتفق كثرة
(1) أول ما يلاحظ أن الكاتب فى كلامه هنا عن أقوال الصحابة وأفعالهم، يضع بين قوسين كلمتى "صحيحها ومنحولها" كما أنه عندما يذكر فيما بعد هذا
الصحابة على عمل ما، كانت له حُجية خاصة يعتد بها كما كان للمبدأ الذى يتفقون عليه أثرا كبيرًا فى التقريب شيئًا فشيئًا بين الأراء الشخصية والحجية، إذا كان الجانب الأكبر من الفقه ينهض على سنة محمد (صحيحها وزائفها) فقد إعتبر المسلمون أن السنة منزهة عن الخطأ. ومن الصعب أن تجد هذا الرأى فى القرآن (سورة آل عمران، الآية 29؛ سورة النساء، الآية 62؛ سورة النحل، الآية 46؛ سورة
بقليل سنة محمد [صلى الله عليه وسلم] التى ينهض الجانب الأكبر من الفقه الإسلامى عليها. يتوخى كذلك أن يضع بين القوسين كلمتى صحيحها وزائفها، فهذا الحرص المريب. لا يقوم على أساس من النظر العلمى لأنه إن أراد من هذا القول، أن الفقهاء قد فات فى نقدهم للسنة شئ من المنحول والزائف فجائز عقلا أن يكون ذلك ولا يقول بعصمة الفقهاء أحد، ولكن ليس هكذا يطلق القول. على أن الكاتب لم يبين قوله هذا حتى بمثال. وإن أراد من هذه العبارة أنهم قصدوا إلى المنحول والزانف فاعتمدوا عليه فهذا باطل لا يتهمهم به أحد، وإن أراد ادعاءه. فليس بهذه السهولة يلقى ويكرر! ! فعليه أن يوضع قوله ويحتج له
…
ونعود بعد ذلك إلى قوله عن أقوال الصحابة وأفعالهم، فهو يذكر: إنهم كانوا يحتجون بأقوال الصحابة وأفعالهم
…
إلخ وهذا ليس صحيحًا. لأن أقوال الصحابة من حيث هى أقوال الصحابة لا يحتج بها وإنما يحتج بها من حيث هى سنة عن الرسول عليه السلام. والأصوليون فى الأخذ بها قد جروا على دقتهم، ففرقوا الفرق العميق بين عبارات الأداء لهذه الأقوال واختلفوا حولها، فعندهم: أن قول الصحابى: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كذا مما يختلف فى أنه عن النبى [صلى الله عليه وسلم] أولا؛ وقول الصحابى: سمعت رسول الله يأمر بكذا وينهى عن كذا مما يختلف فى كونه حجة، وقوله: من السنة كذا قد اختلف فى جمله على سنة الرسول - الآمدى: إحكام، جـ 2، ص 135 - 139.
ثم مذهب الصحابى المجتهد قد اتفقوا على أنه لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين ولو كان إمامًا أو حاكمًا أو مفتيًا، واخطفوا فى كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين، والمختار أنه ليس بحجة مطلقًا. ثم يعد القول بأن مذهب الصحابى ليس حجه واجبة الاتباع، قد اختلقوا فى أنه يجوز لغيره من المجتهدين تقليده أولا، والمختار امتناع ذلك مطلقًا: - الآمدى: الأحكام. جـ 2، ص 485 - 486، جـ 4، ص 208 - 209.
وهذا ابن حزم يضع الصحابة فى رأس من لا يقلد. فيقول بعباراته القوية المعروفة " .. أو وجد، أى الإنسان - نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب فمن دونه فليعلم أن الله تعالى قد أقسم - يريد قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} الآية - وقوله الحق أنه ليس مؤمنا، وصدق الله تعالى. وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر، ولا سبيل إلى قسم ثالث، وليعلم أن كل من قلد من صاحب أو تابع أن مالكًا وأبا حنيفة والشافعى، وسفيان، والأوزاعى، وأحمد وداود رضى الله عنهم متبرئون منه فى الدنيا والآخرة ويوم يقوم الأشهاد" - ابن حزم: الأحكام جـ 1، ص 99.
وليس القول فى أفعال الصحابة على غير هذا التقدير لأقوالهم فلا احتجاج بهذه الأفعال من حيث هى أفعال صحابة، إلا أن يتعلق الكاتب فى ذلك بما يذكره المالكية من عمل أهل المدينة كما سيشير إليه بعد، وليس النظر لهذا العمل من حبث هو عمل الصحابة خاصة، فلا وجه معروف لما ذكر هنا.
أمين الخولى
الأحزاب، الآية 21؛ سورة النجم، الآية 3) وإن كان قد نص عليه صراحة فى الحديث. وصيغ الجزء الأكبر من نتائج هذه الأفعال والأقوال فى شكل أحاديث نسبت إلى النبى [صلى الله عليه وسلم]. وهذه الزيادة العظيمة فى مادة الحديث، التى جاءت أيضًا من مصادر أخرى، أدخلت فى الشريعة الإسلامية عناصر جديدة متعددة، وبخاصة العناصر التى ترجع إلى أصل إسرائيلى. وكان من أثر هذا أن أصبح للفقه الإسلامى بعض خصائص معينة، منها: اعتباره مفسرًا وموضحًا للفرائض المجملة التى فرضها الله، وجاءت على لسان الرسول [صلى الله عليه وسلم]، وإنكار إمكان التطور أو وضع التشريع بعد وفاة النبى، وهذا يباين التطور التاريخى واعتبار سنة النبى بعد الكتاب مباشرة فى المنزلة، لا فى القوة؛ وتخلصوا من المتناقضات التى ظهرت بالطبع فى الحديث أكثر من ظهورها فى القرآن بنفس الوسيلة التى اتبعوها فى التخلص من المتناقضات التى وردت فى القرآن، وكذلك بواسطة نقد الإسناد ومن المهم أن نلاحظ أنهم اخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه (1)، أما القانون العرفى الذى أصبح له صبغة
(1) يلاحظ أول الأمر أن الكاتب يحيل على مادة "إسناد"؛ وليس فى هذه المادة شئ عن نقد الإسناد مطلقًا- انظر الترجمة العربية للدائرة مجلد 3 ص 94 لكنما يوجد فى مادة "حديث" مجلد ص 200 وما بعدها من النسخة الألمانية كلام عن نقد السند، وتلك ملاحظة ليست كبيرة الأهمية، لكننا أشرنا إليها بيانا للحقيقة ولنوفر على القارئ الرجوع إلى ما أشار إليه الكاتب فى مادة "إسناد".
وبعد فمسالة نقد المتن قد دار حولها القول عند الغربيين؛ وجاز ذلك إلينا، فجرى على أسلات أقلام شرقية ولم يصب ما يلزمه من دقيق الملاحطة، ومن أجل ذلك نرى أن نوسع القول فى تلك المسألة بعض الشئ.
ولعل أسبق من قصدى للإفاضة فى هذا الأميركايتانى Caetani فى كتابه "الحوليات الاسلامية Annali dell' Islam إذ عقد فى الجزء الأول منه فصلا عنوانه "ملاحظات نقدية عن القيمة التاريخية لأقدم ما روى من السنة عن شئون الرسول [صلى الله عليه وسلم]؛ وفيه عرض للسنة سندها ومتنها بما عرض له؛ وكان مما جاء فى نقد المتن قوله فى آخر فقرة (15) عمن بعد الصدر الأول من المحدثين ما ترجمته "
…
كل قصد المحدثين ينحصر ويتركز فى واد جدب ممحل من سرد الأشخاص الذين نقلوا المروى؛ ولا يشغل أحد نفسه بنقد العبارة والمتن نفسه ". كما يقول فى فقرة (16) " .. لكن إذا كان الإسناد كامل النظام محتويا أسماء حسنة، استبعد كل اشتباه وسوء ظن" وفى فقرة 18 يقول:"سبق أن قلنا إن المحدثين والنقاد المسلمين لا بحسرون على الاندفاع فى التحليل النقدى للسنة إلى ما وراء الإسناد، بل يمتنعون عن كل نقد للنص، إذ يرونه احتقارا لمشهورى الصحابة وقحة ثقيلة الخطر على الكيان الإسلامى"، "
…
إذا كان الإسناد من الصحابى فى النهاية حتى مؤلف المجموع الحديثى (بخارى أو مسلم مثلا) كان الأساس قويا، وصار نص السنة قسما من الوحى
إسلامية تختلف قوة وضعفا، فقد اعتبر ذا أساس قائم بذاته وبخاصة فى المسائل التى لا تثير الريب والشكوك من الوجهة الدينية وتعتبر سنة
الإلهى ولهذا لا يناقش، فإن كان الاسناد على غير نظام كان النص تقريبا كذلك، ولا يمكن اعتباره موثوقا به " ولذا فأى امتحان له غير مفيد من هذا الارتباك الغريب؛ ومن ذلك الخلط بين الانساني - يعنى به السند- والإلهى -يريد به السنة المروية- نشأت كل الأغلاط فى السنة الاسلامية"
…
ثم يطنب فى هذا المقام بما لا يتجاوز هذه المعانى.
وها هو ذا كاتب مادة "أصول" يقول هنا: "ومن المهم أن نلاحظ أنهم أخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للإسناد نفسه"؛ وهو مخفف مما قاله كايتانى آنفا.
ثم جاز هذا المعنى إلى المشرق، فقال الأستاذ أحمد أمين، فى الجزء الثانى من ضحى الإسلام ص 130 - 131، ما هو تسليم بجملة هذه الملاحظة؛ إذ يقول "وفى الحق أن المحدثين عنوا عناية تامة بالنقد الخارجى -يريد نقد السند- ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلى". ثم يقول "ولكنهم لم يقوسعوا كثيرأ فى النقد الداخلى، فلم يعرضوا لمتن الحديث: هل ينطبق على الواقع أولا؟ مثال ذلك ما رواه الترمذى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الكمأة" من المن وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهى شفاء من السم". فهل اتجهوا فى نقد الحديث إلى امتحان الكمأة؟ وهل فيها مادة تشفى العين؟ أو العجوة وهل فيها ترياق؟ " ثم يذكر أن أبا هريرة جرب عصير الكمأة مرة فشفى العين ويقول "ولكن هذا لا يكفى لصحة الحكم، فتجربة جزئية نفع فيها شئ مرة لا تكفى منطقيًا لاثبات الشئ فى ثبت الأدوية، إنما الطريقة أن تجرب مرارًا، وخير من ذلك أن تحلل لتعرف عناصرها، فإذا لم يكن التحليل فى ذلك العصر ممكنا فلتكن التجربة مع الاستقراء، فكان مثل هذا طريقًا لمعرفة صحة الحديث أو وضعه".
وكل هذا الذى) سلفناه موضع للمناقشة .. فنرى قول كايتاني " .. إذا كان الإسناد كامل النظام استبعد كل اشتباه " إذا كان الاسناد من الصحابى حتى مؤلف المجموع السنى كان نص السنة قسما من الوحى الالهى، ولذا لا يناقش إلخ"، فنرى هذه الأقوال وما يشبهها فى كلامه من تقرير دوران قوة الحديث مع قوة السند وجودًا وعدمًا تنقضها قاعدة مشهورة عند علماء أصول الرواية هى قولهم "وأعلم أنه لا تلازم بين الاسناد والمتن إذ قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط، دون المتن لشذوذ أو علة. وقد لا يصح السند ويصح المتن من طريق آخر"- الأجهورى: حاشيته على شرح البيقونية ص 26، 27 وهى قاعدة مشهورة توجد فى المختصرات الصغيرة لمصطلح الحديث، ونقضها لعبارات كايتانى واضح لا يعوزه الشرح.
ثم نرى قوله أيضًا "ما من أحد شغل نفسه بنقد النص نفسه"، وقوله "إن المحدثين والنقاد المسلمين لا يجسرون على الاندفاع فى التحليل النقدى للسنة إلى ما وراء الاسناد، بل يمتنعون عن كل نقد للنص .. إلخ " فنرى أن أشياء كثيرة من عمل المحدثين تبطل هذا القول، منها.
1 -
ما أسلفناه من صريح قولهم فى عدم ربط السند بالمتن، وذكر أشياء تؤثر على المتن بعد صحة السند كالشذوذ مثلا. وسنعود إليه بكلمة قريبًا.
2 -
إعطاؤهم الحديث ألقابًا اصطلاحية من صفات خاصة بالمتن دون السند، كتسميتهم الحديث "بالشاذ" أو "المقلوب" أو "المضطرب" أو "مدرج المتن" أو "المحرف" أو "المصحف" ونحو ذلك من أسماء لا مرد لها إلا اعتبارات فى المروى نفسه تبين فى علم الحديث دراية، ولا نطيل بشرحها.
3 -
وضعهم قواعد لنقد المتن، تصل من الحرية العقلية إلى حد بعيد، وتقوم حينا على اعتبارات عقلية صرفة، وحينا على معان أدبية فنية؛ وحينا تعتمد على مقررات شرعية.
الصالحين أحيانًا شاهدًا له قيمته كالسنة النبوية.
5 -
وكانت طلائع تأملاتهم فى علم الأصول فى أواخر هذا العصر أى فى بداية القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى)، وقد حرك هذه التأملات ظهور علم خاص للحديث بجانب علم الفقه. وقد أنكر المحدثون على الفقهاء إدخالهم عنصر العقل الإنسانى فى
أ) فمن الاعتبارات العقلية الجريئة: أن كل خبر يناقض صريح العقل، حيث لا تأويل فهو باطل- على القارئ وابن حجر العسقلانى: شرح نخبة الفكر ص 126، 127 وحسب عشاق الحرية العقلية الصحيحة أن من المقررات الاسلامية إخضاع نص القرآن نفسه للعقل وقولهم "ولو تعارضت آية فى دليل عقلى فإن الدليل العقلى يكون حاكما عليها"- الآمدي: الأحكام، جـ 3، ص 226.
ب) ومن المعانى الفنية التى حكموها فى نقد السند، اعتبارهم ركاكة لفظ الحديث أو ركة معناه علامة على وضعه .. إلخ
جـ) ومن الاعتبارات الدينية التى تقوم على جعل المقررات الشرعية وحدة معقولة متماسكة متوافقة، أن عدوا من علامات وضع الحديث مخالفة القرآن أو السنة المتواترة أو الاجماع القطعى .. إلخ - النخبة وشرحها فى الموضع السابق.
4 -
أنهم نقدوا المتون الحديثية بالفعل نقدًا مطبقًا على الأصول النظرية السابقة التى قرروها. ومن حسن الاتفاق أن قد سقنا لذلك كله أمثلة من نقد المتن فى التعليقة الأولى من تعليقنا على هذه المادة، وهى الخاصة بما يروى من سبب نزول آية 52 من سورة الحج.
أفيقول كايتانى بعد هذا لهؤلاء إنهم لم يجرءوا على الاندفاع فى النقد إلى ما وراء السند، أو يقول شاخت إنهم أخفوا نقدهم لمادة الحديث وراء نقدهم للسند. وأما الأستاذ أحمد أمين، فقد أغفل ما يستحق الملاحظة الهامة من اعتبارات، منها:
1 -
أن علم الحديث علمان: علم الحديث دراية، وعلم الحديث رواية. والأول هو علم أصول الحديث.
وهو المراد عند الاطلاق، وهذا مع عنايته بالسند، لم يخل من نقد المتن على نحو ما بيناه فى مناقشة الغربيين آنفًا، والأستاذ قد ذكر فى أقسام الحديث باعتبار نقد السند، القسم المسمى بالشاذ، وقد ذكرناه قريبا ووعدنا بكلمة عنه؛ وليس الشاذ إلا ما روى مخالفًا لما رواه الثقات، فهو لقب جاء الحديث من النظر فى المروى ومقابلته بغيره، وليس كما عدد الأستاذ من مظاهر نقد السند.
ولئن كان أصحاب علم الحديث دراية قد أصابوا من نقد المتن. ووضعوا قواعده، فليس عندهم وحدهم يلتمس نقد المتن، ولا يكتفى فى الحكم على ذلك بعملهم، بل إن ذلك يكثر عند النظر فى محتويات الحديث ومشتملات متنه، وهذا عمل العلم الثانى من علوم الحديث، وهو علم الحديث رواية، الذى يصون عن الخطأ فى نقل ما أضيف إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويبين كيفية الاقتداء به فى أفعاله، وهذا البحث تتعدد ميادينه فتتنوع، فتارة تكون فقهية، وطورًا تكون خلقية، وأن تكون اعتقادية، وحينا تكون فى تفسير القرآن، وما إلى ذلك من الدراسات الدينية، وأما الجانب الدنيوى العملى من الحديث فلنا إليه رجعة قريبة. وعند علماء هذه العلوم -ولو لم يعرفوا باسم المحدثين- يحكم على نصيب المتن من النقد عند المسلمين، فيقال بعد ذلك إنهم عنوا به عناية تامة أو لا.
ولعله بالنظر فى ذلك يتضح وجود روح نقدية قوية ظاهرة للمتن. ففى الفقهاه ترى المالكية مثلا- وهم ممن لزموا الحديث واشتهروا بالمحافظة فيه- يخالفون فى تقرير الأحكام الفقهية غير قليل مما يرويه الإمام مالك نفسه فى الموطأ، وقد أحصى ابن حزم من ذلك صفحات فى كتابه الأحكام (جـ 2، ص 100 - 114).
التشريع الذى يجب ألا يعتمد إلا على الكتاب والحديث باعتباره ممثلا لسنة النبى [صلى الله عليه وسلم] وردّ الفقهاء على هذا بأن عقل الانسان (الرأى) لابد منه لاستنباط الأحكام الشرعية، وأورد كل من الفريقين أحاديث يؤيد بها رأيه، وكان الجدل منذ أول الأمر يعني بالشكل أكثر من عنايته بالموضوع وكثيرًا ما كان جدلا حول الألفاظ لا غير. وكان من نتيجة هذا، الاعتراف العام بأن الرأى لابد منه فى الفقه، وكانت المذاهب المتعددة تتفاوت فى اعتمادها على نص الحديث، على أن
النتائج كانت واحدة فى كل مكان. ومنذ
وليست تلك المخالفة إلا لاعتبارات فى تمحيص المتن وفحصه ثم الحنفية الذين، فسحوا المجال للقياس قد قرروا فى أصولهم أن الراوى المعروف بالرواية إذا لم يكن معروفًا بالفقه كأبى هريرة وأنس، إن وافق مرويه قياسًا ما، يقبل، وإن لم يوافق قياسًا يردّ، وردّوا بالفعل من الحديث ما لم يوافق قياسًا (صدر الشريعة: التوضيح جـ 2، ص 5 - 6).
ومثل هذا من الفحص النقدى نراه فى العقائد والتفسير والأخلاق وما أشبه ذلك من الدراسات الدينية. على أنه يجب قبل الحكم على هذا النقد للمتن فى الأمور الدينية أن يلاحظ ما يأتى:
1 -
أن نقد السند خطوة أولى بطبيعتها، إذ ليس للشهادة قيمة إلا من الثقه بالشاهد، والرواية والشهادة صنوان، فإذا ما توافر مثل عناية القوم بنقد السند، ودقة ما اشترطوه فى الراوى من ضبط ويقظة، وصلاح وبراءة من الهوى، فقد صارت الحاجة إلى نقد المتن قليلة بطبيعتها.
ولعلنا لا نجد متنًا خليقًا بالثقة، إلا وسنده أخلق بذلك، وفيه مخالص متعددة من المتن. وهذا هو الحديث الذى ساقه الأستاذ أحمد أمين مثال الحاجة إلى نقد المتن أو المجال لذلك النقد: نجد أن فى نقد سنده إراحة منه- رغم وجوده فى الصحاح إذ ليس كل ما فيها سليم - فهو مروي عن سعيد ابن زيد، وقد قالوا فيه:"إنه ضعيف" و"ليس بحجة يضعفونه فى الحديث" و"ليس بالقوى" (الذهبى: ميزان الاعتدال، جـ 1، ص 371 على أن مثل هذا الحديث فى موضوعه يخرج من باب، وسع من هذا جدًا كما سنبينه.
2 -
أن ما يمس الأمور الدينية لا يرجع فى نقده إلى أساليب التجربة والتحليل، لأن طبيعته لا تقبل ذلك ولا تمكن منه، فهو يمس أمورًا غير مادية، وقد ينتهى إلى غيبى وغير منظور، وإن رجع النقد فيه إلى اعتبارات نظرية محضة، فهى غير محدودة ولا يقف الخلاف فيها عند حد، ولا يهون الاتفاق عليها بل إنها لا تنضبط انضباط نقد السند والأصول التى نيط بها، فوجب لذلك أن يكون نقد المتن ثانوى المركز، بعد نقد السند.
وهكذا يهديك ما قدمناه: من تفرق نقد المتن فى أبحاث متعددة، وما تقتضيه طبيعته من تأخير إلى أن ليس من اليسير القول مع الأستاذ بأنهم "عنوا عناية تامة بالنقد الخارجى، ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلى" وأنهم "لم يتوسعوا كثيرًا فى النقد الداخلى".
* * *
هذا ما يقال فى نقد المتن الخاص بالأمور الدينية ووراء ذلك باب، وسع منه يجب النظر إلى قولهم فيه قبل الاحتجاج لتركهم نقد المتن بحديث "الكماة والعجوة" السابق: ذلك هو أن الأمور الدنيوية لا تعتبر من مهام الرسول التى يسوق فيها بيانًا، كما يشهد بذلك حادث أبرْ النخل المعروف وقوله: ما كان من أمر دينكم فإلىّ وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، أو كما قال.
النصف الأول من القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) ظهرت ثلاثة ألوان من الفقه فى ثلاثة مراكز: الحجاز والعراق والشام. وكان للأسباب الجغرافية أثر كبير فى انتشارها، وتأثر هذا الانتشار بتطور الحياة والعقيدة فى نواح متماسكة. كما تأثر بالاختلافات الأساسية فى أصول مادة التشريع فى الأقاليم المختلفة. وكانت هذه الاختلافات طليعة لما جاء بعدها من مذاهب مالك وأبى حنيفة والأوزاعى واعتمدت مدرسة الحجاز كثيرًا على الحديث. أما مدرسة العراق فكان أكثر اعتمادها على الرأى وفى هذه الأحوال كان للآراء التى يقول بها كثرة العلماء فى المدينة -أو الحرمين: مكة والمدينة، أو فى البصرة- قيمتها الخاصة.
وظهرت حوالى منتصف القرن الثانى الهجرى (الثامن الميلادى) أول المطولات التى كتبها البارزون من أتباع هذه المدارس الثلاث وبخاصة مدرستى الحجاز والعراق. وهذه المطولات تيسر لنا الوقوف على اتجاههم العقلى. ويعتمد ما نقرره هنا على نتائج دراسة موطأ مالك، وهو المصنف الوحيد الذى كان موضع دراسة من بين هذه المطولات. وبذل مالك عناية كبرى لتقرير إجماع العلماء من أهل المدينة. وهذا التصور الذى كان يقصد به فى الأصل أن الاجماع هو رأى الغالبية لا غير (كما هو الحال فى علم القراءات الذى استعار هذا الاصطلاح من الفقه، انظر Geschichte: Noldeke - Bergstrasser
وهذه الشئون الطبية التى منها حديث هذه الكماة والعجوة، قد أعلن فيها ابن خلدون رأيًا قديمًا قويمًا حين يقول فى المقدمة بعد ذكره ما كان للعرب الجاهليين من طب "والطب المنقول فى الشرعيات من هذا، وليس من الوحى فى شئ، وإنما هو أمر كان عاديًا للعرب، ووقع فى ذكر أحوال النبى صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله التى هى عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات وقد وقع له فى شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغى أن يحمل شئ من الطب الذى وقع فى الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك، وصدق العقد الإيمانى فيكون له أثر عظيم فى النفع، وليس ذلك فى الطب المزاجى، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما وقع فى مداواة المبطون بالعسل، (ص 431، ط عبد الرحمن محمد).
فإذا كان الصحيح من الأحاديث لا يفيد علمًا ماديًا، فلا محل بعد ذلك لطلب التجربة أو التحليل أو الاستقراء لمعرفة صحة مثل حديث الكماة والعجوة، فوق أنه كما قلنا لا يقوم على سند سليم.
وأن لا محل لانكار نقدهم المتن، أو إخفانه وراء نقد السند، وأنه من الدقة بحيث لا يطلب فيه ما يطلب فى نقد السند.
أمين الخولى
des Qorans ، جـ 3، ص 130 وما بعدها وص 135) أصبح هنا يدل على كثرة العلماء كثرة تقرب من الإجماع. وكان مالك فى الوقت نفسه يأخذ بحجية عمل أهل المدينة، وهو ليس بحال من الأحوال عين سنة النبى [صلى الله عليه وسلم]. والإجماع وعمل أهل المدينة يرتبطان فى نظره أشد ارتباط. ويمثل لنا كتابه مقدار ما وصلوا إليه فى عهده فى المدينة من صبغ القانون العرفى بالصبغة الإسلامية، كما يبدو ذلك من مقابلة ذلك العصر بما جاء بعده. وقد بلغت هذه الصبغة غايتها الآن.
ولا شك فى أن المصنفات العظيمة التى كتبها الشيبانى كان لها فى العراق أثر يشابه أثر مصنفات مالك فى المدينة.
6 -
والشافعى المتوفى عام 204 هـ (820 م) هو واضع علم الفقه الإسلامى. وفضله هو أنه بعث اليقظة فى الفكرة الفقهية الإسلامية فأصبحت علمًا، وأنه لا يبرهن عند الحاجة إلى الدلائل وابتغاء الوصول إلى نتائج عملية فقط، بل يبرهن دائمًا ومبدئيًا، ويبحث أيضا شروط الاحتجاج التشريعى وطرقه بوجه عام. وقد خطا بعلم أصول الفقه خطوات هامة اعتمدت على تطور هذا العلم قبل الشافعى. وقد انتهى الشافعى إلى ما انتهى إليه أهل العراق من قبل فى تعريف "السنة" بأنها مصدر للتشريع باعتبارها فعل النبى [صلى الله عليه وسلم]، كما عرف الإجماع بأنه الرأى الذى أخذ به كثرة المسلمين، واعتبره مصدرًا ثانويًا لإيضاح المسائل التى لا يمكن تقريرها من الكتاب وسنة النبى [صلى الله عليه وسلم]، وهو يؤيد حجية الإجماع باعتبارات عامة وأحاديث تأمر بالتمسك برأى أمة المسلمين. ولم يكن الشافعى يعلم إلى ذلك الوقت بالحديث الذى ذكر كثيرًا فيما بعد وهو "لا تجتمع أمتى على ضلالة". وكان صبغ القانون بالصبغة الإسلامية قد تم بوجه عام قبل مالك، غير أن الشافعى بذل جهدًا عظيمًا فى تنظيمه. وللوصول إلى ذلك الغرض انصرف الشافعى -إلى حد ما- عن الطريق المألوف فى التفكير الفقهى.
ولم يكن الشافعى واضع طريقة القياس، غير أنه كان له كبير الأثر فى تنشئته والتوسع فى تطبيقه. وطريقة القياس هى بالضرورة طريقة الرأى،
اصطنعها تحت اسم القياس، لأن الناس كانوا أقل نفورا من هذا الاسم. على أنه من الواضح أنه قد حدّ من استعمال هذه الطريقة، ويظهر أن أهل العراق استعملوا القياس للتخلص من الأحاديث الضعيفة وأحاديث الآحاد. وحاول الشافعى أيضًا وضع قواعد معينة لاستعمال القياس، ولكنه كان قليل التوفيق فى ذلك. ولم يتغلب القياس حتى فى العصور المتأخرة -وبالرغم من التحديدات فى طريقته- على الغموض الذى يجعله مجردًا من القوة القاطعة فى الإقناع. ويظهر أن القياس عند
الشافعى مرادف للاجتهاد فى معناه القديم، ذلك المعنى الذى كان يجعل الاجتهاد مرادفًا للرأى أى استعمال الفقيه لعقله. وكان اهل العراق وكذلك أهل الحجاز يستعملون الاستحسان كنوع من أنواع الرأى. والاستحسان عبارة عن الانحراف عن النتيجة التى نتوقعها بحق من القياس، لاعتبارات عقلية أو عملية إلخ.
وقد هاجم الشافعى طريقة الاستحسان فى عنف، لأنها طريقة ذاتية، وقال بصحة القياس وحده. وبهذه الطريقة، صبغ الشافعى علم الأصول بالصبغة الاسلامية فى روية وتبصر.
7 -
إن التطور الذى حدث بعد الشافعى عند المدرسة المعتبرة، انتهى إلى أن الكتاب والسنة والاجماع والقياس هى الأصول الأربعة للفقه، ويفهم هذا التطور فقط من تتبع تاريخ هذه الأصول، ومن تطورات إضافية مفصلة. من هذه التطورات استقرار الصلات المتبادلة بين الكتاب والسنة، فقد كان الشافعى يرى أن السنة تبين أحكام الكتاب وأن القرآن لا ينسخه إلا القرآن، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة. وكان البعض، قبل الشافعى وجميع من جاء بعده، يرى أنه من الممكن أن ينسخ الكتاب بالسنة، فكانوا بهذا لا يضعون السنة فى منزلة الكتاب فحسب، بل فى منزلة فوقه. على أن النتائج الفقهية العملية لم تكد تتأثر بهذه الاختلافات النظرية. أما الإجماع فكانوا فى العصور المتأخرة لا يكتفون فيه برأى كثرة المسلمين، ولكنهم كانوا يطلبون
اتفاق جميع الفقهاء الذين يعيشون فى وقت واحد من عصر ما، وكان هذا الاتفاق ملزمًا للأجيال المقبلة. ولكنهم لم يقصدوا من الاجماع أبدًا معناه الحرفى. والاجماع بهذا المعنى لم يظل تابعًا للقرآن والسنة فحسب، بل اعتبر مؤيدا لهما نظرًا للاعتقاد العام فى تنزهه عن الخطأ، ذلك الاعتقاد الذى نشأ من اعتبارات عامة ومن النص عليه فى الحديث الذى ذكرناه من قبل وتذكر أيضا لتأييد ذلك آيات فى القرآن مثل الآية 98 من سورة آل عمران والآيتين 85، 115 من سورة النساء. بل إنهم جعلوا للإجماع، آخر الأمر، قوة نسخ أحكام الكتاب والسنة، كما حدث مثلا فى مسألة التوسل بالأولياء والاعتقاد فى عصمة الأنبياء.
وهناك أبواب هامة من التشريع الإسلامى تقوم على الاجماع وحده، مثل: الخلافة واعتبار سنة النبى [صلى الله عليه وسلم]، ملزمة للمسلمين، والأخذ بالقياس إلخ. وجملة القول فى هذا الموضوع إن التشريع الاسلامى كله يستمد سنده من الاجماع المنزه عن الخطأ الذى يضمن صحة التشريع واتفاقه مع المعنى الصحيح المقصود من الكتاب والسنة. وقد فهم الطبرى (310 هـ = 923 م) الاجماع فى جوهره على هذا النحو. وذلك هو رأى أهل السنة بوجه عام، ولكن المالكية وحدهم يعرفون الاجماع بأنه أولا إجماع الصحابة، وثانيًا إجماع جيلين من بعدهم يسمونهم التابعين وتابعى التابعين، فهو عندهم إذن كعمل أهل المدينة، موطن السنة الصحيحة. على أن المالكية يجعلون لهذا الإجماع أيضًا نفس القوة التى أعطاها له الآخرون.
وبعض الحنابلة والوهابيين وكذلك الظاهرية الذين سنتكلم عنهم فيما بعد، قصروا الإجماع على اتفاق صحابة النبى [صلى الله عليه وسلم]؛ وقد أدى هذا إلى اختلاف عظيم فى العقيدة. أما الأباضية من الخوارج فلا يقرون إلا اتفاق فرقتهم ويطلبون إجماعهم جميعًا. وفى الوقت نفسه كان هناك عدة آراء مختلفة عن الاجماع فى العصر المتقدم. فبعد
الشافعى عارض القياس داود الظاهرى (المتوفى عام 270 هـ = 883 م) ومدرسته معارضة قوية، وأنكر القياس والرأى وقال إن الكتاب والسنة يفسران بظاهرهما فقط، ولكن الظاهرية لم يستطيعوا التقدم دون أن يلجؤوا إلى الاستنباط الذى حاولوا أن يجعلوه مفهومًا من النص بالفعل. على أن هذه المدرسة التى عاشت إلى القرن التاسع الهجرى (الخامس عشر الميلادى) لم يكتب لها الاستمرار ونفوذ الأثر، ولا نزال نجد أيضا بعض خصوم القياس والرأى حتى بين مثل الشافعية البخارى (المتوفى عام 256 هـ = 870 م) والغزالى (المتوفى عام 505 هـ = 1111 م) الذى كان يطبق القياس عمليًا فى العهد الذى كان متصوفًا فيه على الأقل، ولكنه من الناحية النظرية كان لا يرى أن القياس له ما للكتاب والسنة من قوة (كولدتسيهر: Zahiriten ص 182 وما بعدها). على أن القياس قد اعترف به أخيرًا دون منازعة وأقره الحنابلة والوهابية والأباضية الخوارج أيضا.
ويستعمل الشافعية وكذلك بعض الأحناف فى الاستصحاب نوعًا آخر من القياس المألوف أكد فى طريقته، وهو يعتبر عند الشافعية قائمًا بذاته. وقد اتبع الحنفية المذاهب الأخرى فى إطلاق لفظ القياس على الرأى بمعناه القديم، ولكنهم يتمسكون بالاستحسان على عكس الشافعية. وما زال المالكية يسلمون به، ولكنهم على وجه عام يؤثرون تسميته بالاستصلاح وهو نوع من القياس يقرر ما يعتبر أنه أصلح. ويأخذ الشافعية كذلك بالاستصلاح وينكرون الاستحسان فى شدة مقتفين فى ذلك أثر إمامهم، والواقع أن الطريقتين متماثلتان. وبالنسبة للتعسف الذى أدى فى الغالب إلى طرح نتائج القياس عندما كان يعتبر من الضرورى أو من المرغوب فيه التخلص من قيود النظر، فقد عارض الكثيرون كلا من الطريقتين، ولم ينعقد الإجماع قط على اعتبارهما من أصول الفقه.
وتتفق فرقة الأثنى عشرية من الشيعة (الإمامية) مع أهل السنة فى
اعتبار الكتاب والسنة من أصول الفقه، على أنهم لايقولون بحجية سنة الرسول [صلى الله عليه وسلم] فقط وإنما يضيفون إليها أيضا سنة الأئمة الأثنى عشر الذين تضمن عصمتهم صحة التشريع كما هو الحال فى الإجماع عند أهل السنة.
أما فيما يختص برواية السنة فللشيعة عدة كتب فى الحديث تختلف اختلافًا جوهريًا عن كتب أهل السنة. وقد انكروا بوجه خاص جميع الأحاديث والتقارير التى ترجع فى حجيتها إلى الخلفاء الثلاثة الأول قبل على، كما رفضوا الأحاديث التى تجعل عليًا تاليًا لهؤلاء الخلفاء. ولا يرى الشيعة حاجة إلى أصول أخرى بعد تعليم الإمام. ومع ذلك فإنه يوجد عندهم فى فترة غيبة الإمام الأخير أصلان يقابلان الأصلين الأخيرين عند أهل السنة (أى القياس والاجماع). على أننا نجد فى هذا العهد نفسه أن الإخباريين لا يعتمدون إلا حجية الكتاب والسنة وحدهما، ويحاولون إرجاع جميع الأحكام إلى أحاديث الأئمة مع الحد ما أمكن من الاستنباط العقلى، وهم يطلبون فوق ذلك عند تفسير آية من آيات الكتاب حديثًا يتصل بتلك الآية. ومن جهة أخرى نجد أن مدرسة الأصوليين التى كانت تستمتع بشهرة عظيمة لانتشار آرائها انتشارًا كبيرًا تقول بأن العقل ركن ثالث من أركان الأصول، ولكنهم كانوا ينازعون فى القياس. والخلاف بينهم وبين أهل السنة خلاف فى التسمية لا غير. أما الأصل الرابع عندهم فهو اتفاق كثرة الفقهاء منذ بدء غيبة الإمام الأخير. وبينما السنة يمكن أن تنسخ السنة بل وتنسخ الكتاب أيضًا فإن هذا الإجماع لا يمكن أن ينسخ إلا الأحاديث المطعون فيها. ويعتبر الشيعة فى الوقت نفسه من المصادر الثانوية فى الأصول: الاستصحاب وطريقتى الاستنباط الشبيهتين به المعروفتين بالاشتغال والبراءة، وكذلك اختيار القاضى لرأى من بين عدة آراء ممكنة.
8 -
والإجماع قوى الجذور فى
القانون العرفى، معترف به بالفعل رسميًا فى بعض العناصر الهامة للعبادات حتى وإن تعارض هذا الإجماع مع الكتاب والسنة (انظر ما سبق). على أنه يجب ألا نغالى مع هذا، فى تقدير صلاحيته فى تدرج التشريع الإسلامى ورفض الأحكام القديمة وإدماج عناصر جديدة. كما أنه من الراجح أن تدرجه لم يمنع البدع ولم يشجعها، فإن العناصر العديدة الغريبة التى يشتمل عليها التشريع الإسلامى دخلت فيه قبل أن يكون للإجماع ذلك السلطان على الفقه فى جملته.
ومن جهة أخرى فإن الاستحسان والاستصلاح يهيئان إمكان اعتبار القانون العرفى، ولو أن هذا الاعتبار أخذ يقل على مر الزمن. وكانوا يحاولون فى بعض المواضع جعل العرف أصلا خامسًا إلى جانب الأصول الأربعة المعترف بها، نجد هذا حتى فى القرن الخامس الهجرى (الحادى عشر الميلادى). وكان يعتبر من المندوب إليه على وجه عام ألا تجعل القوانين المأخوذة من الكتاب والسنة متعارضة مع العرف المتبع، وأن يصبغ ذلك العرف بالصبغة الشرعية ما أمكن
للتخلص من الوقوع فى الإثم (ist جـ 15، ص 213). على أن الفقه لم يعترف اعترافًا عامًا مباشرًا بالعرف ولم يجعل له حتى ولا مقامًا ثانويًا. وما نجده من النقاش فى العرف العام والعرف الخاص وصلتهما بالإجماع وصفتهما التشريعية إنما هو نقاش نظرى. وفى الحالات التى تشير فيها الشريعة إلى العرف أو العادة قلما يقصد بتلك الإشارة العادات الشرعية. ولم يعترف بأن القانون العرفى ملزم حتى فى الحالات التى لم ينص الفقه فيها على حكم ما. فمثلا الرأى السائد فى جزائر الهند الشرقية الهولاندية الخاص بمساواة الشريعة والعادة يبعد بنا تمامًا عن تعاليم الفقه، فإنه يكاد يجعل جميع العبادات خاضعة للقانون العرفى، ولكنه لا يجعل له مكانًا أبدًا فى طريقته النظرية. وقد بذل الفقهاء المالكية المتأخرون جهدًا عظيمً -وبخاصة فقهاء شمالى إفريقية- فى التوفيق بين آرائهم وبين العبادات الجارية وجعلوا هذا مبدأ لا يشذون
عنه. ومهما يكن للقانون العرفى والعناصر الشرعية الدخيلة من شأن وسلطان طبيعى فى العهد المتقدم للتشريع الإسلامى، فقد كان من الصعب جدًا أن يتقدم أكثر من ذلك وبخاصة منذ أن وصل الاعتراف النظرى بالأصول إلى شكله النهائى.
9 -
ولما كان الفقه قد تطور بالفعل فى بسط جميع أركانه الجوهرية قبل قيام نظرية الأصول، فإن العناصر التى كانت سببًا فى نشاته لا يمكن أن تذكر فى وضعها التاريخى الصحيح. على أنه حتى من وجهة نظر تنظيم الدراسات عند المسلمين نجد لهم فى الفقه منذ عهد طويل موقفًا نظريًا بحتًا، فالمجتهد وحده له حق تطبيق الأصول أى حق الاجتهاد فى استنباط الأحكام الشرعية من الأصول. على أن إجماع أهل السنة قد انعقد على أن الاجتهاد قد انقضى أمده منذ عهد طويل. وأن الفقهاء جميعًا لا بد لهم من الأخذ بأدنى مراتب التقليد وذلك فإن كثيرًا من الفقهاء لا يتعمقون فى دراسة الأصول بل يقنعون بالتعليقات الموجزة التى كتبت من حين لحين والتى تضيفها كتب الفقه إلى المناقشات الخاصة بالأحكام المختلفة. ومع هذا فهناك عدة مصنفات عن الأصول، وهى تكوّن علمًا من العلوم النقلية عند المسلمين. وكتب أهل السنة فى الأصول تتناول -حسب وجهة نظر المؤلف- بين مسائل أخرى الكلام على الكتاب والسنة والإجماع من ناحية صحتها وترتيبها بالنسبة لأغراض الفقه، والقواعد الخاصة بتفسيرها وهى تذكر عادة بالتفصيل، وتتناول الناحية الشكلية والمادة الشرعية، وكذلك الأحكام والتقريب بين المتناقضات الواردة فى الأصول، إما بالتوفيق بينها وإما بنسخ البعض بالبعض الآخر، وطرق استعمال القياس وغير ذلك. وجرت العادة بأن تختم كتب الأصول بالكلام على الاجتهاد والتقليد. وأول كتب الأصول هو رسالة الشافعى وإن كانت لا تتفق والترتيب الذى ذكرناه. ونخص بالذكر من بين المؤلفات المهمة التى صنفت فى العصور المتأخرة والتى شرحت كثيرًا ما يلى:
(1)
إمام الحرمين الجوينى (المتوفى
عام 478 هـ - 1085 م): كتاب الورقات فى أصول الفقه.
(2)
البزدوى (المتوفى عام 482 هـ - 1089 م): كنز الوصول إلى معرفة الأصول.
(3)
صدر الشريعة الثانى (المتوفى عام 747 هـ - 1346 م): التنقيح والتوضيح.
(4)
السبكى (المتوفى عام 771 هـ -1369 م): جمع الجوامع.
(5)
ملّاخسرو (المتوفى عام 885 هـ -1840 م): مرقاة الوصول ومرآة الأصول.
وأساس الأصول عند الشيعة هو حجية الإمام، وهى عندهم كالإجماع عند أهل السنة، وما زال الاجتهاد موجودًا عندهم.
المصادر:
أهم مصادر تاريخ الأصول هى:
(1)
Die Zdhiriten: Goldziher
(2)
Verspreide: Snouck Hurgronje Geschriften المجلد الثانى.
(3)
Isl.: Bergstrasser جـ 14، ص 76 وما بعدها.
(4)
Development of Mus-: Macdonald lim Theology ص 65 وما بعدها.
(5)
وذكر Juynboll فى Handleiding ص 32 وما بعدها، الطبعة الثالثة، معلومات مختصرة عن الرأى الشائع مع تعليقات تاريخية.
(6)
وذكر فى Santillana فى Istituzioni ص 25 وما بعدها معلومات أوفى، كما أورد ثبتا بمصادر أخرى.
(7)
أما أهم المصادر العربية عن الأصول فقد ذكرها حاجى خليفة، طبعة فلوكل جـ 1، رقم 835 وما بعدها.
(8)
طاشكبرى زاده: "مفتاح السعادة"، طبعة حيدر آباد سنة 1910 جـ 2، ص 53 وما بعدها.
(9)
الكاتب نفسه: موضوعات العلوم، كتبه بالتركية وترجمه كمال الدين، الآستانة سنة 1313 هـ ص 634 وما بعدها.
[يوسف شاخت Joseph Schacht]