الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول ولكن يقول: " ما بال أقَوام يقولون كذا وكذا» (1) .
الضابط الخامس: أن يِكون عالمًا بما يِنصح به: فلا ينصح عن فعل أمر هو غير متأكد من حرمته ولا يِنصح بفعل أمر هو غير متأكد من مشروعيته. ويفيد علمه بما ينصح فيه إقامة الحجج والبراهين وإقناع الناس بما يِريِد لأن كلامه إذا لم يكن مقنعًا ربما كان فتنة للآخرين ، بل ربما كان في قلوب بعض المنصوحين من الشبهة ما يمنعهم من قبول النصح إلا إذا كان بإسلوب مقنع وحجة ظاهرة.
[المطلب الثامن الموازنة بين المتقابلات]
المطلب الثامن
الموازنة بين المتقابلات الموازنة بين البشارة والنذارة: إن بعض الناس يكون ذا طبيعة نفسية مائلة إلى جانب التبشير أو جانب التخويِف، فيؤثر ذلك على خطبه، فيميل مثلا إلى جانب الإنذار والتخويف دوما، فنراه يشيع في الناس - على سبيل
(1) رواه أبو داود كتاب الأدب باب حسن العشرة (4788) .
المثال - الكلام عن فساد الناس وضياع الدين واندراس السنن، وإن مستقبل الناس يِزداد شرًا وأن الأعداء يملكون زمام العالم. . . إلخ.
وهذا الاقتصار يبعث اليأس في النفوس ويحطم حيوتيها ونشاطها للعمل الإسلامي، والحكمة أن يوازن الإنسان بين البشارة والنذارة، ولذلك جمع الله للرسول بين هذين العملين فقال:{فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213](1){رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165](2) . فهم يِبشرون في مواضع البشارة، وينذرون في مواضع النذارة، ويجمعون بيِنهما في مواضع الجمع.
إن حالات الإنذار يحتاجها الناس عندما يركنون إلى الدنيا وحظوظها ويرضون عن دين الله عز وجل فهو أسلوب تخويف مع من لم يرفع بدين الله رأسًا، والرسل عليهم الصلاة والسلام فعلوا ذلك، فقد كانوا ينذرون أقوامهم، ويخوفونه لما يرونه من إعراضهم عن دين الله عز وجل فكان الواحد منه يقول لقومه:( {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 115] )(3) .
(1) سورة البقرة آية 213.
(2)
سورة النساء آية213.
(3)
سورة الشعراء آية 115.
والله عز وجل أمر أنبياءه بالنذارة فقال: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1](1) وقال: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214](2) وقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2](3) .
وأما التبشيِر فإنه يتوجه للمتقين الطائعين {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (5) .
{فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر: 17](6) .
(1) سورة نوح، آية1.
(2)
سورة الشعراء، آية 214.
(3)
سورة المدثر، آية1، 2.
(4)
سورة البقرة، آية 25.
(5)
سورة البقرة، آية 223.
(6)
سورة الزمر، آية 17.
ويحتَاج الناس للتبشير وبعث الأمل في النفوس حين الاضطراب والضعف والخوف والبلاء، ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم مضطربا بعد نزول الوحي عليه بشرته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بما يزيِل عنه دواعي الاضطراب وأسباب الخوف فقالت:«كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، فوالله إليك لتصل الرحم، وتصدق الحديث وتحمل الكلّ وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق» (1) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بالرفعة والظهور على الأديِان، وهم في أشد حالات الضعف، وأعداؤهم متسلطون عليهم، ففي المسند:«بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض» (2) .
إن الموازنة بين البشارة والنذارة من الحكمة في الدعوة التي أمر الله عز وجل بها، ومن اتباع سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وفيه مراعاة لأحوال الناس ونفوسهم.
وهنا يجب التنبيه إلى أمر، وهو أن بعض الناس يذكر في سياق الترهيب من جرم أو ذنب بعض آيات الوعيِد، ثم يعقب في خطبته
(1) رواه البخاري.
(2)
رواه أحمد.
ببيان أن ذلك الوعيد ليس محمولًا على معناه المتبادر، وإنما لا بد له من تأويل ، مثال ذلك:
قد يذكر الخطيبِ حديثَ: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» فيذكر قول السلف في معنى الحديث، وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وهذا حق، ولكنه يِضعف أثر الحديث في النفوس، ولذلك لو فرق بيِن حال التعليم وحال الوعظ وأنه حين الوعظ تذُكر نصوص الوعيد كما جاءت، وأما في حالة التعليم وبيان الحكم فلا بد من البيان (1) .
ثانيا: الموازنة بين المصالح والمفاسد: إن الخطيب بحاجة إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد ومعرفة رتب المصالح والمفاسد حتى يِوازن بين مصلحة كلامه وما قد يترتب عليه من المفاسد، وذلك أن قَيام الشريعة إنما هو على جلب المصالح ودرء المفاسد، يقول العز بن عبد السلام رحمه الله:" معظم مقاصد القرآن: الأمر باكتساب المصالح وأسبابها والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها "(2) .
(1) ينظر الصاوي، الثوابت والمتغيرات (65) .
(2)
ابن عبد السلام، قواعد الأحكام 1.
ويقول رحمه الله: " الشريعة كلها مصالح إما أن تدرًا مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا فتأمل وصيته بعد ندائه فلا تجد إلا خيراَ يحثك عليه أو شرًا يزجرك عنه أو جمعا بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثا على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثًا على إتيان المصالح "(1) .
وهذه المصالح والمفاسد فد تختلط فيكون الفعل الواحد أو القول الواحد مصلحة من وجه ومفسدة من وجه آخر، أو مصلحة مشوبة بشيء من المفاسد أو العكس أو هي مصالح أو مفاسد في حال دون حال، قال الإمام الشاطبي: المنافع والمضار عامتها أن تكون إضافية لا حقيقة، ومعنى كونها إضافية أي أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة لشخص دون شخص ووقت دون وقت " (2) .
وتعارض المصالح والمفاسد وحسنات الفعل وسيئاته " باب واسع جدا لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيِها آثار
(1) المرجع السابق: 2 / 73.
(2)
الشاطبي، الموافقات 2 / 39.
النبوة وخلافة النبوة فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة بيِن الأمة فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذي ينظرون الأمرين " (1) .
وتعارض المصالح والمفاسد عالجه الشارع فأمر:
1 -
بارتكاب أدنى الفسادين للسلامة من أعلهما.
2 -
وبإهدار إحدى المصلحتين لتحصيل أعلاهما.
3 -
وبتقديم درء المفاسد على جلب المصالح.
4 -
وبالنظر في مآلات الأمور وعواقبها وعدم الاقتصار على النصر الآني، ولذلك فإنه يجب على الخطيب ألا يدفع الفساد بمفسدة أعظم ، إذ لا يجوز رفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا يدفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكَميلها وتعطيِل المفاسد وتقليلها
(1) ابن تيمية، الفتاوي 20 / 57.
بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيريِن إذا لم يمكن أن يُجمعا جمعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يِندفعا جميعا " (1) .
إن موضوعًا من الموضوعات قد لا يصلح أن يعرضه الخطيب في وقت أو حال لما يترتب على عرضه من مفاسد، بينما لو عرضه في وقت آخر أو حال أخرى كان مصلحة خالصة.
والفقيه من وازن بين المصالح والمفاسد، فقال حين يِحسن القول، وكف حين يحسن الكف، ومما يوضح ذلك «أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم» (2) .
فبين أبو هريرة أنه امتنع عن التحديث بجزء من أحاديث آخر الزمان خوف حصول المفسدة الاجتماعيِة العامة، قال ابن حجر رحمه الله:" حمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وكان أبو هريِرة يُكني بعضهم ولا يصرح به خوفا على نفسه منهم " ابن حجر، (3) .
(1) المرجع السابق 33 / 343.
(2)
رواه البخاري (1 / 26الفتح) .
(3)
فتح الباري (1 / 262) .
ولعله خشي أن يكون إخباره الناس بأسماء هؤلاء الأمراء سببا للخروج عليهم فتكون فتنة، ويوضح ذلك أيضًا حديِث معاذ بن جبل رضي الله عنه:«كنت رديف النبي صلى الله عيه وسلم، فقال: هل تدري يا معاذ ما حق الله على الناس؟ قال: قالت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، أتدري يا معاذ ما حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الناس على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم، قال: قلت: يا رسول الله، ألا أبشر الناس قال: دعهم يعملون» وفى رواية " إذا يتكلوا "(1) .
فاعترض الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ رضي الله عنه وبين له مفسدة تَحديت الناس بهذا الحديث.
وقد احتج الإمام البخاري بهذا الحديث على جواز أن يخص العالم بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا (2) .
(1) رواه البخاري، 1 / 225.
(2)
فتح الباري 1 / 225.
وقد حدث معاذ بهذا الحديث قبل موته خشيِة الإثم ولكن الاعتراض الذي ذكره معاذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم (إذًا يتكلوا) صار مقترنًا بالحديث إلى يومنا هذا ليمنع سوء الفهم.
ثالثًا: الموازنة بين الجانب العاطفي والجانب العقلي
إن بعض الخطباء تصطبغ خطبتهم بالصبغة العاطفية البحتة، فلا تراه يجتهد لإقناع الناس بما يقول، وبعضه تصطبغ خطبه بالصبغة العقليِة البحتة فلا يثير عواطف الناس (1) . وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
إن إشعال عواطف الناس دون أن يكون هناك شيء من الإقناع والأدلة واستخدام الأسلوب العلمي مؤد إلى سلبيات كثيرة منها:
1 -
إن ما جاء عن طريق العاطفة فقط سرعان ما ينسى إذا انطفأت جذوة تلك العاطفة.
2 -
إن عواطف الناس إذا محتاجون بدون بيان العلم الرشيد الصحيِح انطلق الناس، فلابد إذًا من لجام هو العلم، يلجم العواطف أن تجعل أصحابها يِتعدون حدود الله، والناس بطبيِعتهم محتاجون إلى حاد يحدو بهم إلى العمل، ومرغب
(1) ينظر: محمد أبو فارس: إرشادات لتحسين خطبة الجمعة 36.