الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يُرغبهم فيه، كما هم محتاجون عند النهي إلى ما يرهبهم من إتيانه.
ولذلك كان المجمع بين الأسلوب العلمي والأسلوب العاطفي هو الحق والصواب.
[المطلب التاسع التثبيت]
المطلب التاسع
التثبيت إن خطبة الجمعة يحضرها أناس تختلف أقدارهم العلمية والعقلية وكلهم في الغالب - يقف موقف المتلقي من الخطيبِ فكان واجبًا على الخطيب أن يتثبت مما يقول، وسأركز الكلام عن التثبيت في جملة نقاط:
أولًا: التثبت من صحة النص الشرعي: إن من المتقرر أن القرآن قطعي الثبوت، فهو منقول بالتواتر ولا يتطرق إلى شيء منه احتمال عدم ثبوت وصحة، ولكن السنة النبوية في جملتها ظنية الثبوت ولذلك وجب على ناقل النص من السنة التثبيت من صحته، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر عن الله، وليس كذبًا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ككذب أحد على من سواهما، والأحاديث متضافرة على تقرير هذا، والتحذير من النقل الكاذب، فمن ذلك:
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى اللَه علبه وسلم: «لا تكذبوا عليّ فإنه من كذب عليّ متعمدًا فليلج النار» " (1) .
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد، من كذب على متعمدًا فليتبوأ مقعدة من النار» (2) .
وعن سلمة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يِقول: «من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» (3) .
والتثبت هو بطلب أسانيد تلك الأحاديث والنظر في رجال السند والتوثق من عدالتهم واتصال السند، فإنّ الإسناد هو المرقاة التي يِصعد بها إلى الحديث قال علي - رضى الله عنه -:" انظروا عمن تأخذون هذا العلم فإنما هو الدين "(4) .
(1) رواه البخاري كتاب العلم باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فتح الباري 1 / 199 - 202، ومسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم 1 / 9 -10.
(2)
رواه البخاري كتاب الجنائز باب ما يكره من النياحة علي الميت، فتح الباري 3 / 160، ومسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 / 9 -10.
(3)
رواه البخاري كتاب العلم باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فتح الباري 1 / 201.
(4)
رواه الخطيب في الكفاية في علوم الرواية 196.
وقال ابن سيرين رحمه الله: " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم "(1) .
فعلى الخطيب إذا أراد أن يخطب أن يتثبت من صحة الأحاديث وذلك بمعرفة مخرجيِها، فإن كانت في البخاري ومسلم أو أحدهما كان ذلك دليَلا على صحتها وإن كانت في غيرهما اجتهد في البحث عن أقوال أهل العلم في الكلام عن الحديث، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان قاعدة التمييز بين الصدق والكذب في المنقولات:" المقصود هنا أن نذكر قاعدة فنقول: المنقولات فيها كثير من الصدق وكثير من الكذب. . والمرجع في التميِيز، بيِن هذا وهذا إلى علم الحديث، كما نرجع إلى النجاة في الفرق بين نحو العرب ونحو غير العرب، ونرجع إلى علماء اللغة فيما هو من اللغة، وما ليسِ من اللغة وكذلك علماء الشعر والطب وغيِر ذلك، فلكل علم رجال يعرفون به والعلماء في الحديث أجل هؤلاء قدرًا وأعظمهم تفضلا، وأعلاهم منزلة وأكثرهم ديِنًا "(2) .
(1) مسلم في مقدمة الصحيح 1 / 14.
(2)
ابن تيمية، منهاج السنة 7 / 34 -35.
ولقد أتى كثير من الخطباء الذين ينقلون نصوصًا غير صحيحة من اعتَمادهم على المجاميع المعروفة باحتوائها على الصحيح والضعيف بل وما دونه، ككنز العمال والترغبِ والتَرهيب، وما انتشار كثير من الأحاديث الموضوعة المحفوظة في أذهان الناس إلا بسبب تساهل بعض الخطباء والوعاظ ونقلهم لها دون تثبت وتبين.
ثانيا: التثبت في الفهم ووجه الاستدلال: إن النص قد يكون صحيحًا من جهة النقل ولكن الفهم المقلوب لذلك النص يحيل المراد، فإن كثيرًا (من الناقلين ليس كصده الكذب، لكن المعرفة بحقيقة أقوال الناس من غير نقل ألفاظهم وسائر ما به يعرف مرادهم قد يتعسر على بعض الناس ويتعذر على بعضهم)(1) . قال السبكي (فكثيراٌ ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها فيغير على الكتاب والمؤلف ومن عاشره واستن لسننه. . مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل)(2) .
فقد يعيب المرء القول وهو غير معيب:
(1) ابن تيمية، الفتاوي 6 / 303.
(2)
السبكي قاعدة في الجرح والتعديل 93.
فكم من عائب قولا صحيحا
…
وآفته من الفهم السقيم
وقد يأخذ من النص دلالة وهو غير مصيب، ولو راجع أقوال المفسرين وشروح العلماء لكتب الحديث لوقع على خبير بما يِؤخذ من النص وما يستفاد منه.
وأما الاعتماد على ما يتبادر إلى الذهن من النص، فذلك موقع في الخطأ إذ القرآن يصدق بعضه بعضا، ويحتاج الذي يريد فهم نص إلى الرجوع للنصوص الأخرى وأقوال أهل العلم.
ثالثا: التثبت من سلامة نقل النص: ينقل الخطيب في موضع الاستشهاد شيئًا من الآيات القرآنية والأحاديثِ النبويةَ، ومن الواجب على الخطيبِ ألا يعتمد على حفظه فيما يتعلق بالآيِات والأحاديث بل يراجعها لينقلها بلفظها إن كانتَ من القرآن وأما إن كانتَ من السنة فبلفظها إن أمكن أو بمعناها.
ومن الملاحظ هنا: أن من الخطباء من يستشهد بنص قرآني فينقله نقلا غير صحيح فيحرف آيات التنزيل أو يلحن في تلاوة النص أو نحو ذلك، وقَد يِتلقى منه الناس ذلك الخطأ ويأخذونه مأخذ التسليم، وقد ينقل نصًا من السنة من حفظه فيخطئ بتقديم
أو تأخير يؤثر في المعنى أو لحن يحيله، ولو راجع النص لسلم من ذلك.
ومما ذكر هنا أن خطيبا نقل عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب جملا فيها بيان حقوق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منها قوله: " وألا يعبد الله إلا بما شرع "، وكان يذكر النص من حفظه ويكرره ثلاثا لتأكيده في أذهان الناس ولكنه قال:" وألا يعبد إلا بما شرع الله "، فأثار شيئا من سوء الفهم في أذهان بعض الناس، ولعجل بعضهم في الرد عليِه، ولو راجع النص وكتبه لسلم.
رابعا: التثبت من الأحكام الشرعية: إن من مهام الخطيب أن يبيِن للناس الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين من حل وحرمة ووجوب وندب وكراهة، وتزداد أهمية ذلك في بعض المواسم، كمواسم رمضان والحج ونحو ذلك، ولا يصح لخطيب أن يذكر تلك الأحكام دون تثبت منها، فإن ذلك قول على الله عز وجل بغير علم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (1) .
(1) سورة الأعراف، آية 33.
وحق على الخطيب أن يراجع في كل موسم ما يناسب من أبواب الفقه، ففي رمضان أو قبله بقليل يراجع كتاب الصيام وكتاب الزكاة من كتب الفقه، وقبل موسم الحج يراجع كتاب الحج ويراجع أحكام العشر من ذي الحجة وأيام التشَريقَ وهكذا.
هذا إن كان أهلا وقادرًا على الفهم، وأما إن لم يكن كذلك لك فعليِه أن يقرأ فتاوى أهل العلم إذا أراد بيان شيء للناس من على المنبر، ويحيل إلى تلك الفتاوى الموثقة مسندة إلى مراجعها.
خامسًا: التثبت من الأخبار: قد ينقل الخطيب في أثَناء خطبته للناس حدثًا من الأحداث يريد أن يكون مدخلا للموضوع، وهذا الأسلوب أسلوب حسن لأنه يشد الناس ويلفت أنظارهم للموضع، لأن من طبيِعة غالب البشر حب القصص وتأثرهم بها، ثم تكون تلك القصة وسيِلة للفهم لأنها تُجسد المعاني في أشياء واقعية ولكن تلك القصص والأخبار تحتاج إلى جملة ضوابط منها - فيما نحن بصدده - التثبتَ، وهو خلق نبيل دعا إليه الإسلام، يقول اللَه عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6](1) .
يقول ابن جرير رحمه الله: أمهلوا حتى تعرفوا صحته ولا تَعجلوا بقبوله. . . لئلا تصيبوا قومًا براء مما قذفوا به بجهالة منكم {فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] يقول: فتندموا على إصابتَكم إياهم بالجنايةَ التي تصيبونهم بها (2) .
والعاقل لا يعتمد على نقول الناس وأقوالهم، فإن تناقل القول ليس دليلا على صحته، قال الدكتور مصطفى السباعي - رحمة اللَه: " والجماهير دائمًا أسرع إلى إساءة الظن من إحسانه. . . فلا تصدق كل ما يقال ولو سمعته من ألف فم حتَى تسمعه ممن شاهده بعينه، ولا تصدق من شاهد الأمر بعينه حتى تتأكد من تثبته فيما يشاهد، ولا تصدق من تثبت فيما يشاهد حتىَ تتأكد من خلوه من الغرض والهوى (3) .
(1) سورة الحجرات: آية 6.
(2)
الطبري، جامع البيان 26 / 123 ـ 125.
(3)
مصطفى السباعي، أخلاقنا الاجتماعية ص60.
وفوق أن التثبت فضيِلة والنقل من الناس بدونه رذيِلة، قد يكون حديث الخطيب عن خبر لا يصدق ولا يثبتَ سببا لفقدان مصداقيتَه عند الناس، قال يأخذون قوله، ولا يتقبلونه إلا بنوع من الريب والشك.
وتزداد أهمية التثبيت بشكل عام حين وقوع الفتن واضطراب الأحوال، وتبلبل الأذهان فإن ذلك إذا وقع في زمان ما أوجب التثبتَ والتبيين لما يستَدعيه زمن الفتن والشرور من كثرة الكذب والافتراء.
فلقد كان ازدياد الشرور والفتن من أعظم أسباب تثبتَ السلف واهتمامهم بالأسانيد بعد أن لم يكن ذلك من شأنهم، فعن طاووس بن كيسان أن رجلا جاء إلى ابن عباس - رضى الله عنهما - فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس:" عد لحديثِ كذا وكذا "، فعاد له ثم حدثه، فقال له: عد لحديث كذا وكذا فعاد له، فقال له: ما أدري أعرفت حديثَي كله، وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟ فقال له ابن عباس: " إنا كنا نحدث عن رسول الله صلى اللَه