المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات: - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ٣

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثالث: موقفه في الرد عليهم تفصيلا

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: في توحيد الربوبية والألوهية

- ‌أولا: أول واجب على المكلف:

- ‌ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل:

- ‌ثالثا: توحيد الربوبية:

- ‌المبحث الثاني: في الأسماء والصفات

- ‌مقدمة:

- ‌أولا: أسماء الله تعالى:

- ‌ثانيا: الصفات التي أثبتها الأشاعرة:

- ‌ثالثاً: الصفات التي نفوها أو أولوها:

- ‌المسألة الأولى: حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، ومناقشتها:

- ‌أولاً: أدلتهم وحججهم العقلية:

- ‌ثانياً: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌ثانياً: مناقشة موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌الفرع الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه

- ‌الفرع الثاني: التأويل والمجاز:

- ‌الفرع الثالث: هل مذهب السلف هو التفويض

- ‌المسألة الثانية: القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات:

- ‌المسألة الثالثة: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية:

- ‌المسألة الرابعة: الصفات الخبرية:

- ‌المسألة الخامسة: العلو:

- ‌المسألة السادسة: كلام الله:

- ‌المبحث الثالث: في القضاء والقدر

- ‌مقدمة:

- ‌الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:

- ‌الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب

- ‌المبحث الرابع: الإيمان

- ‌أولاً: الأقوال في الإيمان

- ‌ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان:

- ‌ثالثاً: ردود شي الإسلام على جمهور الأشاعرة في الإيمان:

- ‌المسألة الأولى: هل الإيمان التصدق فقط

- ‌المسألة الثانية: أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان والرد على المرجئة:

- ‌المسألة الثانية: الاستثناء في الإيمان:

- ‌المبحث الخامس: مسائل متفرقة

- ‌أولاً: الرؤية:

- ‌ثانياً: النبوات والمعجزات:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ثانيا: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

أن يكون الله مثل الأجسام. كما بنوا نفي التركيب على أنه لا بد له من مركب، وعلى أن المركب مفتقر إلى حزئه.

وأصل هذه الشبهة - شبهة التركيب - جاء من عند الفلاسفة والمعتزلة الذين قالوا: إن إثبات الصفات كالسمع والبصر والكلام والقدرة يلزم منه أن يكون مركبا من الذات والصفات (1) .

ج حجة الاختصاص، وخلاصتها أنهم قالوا: إن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصصها بما لها من الصفات الجائزة لها، وكل ما كان كذلك فهو محدث. وبنوا ذلك إما على تناهي الأجسام وأنه لا بد لها من شكل معين ومقدار معين، أو على اجتماع الأجسام وافتراقها بناء على مسألة الجواهر الفرد. وقالوا كل ما كان مفتقرا إلى المخصص فهو محدث، فالأجسام والجواهر حادثة (2) . ثم قال هؤلاء إن اختصاص الباري بالقدر والحد يقتضي مخصصا، واختصاصه بالجهة يقتضي مخصصا، وهذا باطل.

فهذه الحجج الثلاث مبنية على نفي الجسم، وهناك حجة رابعة لا تبني عليه وهي حجة الكمال والنقصان وسيأتي بيانها - إن شاء الله - في مسألة الصفات الاختيارية التي تقوم بالله، أو ما يسمى بحلول الحوادث، لأن هذه الحجة خاصة بها.

‌ثانياً: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

وقد بنوا ذلك على أدلتهم العقلية، السابقة، حيث إنهم قالوا بتقديم العقل على السمع عند التعارض، ومن ثم كان خلاصة موقفهم من الأدلة السمعية التي جاءت بإثبات الصفات التي نفوها أو أولوها:

أ - من ناحية الثبوت - قالوا عن أخبار الآحاد إنها لا يحتج بها في العقيدة.

ب - من ناحية الدلالة - وذلك في مثل دلالة القرآن - الذي لا يشك

(1) انظر: درء التعارض (4/272، 7/141-142) .

(2)

انظر: المصدر السابق (3/351-353) .

ص: 1097

أحد في ثبوته - أو الحديث عند من يرى الاحتجاج به في العقائد - فقد قالوا فيها إنها من المتشابه، وحينئذ فسبيلها أحد أمرين:

- إما التفويض.

- أو التأويل عن طريق المجاز وغيره.

هذه خلاصة حججهم العامة في باب الصفات، وهي كما يلاحظ بنيت على أدلة العقول، وتشبيه الله بخلقه، حيث صاروا يحكمون عليه تعالى وعلى صفاته بما يحكمون به على مخلوقاته، فأدى بهم هذا التشبيه إلى التعطيل.

مناقشة هذه الأدلة:

أولاً: مناقشة الأدلة العقلية:

الدليل الأول: دليل الأعراض وحدوث الأجسام:

أما دليل الأعراض وحدوث الأجسام، فقد سبق بيان فساده، وبطلان مقدماته، وأن كثيرا من الأشاعرة من المتقدمين كالأشعري، والمتأخرين كالرازي بينوا أن هذا الدليل لن تدع إليه الرسل وأن ثبات حدوث العالم لا يتوقف عليه، كما سبق الرد عليهم في استدلالهم بقصة إبراهيم الخليل وقوله:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: من الآية76)(1) .

الدليل الثاني: دليل التركيب والتجسيم (2) :

وأما دليل التركيب والتجسيم، فهو من أشهر أدلتهم وأكثرها دورانا في كتبهم، وقد بين شيخ الإسلام بطلان حجتهم من خلال الوجوه التالية:

1-

أن لفظ الجسم والتركيب فيه إجمال، وهذا الإجمال هو الذي أوقع هؤلاء في التخبط والاضطراب، والإجمال - كما يرى شيخ الإسلام - كثيرا

(1) انظر الفصل السابق - فصل توحيد الربوبية والألوهية.

(2)

أما حجة "التشبيه" فقد سبقت مناقشتها عند الكلام على الصفات التي أثبتوها وخاصة مسألة "المشترك"، انظر (ص: 1060) وما بعدها.

ص: 1098

ما يكون سببا في قول الباطل أو رد الحق، لذلك كان من أصول منهجه ومناقشاته بيان الإجمال في المصطلحات والألفاظ.

ومن ذلك لفظ "الجسم" و"المركب" هنا، القائل: إن إثبات الصفات، أو إثبات الاستواء أول العلو أو النزول أو الوجه أو اليدين وغيرها، يلزم منه التجسيم، أو التركيب.

يقال له: ما تعني بالتجسيم أو التركيب، لأن هناك أقوالاً عديدة في كل منهما:

فالجسم فيه أقوال:

- في اللغة هو البدن والجسد.

- وعند أهل الكلام: قيل: هو المركب من الجوهر الفرد، إما جوهران أو أربعة، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر، أو اثنان وثلاثون.

- وقيل: هو المركب من المادة والصورة، كما تقوله الفلاسفة.

- وقيل: هو الموجود أو القائم بنفسه، أو ما يمكن أن يشار غليه.

ولكثرة مناقشات شيخ الإسلام لهذا الإجمال في الجسم فيمكن اختيار النص التالي له، والإشارة في الحاشية إلى المواضع الأخرى التي ذكر فيها هذا الكلام أو نحوه، فإنه قال بعد أن ذكر الأقوال في الجسم: "إذا قال القائل: إن الباري تعالى جسم. قيل له: أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب؟ أو أنه يقبل التفريق، سواء قيل: اجتمع بنفسه، أو جمعه غيره؟ أو أنه من جنس شيء من المخلوقات؟ أو أنه مركب من المادة والصورة؟ أو من الجواهر المنفردة؟

فإن قال هذا. قيل: هذا باطل.

وإن قال: أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه

أو أنه موصوف بالصفات، أو أنه يرى في الآخرة، أو أنه يمكن رؤيته، أو أنه مباين للعالم، فوقه، ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل.

ص: 1099

قيل له: هذه معان صحيحة، ولكن اطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع، مخالف للغة، فاللفظ إذا حمل المعنى والحق والباطل لم يطلق، بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافياً للباطل.

وإذا (1) قال: ليس بجسم.

قيل: أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره، ولم يكن أجزاء متفرقة فركب، أو أنه لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض؟ أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة، ولا من المادة والصورة، ونحو هذه المعاني.

أو تردي به شيئاً يستلزم نفي اتصافه بحيث لا يرى، ولا يتكلم بكلام يقوم به، ولا يباين خلقه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول، ولا ترفع إليه الأيدي، ولا يعلو على شيء، ولا يدنو منه شيء، ولا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين ولا محايث له، ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن يتصف بها إلا المعدوم.

فإن قال: أردت الأول:

قيل: المعنى صحيح، لكن المطلقون لهذا النفي أدخلوا فيه هذه المعاني السلبية، ويجعلون ما يوصف به من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما، فكل ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون: هذا تجسيم، ولا ينتفى ما يسمونه تجسميا إلا بالتعطيل المحض؛ ولهذا كل من نفي شيئاً له لمن أثبته: إنه مجسم: فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى: إنه مجسم. ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات: إنه مجسم. ومثبتة الصفات دون ما يقوم به من الأفعال الاختيارية [كالأشاعرة] يقولون لمن أثبت ذلك: إنه مجسم، وكذلك سائر النفاة.

(1) في طبعة جامعة الإمام من منهاج السنة (2/1212)(وإذا) ولعل الألف ساقطة طباعة، وهي على الصواب في الطبعة الأخرى المحققة (2/156) - مكتبة دار العروبة.

ص: 1100

وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته (1)

" (2) .

والتفصيل في الأمور المجملة ومنها الجسم هو منهج السلف رحمهم الله تعالى، مع ترجيحهم عدم إطلاق الألفاظ والمصطلحات غير الواردة في الشرع (3) .

أما القول بأن الجسم مركب من المادة والصورة فهذا قول الفلاسفة وقد رده جمهور العلماء بما فيهم الأشاعرة.

وأما القول بأن الجسم ما ركب من جوهرين، وأن الأجسام تنتهي إلى جزء لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد، فهذا قول جمهور الأشاعرة، وقد أبطله بعض أعلامهم - كما سبق - (4) كما أبطله وناقشته شيخ الإسلام، وبين أن الراجح أن الأجسام تنتهي إلى الإستحالة، أي تستحيل إلى أجسام أخرى كما هو مفصل في مواضع عديدة من كتبه (5) .

(1) في ط جامعة الإمام من منهاج السنة (2/214) ، وكذا في ط دار العروبة - المحققة - (2/157)[فيما أثبته الله ورسوله] ثم ذكر المحقق _ رحمه الله أنه هكذا في نسختى (ب) و (أ) ، ثم ذكر أن الكلام فيه سقط وحاول إكمال ما بقي من النقص في الحاشية.

والذي أرجحه أن عبارة [الله ورسوله] ليست تابعة لقوله [فيما أثبته] لأن سياق العبارة يأباه، ولذلك أوقفت النقل إلى قوله [أثبته] والمعنى عليه واضح

والله أعلم.

(2)

منهاج السنة (2/211-214)، وانظر أيضاً (ص:549) .

(3)

انظر في لفظ "الجسم" وما فيه من الإجمال، والأقوال فيه، ومنهج السلف في إطلاقه: التسعينية (ص: 192-193) ، نقض التأسيس - مخطوط - (1/121) ، ونقض التأسيس - مطبوع - (2/498-499) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/420-434) ، درء التعارض (4/134-139) - ط جامعة الإمام، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى (6/102-104) .

(4)

في فصل "توحيد الألوهية والربوبية".

(5)

انظر في مسألة الجوهر الفرد ورأى شيخ الإسلام في إنقسام الأجسام: منهاج السنة (2/139-141) - ط جامعة الإمام، وشرح الأصفهانية (ص: 315) - ت السعوي، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/243-244، 230-325) ، شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (50424-428) ، نقض التأسيس - مطبوع - (1/280-281، 285-286) ، درء التعارض (1/303، 2/190-191، 3/355، 442-447، 4/183-186، 5/145،196-203، 7/220-223،232-234، 8/322-3259.

ص: 1101

أما "التركيب" ففيه إجمال أيضاً:

فالفلاسفة جعلوه خمسة أنواع: التركيب من الوجود والماهية، والتركيب من العام والخاص، والتركيب من الذات والصفات، وتركيب الجسم من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة (1) .

أما المعاني الأخرى للمركب:

- فقيل هو ما ركبه غيره، كما قال تعالى:{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:8)، ويقال: ركبت الباب، وهذا هو معنى المركب في اللغة.

وقد يقال: المركب: ما كان مفترقا فركبه غيره، كما تركب المصنوعات من الأطعمة والثياب والأبنية، وهذا قريب من السابق.

- وقد يقال: المركب ماله أبعاض مختلفة كأعضاء الإنسان، وإخلاطه، وإن خلق ذلك مجتمعا.

- وقد يقال المركب: ما يقبل التفريق والانفصال وإن كان شيئا بسيطا كالماء.

- وقد يقال المركب: ما يعلم منه شيء دون شيء، كما يعلم كونه قادرا، قبل أن يعلم كونه سميعا بصيرا (2) .

ويلاحظ ما بين الجسم والمركب من تداخل.

وحينئذ فمن نفى الصفات لأجل شبهة التركيب يقال له: ما تعني بالتركيب؟ إن كنت تقصد به ما ركبه غيره، أو ما كان مفترقا فاجتمع أو ما يمكن تفريق بعضه عن بعضن فلا ريب أن هذا باطل والله منزه عنه.

(1) انظر: الصفدية (1/104-105) ، ودرء التعارض (3/389، 5/142) .

(2)

انظر: الصفدية (1/105-106) ، ودرء التعارض (5/145-146) .

ص: 1102

أما إن كنت تقصد به ما تميز منه شيء عن شيء، كتميز العلم عن القدرة، وتميز ما يرىمما لا يرى، ونحو ذلك، أو ما ركب من الوجود والماهية، أو من الذات وصفاتها، فهذا حق، لكن تسمية هذا تركيبا إنما هو اصطلاح اصطلحوا عليه ليس موافقا للغة العرب، ولغة أ؛ د من الأمم، وإذا كان مثل هذا مركبا فما من موجود إلا ولا بد أن يعلم منه شيء دون شيء، والجسم الذي له صفات لا يعرف في اللغة إطلاق كونه مركبا، فإن التفاحة التي لها لون وطعم وريح، لا يعرف في اللغة إطلاق كونها مركبة من لونها وطعمها وريحها، كما لا يعلم في اللغة القول: إن الإنسان مركب من الطول والعرض، أو من حياته ونطقه

(1)

فحجة الأشاعرة وغيرهم صارت مبنية على مثل هذه الألفاظ المجملة.

والتزام الألفاظ الشرعية، مع الإستفصال عن الإجمال الواقع في المصطلحات الحادثة، هو منهج السلف، وهو المذهب الحق.

2-

إن شبهة التركيب والتجسيم التي اعتمدها جميع النفاة للصفات، سوءا كانوا نفاة لها كلها كالفلاسفة والمعتزلة، أو نفاة لبعضها كالأشاعرة - قد طعن كل فريق في أدلة الفريق الآخر عليها.

وهذا المنهج في الرد المبني على إثبات ردود الخصوم بعضهم على بعض ونقض كل طائفة حجج الطائفة الأخرى - هو منهج فريد، تميز به شيخ الإسلام وقد كان لما حباه الله من إطلاع واسع، وحافظة قوية، وسرعة في البديهة أثر في استحضار الأقوال والنصوص، والاحتجاج بها في مواضعها.

ومن الأمثلة على ردود بعض من يحتج بالتجسيم أو التركيب على بعض:

أأن الغزالي رد على الفلاسفة لما احتجوا بالتركيب على نفي الصفات وقالوا: متى أثبتنا معنى يزيد على مطلق الوجود كان تركيبا، وجعلوا التركيب خمسة أنواع - وقد تقدمت - فرد عليهم وقال: "ومع هذا فإنهم يقولون في الباري تعالى: إنه مبدأ، وأول، وموجود، وجوهر، وواحد، وقديم، وباق،

(1) انظر: درء التعارض (1/280-281، 5/146-147) .

ص: 1103

وعالم، وعقل، وعاقل، ومعقول، وفاعل، وخالق، ومريد، وقادر، وحي، وعاشق، ومعشوق، ولذيذ، ومتلذذ، وجواد، وخير محض، فزعموا أن كل ذلك عبارة عن معنى واحد، لا كثرة فيه وهذا من العجائب" (1) .

وقال أيضاً: "وبم عرفتم استحالة الكثرة من هذا الوجه، وأنتم مخالفون من كافة المسلمين سوى المعتزلة، فما البرهان عليه؟ فإن قول القائل: الكثرة محالة في واجب الوجود، مع كون الذات الموصوفة واحدة، يرجع إلى أنه تستحيل كثرة الصفات، وفيه النزاع، وليست استحالة معلومة بالضرورة، فلا بد من البرهان"(2) . وانظر بقية كلام الغزالي، وتعليق شيخ الإسلام عليه (3) .

ولما ذكر الغزالي حجة الفلاسفة في نفي التركيب وأنهم قالوا: "إذا أثبتم ذاتا وصفة، وحلولا للصفة بالذات فهو تركيب، وكل تركيب يحتاج إلى مركب؛ ولذلك لم يجز أن يكون الأول حسما لأنه مركب" - قال الغزالي -: "قلنا: قول القائل: كل تركيب يحتاج إلى مركب، كقوله: كل موجود يحتاج إلى موجد - فيقال له: الأول موجود قديم، لا علة له ولا موجد، فكذلك يقال: هو موصوف قديم، العلة لذاته ولا صفاته، ولا لقيام صفته بذاته

" (4) ، وقد اعترض ابن رشد على كلام الغزالي في تهافت التهافت ونقله شيخ الإسلام ورد على ابن رشد وانتصر لأبي حامد في رده على الفلاسفة (5) ، ثم قال مخاطبا ابن رشد: "وهذه الطريق هي التي سلكها أبو حامد في مناظرته إخوانك، وهي طريق صحيحة، وقد تبين أن ما ذكره أبو حامد عن احتجاجهم بلفظ "المركب" جواب صحيح" (6) .

وهذه الحجة التي ردها الغزالي وهي أن المركب لا بد له من مركب هي حجة متأخرى الأشعرية على ما نفوه من الصفات والعلو.

(1) تهافت الفلاسفة (ص: 164) - ت دنيا. ط الرابعة، والنص في درء التعارض (3/390-391) .

(2)

تهافت الفلاسفة (ص: 172) ، ط الرابعة، وانظر درء التعارض (3/391) .

(3)

انظر: درء التعارض (3/392) وما بعدها.

(4)

تهافت الفلاسفة (ص: 176)، وانظر: درء التعارض (3/399) .

(5)

انظر: درء التعارض (3/399-437) ، وقارن بتهافت التهافت لابن رشد (2/516-519) .

(6)

درء التعارض (3/438) .

ص: 1104

ب كما أن الغزالي رد على الفلاسفة في مسألة الجسم، وبين أنه لا دليل لهم على نفيه (1) إلا بالاستدلال على حدوث الجسم، ثم إن الغزالي والأشعري وغيرها قد بينوا فساد ما احتجت به المعتزلة على حدوث الأجسام، والرازي أيضاً بين فساد هذا الدليل في المباحث الشرقية والمطالب العالية (2) ، وبذلك يتبين أنه لا دليل للفلاسفة على نفي الجسم مطلقاً.

يقول الغزالي في رده على الفلاسفة: "مسألة في تعجيزهم عن إقامة الدليل على أن الأول ليس بجسم، فنقول: هذا وإنما يستقيم لمن يرى أن الجسم حادث، من حيث إنه لا يخلو من الحوادث، وكل حادث فيفتقر إلى محدث، فأما أنتم إذا عقلتم جسما قديما، لا أول لوجوده، مع أنه لا يخلو من الحوادث، فلم يمتنع أ، يكون الأول جسما، إما الشمس وإما الفلك الأقصى، وإما غيره" ثم ذكر حجتهم وردها فقال: "فإن قيل: لأن الجسم لا يكون إلا مركبا منقسما إلى جزأين، بالكمية، وإلى الهيولي والصورة بالقسمة المعنوية، وإلى أوصاف يختص بها لا محالة حتى يباين سائر الأجسام وإلا فالأجسام متساوية في أنها أجسام، وواجب الوجود واحد لا يقبل القسمة بهذه الوجوه كلها.

قلنا: وقد أبطلنا هذا عليكم [أي في مسألة التركيب السابقة] وبينا أنه لا دليل لكم عليه، سوى أن المجتمع إذا افتقر بعض أجزائه إلى البعض كان معلولا، وقد تكلمنا عليه، وبينا أنه إذا لم يبعد تقدير موجود لا موجد (3) له، لم يبعد تقدير مركب لا مركب له، وتقدير موجودات لا موجد لها" (4) .

فالغزالي بين أنه لا دليل للفلاسفة على نفي الجسم، ثم هو وأصحابه بينوا أن دليلهم المشهور على نفي الجسم دليل فاسد.

(1) بل إن الجويني عقد فصلا في الشامل (ص: 414) مشتملا على ذكر عجز المعتزلة عن نصب الأدلة على استحالة كون القديم جسما. وكأن نفيه عندهم من المفاخر!!

(2)

انظر: درء التعارض (4/289-290) .

(3)

في درء التعارض [موجود] وهو خطأ مطبعي.

(4)

تهافت الفلاسفة (ص: 193) ، وقارن بالدرء (4/284-285)، انظر أيضاً: درء التعارض (10/237) ، ومجموع الفتاوى (5/290) .

ص: 1105

ج ومن الذين تناقضوا في مسألة "التركيب" الآمدي، وبيان ذلك أن الآمدي والأشاعرة جعلوا إثبات واجب الوجود موقوفا على إبطال التسلسل، فرد عليهم الفلاسفة بأن الممكن لا بد له من مرجح مؤثر، ثم إما أن يتسلسل الأمر حتى يكون لكل مرجح ممكن، فتتسلسل العلل والمعلومات الممكنة، أو ينتهي الأمر إلى واجب بنفسه. وقالت الفلاسفة: لم لا يجوز أن يكون التسلسل جائزاً؟ فلما رد عليهم الأشاعرة وغيرهم وجميع الناس بأن التسلسل باطل ضرورة انتهاء الحوادث إلى واجب بنفسه، قالت الفلاسفة - وهو من أعظم أسولتهم: لم لا يكون المجموع [أي مجموع الحوادث] واجباً بأجزائه المتسلسلة، وكل منها واجب بالآخر؟ ومضمونه: وجوب وجود أمور ممكنة بنفسها، ليس فيها ما هو موجود واجب بنفسه لكن كل منها معلول للآخر، والمجموع معلول بالأجزاء (1) .

وهذا السؤال ذكره الآمدي، وذكر أنه لا يستطيع أن يجيب عنه بل قال عنه: وهذا إشكال مشكل، وربما يكون عند غيري حله (2) .

هذا في واجب الوجود، أما في إثبات العلو والصفات فإن الآمدي يرى أن هذا يلزم منه التركيب والمركب يستلزم أجزاءه. ولم يقل كقوله هناك لم لا يكون المجموع واجباً بنفسه؟

يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا ومتعجبا منه: "وهؤلاء قلبوا الحقائق العقلية فقالوا: إذا اجتمعت واجبات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت ممكنة وإذا اجتمعت ممكنات بأنفسها صارت واجبة. فإذا تكلموا في نفي الصفات الواجبة لله، جعلوا كون المركب يستلزم أجزاءه موجبا لامتناع المركب الذي جعلوه مانعا من العلو والتجسيم ومن ثبوت الصفات، ولا يوردون على أنفسهم، ما أوردوه في إثبات واجب الوجود. وإيراده هنا أولى لأن فيه مطابقة لسائر أدلة العقل، مع تصديق ما جاءت به الرسل، وما في ذلك من إثبات صفات الكمال لله تعالى، بل وإثبات حقيقته التي

(1) انظر: درء التعارض (4/232-233) .

(2)

انظر: المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة - وانظر أيضا: درء التعارض (3/95، 147، 175، 272) .

ص: 1106

لا يكون موجودا إلا بها، فكان يمكنهم أن يقولوا: لم لا يجوز أن يكون المجموع الواجب، أو المركب الواجب، أو الجملة الواجبة، واجبة بوجوب كل جزء من أجزائها، التي هي واجبة بنفسها لا تقبل العدم؟. وكان هذا خيراً من أن يقولوا: لم لا يجوز أن يكون المجموع، الذي كل من أجزائه ممكن بنفسه هو واجبا بنفسه، أو واجبا بأجزائه؟.

وهذا الآمدى - مع أنه من أفضل من تكلم من أبناء جنسه في هذه الأمور، وأعرفهم بالكلام والفلسفة - اضطرب وعجز عن الجواب عن هذه الشبهة الداحضة القادحة في إثبات واجب الوجود، وهو دائما يحتج بنظيرها الذي هو أضعف منها على نفي العلو وغيره من الأمور الثابتة بالشرع والعقل، ويقول: إن ذلك يستلزم التجسيم، وإن المخالفين في الجسم جهال.

ولو أعطى النظر حقه لعلم إن الجهل المركب، فضلا عن البسيط أجدر بمن سلنك مثل تلك الطريق" (1) .

د كما أن الآمدي تناقض مرة أخرى في مسألة الوجود والماهية، حيث "جوز أن يكون الوجود الواجب مفتقرا إلى الماهية، وذكر أن الواجب بنفسه هو الذي لا يفتقر إلى المؤثر، ليس هو الذي لا يفتقر إلى الغير، وإن كونه ممكنا - بمعنى افتقاره إلى الغير لا إلى المؤثر - هو الإمكان الذي يوصف به الوجود الواجب المفتقر إلى الماهية".

قال شيخ الإسلام: "وهذا الذي قاله هو بعينه يقال له فيما ذكره هنا [أي في نفي الجسم بناء على نفي التركيب] حيث قال: "إن المجموع مفتقر إلى كل أجزائه، والمفتقر إلى الغي لا يكون واجبا بنفسه لأنه ممكن" (2) .

وكذلك تناقض في حجته الثانية على التركيب، وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام (3) ، وكان من تناقضه أيضاً أنه في مسألة دليل حدوث العالم الذي

(1) انظر: درء التعارض (4/233-235) .

(2)

انظر: المصدر السابق (4/239) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (4/245-246) .

ص: 1107

احتج به أصحابه الأشاعرة وهو مبني على أن العالم ممكن الوجود بذاته، وكل ممكن بذاته فهو محدث، وتقرير الإمكان أن أجسام العالم مؤلفه مركبة، وكل ما كان مركبا مؤلفا فهو مفتقر إلى أجزائه، وكل مفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بذاته. وبعد أن ساق الآمدي هذا الدليل ضعفه وقال:"وقولهم: إن العالم مركب، مسلم، ولكن ما المانع أن تكون أجزاؤه واجبة؟ وما ذكروه من الدلالة فقد بينا ضعفها في مسألة الوحدانية"(1) . قال شيخ الإسلام معلقا: "فهنا لما احتجوا بهذه الدلالة على حدوث العالم ذكر ضعفها، وأحال على ما ذكره في الوحدانية، فكيف يحتج بها بعينها في مثل هذا المطلوب بعينه، وهو كون الأجسام ممكنة لأنها مركبة، ويحيل على ما ذكره في التوحيد.

ومعلوم أنه لو أبطلها حيث تعارض نصوص الكتاب والسنة، واعتمد عليها حيث لا تناقض ذلك، لكان - مع مافيه من التناقض - أقرب إلى العقل والدين من أن يحتج بها في نفي لوازم نصوص الكتاب والسنة، ويبطلها حيث لا تخالف نصوص الأنبياء" (2) .

وخلاصة تناقض الآمدي هنا: أنه في مسألة إثبات أن الله واحد احتج الفلاسفة بأنه لو كان هناك الهان للزم التركيب - كما ذكروا في سياق دليلهم (3) ، فاعترض عليهم الآمدي بأن هذا ضعيف محتجا عليهم بأنه إذا كان إثبات الصفات لواجب الوجود لا يلزم منه التركيب، لأن العذر فيهما واحد (4) .

يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا - بأسى بالغ -: "ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق، وتفويتها إذا نصر بها باطل: أن حجة الفلاسفة على التوحيد قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد - والمدلول حق لا ريب فيه، وإن قدر ضعف الحجة.

(1) انظر: المصدر السابق (4/247-248) .

(2)

انظر: المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

(3)

انظر نص دليلهم في درء التعارض (4/248-250) .

(4)

انظر: المصدر السابق (4/250-251) .

ص: 1108

ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علوا الله على خلقه، بل ما يستلزم تعطيل ذاته، فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل، ويبطلها إذا احتج على التوحيد" (1) .

هـ - والفخر الرازي رد على الفلاسفة في مسألة التركيب، وبين أنه حتى قولهم بالصور العقلية فيه تركيب. وقد أيده شيخ الإسلام مع بيانه أن الرازي لم يجب عن شبهة التركيب وبيان فسادها (2) .

ومن خلال الأمثلة السابقة يتبين كيف أن مسألة التجسيم أو التركيب عند هؤلاء ليست من الأمور العقلية الثابتة والمستقرة الواضحة - ولذلك يرد بعضهم على بعض، بل يتناقض الواحد منهم في كلامه - وإنما هي شبه تلقفوها عن أسلافهم من الفلاسفة والمعتزلة، وصاروا يحتجون بها على ما يريدون نفيه من العلو أو الصفات.

3-

أما حجج الأشاعرة على نفي الجسم: فإن شيخ الإسلام قد بين أولا ما في ذلك من الإجمال والاشتباه، وأن النزاع بين مثبتيه ونفاته من ناحية اللفظ، ومن ناحية المعنى.

أما من ناحية اللفظ: فقد رد شيخ الإسلام على الآمدي وغيره حين منعوا من إطلاق لفظ الجسم والجواهر، مع أنهم يطلقون أيضاً لفظ: قديم، وواجب الوجود، وذات، وغيرها مما لم يرد به الشرع، فكما أنه من نازع الأشعري في إثبات قدم الباري أو وجوب وجوده، قال رادا عليه مخبرا عما يستحقه: إن الله قديم واجب الوجود، فكذلك بعض مثبتة الصفات، إذا نفي أحد الصفات عن الله ضمن نفيه للجسم أو الجوهر فإنه يقول رادا عليه: إنه جسم أو جوهر.

وهذا مثل لفظ قديم، وواجب الوجود، وذات. سواء بسواء.

(1) انظر: درء التعارض (4/252) .

(2)

انظر: شرح الأصفهانية (ص: 70-71) - ت السعوي، وانظر: درء التعارض (6/295) .

ص: 1109

وإذا كان الأمر كذلك كان الأولى أن يكون الفيصل في ذلك التزام ما أورده الشارع في الصفات، والسكوت عما سكت عنه، والتفريق في الأسماء الحسنى بينا ما يخبر عنه، وما يدعي به (1) .

وأما من ناحية المعنى: فإن النزاع بين مثبتة الجوهر والجسم، ونفاته يقع في ثلاثة أشياء:

الأولى: في تماثل الأجسام والجواهر، على قولين. فمن قال إنها متماثلة، قال كل من قال بها قال بالتجسيم. ومن قال إنها غير متماثلة لم يلزمه ذلك.

فالذين ألزموا من قال بالتجسيم بأنهم مشبهة بناء على اعتقادهم أن الأجسام متماثلة. لكن هذا لا يلزم أولئك لأنهم يقولون إنها غير متماثلة، ولا يجوز إلزامهم بما لم يلتزموه.

والثاني: أنهم تنازعوا في مسمى الجسم - كما سبق - وكل من فسر الجسم بتفسير - ككونه مركبا من المادة والصورة، أو من الجواهر المفردة - ألزم من قال بالجسم بالتفسير الذي قصده هو، لكن خصمه ينفي هذا المعنى الذي فسر به الجسم كما ينفي اللزوم الذي ألزمه به. بل قد يكون في المجسمة من يقول: إنه جسم مركب من الجواهر المنفردة، ويقول لا دليل على نفي ذلك ولا على امتناعه.

الثالث: وهناك نزاع في أمور أخرى، مثل كونه تعالى فوق العالم، أو كونه ذا قدر، أو كونه متصفا بصفات قائمة به. فنفاتها يقولون لا تقوم هذه إلا بجسم، والمعارضون لهم من المثبتة ينازعونهم في انتفاء هذا المعنى الذي سموه جسما، وهم إما أن يقولوا: لا يلزم منها التجسيم، أو يقولوا بها وإن لزم التجسيم (2) .

(1) انظر: درء التعارض (4/139-140) .

(2)

انظر: المصدر السابق (4/147-149) .

ص: 1110

وقد ذكر شيخ الإسلام أدلة الآمدي الثانية على نفي الجسم والجوهر - أربعة للجسم وأربعة للجوهر - وناقشها كلها وبين ما فيها من الفساد (1) . وذكر في الوجه الرابع من الأوجه المختصة بالجسم ما يتعلق بذلك من التركيب، وذكر وجهين في ذلك ناقشهما أيضاً شيخ الإسلام (2) ، مبينا أن استلزام الذات للوازمها من الصفات لازم لجميع الطوائف، متفلسفة، ومعتزلة وأشاعرة، سواء سمى ذلك تركيباً أو لم يسم، أو سمي افتقاراً أو لم يسم (3) .

4-

ومن حجج نفاة التركيب المشهورة: أن المركب مفتقر إلى جزئه، وهو محال على الله، وقد بين شيخ الإسلام ما في لفظ "الافتقار" من الإجمال فقال:"ولفظ الافتقار هنا. أن أريد به افتقار المعلول إلى علته كان باطلا، وإن أريد به افتقار المشروط إلى شرطه - فهذا تلازم من الجانبين، وليس ذلك ممتنعا. والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه، فأما ما كان صفة لازمة لذاته، وهو داخل في مسمى اسمه فقول القائل: إنه مفتقر إليها، كقوله: إنه مفتقر إلى نفسه، فإن القائل إذا قال: دعوت الله، أو عبدت الله، كان اسم "الله" متناولا للذات المتصفة بصفاتها، ليس اسم "الله" اسما للذات مجردة من صفاتها اللازمة لها.

وحقيقة ذلك أن لا تكون نفسه إلا بنفسه، ولا تكون ذات إلا بصفاته، ولا تكون نفسه إلا بما هو داخل في مسمى اسمها، وهذا حق. ولكن قول القائل: إن هذا افتقار إلى غيره، تلبيس، فإن ذلك يشرع أنه مفتقر إلى ما هو منفصل عنه، وهذا باطل (4) ولفظ الافتقار مثل لفظ الغير، ومثل لفظ الانقسام والجزء والتحيز وغيرها كلها ألفاظ مجملة، محتملة للحق والباطل. وتسمية الحق باسم الباطل لا ينبغي أن يؤدي إلى ترك الحق، بل لا بد من الاستفصال (5) .

(1) انظر: درء التعارض (4/149-231) .

(2)

انظر: المصدر السابق (4/219) وما بعدها، (4/245) وما بعدها.

(3)

انظر: المصدر نفسه (4/221-222) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (1/282) .

(5)

انظر: المصدر نفسه (6/296-299) .

ص: 1111

5-

والذين يدعون أن في إثبات العلو أو الوجد واليدين تركيبا، يرد عليهم بأنه يلزمهم التركيب فيما أثبتوه من الصفات كالحياة والعلم، يقول شيخ الإسلام: "فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة، ولم يثبت ما هو فينا أبعاض كاليد والقدم: هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم.

قيل له: وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي، كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي، فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا، أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها، قيل له: وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا، أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها.

فإن قيل: هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء. قيل له: وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.

فإن قال: العرض مالا يبقى وصفات الرب باقية.

قيل: والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة، وذلك في حق الله محال، فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا، والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه.

فإن قال: ذلك تجسيم، والتجسيم منتف. قيل: وهذا تجسيم، والتجسيم منتف".

وهذا منهج - في الإلزام - قوي، كثيرا ما يستخدمه شيخ الإسلام مع نفاة بعض الصفات خاصة.

6-

ومما سبق يتبين أن أدلة هؤلاء على نفي التجسيم والتركيب - وإدخالهم في مسمى ذلك علو الله وصفاته، أو بعضها - هي أدلة عقلية فاسدة، ومن أظهر الأدلة على فسادها طعنهم فيها، وطعن بعضهم في أدلة بعض.

ويكفي في بيان فسادها مخالفتها لنصوص الكتاب والسنة التي دلت وتواترت على إثبات علو الله وصفاته اللائقة به، ولكن هؤلاء الأشاعرة

ص: 1112

- لخوضهم في علوم الفلسفة والكلام وثقتهم فيها - ظنوا أن مثل هذه الشبه الباهتة الهزيلة صحيحة، فقدموها على نصوص الوحي الواضحة.

وإذا كان هؤلاء المتكلمون قد استدلوا على حدوث الأجسام بقصة الخليل، وقوله:{لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: من الآية76) - وقد سبق الرد على استدلالهم بها بالتفصيل - فإن منهم من احتج أيضاً على نفي التجسيم - وأنه لازم للاستواء على العرش - بقوله تعالى في قصة موسى والسامري حيث قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (لأعراف: من الآية148)، وقالوا في احتجاجهم بها: ذم الله من اتخذ إلها جسدا، والجسد هو الجسم، فيكون الله قد ذم من اتخذ إلها هو جسم، وإثبات هذه الصفات - كالاستواء وغيره - يستلزم أن يكون جسما، وهذا منتف بهذا الدليل الشرعي (1) .

وقد رد شيخ الإسلام على هذا الاستدلال من عشرة أوجه، منها:

أأن هذا إنما دل على نفي أن يكون جسدا، والجسم في اصطلاح نفاة الصفات أعم من الجسد. وذكر شيخ الإسلام تفصيلات لغوية، وبين أنه لا دليل لهم في ذلك، وهو على كل تقدير من الألفاظ المجملة ولا بد من الاستفصال فيها.

ب أن الله منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات، من بني آدم أو من الحيوانات أو غيرها، والله تعالى ذكر أن العجل كان جسدا بمعنى أنه لا حياة فيه - وقد قيل إنه خار خورة - والمقصود أنه كان مسلوب الحياة والحركة، وهذا أشد في النقص. ولو أخرج لهم عجلا كسائر العجول، أو آدميا أو فرسا حيا لكان أيضا له بدن وجسم، ولكانت الفتنة به أشد.

ت أن الله تعالى قال: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} (لأعراف: من الآية148) "فلم يذكر فيما عابه كونه ذا جسد، ولكن ذكر فيما عابه به أنه لا يكلمهم

(1) انظر: مجموع الفتاوى (5/213) .

ص: 1113

ولا يهديهم سبيلا، ولو كان مجرد كونه ذا بدن عيبا ونقصا لذكر ذلك، فعلم أن الآية تدل علىنقص حجة من يحتج بها على أن كون الشيء ذا بدن عيبا ونقصا. وهذه الحجة تطير احتجاجهم بالأقوال فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم" (1) .

ث أن الله ذكر أن العجل كان جسدا، وأن له خوارا، والخوار هو الصوت، وخوار الثور صوته، فلو كان الصوت لبيان نقصه لذكره مع الجسد، ولبطل الاستدلال بآخر الآية وهي قوله {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} ، فإن تكليمه لو كلمهم لكان بصوت يسمعونه.

فعلم أن التصويت لم يكن صفة نقص فكذلك ذكر الجسد. فصارت الآية دالة على نقيض قولهم. وهذا واضح.

ج "أن الله تعالى ذكر عن الخليل - صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم: من الآية42)، وقال تعالى:{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (الشعراء: من الآية 72-74) فاحتج على نفي إلهيتها بكونها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر، مع كون كل منهما له بدن وجسم، سواء كان حجراً أو غيره.

فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافياً لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، بل إنما احتجوا بمثل ما احتج الله به من نفي صفات الكمال عنها: كالتكلم والقدرة والحركة وغير ذلك (2) ".

و"أنه إذا كان كل جسم جسدا، وكل ما عبد من دون الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب والأوثان وغير ذلك: أجساما، وهي أجساد فإن كان الله ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية: لزم أن يطرد هذا الدليل

(1) انظر: مجموع الفتاوى (5/220) .

(2)

انظر: المصدر السابق (5/222) .

ص: 1114

في جميع المعبودات. ومعلوم أ، الله لم يذكر هذا في غير العجل، [إنما](1) ذكر كونه جسدا لبيان سبب إفتتانهم به، لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم، بل احتج عليهم بكون لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا" (2) .

ي أن أدلة الكتاب والسنة على إثبات العلو والاستواء أكثر من أن تحصر، ودلالتها على ذلك جلية بينة مفهومة، وحينئذ فيقال:

- إن كان إثبات هذا يستلزم أن الله جسم وجسد، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر من قصة العجل، لأن ليس فيها أن كونه جسداً هو النقص الذي عابه الله وجعله مانعا من إلهيته.

- وإن كانت إثبات الاستواء والعلو لا يستلزم أن يكون الله جسدا أو جسما، بطل أصل استدلالهم على أن إثباتهم يقتضي التجسيم (3) .

وبهذه الأوجه وغيرها يتبين بطلان احتجاجهم بهذه الآية.

الدليل الثالث: دليل الاختصاص:

وهذا الأدلة العقلية للأشاعرة على نفي العلو وغيره من الصفات، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذا الدليل يمكن ارجاعه إلى الدليل الأول الذي هو دليل الأعراض (4) .

وخلاف هذا الدليل - كما سبق - أن كل جسم فهو متناه، وكل متناه فله شكل معين ومقدار معين، وحيز معين، قالوا وكل ماله شكل ومقدار وحيز معين فلا بد له من مخصص يخصصه به. وشرحوا ذلك بأن كل جسم يعلم بالضرورة أنه لا يجوز أن يكون على مقدار أكبر أو أصغر مما هو عليه، أو شكل غير شكله، أو حير غير حيزه إما متيامنا عنه أو متياسرا. وإذا كان كذلك

(1) في مجموع الفتاوى [إنه] ولعل الصواب ما أثبت.

(2)

مجموع الفتاوى (5/223) .

(3)

انظر عما سبق من الأوجه وغيرها، مجموع الفتاوى (5/213-225) .

(4)

انظر: الدرء (7/141) .

ص: 1115

فلا بد له من مخصص يخصصه بما يخصص به. ثم قالوا: كل مفتقر إلى المخصص فهو محدث وبيان ذلك أن المخصص لا بد أن يكون فاعلا مختارا، وأن يكون ما يخصصه حادثا (1) .

وغرضهم من هذا الدليل أن يقولوا: إن اختصاص الله تعالى بجهة العلو، والاستواء، وأنه مباين للعالم، يفتقر إلى مخصص، وهو محال على الله.

وقد رد عليهم شيخ الإسلام من خلال ما يلي:

1-

أن الآمدي نفسه - الذي أورد هذا الدليل - قد ضعفه فقال: "وهذا المسلك ضعيف أيضاً، إذ لقائل أن يقول: المقدمة الأولى وإن كانت مسلمة غير أن المقدمة الثانية وهي أن كل مفتقر إلى المخصص محدث، ممنوعة"(2) واحتج بجواز أ، تكون الصفات متعاقبة على الجواهر والأجسام إلى غير النهاية، وقد علق شيخ الإسلام على هذا بأن هذا المسلك أضعف من مسلك الحركة والسكون، لأن هذا يفتقر إلى ما يفتقر إليه ذاك من غير عكس، ثم إن كليهما مفتقر إلى بيان امتناع حوادث متعاقبة دائمة، وقد سبق بيان ذلك في مسألة حوادث لا أول لها (3) .

2-

أن قولهم لا بد له من قدر، أكثر العقلاء سلموا به، أما قولهم لا بد له من اجتمع وافتراق فهو مبني على مسألة الجوهر الفرد، وأكثر العقلاء - ومنهم كثير من الأشاعرة - ينكرونه.

ثم بعد ذلك يقال في مسألة "القدر" ما يقال في مسألة الصفات، لأن القدر صفة من صفات ذي القدر، كلونه وحياته وقدرته وسمعه وبصره وغيرها، "فإذا قال القائل: كل ذي قدر يمكن أن يكون قدره على خلاف ما هو عليه، كان بمنزلة أن يقول: كل موصوف يمكن أن يكون موصوفا بخلاف صفته، فإذا عرضنا على عقولنا ما نعلمه من الموجودات التي لها أقدار وصفات، كان تجويزنا لكونها على خلاف أقدارها كتجويزنا هلا أن تكون عل خلاف صفاتها،

(1) انظر: درء التعارض (3/351-354) .

(2)

انظر: المصدر السابق (3/354) ، وانظر أيضا (4/269) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (3/354-355) .

ص: 1116

بل القدر من الصفات" (1) .

وهذه مسألة واضحة، لأن كل موجود لا بد له من قدر وصفة، فما يقال في أحدهما يقال في الآخر. والأشاعرة الذين فرقوا بينهما لأجل أن القدر يلزم منه نوع تجسيم إنما هذا تصور منهم، وإلا فلا فرق بينه وبين الصفة، فلو سلمت حجتهم في القدر لسلمت حجة الفلاسفة والمعتزلة في الصفات وأنه يلزم منها التجسيم.

ولهذا لم يفرق الرازي في إثبات الصانع بين القدر وغيره (2) .

3-

أن قول القائل: كل ذي قدر يمكن أن يكون أكبر أو أصغر، أو أن كل ذي وصف يمكن أن يكون بخلاف ذلك الوصف، ونحو ذلك. يقال له: أتريد الإمكان الذهني، أو الإمكان الخارجي؟ والفرق بينهما أن الإمكان الذهني معناه عدم العلم بالامتناع، والإمكان الخارجي معناه: العلم بالإمكان في الخارج.

"فإن قال: أريد به الإمكان الذهني، لم ينفعه ذلك، لأن غايته عدم العلم بامتناع كون تلك الصفة واجبة.. وإن قال: أريد الإمكان الخارجي، وهو أني أعلم أ، كل موصوف بصفة، أو كل ذي قدر يمكن أن يكون بخلاف ذلك، كان مجازفا في هذا الكلام؛ لأن هذه قضية كليلة تتناول من الأفراد ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وليس معه دليل يدل على إمكان ذلك في الخارج يتناول جميع هذه الأفراد. غايته أنه رأى بعض الموصوفات والمقدرات يقبل خلاف ما هو عليه، فإذا قاس الغائب على الشاهد كان هذا من أفسد القياس لاختلاف الحقائق.

ولأن هذا ينعكس عليه فيقال له: لم نر إلا ماله صفة وقدر، فيقاس الغائب على الشاهد. ويقال: كل قائم بنفسه فله صفة وقدر، وهذا إلى المعقول أقرب من قياسهم، فإن هذا لا يعلم انتقاضه، وأما قول القائل: كل ماله صفة وقد رفيقبل خلاف ذلك فلا يعلم اطراده، فأين القياس الذي لا يعلم انتقاضه من القياس الذي لا يعلم اطراده؟.

(1) انظر: درء التعارض (3/356) .

(2)

انظر: المصدر السابق (3/358) .

ص: 1117

والناس متفقون على أنهم لم يروا موجودا إلا له قدر وصفة، وليسوا متفقين على أن كل ما رأوه يمكن وجوده على خلاف صفاته وقدره" (1) .

ويلاحظ هنا أن قود مقالتهم هذه في إنكار القدر يؤدي إما إلى إنكار الخالق، أو إنكار أي صفة له، وملاحدة الصوفية الذين قالوا بوحدة الوجود إنما قالوا بذلك لما رأوا تناقض هؤلاء، مثل قولهم: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وإنكار علو الله وبينونته عن خلقه.

وقولهم في "القدر" معارض بالحقائق في نفسها وصفاتها اللازمة لها، "فإن يمكن أ، يقال: كل موجود له حقيقة تخصه يمتاز بها عن غيره، فاختصاص ذلك الموجود بتلك الحقيقة دون غيرها من الحقائق يفتقر إلى مخصص. ويقال أيضا: كل موجود له صفات لازمة تخصه فاختصاصه بتلك الصفات دون غيرها يفتقر إلى مخصص"(2) .

4-

أن قولهم هذا يلزم في إثبات واجب الوجود، لأنه إذا كان من المعلوم بضرورة العقل واتفاق العقلاء أن هناك:

- واجب الوجود بنفسه، قديم أزلي.

- وممكن الوجود، محدث.

فإنه كان كلاهما موجودا، وواجب الوجود يختص بما لا يشركه فيه غيره، بل له ذات وحقيقة تخصه لا يشركه فيها غيره، فعلى قاعدة هؤلاء أن كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين له - يلزم أن يقال هذا في واجب الوجود، ويقال: اختصاص واجب الوجود بما اختص به لا بد له من مخصص. فيلزم تعطيل وجود الخالق وأن تكون الموجودات كلها ممكنة. وهذا ظاهر الفساد ضرورة (3) .

"وبالجملة اختصاص الشيء بما هو عليه من خصائصه، كاختصاصه بنفسه ووجوده، وصفاته كلها، لازمها وعارضها، فقول القائل: كل مختص

(1) انظر: درء التعارض (3/359-360) .

(2)

انظر: المصدر الاسبق (3/360) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (3/360-364) .

ص: 1118

لا بد له من مخصص مباين له، كقوله: كل موجود فلا بد له من موجد مباين له، وكل حقيقة فلا بد لها من محق مباين لها، وكل قائم بنفسه فلا بد له من مقوم مباين، وأمثال ذلك" (1) .

5-

إن هؤلاء متناقضون، لأنهم في مسألة وجود المحدثات والكائنات بعد أن لم توجد، إذا قيل لهم: لم لم توجد قبل وقت وجودها، أو لم لم تكن أكبر أو أصغر مما هي عليه، أجابوا وقالوا: القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مخصص. وحينئذ فيقال لهم: "هذا مع بطلانه يوجب تناقضكم؛ فإنكم قلتم: لا بد للتخصيص من مخصص، ثم قلتم: كل الممكنات مخصصة ووجدت بدون مخصص، بل رجح أحد المتماثلين على الآخر من غير مخصص.

وإذا جوزتم في الممكنات وجود المخصصات بدون مخصص، مع أن نسبة القادرة إلهيا نسبة واحدة، فالموجود بنفسه أولى أن يستغنى عن مخصص مما اختص به من ذاته وصفاته

" (2) .

وهذا تناقض ومحل إلزام لا محيد لهم عنه، فإن النصوص إذا وردت بإثبات صفاته وأنه على العرش استوى، وأنه في جهة العلو بائن من خلقه، وجب إثبات ذلك، فإذا اعترضوا بأن هذا يلزم منه أن يكون له قدر، واختصاصه بهذا القدر لا بد له من مخصص، كان هذا متناقضا مع قولهم في وجود المخلوقات وأنها لم توجد أكبر أو أصغر مما هي عليه بدون مخصص.

6-

ومن أعظم تناقض الأشاعرة المنكرين لعلو الله تعالى وصفاته الفعلية القائمة به في هذا الباب، تناقضهم في مسألة الصفات حين حدوده بسبع - أو ثمان مع صفة البقاء لمن قال بها - فإنه يقال لهم - كما يقول الشهرستاني نفسه - "بم تنكرون على من يقول: إن القادر الذي اختص به نهاية وحد، واجب له لذاته، فلا بد يحتج إلى مخصص. والمقادير التي هي في الخلق إنما احتاجت إلى مقدر لأنها جائزة، وذلك لأن الجواز في الجائزات إنما يعرف بتقدير القدرة،

(1) انظر: درء التعارض (3/365) .

(2)

انظر: المصدر السابق (3/370) ، وأيضا (4/269-272) .

ص: 1119

فلما كانت المقادير الخلقية مقدورة عرف جوازها، واحتاج الجواز إلى مرجح لها، فإذا لم يكن فوق الباري سبحانه قادر عليه لم تكن إضافة الجواز وإثبات الاحتياج له. ألسنا اتفقنا على أن الصفات ثمان؟ أفهي واجبة له على هذا العدد، أم جائز أن توجد صفة أخرى؟

فإن قلتم: يجب الانحصار في هذا العدد، كذلك نقول: الاختصاص بالحد المذكور واجب له، إذ لا فرق بين مقدار الصفات عددا وبين مقدار في الذات حدا. فإن قلتم جائز أن توجد صفة أخرى، فما الموجب للإنحصار في هذا الحد والعدد، فيحتاج إلى مخصص حاصر" (1) .

وقد أجاب الشهرستاني عن ذلك بذكر الخلاف في مسألة انحصار الصفات بثمان هل تسمى بالعدد أم لا، وبمسألة أخص وصف الإله، وكل ذلك ليس فيه جواب عن الإلزام والمعارضة التي أوردها لأن "اختصاص الصفات بعدد من الأعداد كإختصاص الذات بقدر من الأقدار، وإذا كان المسمى لا يسمى ذلك عددا، فمنازعه لا يسمى الآخر قدرا، وليس الكلام في الإطلاقات اللفظية، بل في المعاني العقلية

" (2) ثم إنه على كل قول من الأقوال فيما زاد على الثمانية (3) "فالمعارضة بالصفات ثاتبة على كل قول من الأقوال الثلاثة؛ إذ لا بد فيها من اختصاص، فإن كان كل مختص يفتقر إلى مخصص مباين، لزم افتقار صفات الله تعالى إلى مباين له" (4) .

7-

والآمدي ذكر الدليل الذي ذكره الشهرستاني وبين ضعفه فقال في مسألة العلو والرد على مثبتيه: "وقد سلك بعض الأصحاب في الرد على هؤلاء طريقا شاملا فقال: لو كان الباري مقدار بقدر، متصورا بصورة، متناهيا بحد ونهاية، مختصا بجهة، متغيرا بصفة حادثة في ذاته، لكان محدثا؛ إذ العقل الصريح

(1) نهاية الأقدام (ص:106) ، وقارن بدرء التعارض (3/373-374) .

(2)

انظر: درء التعارض (3/378) .

(3)

وهي ثلاثة: إثبات ما زاد كالرضى والغضب واليدين والوجه والاستواء وغيرهما، والثاني نفي هذه الصفات والاقتصار على الثمان، وقول ثالث بالوقف. انظر: درء التعارض (3/380-383) .

(4)

انظر: درء التعارض (3/385) .

ص: 1120