المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ٣

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثالث: موقفه في الرد عليهم تفصيلا

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: في توحيد الربوبية والألوهية

- ‌أولا: أول واجب على المكلف:

- ‌ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل:

- ‌ثالثا: توحيد الربوبية:

- ‌المبحث الثاني: في الأسماء والصفات

- ‌مقدمة:

- ‌أولا: أسماء الله تعالى:

- ‌ثانيا: الصفات التي أثبتها الأشاعرة:

- ‌ثالثاً: الصفات التي نفوها أو أولوها:

- ‌المسألة الأولى: حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، ومناقشتها:

- ‌أولاً: أدلتهم وحججهم العقلية:

- ‌ثانياً: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌ثانياً: مناقشة موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌الفرع الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه

- ‌الفرع الثاني: التأويل والمجاز:

- ‌الفرع الثالث: هل مذهب السلف هو التفويض

- ‌المسألة الثانية: القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات:

- ‌المسألة الثالثة: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية:

- ‌المسألة الرابعة: الصفات الخبرية:

- ‌المسألة الخامسة: العلو:

- ‌المسألة السادسة: كلام الله:

- ‌المبحث الثالث: في القضاء والقدر

- ‌مقدمة:

- ‌الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:

- ‌الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب

- ‌المبحث الرابع: الإيمان

- ‌أولاً: الأقوال في الإيمان

- ‌ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان:

- ‌ثالثاً: ردود شي الإسلام على جمهور الأشاعرة في الإيمان:

- ‌المسألة الأولى: هل الإيمان التصدق فقط

- ‌المسألة الثانية: أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان والرد على المرجئة:

- ‌المسألة الثانية: الاستثناء في الإيمان:

- ‌المبحث الخامس: مسائل متفرقة

- ‌أولاً: الرؤية:

- ‌ثانياً: النبوات والمعجزات:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب

‌الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب

":

هذه المسألة هي لب الخلاف في القدر، ولأجلها صار الناس فيه فرقا وأحزابا، ولكي تتضح الصورة، وتحديد موضع الخلاف، ينبغي أن يلاحظ ما يلي:

1-

القدر له أربع مراتب هي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فأما مرتبتا العلم والكتابة فلم ينكرهما إلا غلاة القدرية الذين يقولون إن الأمر أنف، أي لم يسبق الله فيه علم، وقد تبرأ منهم الصحابة رضي الله عنه.

أما بقية الطوائف فهم مقرون بهاتين المرتبتين.

2-

أما مرتبنا: المشيئة والإرادة، والخلق، فقد وقع فيهما الخلاف على قولين:

أحدهما: إنكار هاتين المرتبتين، وهذا مذهب المعتزلة - ومن وافقهم - الذين يقولون إن الله لا يريد الكفر والمعاصي، ويقولون إن الله لا يخلق أفعال العباد، وإنما هم الخالقون لأفعالهم.

والثاني: الإقرار بهاتين المرتبتين. بإثبات الإرادة والمشيئة الشاملة، والقول بأن الله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد. وهذا قول الجمهور من أهل السنة، والجهمية، والأشاعرة والماتريدية ومن وافق هؤلاء.

ولكن أفعال العباد لها متعلقان:

أحدهما: بالخالق تعالى، فهذا قد اتفق فيه أهل السنة والأشاعرة على أن الله خالق أفعال العباد.

والثاني: بالعبد، وله له قدرة أو لا، وهل قدرته مؤثرة أو غير مؤثرة. وهذه وقع فيها الخلاف بين الطوائف إلى حد كبير.

وهذه القدرة التي بها يتمكن العبد من الفعل، هي التي تسمى بالاستطاعة.

ولتوضيح هذه المسألة - مسألة علاقة أفعال العباد بهم - لا بد من عرض الخلاف من خلال أمرين:

ص: 1330

أحدهما: الاستطاعة أو القدرة، وهل تكون قبل الفعل أو بعده.

والثاني: هل هذه القدرة موجودة أو معدومة، وهل هي مستقلة أو غير مستقلة، وهل إذا كانت غير مستقلة تكون مؤثرة أو غير مؤثرة.

أولاً: الاستطاعة:

الاستطاعة، والقدرة، والقوة، والوسع، والطاقة، كلها متقاربة المعنى. وقد عرف الجرجاني الاستطاعة بأنها:"هي عرض يخلقه الله في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية"(1)، وهي في عرف المتكلمين: عبارة عن صفة بها يتمكن الحيوان من الفعل والترك (2) .

وقد وقع الخلاف فيها على أقوال:

1-

قول الجهمية، وهو أنه ليس للعبد أي استطاعة، لا قبل الفعل ولا معه، بل له قدرة شكلية غير مؤثرة في الفعل أصلا، وتسمى فعلا له تجوزا (3) .

2-

قول المعتزلة ومن وافقهم: وهو أن الله تعالى قد مكن الإنسان من الاستطاعة، وهذه الاستطاعة قبل الفعل، وهي قدرة عليه وعلى ضده، وهي غير موجبة للفعل (4) .

3-

قول الأشاعرة ومن وافقهم: وهو أن الاستطاعة مع الفعل لا يجوز أن تتقدمه ولا أن تتأخر عنه، بل هي مقارنة له، وهي من الله تعالى، وما يفعله الإنسان بها فهو كسب له (5) .

(1) انظر: التعريفات (ص:12) .

(2)

انظر: المصدر السابق، نفس الصفحة.

(3)

انظر: الملل والنحل (1/85) ، والبحر الزخار (1/123)، والفرق بين الفرق (ص:211) ، والإرشاد (ص:215) .

(4)

انظر: مقالات الإسلاميين (1/300) - ت عبد الحميد، والفرق بين الفرق (ص:116) ، ونظرية التكليف (ص:317) ونما بعدها. وانظر: شرح الأصول الخمسة (ص:398) ، وفي الفلسفة الإسلامية، منهج وتطبيقه (2/106-107) .

(5)

انظر: الإرشاد (ص:219-220)، والحرة - المطبوعة باسم الإنصاف (ص:46) ، ومعالم أصول الدين للرازي (ص:83) ، ط مكتبة الأزهرية، والمعتمد لأبي يعلى (ص:142) .

ص: 1331

4-

قول أهل السنة - وهو الذي عليه محققو المتكلمين وأهل الفقه والحديث والتصوف وغيرهم - وهو التفصيل:

أفهناك استطاعة للعبد بمعنى الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، وهي التي تكون مناط الأمر والنهي، وهي المصححة للفعل، فهذه لا يجب أن تقارن الفعل، بل تكون قبله متقدمة عليه، وهذه الاستطاعة المتقدمة صالحة للضدين ومثالها قوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: من الآية97) ، فهذه الاستطاعة قبل الفعل ولو لم تكن إلا مع الفعل لما وجب الحج إلا على من حج، ولما عصى أحد بترك الحج.

وهذه الاستطاعة هي مناط الأمر والنهي، ويه التي يتكلم فيها الفقهاء وهي الغالبة في عرف الناس.

ب وهناك الاستطاعة التي يجب معها وجود الفعل، وهذه هي الاستطاعة المقارنة للفعل، الموجبة له، ومن أمثلتها قوله تعالى:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} (هود: من الآية20) وقوله: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} (الكهف:101)"فالمراد بعدم الاستطاعة مشقة ذلك عليهم وصعوبته على نفسوهم، فنفوسهم لا تستطيع إرادته وإن كانوا قادرين على فعله لو أرادوه. وهذه حال من صده هواه أو رأيه الفاسد عن استماع كتب الله المنزلة واتباعها وقد أخبر أنه لا يستطيع ذلك، وهذه الاستطاعة هي المقارنة الموجبة له"(1) ، وهي الاستطاعة الكونية التي هي مناط القضاء والقدر، وبها يتحقق وجود الفعل (2) .

وبهذا التفصيل - الوسط - الذي شرحه شيخ الإسلام يحل الاشكال، ويتضح الأمر. والذين حاولوا أن يوجدوا حلا للخلاف القائم بين المعتزلة والأشاعرة لم يجدوه إلا بالرجوع إلى هذا التفصيل الموافق لمذهب أهل

(1) درء التعارض (1/61) .

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/129-130، 290-292، 371-376، 441) ، ومنهاج السنة (1/7-8، 369-373) مكتبة الرياض الحديثة، والتحفة العراقية - مجموع الفتاوى - (10/32) ، وشرح حديث أني حرمت الظلم - مجموع الفتاوى - (18/172-173) ، ودرء التعارض (9/241) .

ص: 1332

السنة (1) .

أما من خالفهم فقد وقع في الانحراف، فالمعتزلة حصروا القدرة والاستطاعة عند الإنسان بأنها تكون قبل الفعل، وأنكروا الاستطاعة الكونية المقارنة. والأشاعرة جعلوا الاستطاعة كلها مقارنة للفعل فلم يجدوا حلا صحيحاً للاستطاعة والقدرة التي هي شرط للعمل والتي هي بمعنى الصحة وسلامة الآلات. أما أهل السنة فجعلوا الاستطاعة نوعين، نوعا قبل الفعل وهو سلامة الجوارح، ونوعا معه وهو ما يجب به وجود الفعل.

ثانياً: مدى قدرة العباد على أفعالهم:

وكثيرا ما يعرض الخلاف حولها باسم الأقوال في أفعال العباد، وهي أهم قضية وقع فيها الخلاف، ويمكن عرض الأقوال فيها - مع شرح واضح لمذهب الأشاعرة - كما يلي:

القول الأول: إن العباد مجبورون على أعمالهم، لا قدرة لهم ولا إرادة ولا اختيار، والله وحده هو خالق أفعال العباد، وأعمالهم إنما تنسب إليهم مجازاًن وحركتهم واختيارهم كورق الشجر تحركه الرياح، وكحركة الشمس والقمر والأفلاك. وهذا هو مذهب الجبرية وأشهر فرقهم الجهمية (2) .

القول الثاني: إن أفعال العباد ليست مخلوقة لله، وإنما العباد هم الخالقون لها، ولهم إرادة وقدرة مستقلة عن إرادة الله وقدرته، فأفعالهم لا فاعل لها ولا محدث سواهم، ومن قال: إن الله خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه - كما يقول عبد الجبار الهمذاني (3) .

(1) انظر: محاولة الرازي في معالم أصول الدين (ص:83) ، ط الأزهرية، وانظر: حاشية محقق رسالة الحرة - المطبوعة باسم الأنصاف (ص:46) .

(2)

انظر: الفرق بين الفرق (ص:211) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/87) ، ومقالات الإسلاميين (1/238) ، ت عبد الحميد، واعتقادات فرق المسلمين للرازي (ص:103) ، وانظر "جهم بن صفوان ومكانته في الفكر الإسلامي" تأليف خالد العسلي، (ص:114-177) .

(3)

انظر: المغنى لعبد الجبار (8/8، 16، 43، 9/95) وما بعدها، وشرح الأصول الخمسة (ص:336) وما بعدها، وإنقاذ البشر من الجبر والقدر (ص:49) .

ص: 1333

والمعتزلة قالوا إن العبد يخلق، فعله، ليصح ثوابه وعقابه على أعماله (1) .

القول الثالث: قول الماتريدية، وهم يقولون: إن الله تعالى خالق أفعال العباد كلها، ولا خالق إلا هو، كما يقول الأشاعرة وجميع أهل السنة (2)، يقول الماتريدي: - عند تفسيره لقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة: من الآية15) رادا على المعتزلة: "وفي هذا أنه إذا كان هو الذي يمدهم في الطغيان قدر على ضده من فعل الإيمان، فدل أن الله خالق فعل العباد، إذ من قولهم: إن القدرة التامة هي التي إذا قدر على شيء قدر على ضده"(3)، ويقول عند تفسير قوله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: من الآية109) بعد رده على المعتزلة "ولكن نقول: خلق فعل الحسد من الخلق، وكذلك يقال في الأنجاس والأقذار والحيات والعقارب ونحوها: إنه لا يجوز أن تضاف إلى الله تعالى، فيقال يا خالق الأنجاس والحيات والعقارب، وإن كان ذلك كله خلقه، وهو خالق كل شيء"(4) .

ويقول النسفي:

"والله سبحانه وتعالى خالق لأفعال العباد من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خالق لأفعاله"(5) .

(1) انظر: كتاب العدل والتوحيد للرسي - ضمن رسائل العدل والتوحيد (1/118) .

(2)

انظر: شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة: أعداد عبد الكريم تتان (ص:28-29) . نشر مكتبة الغزالي ومكتبة ابن الفارض - حماة، وانظر: شرح الفقه الأكبر ملا علي قاري (ص:44)، والوصية لأبي حنيفة (ص:74) ، بقلم فؤاد علي رضا، مكتبة الجماهير - بيروت، مكتبة مدبولي - القاهرة، ط الأولى 1970م.

(3)

تفسير الماتريدي: المسمى: تأويلات أهل السنة ج1 (ص:51-52) طبعة 1391هـ.

(4)

تفسير الماتريدية (1/249) .

(5)

شرح العقائد النسفية: سعد الدين التفتاراني (ص:77-78)، تحقيق: كلود سلامة ط دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد القومي 1974م. وانظر: كتاب بحر الكلام في علم التوحيد" تأليف: أبي المعين النسفي (ص:41) .

ص: 1334

فالماتريدية - وجمهور الحنفية منهم - موافقون لأهل السنة في أن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، ولكن تعلق العباد بأفعالهم لهم فيه رأي خاص اشتهروا به وهو: أنهم يثبتون للعباد إرادة جزئية، ويه غير مخلوقة، وأمرها بأيديهم، فهم "جعلوا كسب العباد عبارة عن إرادتهم الجزئية

وربما عبروا عنها بالقصد وصرف الإرادة الكلية نحو الفعل، قالوا: إن هذه الإرادة الجزئية صادرة من العباد، وهي لا موجودة ولا معدومة، وإما من قبيل الحال المتوسط بينهما أو من الأمور الاعتبارية، فلا يتضمن صدورها منهم معنى الخلق، إذ الخلق يتعلق بالموجود" (1) ، فالعبد عند الماتريدية له قدرة يخلقها الله تعالى فيه عنده قصده الفاعل قصداً مصمما، طاعة كان أو معصية، وإن لم تؤثر قدرته في وجود الفعل لمانع هو تعلق قدرة الله التي لا يقاومها شيء في إيجاد ذلك (2) .

ويلاحظ أن مذهب الماتريدية هذا قربهم قليلاً من مذهب المعتزلة، كما أن مذهب جمهور الأشاعرة قريب من قول الجهمية، فكلا قولي الأشاعرة والماتريدية متفق على أن الله هو الخالق والعبد كاسب، بمعنى أنه متسبب بعزمه في أن يخلق الله الفعل ويجريه على يديه، لكن اختلفوا في هذا العزم، أمن عمل العبد هو أم من عمل الرب؟ بمعنى: هل العبد هو الذي يوه إرادة نفسه مختارا في هذا التوجيه؟ أم الله هو الذي يوجه إرادة العبد إلى الشيء أو ضده ولا يملك العبد لذلك نقضا ولا تحويلا؟ قال بالأول الماتريدية، وبالثاني الأشاعرة (3) .

القول الرابع: قول الأشاعرة وأتباعهم:

وهؤلاء يقولون: إن الله سبحانه وتعالى خالق أفعال العباد، وبهذا الأصل خالفوا المعتزلة القائلين بأن الله لا يخلق أفعال العباد بل هم الخالقون لها،

(1) موقف البشر تحت سلطان القدر: مصطفى صبري (ص:69)، وانظر الإنسان هل مسير أم مخير؟ الدكتور فؤاد العقلي (ص:50) - طبعة أولى 1980م.

(2)

انظر: شرح الفقه الأكبر: علي قاري (ص:46 - وانظر: شرح العقائد النسفية (ص:86-87-88) ، تحقيق كلود سلامة.

(3)

انظر: المختار من كنوز السنة النبوية: الدكتور: محمد عبد الله دراز (ص:247)، وانظر أيضاً:"شيخ الإسلام الهروي" للدكتور محمد سعيد الأفغاني (ص:154-155) .

وانظر في مذهب الماتريدية: في الفلسفة الإسلامية (2/123-124) .

ص: 1335

وبتميز هذا الجانب عند الأشاعرة والماتريدية صار مذهبهم مشهوراً بأنه مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا حق.

ولكن عند عرض مذهبهم في الجاني الثاني من قضية خلق أفعال العباد وهو جانب تعلق أفعال العباد بهم، وهل هم الفاعلون لها؟ أم هي كسب لهم، وما مدى تعلق قدرة العباد بأفعالهم

الخ.

أقول: عند عرض مذهبهم في هذا يتضح مدى اختلافهم وبعدهم عن مذهب أهل السنة والجماعة الحقيقي.

وهناك آمر آخر، وهو أن بعض كبار الأشاعرة قد رجعوا عن آرائهم التي كانوا يقولون بها في القدر إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وهذا يستلزم الدقة في عرض الآراء، وخاصة في نسبة الأقوال إلى أصحابها من الناحية التاريخية.

وقد عرض آراء الأشاعرة - من خلال كتبهم - نورد ما أورده الشهرستاني حول مذهب الأشاعرة في القدر، وتطور آرائهم على يد كبار علمائهم، الواحد تلو الآخر، يقول: "قال (أي أبو الحسن الأشعري) : والعبد قادر على أفعاله إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية بين حركات الرعدة والرعشة، وبين حركات الاختيار والإرادة، والتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة، متوقفة على اختيار القادر، فمن هذا قال: المكتسب هو المقدور بالقدرة الحاصلة، والحاصل تحت القدرة الحادثة.

ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الإحداث، لأن جهة الحدوث قضية واحدة لا تختلف بالنسبة إلى الجوهر والعرض، فلو أثرت في قضية الحدوث لأثرت في حدوث كل محدث حتى تصلح لإحداث الألوان والطعوم والروائح وتصلح لإحداث الجواهر والأجسام، فيؤدي إلى تجويز وقوع السماع على الأرض بالقدرة الحادثة، غير أن الله تعالى أجرى سننه بأن يحقق عقيب القدرة الحادثة أو تحتها، أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، ويسمى هذا الفعل كسباً، فيكون خلقا من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسبا من العبد: حصولا تحت قدرته.

ص: 1336

والقاضي أبو بكر الباقلاني تخطى عن هذا القدر قليلا، فقال: الدليل قد قام على أن القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد، لكن ليست تقتصر صفات الفعل أو وجوهه واعتباراته على جهة الحدوث فقط، بل ها هنا وجوه أخرهن وراء الحدوث من كون الجوهر جوهرا متحيزاً، قابلاً للعرض، ومن كون العرض عرضا، ولونا، وسوادا، وغير ذلك

قال: فجهة كون الفاعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة، ويسمى ذلك كسبا، وذلك هو أثر القدرة الحادثة

فأثبت القاضي تأثيراً للقدرة الحادثة وأثرها

.

ثم إن إمام الحرمين أبو المعالي الجويني تخطى عن هذا البيان قليلا، قال: أما نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباها العقل والحس، وأما إثبات قدرة لا أثر لها يوجه فهي كنفي القدرة أصلاً، وأما إثبات في حالة لا يفعل فهو كنفي التأثير، خصوصا والأحوال على أصلهم لا توصف بالوجود والعدم، فلا بد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق، فإن الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال

" (1) .

فهذا النص - عن الشهرستاني - يوضح كيف أن قول الأشاعرة في أفعال العباد لم يثبت على قدم الإستقرار، ولم يكن مقنعا لكبار علمائهم الذين بحثوا هذه المسألة، ويلاحظ في عرض هذا التطور لمذهب الأشاعرة أنهم يسرون نحو القول الحق الذي يقول به أهل السنة والجماعة - كما سيأتي - مع العلم بأن الذي استقر عليه مذهب الأشاعرة موافق لما قالوه أولا، والذي ذكر الشهرستاني أنه قول أبي الحسن الأشعري، وأنه لا تأثير للقدرة الحادثة.

ونعرض لأهم أقوال الأشاعرة:

1-

قول جمهور الأشاعرة ومتأخريهم، وهؤلاء يقولون إن الله خالق أفعال العباد فيثبتون مرتبتي المشيئة والخلق، ولكن يقولون: "إن أفعال العباد

(1) الملل والنحل للشهرستاني (1/96-99)، وانظر: نهاية الأقدام له (ص:72-78)، وانظر: مذهب الإسلاميين: عبد الرحمن بدوي (1/557-561) .

ص: 1337

الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها، وليس لقدرتهم تأثير فيهان بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون الفعل مخلوقاً لله إبداعاص وإحداثاً، ومكسوباً، للعبد، والمراد بكسبه إياه: مقارنته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له" (1) .

فأفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، وهي كسب للعباد، وعلى ذلك يترتب الثواب والعقاب، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل، وهذا قول جمهور الأشاعرة وهو القول الذي شنع بسببه المعتزلة على الأشاعرة لأنهم لما لم يثبتوا للعبد قدرة مؤثرة لم يكونوا بعيدين عن قول الجبرية (الجهمية) .

وللكسب عند هؤلاء تعريفات، أهمها:

1-

ما يقع به المقدور من غير صحة انفراد القادر به (2) .

2-

ما يقع به المقدور في محل قدرته (3) .

3-

وبعض الأشاعرة يعرف الكسب بأنه: "ما وجد بالقادر وله عليه قدرة محدثة"(4) . ويضرب بعضهم للكسب مثلا "في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل، ويقدر آخر على حمله منفردا به، إذا اجتمعا جميعاً على حمله كان حصول الحمل بأقواهما ولا خرج أضعفهما بذلك عن كونه حاملا، كذلك العبد لا يقدر على الانفراد بفعله ولو أراد الله الانفراد بإحداث ما هو كسب للعبد

(1) شرح المواقف: للجرجاني (237) ، تحقيق الدكتور أحمد المهدي، وانظر: عيون المناظرات لأبي علي عمر السكوني (ص:164، 176، 224) .

(2)

الإنسان هل هو مسير أم مخير؟ الدكتور فؤاد العقلي (ص:11) ، الطبعة الأولى 1980م، مكتبة الخانجي القاهرة. وانظر: شرح جوهرة التوحيد للباجوري (ص:219) ، ط 1392هـ.

(3)

شرح جوهرة التوحيد (ص:219) .

(4)

المعتمد في أصول الدين: (ص:128)، وانظر: التعليقات على شرح الدواني للعقائد العضدية: لجمال الدين الأفنغاني (ص:309) من الجزء الأول، ضمن الأعمال الكاملة لمؤلفات جمال الدين الأفغاني، تحقيق محمد عمارة، ط الأولى 1979م.

ص: 1338

قدر عليه ووجد مقدوره، فوجوده على الحقيقة بقدرة الله تعالى ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلا وإن وجد الفعل بقدرة الله تعالى" (1) .

وكسب الأشعري هذا هو الذي قيل فيه: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها ومنها كسب الأشعري (2) ، وقد دار حوله نقاش طوي لوعريض، ولم ينته الأشاعرة فيه إلو قول مستقيم (3) .

2-

قول أبي بكر الباقلاني: وهو كقول جمهور الأشاعرة إلا أنه خالفهم بأن الأفعال واقعة بمجموع القدرتين "على أن تتعلق قدرة الله بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته، أعين بكونه طاعة ومعصية، إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا توصف بها أفعال تعالى، كما في لطم اليتيم تأديبا أو إيذاء، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله وتأثيره، وكونه طاعة على الأول، ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره"(4)، يقول الباقلاني في رسالة الحرة: "ويجب أن يعلم أن العبد له كسب وليس مجبوراً، بل مكتسب لأفعاله من طاعة ومعصية لأنه تعالى قال:{لَهَا مَا كَسَبَت} (البقرة: من الآية134) يعني من ثواب طاعة {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت} (البقرة: من الآية286) يعني من عقاب معصية

ويدل على صحة هذا أيضاً: أن العاقل منا يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى، فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنها خالق" (5) .

(1) أصول الدين للبغدادي (ص:133-134)، وانظر: نشأة الأشعرية وتطورها، دكتور: جلال محمد موسى (ص:238) .

(2)

وطفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، انظر: مجموع الفتاى (8/128*.

(3)

انظر: مثلا: النشر الطيب على شرح الطيب، ادريس بن أحمد الوزاني الفاسي، (1/461) ، ط الأولى 1348هـ، وانظر: كتاب المسامرة، للكمال بن أبي شريف، بشرح المسايرة لابن الهمام (ص:107) ، ط الأولى، بولاق، 1317هـ، وانظر: حاشية الكلنبوي على شرح الدواني، مع حاشية المرجاني والخلخاني (1/251) ، ط 1317هـ.

(4)

شرح المواقف (ص:239) - الجزء المحقق.

(5)

رسالة الحرة - المطبوعة باسم الإنصاف (ص:43-44) .

ص: 1339

إذن فمذهب الباقلاني أن الفعل واقع بقدرة العبد بوصفه طاعة أو معصية يترتب عليه الثواب والعقاب.

3-

قول أبي المعالي الجويني: كان في الو أمره يقول بقول عامة الأشاعرة وقد صرح بمذهبه هذا في الإرشاد: قال "اتفق سلف الأمة قبل ظهور البدع والأهواء واضطراب الآراء على أن الخالق المبدع رب العالمين، ولا خالق سواه، ولا مخترع إلا هو، فهذا هو مذهب أهل الحق، فالحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى، ولا فرق بين ما تعلقت قدرة العباد به، وبين ما تفرد الرب بالاقتدار عليه ويخرج من مضمون هذا الأصل أن كل مقدور لقادر فالله تعالى قادر عليه وهو مخترعه ومنشئه"(1) . ثم قال: "فالوجه القطع بأن القدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها أصلا، وليس من شرط تعلق الصفة أن تؤثر في متعلقها، إذ العلم معقول تعلقه بالمعلوم مع أنه لا يؤثر فيه، وكذلك الإرادة المتعلقة بفعل العبد لا تؤثر في متعلقها"(2) . وواضح من هذا الكلام تمسك الجويني بمذهب الأشاعرة، وكلننا نجد في "العقيدة النظامية" وهي آخر ما كتب في العقيدة يرد قوله هذا وقول عموم الأشاعرة (3) وقد أطال الكلام في هذه المسألة ووضح مذهبه الذي انتهى إليه، وهو موافق لمذهب أهل السنة والجماعة.

(1) الإرشاد (ص:187) .

(2)

المصدر السابق (ص:210) .

(3)

انظر: العقيدة النظامية (ص:43-56) ، تحقيق أحمد حجازي السقا، ط الأولى 1398هـ، وانظر في مذهب الجويني: النشر الطيب (1/464) ، والملم والنحل للشهرستاني (1/98)، ونهاية الأقدام (ص:78) وما بعدها. وفي الفلسفة الإسلامية (2/118) وما بعدها، ومذاهب الإسلاميين (1/739) وما بعدها.

ص: 1340

4-

قول أبي حامد الغزالي، وهو أن أفعال العباد واقعة بمجموع القدرتين على فعل واحد، وجوز اجتماع المؤثرين على فعل واحد، يقول "وإنما الحق إثبات القدرتين على فعل واحد، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين فلا يبقى إلا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد، وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما، فتوارد التعلقين على شيء واحد غير محال"(1) ، فالمؤثر عنده مجموع القدرتين، قدرة الله وقدرة العباد (2) .

القول الخامس: قول أهل السنة والجماعة، وهؤلاء يقرون بالمراتب الأربع الثابتة والتي دلت عليها النصوص، وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة والخلق، أما أفعال العباد فهي داخلة في المرتبة الرابعة، ولذلك فهم يقولون فهيا: إن الله خالق أفعال العباد كلها، والعباد فاعلون حقيقة، ولهم قدرة حقيقة على أعمالهم ولهم إرادة، ولكنها خاضعة لمشيئة الله الكونية فلا تخرج عنها.

منهج شيخ الإسلام في الرد على الأشاعرة في القدر:

أولاً: يوافق الأشاعرة أهل السنة في إثبات القدر، وأن الله خالق أفعال العباد.

ثانياً: أما قولهم بإثبات قدرة للعبد غير مؤثرة، وتسمية فعله كسبا، فشيخ الإسلام يرجع أصل قولهم هنا إلى قضية سبق شرحها في باب الصفات وهي قولهم: إن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، وعدم تفريقهم بين ما يقوم بالله من الأفعال، وما هو منفصل عنه، وجعلهم كل أفعال الله مفعولة له منفصلة عنه.

فلما جاءوا إلى مسألة القدر وأفعال العباد واعتقدوا أنها مفعولة لله، قالوا: هي فعله، لأن الفعل عندهم هو المفعول، فيقيل لهم في ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا في الإجابة، وانقسموا حيالها إلى أقوال ثلاثة:

(1) الاقتصاد (ص:58-59) ، ط دار الكتب العلمية.

(2)

انظر: الأربعين للرازي (ص:13) ، ط دار الآفاق.

ص: 1341

- جمهورهم قالوا: هي كسب العبد لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق.

- ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين. وهو قول الغزالي الذي سبق.

- ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل والعبد صفته وهذا قول الباقلاني - كما سبق - (1) .

"والتحقيق الذي عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق. فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، ما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعول لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعول للرب"(2) .

وبهذا التفصيل الجيد يتبين غلط الأشاعرة حين جعلوا الفعل هو المفعول، فأوقعهم هذا في مأزق الكسب الذي اشتهروا به ولم يستطيعوا التخلص منه.

ومع هذا الرد المجمل فإن لشيخ الإسلام كثيراً من الردود التفصيلية، وأهمها:

1-

أن كسب الأشعري لا حقيقة له، لأنهم فسروه بأنه عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، وقالوا: الخلق هو المقدور بالقدرة القديمة. وما دام العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل فالزعم بأنه كاسب، وتسمية فعله كسبا لا حقيقة له، لأنه القائل بذلك لا يستطيع أن يوجد فرقا بين الفعل الذي نفاه عن العبد، والكسب الذي أثبته له. وكثيرا ما يشير شيخ الإسلام إلى أن قول

(1) انظر: مجموع الفتاوى (2/119) .

(2)

المصدر السابق (2/119-129)، وانظر: منهاج السنة (1/322-326) - ط دار العروبة المحققة.

ص: 1342

الأشاعرة هذا قريب من قول الجهم الذي يصرح بالجبر (1) .

2-

أما زعمهم بأنهم يفرقون بين الكسب الذي أثبتوه وبين الخلق بأن الكسب: عبارة عن اقتران المقدور بالقدرة الحادثة، والخلق هو المقدور بالقدرة القديمة، وقولهم أيضاً: الكسب هو الفعل القائم بمحل القدرة عليه، والخلق هو الفعل الخارج عن محل القدرة عليه، وزعمهم أن هذا يبعد قولهم عن قول الجهم الذي يقول بالجبر المحض (2) أما مزاعمهم هذه فمردودة بما يلي:

أأن قولهم هذا "لا يوجب فرقاً بين كون العبد كسب، وبين كونه فعل، وأوجد، وأحدث، وصنع، وعمل، ونحو ذلك، فإن فعله وإحداثه وعمله وصنعه هو أيضاً مقدور بالقدرة الحادثة، وهو قائم في محل القدرة الحادثة"(3) .

ب "وأيضاً فإنه لا فرق لا حقيقة له، فإن كون المقدور في محل القدرة أو خارجاً عن محلها لا يعود إلى نفس تأثير القدرة فيه، وهو مبني على أصلين: أن الله لا يقدر على فعل يقوم بنفسه، وأن خلقه للعالم هو نفس العالم، وأكثر العقلاء من المسلمين وغيرهم على خلاف ذلك، والثاني أن قدرة العبد لا يكون مقدورها إلا في كل وجودها، ولا يكون شيء من مقدورها خارجا عن محلها. وفي ذلك نزاع طويل"(4) .

فالأشاعرة بنوا أقوالهم في الكسب وقدرة العبد على أصول غير مسلمة.

(1) انظر في مناقشة شيخ الإسلام لمسألة الكسب وإنه لا حقيقة له، وإنه كطفرة النظام وأحوال أبي هاشم، والرد عليهم في مسألة القدرة الحادثة: الصفدية (1/149-153)، والنبوات (ص:199) - ط دار الكتب العلمية -، ومجموع الفتاوى (8/387، 403-407، 467-468)، وشرح الأصفهانية (ص:149-150، 350) ت السعوي، والاستغاثة (2/173) ، ومنهاج السنة (1/323) ط دار العروبة المحققة (1/358، 2/51) ، مكتبة الرياض الحديثة، أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى - (8/128، 136-137) ، درء التعارض (1/82-84، 4/65، 6/49، 7/247-248، 9/167، 10/114-115) .

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (8/118-119) .

(3)

المصدر السابق (8/119) .

(4)

المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.

ص: 1343

جـ - وتفسيرهم التأثير بمجرد الاقتران يقتضي أن لا يكون هناك فرق بين أن يكون الفارق في المحل أو خارجاً عن المحل (1) .

ح أن "من المستقر في فطر الناس، أن من فعل العدل فهو عادل، ومن فعل الظلم فهو ظالم، ومن فعل الكذب فهو كاذب، فإذا لم يكن العبد فاعلا لكذبه وظلمه وعدله، بل الله فاعل ذلك لزم أن يكون هو المتصف بالكذب والظلم"(2)، وهذا من أعظم الباطل. ويقال للأشاعرة أيضاً: يقال لكم هنا ما تقولونه أنتم للمعتزلة في مسألة الكلام وأن من قام به الكلام فهو المتكلم، وأن الكلام إذا كان مخلوقاً كان كلاماً للمحلى الذي خلقه فيه. فكذلك إرادة العبد وقدرته (3) .

خ أن القرآن مملوء بذكر إضافة أفعال العباد إليهم، ومن ذلك قوله تعالى:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: من الآية17) وقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} (فصلت: من الآية40) وقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} (التوبة: من الآية105) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البقرة: من الآية277) وغيرها كثير جداً (4) .

د "أن الشرع والعقل متفقان على أن العبد يحمد ويذم على فعله، ويكون حسنة له أو سيئة، فلو لم يكن إلا فعل غيره لكان ذلك الغير هو المحمود المذموم عليها"(5) .

ثالثاً: أن التفصيل الذي ذكره السلف، هو الحق وبه يزول الإشكال الذي توهمه هؤلاء في مسألة العباد، وكونها مخلوقة لله تعالى، وفي فعل للعباد حقيقة. وقد بنى السلف ذلك على أن الفعل غير المفعول والخلق غير المخلوق.

(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/119) .

(2)

المصدر السابق (8/119-120) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (8/120) .

(4)

انظر: المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.

(5)

المصدر نفسه، نفس الجزء والصفحة.

ص: 1344

ومع وضوح مذهب السلف فإن شيخ الإسلام شرح بعض القضايا الغامضة حول مذهبهم، ومنها:

1-

ما يقال من أنه إذا كانت أفعال العباد مخلوقة لله، وهي فعل لهم حقيقة، فكيف نجمع بين هذين الأمرين؟

يجيب عن هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول: "قول القائل: هذا فعل هذا، وفعل هذا: لفظ فيه إجمال، فإنه تارة يراد بالفعل نفس الفعل، وتارة يراد به مسمى المصدر، فيقولك فعلت هذا أفعله فعلا، وعملت هذا أعمله عملا، فإذا أريد بالعمل نفس العمل الذي هو مسمى المصدر كصلاة الإنسان وصيامه ونحو ذلك، فالعمل هنا هو المعمول، وقد اتحد هنا مسمى المصدر والفعل، وإذا أريد بذلك ما يحصل بعمله كنساجة الثوب وبناء الدار ونحو ذلك، فالعمل هنا غير المعمول، قال تعالى:{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَات} (سبأ: من الآية13) فجعل هذه المصنوعات معمولة للجن، ومن هذا الباب قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات:96) أي والله خلقكم وخلق الأصنام التي تنحتونها

والمقصود أن لفظ "الفعل" و"العمل" و"المصنع" أنواع وذلك كلفظ البناء والخياطة والتجارة تقع على نفس مسمى المصدر، وعلى المفعول وكذلك لفظ "التلاوة" و"القراءة" و"الكلام" و"القول" يقع على نفس مسمى المصدر، وعلى ما يحصل بذلك من نفس القول والكلام، فيراد بالتلاوة والقراءة نفس القرآن المقرؤ المتلو، كما يراد بها مسمى المصدر.

والمقصود أن القائل إذا قال: هذه التصرفات فعل الله أو فعل العبد، فإن أراد بذلك أنها فعل الله بمعنى المصدر فهذا باطل باتفاق المسلمين، وبصريح العقل، ولكن من قال هي فعل الله وأراد به أنها مفعولة مخلوقة لله كسائر المخلوقات فهذا حق"، ثم وضح المسألة فقال: "وأما من قال (وهم جمهور أهل السنة) : خلق الرب تعالى لمخلوقاته ليس هو نفس مخلوقاته، قال: إن أفعال العباد مخلوقة كسائر المخلوقات، ومفعولة للرب كسائر المفعولات، ولم يقل: إنها نفس فعل الرب وخلقه، بل قال: إنها نفس فعل العبد، وعلى هذا تزول الشبهة، فإنه يقال:

ص: 1345

الكذب والظلم ونحو ذلك من القبائح يتصف بها من كانت فعلا له، كما يفعلها العبد، وتقوم به، ولا يتصف بما خلقه في غيره من الطعوم والألوان والروائح والأشكال والمقادير والحركات وغير ذلك، فإن كان قد خلق لون الإنسان لم يكن هو المتلون به، وإذا خلق رائحة منتنة أو طعما مرا أو صورة قبيحة ونحو ذلك مما هو مكروه مذموم مستقبح، لم يكن هو متصفا بهذه المخلوقات القبيحة المذمومة المكروهة والأفعال القبيحة، ومعنى قبحها كونها ضارة لفاعلها، وسببا لذمه وعقابه، وجالبة لألمه وعذابه، وهذا أمر يعود على الفاعل الذي قامت به لا على الخالق الذي خلقها فعلا لغيره" (1) .

2-

ومن الأمور التي تحتاج إلى بيان: مسألة قدرة العبد وهل لها تأثير أولا؟ يوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية: فيقولك "إن التأثير إذا فسر بوجود شرط الحادث أو سبب يتوقف حدوث الحادث به على سبب آخر، وانتفاء موانع - وكل ذلك بخلق الله تعالى - فهذا حق، وتأثير قدرة العبد في مقدورها ثابت بهذا الاعتبار، وإن فسر التأثير بأن المؤثر مستقل بالأثر من غير مشارك معاون ولا معاوق مانع، فليس شيء من المخلوقات مؤثرا، بل الله وحده خالق كل شيء لا شريك له ولاند له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن

فإذا عرف ما في لفظ "التأثير من الإجمال والاشتراك ارتفعت الشبهة، وعرف العدل المتوسط بين الطائفتين"(2)، ويقول في موضع آخر: "الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أله السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر، المخالفون للمعتزلة: إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات، بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها، ولها مع ذلك أضداد تمانعها، والسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سحبانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة

(1) مجموع الفتاوى (8/121-123) .

(2)

المصدر السابق (8/134-135) .

ص: 1346

الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره" (1) .

وقد وضع شيخ الإسلام هذه القضية توضيحاص تاما فقال: "التأثير اسم مشترك، قد يراد بالتأثير الانفراد بالابتداع والتوحيد (2) بالاختراع فإن أريد بتأثير قدرة العبد هذه القدرة فحاشاً الله، لم يقله سني، وإنما هو المعزو إلى أهل الضلال. وإن أريد التأثير في ذات الفعل، إذ لا فرق بين إضافة الانفراد بالتأثير إلى غير الله سبحانه في ذرة أو فيل، وهل هو إلا شرك دون شرك وإن كان قائل هذه المقالة ما نحا إلا نحو الحق.

وإن أريد بالتأثير أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان يتوسط القدرة المحدثة، بمعنى أن القدرة المخلوقة هي سبب وواسطة في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيث بالسحاب، وكما خلق جميع المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا التفسير إلى قدرة العبد شركا، وإلا فيكون إثبات جميعا لأسباب شركاً" (3) .

وكلام ابن تيمية في هذين الموضوعين واضح تمام الوضوح، وفيه حل لاشكالات كثيرة، وما وجدت أحداً قبل شيخ الإسلام رحمه الله بين هذا البيان في هذه القضايا المهمة التي كثر فيها الكلام، واختلط فيها الحق بالباطل. فلقد كان شرحه وافياً، شافياًن دقيقاً. وما وجدت من كتب في القدر ككتابة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى.

3-

ومن الأمور التي ينبغي الإشارة إليها: معنى الكسب عند أهل السنة، فكثيراً ما يذكر علماء السنة أن أفعال العباد كسب لهم، وقد يقع إيهام في ذلك

(1) مجموع الفتاوى (8/487-488) .

(2)

هكذا في النص ولعلها: التوحيد.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (8/389-390) .

ص: 1347

خاصة وإن الأشاعرة يعبرون عن مذهبهم في هذا الموضوع بالكسب، فيقع الإيهام أحياناً، ونوضح هنا أن أهل السنة عندما يقولون: أن أفعال العباد كسب لهم، معناه: أنها أفعالهم التي تعود على فاعليها بنفع أو ضر، ما قال تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: من الآية286)"فبين سبحانه أن كسب النفس لها أو عليها، ولما كان العباد يكملون بأفعالهم ويصلحون بها، إذ كانوا في أول الخلق خلقوا ناقصين، صح إثبات السبب، إذ كمالهم وصلاحهم من أفعالهم". فمقصود أهل السنة أنها كسب لهم واقعة بقدرتهم وإرادتهم وكل أفعالهم مخلوقة لله سبحانه وتعالى.

ص: 1348