الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الوجه قوى إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (إنا) و (نحن) ونحو ذلك (1) ، ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى، فإن نفي المتشابه بين الله وخلقه أعظم من نفي المتشابه بين موعود الجنة وموجود الدنيا.
وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى" (2) ، ثم زاده شيخ الإسلام تقريراً وشرحا بشواهد الكتاب والسنة وكلام الصحابة وسائر السلف والأئمة الذين تكلموا في نصوص الصفات وغيرها، وفسروها بما يوافق دلالاتها وبيانها، وحرص عبد الله بن مسعود على تعلم التفسير، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس، وتعلم جميع الصحابة التفسير مع التلاوة، وأقوال الأئمة، كل ذلك أدلة واضحة لمن هداه الله على إثباتهم للصفات التي دلت عليها النصوص، مع نفي العلم بالكيفية.
وبهذا يتبين أنه على القول بأن الصفات ليست من المتشابه مطلقا، أو القول بأنها من المتشابه - بالمعنى السابق - ليس لأهل الكلام ولا لغيرهم دليل على زعمهم أنه يلزم فها تفويض السلف للمعنى والكيفية، أو تأويلها بما يوافق عقولهم الفاسدة.
الفرع الثاني: التأويل والمجاز:
بين التأويل والمجاز علاقة واضحة (3) ، ويجمعهما أنهما صارا مطية لكثير من الفرق الضالة في تعاملها مع النصوص لتوافق ما لديهما من اعتقادات فاسدة، والين بحثوا في هذين الموضعين - من منطلق لغوي - وجدوا أن الكلام فيهما نشأ وترعرع في أحضان أهل الكلام من المعتزلة والباطنية وغيرهم (4) ، وفي العصر
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/224) ، والروض الأنف (5/10) .
(2)
الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى - (13/306)، وانظر ظاهرة التأويل وصلتها باللغة (ص:117-118) .
(3)
انظر: ظاهرة التأويل وصلتها باللغة للسيد أحمد عبد الغفار (ص:166-174) .
(4)
انظر: المصدر السابق (ص: 47) وما بعدها، و (ص: 72) وما بعدها، وانظر أيضاً: فلسفة المجاز تأليف لطفي عبد البديع (ص:22) وما بعدها، وانظر أيضاً: التصور اللغوي عند الإسماعيلية (ص:127) وما بعدها، وكتاب التأويل الإسماعيلي الباطني ومدى تحريفه للعقائد الإسلامية (ص:21) وما بعدها.
الحاضر كثيرا ما ينطلق دعاة الاستغراب والفكر العقلاني المتمرد على الإسلام وتراثه، باسم الحداثة أو غيرها، كثيرا ما ينطلق هؤلاء من مبدأ "التأويل"(1) .
ولأهمية موضوع التأويل والمجاز في علاقتهما بالعقيدة اهتم شيه الإسلام في بيان القول فيهما، دفاعا عن عقيدة السلف، وردا على أهل البدع، وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم إلى أفرد لموضوع التأويل مباحث مطولة في مقدمة كتابه "الصواعق المرسلة"(2) ، ثم لما ذكر الطواغيت الأربعة جعل منها طاغوت المجاز (3) .
وقد سبق عند الكلام عن المحكم والمتشابه عرض بعض القضايا المتعلقة بالتأويل، وبقيت بعض المسائل التي تحتاج إلى بيان، ونقد عرض لها شيخ الإسلام ومنها:
- التأويل في مصطلح المتأخرين. وتعارض ذلك مع فهم السلف له.
- القرائن المتصلة بالخطاب التي توضح أن النص ليس على ظاهره هل هو تأويل؟.
(1) مر دعاة التغريب بمرحلتين: إحداهما: رفض الإسلام والدين جملة وتفصيلا، والدعوة إلى التبعية لأفكار الغرب ومنطلقاتهم الإلحادية - شرقية أو غربية. والثانية: أ، هؤلاء لما وجدوا أن الشعوب الإسلامية - والطبقة الواعية بالذات - رافضة لمنهجهم وإلحادهم، متجهة نحو دينها وتراثها - أخذوا في مسايرة الموجه، فصاروا يبحثون عن منطلقات تراثية لأفكارهم، فوجدوا في آراء الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والقرامطة، والباطنية، والصوفية، ما يعدونه تراثا له قيمة عظيمة ينبغي الرجوع إليه والانطلاق منه. وعلى سبيل المثال وجدوا3 في قضية "التأويل" عند الفرق مجالا خصبا لدعم توجهاتهم الفكرية.
انظر مثلا: التأويل والحقيقة: قراءة تأويلية في الثقافة العربية، لأحد كتاب الحداثة وأسمه عليه حرب (ص:21) وما بعدها، و (ص:121) وما بعدها، و (ص:221) وما بعدها. وقد دعا (ص:231) إلى تجديد التأويل، تبعا لأستاذه محمد أركون، وانظر أيضا: فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي تأليف: نصر حامد أبو زيد، (ص:11) وما بعدها، وقد نعى في (ص:12) على ابن تيمية وابن القيم لقولهما إن المعرفة الدينية لا تتطور.
(2)
انظر: الصواعق المرسلة - الأصل - (ص:170-631) - ت الدخيل الله.
(3)
انظر: المصدر السابق (ص:173،632) ، أما تفصيل القول فيه ففي مختصر الصواعق (2/2) وما بعدها.
- ما هو الذي يؤول والذي لا يؤول، وتناقض المتكلمين في ذلك.
- هل قال الإمام أحمد بالتأويل؟:
- الحقيقة والمجاز.
ويمكن مناقشتها من خلال الأمور التالية:
الأمر الأول: التأويل ومعانيه:
ابتدع المتأخرون معنى للتأويل لم يكن معروفاً عند السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وقالوا: هو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، ثم فسروا التأويل الوارد في آية آل عمران:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران: من الآية7) بهذا المصطلح الذي أحدثوه، ومن ثم أضفوا الشرعية علىتأويلاتهم لنصوص الصفات أو بعضها.
وقد أولى شيخ الإسلام هذه المسألة اهتماما كبيراً، وعرض لها في مناسبات عديدة من كتبه، وانطلق في ذلك من بيان التأويل الواردة في الكتاب والسنة وأقوال السلف، حيث أوضح من خلال التتبع الدقيق لموارد لفظة "التأويل" في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأئمة السلف (1)، وانتهى من ذلك إلى أن التأويل ورد عندهم بمعنيين:
أحدهما: أنه بمعنى المرجع والمصير، والحقيقة التي تؤول إليها الشيء.
والثاني: أنه بمعنى التفسير (2) .
أما المعنى الثالث الذي اصطلح عليه المتأخرون وهو صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فليس معروفا عندهم، يقول شيخ الإسلام
(1) انظر مثلا: تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى - (17/364-372) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/241-247) .
(2)
انظر: شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/347-350) ، والفتوى الحموية - مجموع الفتاوى (5/35-36) ، ومجموع الفتاوى (4/68-69) والدرء (1/14-15) ، والإكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/288-289) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (3/2-4) .
بعد ذكر المعاني السابقة: "والمقصود هنا أن السلف كان أكثرهم يقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} بناء على أن التأويل هو الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، لا يعلمها إلا هو، وطائفة كمجاهد وابن قتيبة (1) وغيرهما قالوا: بل الراسخون يعلمون التأويل، ومرادهم بالتأول المعنى الثاني وهو التفسير، فليس بين القولين تناقض في المعنى.
وأما التأويل بمعنى صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه فهذا لم يكن هوالمراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال إنه خلاف الظاهر جعلوه من التأويل الذي هو التفسير، لكونه تفسيراً للكلام وبيانا لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس المر التي استأثر الله بعلمها لكونه مندرجاً في ذلك لا لكونه مخالفا للظاهر.
وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي من نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل، كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده
…
" (2) .
وقد أراد شيخ الإسلام من هذا الكلام. تقرير عدة أمور:
1-
أنه لا يجوز حمل النصوص على مصطلح حادث، بل لا بد من الرجوع أولا إلى الاستعمالات الواردة لهذا اللفظ وقت النزول. ولفظ التأويل لم يرد في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة إلا بهذين المعنيين، فحمل لفظ التأويل - في آية آل عمران - على غيرهما باطل.
2-
أن القراءتين الواردتين في الآية صحيحتان (3) ، ولا تعارض بينهما،
(1) انظر: تأويل مشكل القرآن (ص:98-101) .
(2)
الصفدية (1/291) .
(3)
انظر: المكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني (ص:194-197)، ومنار الهدى في بيان الوقف والابتداء للأشموني (ص:70) .
وكل قراءة محمولة على معنى من معاني التأويل الوارد. ففي قراءة الوقف على لفظ الجلالة - وهي قراءة الجمهور - يكون معنى التأويل حقيقة الشيء في قراءة الوصل يكون معناه التفسير.
3-
أن التأويل هو بيان مراد المتكلم، وليس هو بيان ما يحتمله اللفظ في اللغة (1) ، ولذلك فقد يوجد في كلام السلف تفسير الآية على خلاف ظاهرها - مما قد يقال بأنه صرف للفظ عن ظاهره - ولكن هذا من باب بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه، بضم النظائر إلى بعضها، وتفسير بعض النصوص بنصوص أخرى، توضح المراد منها، وتزيل ما قد يشتبه منها على بعض الناس: وشيخ الإسلام كثيراً ما يركز على "أن الرسول بلغ البلاغ المبين، وبين مراده، وأن كل ما في القرآن والحديث من لفظ يقال فيه إنه يحتاج إلى التأويل الاصطلاحي الخاص الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فلا بد أن يكون الرسول قد بين مراده بذلك اللفظ بخطاب آخر، لا يجوز عليه أن يتكلم بالكلام الذي مفهومه ومدلوله باطل، ويسكت عن بيان المراد بالحق، ولا يجوز أن يريد من الخلق أن يفهموا من كلامه ما لم يبينه لهم ويدلهم عليه لا مكان معرفة ذلك بعقولهم، وأن هذا قدح في الرسول الذي بلغ البلاغ المبين الذي هدى الله به العباد وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وفرق الله به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الرشاد والغي، وبين أولياء الله وأعدائه، وبين ما يستحقه الرب من الأسماء والصفات وما ينزه عنه من ذلك.
فمن زعم أنه تكلم بما لا يدل إلا على الباطل، لا على الحق ولم يبين مراده، وإنه أراد بذلك اللفظ المعنى الذي ليس بباطل، وأحال الناس في م عرفة المراد على ما يعلم من غير جهته بآرائهم فقد قدح بالرسول" (2) .
(1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/172) .
(2)
انظر: درء التعارض (1/22-23) ، وانظر تفصيلا مهما لهذه المسألة في نقض التأسيس - مخطوط - (3/162-177) ، ويلاحظ أ، هذا الجزء بدأه بالرد على ما زعمه الرازي من أن جميع الفرق مقرون بأنه لا بد من التأويل، ثم ذكر تسعة أمثلة من القرآن وعشرة من السنة، فعقب شيخ الإسلام - بعد مناقشة كل واحد منها - بقوله عن الرازي: "قلت قد ذكر تسعة عشر حرفا على عدد خزنة جهنم وليس فهيا ما يوجب التأويل
…
" (3/162) .
وأهل الكلام الباطل ينظرون إلى النص بحد ذاته، ويعلمون فيه آراءهم واجتهاداتهم ومسلماتهم العقلية، دون أن ينظروا إلى مراد المتكلم وقصده من هذا الكلام، ودون أ، يرجعوا إلى النصوص الأخرى التي قد تكون نصا في بيان المراد.
ولذلك فإنهم حين يلحظون من كلامهم غلوا في صرف الألفاظ والنصوص عن معانيها، أو يوجه إليهم استشكال وتساؤل عن أسباب هذا التأويل - الذي هو في الحقيقة تحريف وتعطيل - يلجأون إلى جواب غير مقنع - وإخاله غير مقنع لهم أنفسهم لكنهم اضطروا إليه - وهو قولهم أن فائدة إنزال النصوص المثبتة للصفات اجتهاد أهل العلم في صرفها عن مقتضاها بالأدلة المعارضة لها، لتنال النفوس الثواب، وتنهض إلى التفكر والاستدلال بالأدلة العقلية، الموصلة إلى الحقد على حد زعمهم (1) . وعليه فالهدى والنور والبيان الذي جاء به الكتاب والسنة لا يتم إلا بتحريف نصوصهما بما يوافق معقولات الفلاسفة والجهمية وأهل البدع والكلام والباطل!، وقد ضرب شيخ الإسلام لذلك بمثال، أطال في شرحه (2) .
والخلاصة أن الأقوال في التأويل، وفي تفسير آية آل عمران على كلا القراءتين، ليس في ذلك كله ما يبرر مذهب النفاة الذين حرفوا كثير من النصوص باسم "التأويل"(3) .
الأمر الثاني: القرائن المتصلة بالخطاب التي تدل على أ، النص ليس على ظاهره هل يعتبر تأويلا؟ وما الشيء الذي يؤول والذي لا يؤول؟
هذه المسألة من المسائل التي كثر الخوض فيها دون ضابط أو منهج صحيح، ولذلك ضل فيها طائفتان:
(1) انظر: درء التعارض (5/365) .
(2)
انظر: المصدر السابق (5/36-368) .
(3)
من الدراسات الجيدة في هذا الموضوع، ما كتبه الدكتور محمد السيد الجليند بعنوان: الإمام ابن تيمية وقضية التأويل، انظر (ص:29) وما بعدها، وهي دراسة قائمة على فهم صحيح لمنهج شيخ الإسلام. والمشكلة أن كثير من الدارسين في أقسام الفلسفة قد يتعرضون في كتبهم وبحوثهم لآراء شيخ الإسلام ولكن بدون فهم لحقيقة مذهبه ومنهجه، ولذلك تأتي أقوالهم تحمل كثيراً من الأخطاء العلمية والمنهجية بحق مذهب السلف وبحق المدافعين عنه.
طائفة: ظنت أنه إذا كان بعض نصوص الصفات ليس على ظاهره، مثل حديث: عبدي مرضت (1) ، ونحوه، فهو دليل على جواز التأويل لكل نص وارد في الصات دل ظاهره على التشبيه أو خالف المعقول مثلا، ولو كان ثبوته ودلالته قطعيين - وهذا قول طوائف أهل الكلام - مع تفاوتهم في ذلك -.
وطائفة: عكست الأمر فظنت إنه إذا كان لا يجوز التأويل في نصوص الصفات، فكذلك النصوص الأخرى يجب حملها على ظاهرها، ولو دلت القرائن على أن هذا الظاهر الفاسد منتف، وهؤلاء كثيرا ما يخلطون بين الأحاديث الصحيحة والموضوعة.
وكل من الطائفتين لم يوفق إلى الحق والصواب، بل وقع في البدعة وخالف النصوص الدالة على إثبات الصفات لله من غير تمثيل ولا تعطيل. وسبب ذلك أنهم لم يفرقوا في النصوص بين ما هو من الصفات وما ليس منها، وإنما خلطوا الأمر إما إثباتاً أو نفياً وتعطيلاً.
وقد اهتم شيخ الإسلام بهذا الأمر، وميز تمييزا واضحا بين النصوص الدالة على الصفات، والنصوص التي ليست منها، إما لعدم ثبوتها، أو لأن القرائن دلت على أنها ليست من الصفات.
بل قد قال شيخ الإسلام جازماً: "وأما الذي أقوله الآن وأكتبه - وإن كنت لم أكتبه فيما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس - أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها. وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مئة تفسير، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحاب أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف"(2) .
(1) سبق تخريجه (ص:836) .
(2)
مجموع الفتاوى (6/394) .
فالشأن أن تكون من آيات الصفات أو أحاديث الصفات، أما النصوص الأخرى التي قد تدل على الصفة، لكن ليست نصا فيها، فخلاف علماء أهل السنة فيها لا يجعل قول من لم يثبت بها صفة دليلا على تأويل الصفات، لأن النص نفسه ليس صريحا في ذلك.
وقد أورد شيخ الإسلام عددا من الأمثلة على ذلك، وقبل إيراد نماذج منها يحسن ذكر ما قاله في مقدمة أحدها، فقد أورد رحمه الله مسألة قربه تعالى من عباده، والخلاف في ذلك، ثم قال: "وإذا كان قرب عباده من نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم من أهل الحديث، والفقهاء، والصوفية، وأهل الكلام، لم يجب أ، يتأول كل نص فيه ذكر ربه من جهة امتناع القرب عليه، ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء: إن (1) كان في موضع قد دل عندهم على أنه هو يأتي، ففي موضع آخر دل على أنه يأتي بعذابه، كما في قوله تعالى:{فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِد} (النحل: من الآية26) وقوله تعالى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} (الحشر: من الآية2) .
فتدبر هذا؛ فإنه كثير ما يلغط الناس في هذا الموضع، إذا تنازع النفاة والمثبتة في صفة، ودلالة نص عليها: يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ - حيث ورد - دالا على الصفة وظاهرا فيها. ثم يقول النافي: وهناك لم تدل على الصفة فلا تدل هنا. وقد يقول بعضا لمثبتة: دلت هنا على الصفة فتكون دالة هناك، بل لما رأوا بعض النصوص تدل على الصفة، جعلوا كل آية فهيا ما يتوهمون أنه يضاف إلى الله تعالى - إضافة صفة - من آيات الصفات، كقوله تعالى:{فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية56) .
وهذا يقع فيه طوائف من المثبتة والنفاة، وهذا من أكبر الغلط؛ فإن الدلالة
(1) في مجموع الفتاوى [وإن] لعل الواو زائدة.
في كل موضع بحسب سياقه، وما يحف به من القرائن اللفظية والحالية، وهذا موجود في أمر المخلوقين، يراد بألفاظ الصفات منهم في مواضع كثيرة غير الصفات" (1) ، ثم ذكر مثالين نافعين لذلك.
وبعد هذه المقدمة نعود إلى ما ذكره من أمثلة من الكتاب وأمثلة من السنة:
أولاً: أمثلة من الكتاب:
1-
قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115)، ويقول شيخ الإسلام عن صفة الوجه:"لما كان إثبات هذه الصفة مذهب أهل الحديث، والمتكلمة الصفاتية: من الكلابية، والأشعرية، والكرامية، وكان نفيها مذهب الجهمية: من المعتزلة وغيرهم، ومذهب بعض الصفاتية من الأشعرية وغيرهم، صار بعض الناس من الطائفتين كلما قرأ آية فيها ذكر الوجه جعلها من موارد النزاع، فالمثبت يجعلها من الصفات التي لا تتأول بالصرف، والنافي يرى أنه إذا قام الدليل على أنه ليست صفة فكذلك غيرها، مثال ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) أدخلها في آيات الصفات طوائف من المثبتة والنفاة، حتى عدها أولئك - كابن خزيمة - مما يقرر إثبات الصفة (2) ، وجعل [النفاة] (3) تفسيرها بغير الصفة حجة لهم في موارد النزاع"(4) .
ثم ذكر قصته في المناظرة التي عقدت له فقال: "ولهذا لما اجتمعنا في المجلس المعقود - وكنت قد قلت: أمهلت كل من خالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن السلف يخالف شيئاً مما ذكرته كانت له الحجة، وفعلت وفعلت، وجعل المعارضون يفتشون الكتب فظفروا بما ذكره البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: من الآية115) ،
(1) مجموع الفتاوى (6/13-15) .
(2)
انظر: التوحيد (1/25) - المحققة.
(3)
في مجموع الفتاوى [المنافية] ولعل الصواب ما أثبت.
(4)
مجموع الفتاوى (6/15) .
فإنه ذكر عن مجاهد والشافعي أن المراد: قبلة الله (1) - فقال أ؛ د كبرائهم - (2) في المجلس الثاني - قد أحضرت نقلا عن السلف بالتأويل، فوقع في قلبي ما أعد، فقلت: لعلك قد ذكرتما روى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} قال: نعم، قلت: المراد بها قبلة الله، فقال: قد تأولها مجاهد والشافعي وهما من السلف. ولم يكن هذا السؤال يرد علي، فإنه لم يكن شيء مما ناظروني فيه صفة الوجه، ولا أثبتها (3) ، لكن طلبوها من حيث الجملة، وكلامي كان مقيداً كما في الأجوبة، فلم أر احقاقهم في هذا المقام، بل قلت: هذه الآية ليست من آيات الصفات أصلا، ولا تندرج في عموم قول من يقول: لا تؤول آيات الصفات.
قال: أليس فيها ذكر الوجه؟ فلما قلت: المراد بها قبلة الله، قال: أليست هذه من آيات الصفات؟ قلت: لا، ليست من موارد النزاع، فإني إنما أسلم أن المراد بالوجه - هنا - القبلة، فإن الوجه هو الجهة في لغة العرب، يقال: قصدت هذا الوجه، وسافرت إلى هذا الوجه، أي: إلى هذه الجهة
…
" - وبعد أن زاد هذا شرحاً، قال: في كلام مهم جدا: "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله، أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة وعلى أن العبد يستقبل ربه
…
ويقول: إن الآية دلت على المعنيين، فهذا شيء آخر ليس هذا موضعه. والغرض أنه إذا قيل: فثم قبلة الله، لم يكن هذا من التأويل المتنازع فيه الذي ينكره منكروا تأويل آيات الصفات، ولا هو مما يستدل به عليهم المثبتة، فإن هذا المعنى صحيح في نفسه، والآية دالة عليه، وإن كانت دالة على ثبوت صفة فذاك شيء آخر، ويبقى دلالة [قوله](4){فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}
(1) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (ص:309) .
(2)
لعله صفي الدين الهندي.
(3)
أي أنهم في المناظرة الأولى حول الواسطية لم يناظروه فيما ذكره من إثبات صفة الوجه حيث ذكر قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} (القصص: من الآية88) ضمن نصوص أخرى. وقوله هنا (ولا أثبتها) يحتمل أنه يقصد إنه لم ينص عليها - شرحا وبيانا في الواسطية ما فعل في العلو والكلام والرؤية، ويحتمل أ، يقصد آية {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أي أنه لم يذكرها كدليل على صفة الوجه، ولعل هذا أرجح.
(4)
في مجموع الفتاوى [قولهم] ، ولعل المثبت هو الصواب.
على فثم قبلة الله، هل هو من باب تسمية القبلة وجها باعتبار أن الوجه والجهة واحد؟ أو باعتبار أن من استقبل وجه الله فقد استقبل قبلة الله؟ فهذا فيه بحوث أخرى، ليس هذا موضعها" (1) .
وفي نقض التأسيس أشار إلى ما ذكره هنا، مع زيادة في الشرح والتوضيح، وقال في أثناء ذلك: "فهذا القول ليس عندنا من باب التأويل الذي هو مخالفة الظاهر أصلاً، وليس المقصود نصر هذا القول، بل بيان توجيهه وأن قائليه من السلف لم يكونوا من نفاة الصفة، ولا ممن يقول: ظاهر الآية ممتنع
…
" (2)، ثم ذكر ثلاث احتمالات في هذه الآية:
أحدها: أنها دالة على الصفة، وحينئذ تقر على ظاهرها، ولا محذور فيه، ومن يقول بهذا لا يقول إن وجه الله هو نفسه في الأجسام المستقبلة ولا يقول هذا أحد من أهل السنة، و"ثم" إشارة إلى البعيد.
والثاني: أن ظاهرها أن الذي ثم هو القبلة المخلوقة فقط، وفي هذه لا تكون الآية مصروفة عن ظاهرها، وتوجيه ذلك أن "ثم" إشارة إلى مكان موجود، والله تعالى فوق العالم ليس هو في جوف الأمكنة.
والثالث: أن يقال ظاهرها يحتمل الأمرين، وحينئذ فقول مجاهد لا ينافي ذلك (3) .
ولكن ما الذي يرجحه شيخ الإسلام - مع قوله إن قول مجاهد "فثم قبلة الله" ليس تأويلا ولا حجة فيه للنفاة؟، سبق قبل قليل نقل قوله في مجموع الفتاوى: "ولكن من الناس من يسلم أن المراد بذلك جهة الله أي قبلة الله، ولكن يقول: هذه الآية تدل على الصفة
…
"، وزاده في نقض التأسيس بيانا
(1) مجموع الفتاوى (6/15-17) ، وقارن بالمناظرة حول الواسطية - مجموع الفتاوى - (3/193) .
(2)
نقض التأسيس - مخطوط - (3/79) .
(3)
انظر: المصدر السابق (3/79) .
فقال في أحد وجوه الرد على الرازي: "الوجه الثالث: أن يقال: بل هذه الآية دلت على الصفة كغيرها، وذلك هو ظاهر الخطاب وليست مصروفة عن ظاهرها، وإن كانت مع ذلك دالة على استقبال قبلة مخلوقة، ونجزم بذلك فلا نسلم أنها مصروفة عن ظاهرها، ولفظ "الوجه" هو صفة الله، فما الدليل على وجوب تأويلها، وقوله {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} فيه الإشارة إلى وجه الله بأنه ثم، والله تعالى يشار إليه كما تقدم تقرير هذا"(1) .
ويجب أن لا يغيب عن البال - في خضم هذه المناقشات - أن الخلاف ليس في إثبات صفة "الوجه" لله تعالى، لأن هذه الصفة ثابتة بنصوص أخرى صريحة قطعية، لا مجال فيها لأي احتمال - وقد أثبتها متقدمو أئمة الأشاعرة - ولكن الكلام هنا يدور حول أحد النصوص الواردة وهو قوله تعالى:{فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} هل هو دال على الصفة أم لا؟.
والخلاصة أن دلالة مثل هذه الآية محتملة، وهي لا تخالف النصوص الأخرىالمثبتة لصفة الوجه، وليس فيما قاله مجاهد - تفسيرا لها - حجة للنفاة على جواز التأويل، وسواء دلت على الصفة أو لم تدل فليس للنفاة فيها حجة أصلا.
2-
ومن الأمثلة أيضاً قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية56) ، يقول شيخ الإسلام في معرض رده على الرازي - الذي يذكر بعض النصوص التي تحتاج إلى تأويل، ويحتج بها على جواز التأويل:"يقال: من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله، ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية، بل كثير منهم ينفون ذلك، بل ينفون قول أحد منهم بذلك (2) "، ثم نقل كلام الدارمي في نقضه على المريسي - ورده عليه في احتجاجه بهذه الآية - وأنه قال: "وادعى المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قوله الله تعالى: {يَا حَسْرَتَى عَلَى
(1) نقض التأسيس - مخطوط - (3/86) .
(2)
انظر: المصدر السابق (3/11) .
مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه} (الزمر: من الآية56) قال: يعنون بذلك الجنب [الذي](1) هو العضو، وليس على ما يتوهمونه، قال: فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك، وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها إلى أحد من بني آدم قاله، وإلا فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بالتفسير منك، وأبصر بتأويل كتاب الله منك ومن إمامك؟، إنما تفسيرها عندهم: تحسر الكافرين على ما فرطوا في الإيمان والفضائل التي تدعو إلى ذات الله، واختاروا علهيا الكفر والسخرية بأولياء الله فسماهم الساخرين (2) ، فهذا تفسير الجنب عندهم، فمن أنبأك أنهم قالوا: جنب من الجنوب، فإنه لا يجهل (3)
هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلا عن علمائهم
…
" (4) ، ثم عقب شيخ الإسلام بتوجيه آخر يدل على أنها ليست صفة، ونقل كلام ابن بطة والقاضي أبي يعلي (5) .
وقد عقب شيخ الإسلام على ما مضى - رادا على الرازي الذي زعم أن ظاهر القرآن يلزم منه أن لله جنبا واحدا عليه أيد كثيرة
…
(6) فقال: "وأين في ظاهر القرآن أنه ليس لله جنب واحد بمعنى الشق، ولكن قد يقال: القرآن فيه إثبات جنب الله تعالى، وفيه إثبات التفريط فيه، فثبوت نوع من التوسع والتجوز فيما جعل فيه لا يوجب ثبوت التوسع والتجوز فيه كما في قوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك: من الآية1) ، فإن هناك شيئين: اليد (7) وكون الملك فيها، ولهذا تنازعوا في إثبات ذلك صفة لله"(8) .
وما أشار إليه شيخ الإسلام من صفة "اليد" أوضحه في مكان آخر فقال رادا على نفاة هذه الصفة: "ومن ذلك أنهم إذا قالوا: بيده الملك، أو عملته يداك،
(1) زيادة من رد الدارمي على المريسي - وهي ليست في المخطوطة.
(2)
في المخطوطة (الساخرون) وهي على الصواب في الرد على المريسي.
(3)
في الرد على المريسي: فإنه يجهل..
(4)
نقض التأسيس - مخطوط - (3/11-12)، والنص في الرد على المريسي للدارمي (ص: 539-540) ضمن "عقائد السلف".
(5)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/12-14) .
(6)
انظر: المصدر السابق (3/8-11) .
(7)
في المخطوطة (إليه) وهو خطأ.
(8)
نقض التأسيس - مخطوط - (3/11) .
فهما شيئان، أحدهم: إثبات اليد، والثاني: إضافة الملك والعمل إليها. والثاني يقع فيه التجوز كثيراً، أما الأول فإنهم لا يطلقون هذا الكلام إلا لجنس له "يد" حقيقة، ولا يقولون: يد الهوى، ولا يد الماء، فهب أن قوله: بيده الملك، قد علم منه أن المارد بقدرته، لكن لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة" (1) .
ولعله اتضح معنى قوله في نص - نقض التأسيس - عن قوله {بِيَدِهِ الْمُلْك} : "ولهذاتنازعوا في إثبات ذلك صفة لله" أن المقصود بذلك أن من قال إن المراد بذلك بقدرته قد لا يحتج بهذه الآية على إثبات هذه الصفة لله، ولكن ها هنا أمران:
أحدهما: أن إثبات صفة اليدين قد دلت عليه أدلة قطعية، لا مجال فيها لأي تأويل.
الثاني: أن قوله {بِيَدِهِ الْمُلْك} وإن قيل إن معناه بقدرته، إلا أن الآية تدل على إثبات اليد لله، لأنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له يد حقيقة.
والخلاصة أن آية {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّه} من قال إن المقصود هو التحسر على التفريط في الإيمان والأعمال الصالحة، فليس قوله هذا تأويلاً لصفة من الصفات، حتى يكون حجة لنفاة الصفات. وكذلك من أثبت بهذه الآية الصفة، فإنه أثبت صفة الجنب لله، وأثبت التفريط فيه، مثل قوله:{بِيَدِهِ الْمُلْك} ، وقال: إنه لا يتجوز بذلك إلا لمن له جنب. والله أعلم.
3-
ومن الأمثلة قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} (القلم: من الآية42) فإن الصحابة والتابعين قد تنازعوا في هذه الآية، هل المقصود بها الكشف عن الشدة، أو المراد أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، "ولم تتنازع الصحابة والتابعون فيما ذكر من آيات الصفات إلا في هذه الآية، بخلاف قوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (صّ: من الآية75) ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن: من الآية27) ونحو ذلك، فإنه لم يتنازع فيه الصحابة والتابعون، وذلك أنه ليس في ظاهر القرآن أن ذلك
(1) الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى - (6/370) .
صفة لله تعالى لأنه قال {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} ولم يقل عن ساق الله، ولا قال يكشف الرب عن ساقه، وإنما ذكر ساقا نكرة غير معرفة ولا مضافة، وهذا اللفظ بمجرده لا يدل على أنها ساق الله، والذين جعلوا ذلك من صفات الله تعالى أثبتوه بالحديث الصحيح المفسر للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرج في الصحيحين الذي قال فيه:"فيكشف الرب عن ساقه"(1) ، وقد يقال أن ظاهر القرآن يدل على ذلك من جهة أنه أخبر أنه يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود، والسجود لا يصلح إلا الله، فعلم أنه هو الكاشف عن ساقه، وأيضاً فحمل ذلك على الشدة لا يصح، لأن المستعمل في الشدة أن يقال: كشف الله الشدة، أي أزالها، كما قال {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} (2)
(الزخرف:50) وقال: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ (3) إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوه} (لأعراف: من الآية135) وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (المؤمنون:75)، وإذا كان المعروف من ذلك في اللغة أنه يقال: كشف الشدة: أي أزالها، فلفظ الآية {يُكْشَفُ عَنْ سَاق} وهذا يراد به الإظهار والإبانة" (4) .
وشيخ الإسلام يرجح دلالة الآية على الصفة، خاصة مع دلالة الحديث الواضحة، ومع ذلك فمن قال من السلف إن المراد بها الكشف عن الشدة، فليس قولهم تأويلا، ثم إنهم يثبتون هذه الصفة بالحديث الصحيح، فلو كان قصدهم التأويل - لذات التأويل - كما يدعي النفاة، لكان تأويلهم للحديث أولى، لكن لما أنهم لم يفرقوا بين دلالة الكتاب والسنة الصحيحة على إثبات الصفات،
(1) متفق عليه من حديث طويل، البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: من الآية 22-23) ، ورقمه (7439) ، (فتح الباري 13/420-422) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، ورقمه (183) ، وقد ورد في صحيح مسلم، كتاب الفتن واشتراط الساعة، باب خروج الدجال حديث رقم (2940) قال في آخره "قال فذاك يوم يجعل الولدان شيبا، وذلك يوم يكشف عن ساق".
(2)
في المخطوطة (يمكثون) ، وهو خطأ..
(3)
في المخطوطة (العذاب) ، وهو خطأ.
(4)
نقض التأسيس - مخطوط - (3/15-16) .
أثبتوا هذه الصفة بالسنة مع ترجيحهم إن الآية لها معنى آخر. فالنتيجة واحدة.
ثانياً: أمثلة السنة:
من الأصول الفاسدة التي بنى عليها النفاة من أصحاب التأويل الذين أوجبوه وقالوا إنه صرف اللفظ من الإحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح - قولهم إنهم لا بد من تأويل بعض الظواهر، مثل قوله: عبدي مرضت فلم تعدني، ومثل الحجر الأسود يمين الله في الأرض، وغيرهما، ثم زعمهم أن أي نص خالف رأيهم أو مذهبهم هو من هذا الباب وإنه يحتاج إلى تأويل، فهم بين أمرين:
1-
أما أن يجعلوا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ.
2-
أو يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل.
والثاني مثل تأويلهم لكثير من نصوص الصفات الصريحة، كقوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك} (الرحمن: من الآية27)، وقوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (صّ: من الآية75) وقوله صلى الله عليه وسلم "يضع عليها قدمه"(1) أي النار، حيث زعموا أن هذه النصوص الواضحة الصريحة القاطعة لا تدل على صفة، ويجب تأويلها.
أما الأول - وهو الشاهد هنا - فقد ذكر شيخ الإسلام عدة أمثلة يمكن الإشارة إلى بعضها باختصار:
1-
حديث: عبدي مرضت فلم تعدني
…
جعت فلم تطعمني (2) ، فظن هؤلاء النفاة أن ظاهر الحديث أن الله تعالى هو الذي مرض وهو الذي جاع فجعلوا هذا المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، وعلى كلامهم يكون ظاهر كلام الله ورسوله كفرا والحادا. ثم قالوا لا بد فيه من التأويل.
وقد بين شيخ الإسلام غلط هؤلاء وقال: "أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بينت المراد، وأزالت الشبهة،
(1) سبق تخريجه (ص:682) .
(2)
سبق تخريجه (ص:836) .
فإن الحديث الصحيح لفظه: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده"، فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله لا يمرض وإنما الذي مرض عبده المؤمن. ومثل هذا لا يقال: ظاهره أن الله يمرض فيحتجا إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قرن به ما يبين معناه، كان ذلك هو ظاهره، كاللفظ العام إذا قرن به استثناء أو غاية أو صفة كقوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما} (العنكبوت: من الآية14) وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْن} (النساء: من الآية92) ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفا كاملة، ولا شهرين سواء كانا متفرقين أو متتابعين"(1) " (2) .
"فهذا الحديث قد قرن به الرسول بيانه، وفسر معناه، فلم يبق في ظاهره ما يدل على باطل، ولا يحتاج إلى معارضة بعقل ولا تأويل يصرف به ظاهره إلى باطنه بغير دليل شرعي، فأما أن يقال: إن في كلام الله ورسوله ما ظاهره كفر والحاد من غير بيان من الله ورسوله لما يزيل الفساد ويبين المراد، فهذا هو الذي تقول أعداء الرسل، الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبداً"(3) .
وكثيراً ما يورد شيخ الإسلام هذا المثال، ولذلك بين المراد منه في مناسبات متعددة (4) .
(1) علق المحقق رحمه الله على الآيتين، فأصاب في تعليقه على الأولى، دون الثانية، لأن المقصود بها أ، الناس متفقون على وجوب التتابع في صوم هذين الشهرين، وأن الإنسان ليس م خيرا بين صيامهما متتابعين أو متفرقين.
(2)
درء التعارض (5/235-236) .
(3)
انظر: المصدر السابق (5/233) .
(4)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/88-91) ، فقد أطال الكلام حوله، ورد على الرازي. وانظر أيضاً: درء التعارض (1/149-150) ، ومجموع الفتاوى (6/28) ، والاستغاثة (2/174، 356) ، والمحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/433)، والتدمرية (ص: 72-73) - المحققة.
2-
قوله صلى الله عليه وسلم: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"(1) - فقد زعم الغزالي والرازي أن هذا من الأحاديث التي تأولها الإمام أحمد (2) ، - وسيأتي إن شاء الله مناقشة هذا -، وقد بين شيخ الإسلام أن هذا الحديث ليس فيه حجة لمن يدعي جواز التأويل، يقول:"أما قوله: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فإن هذا ليس بثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بل قد روه عن ابن عباس، ولم يقل أحمد قط إن هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنه يتأول، بل هذا الحديث سواء كان عن ابن عباس أو كان مرفوعا فلفظه نص صريح لا يحتاج إلى تأويل، فإن لفظه: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه وقبله، فكأنما صافح الله وقبل يده، وتسمية هذا تأويلا أبعد من تسميته الحديث الذي فيه: "جعت"، وذلك أنه يمين في الأرض، فقوله: "في الأرض"، متصل بالكلام مظهر لمعناه، فدل بطريق النص أنه ليس هو يمين الله الذي هو صفة له حيث قال: في الأرض، كما لو قال الأمير مخاطبا للقوم في جاسوس له: هذا عيني عندكم، فإن هذا نص في أنه جاسوسه الذي هو يمنزلة عينه، ليس هو نفس عينه التي هي صفة، فكيف يجوز أن يقال إن هذا متأول مصروف عن ظاهره، وهو نص في المعنى الصحيح لا يحتمل الباطل، فضلا عن أ، يكون ظاهره باطلا.
وأيضا فإنه قال: من استلمه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يده، فجعل المستلم له كأنما صافح الله تعالى، ولم يقل فقد صافح الله، والمشبه ليس هو المشبه به، بل ذلك نص في المغايرة بينهما، فكيف يقال: إنه مصروف عن ظاهره، وهو نص في المعنى الصحيح، بل تأويل هذا الحديث - لو كان مما يقبل التأويل - أن يجعل الحجر عين يمين الله، وهو الكفر الصريح الذي فروا منه" (3) ، ثم نقل شيخ الإسلام كلام الدارمي حوله (4) ، وكلام القاضي
(1) سبق تخريجه، والكلام في رفعه ووقفه (ص: 558) .
(2)
انظر: الأحياء للغزالي (1/103)، وأساس التقديس للرازي (ص:81) .
(3)
نقض التأسيس - مخطوط - (3/103-104) .
(4)
انظر: المصدر السابق (3/104-105، 109)، وهو في الرد على المريسي (ص:395-512) ضمن عقائد السلف.
أبي يعلي (1) - مع أنه انتقده فيما ذكره من تأويلات أخرى بعيدة، حيث أبطلها إلا واحدا (2) .
فالحديث لا يحتاج إلى تأويل كما زعم النفاة، وقد بين ذلك شيخ الإسلام بوضوح (3) .
3-
حديث "إني لأجد نفس - بفتح الفاء - الرحمن من قبل اليمن"(4) ، وهو أيضا من الأحاديث التي ذكر الغزالي والرازي أن الإمام أحمد تأولها، يقول شيخ الإسلام بعد نقله كلام القاضي أبي يعلي وغيره حول معنى هذا الحديث (5) ، "فهذا كلام القاضي أبي يعلى، وما ذكره فيه من كلام غيره، وقد بين أنه إ نما تأول الخبر لأن في الخبر نفسه ما دل على صحة التأويل، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه إذا كان في الحديث الواحد متصلا به ما يبين معناه فذلك مثل التخصيص المتصل، ومثل هذا لا يقال فيه إنه خلاف الظاهر، بل ذلك هو الظاهر بلا نزاع بين الناس، ولهذا يقبل مثل ذلك في الإقرار والطلاق والعتاق والنذر واليمين وغيره ذلك
…
" (6) ، ومعنى الحديث إني أجد تفريج الله عن نبيه ما كان فيه من أذى المشركين، والرسول كثيراً ما يمدح أهل اليمن (7) . وقوله "من قبل اليمن" يبين مقصود الحديث، لأنه ليس لليمن اختصاص بصفات الله تعالى حتى يظن ذلك (8) .
(1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/105-107)، وهو في أبطال التأويلات - مخطوط - (ص:99-100) .
(2)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/107-109) .
(3)
انظر: درء التعارض (5/236-239) ، والاستغاثة (2/355-356) ، والرسالة العرشية - مجموع الفتاوى (6/580-581) ، ومجموع الفتاوى (6/397-398)، والتدمرية (ص:71-72) - المحققة.
(4)
رواه أحمد (2/541) ، وقال العراقي في المغني - تخريج الأحياء (1/103)"رجاله ثقات".
(5)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/110-114)، وقارن بأبطال التأويلات - مخطوط - (ص:149-151) .
(6)
نقض التأسيس - مخطوط - (3/114-115) .
(7)
انظر: المصدر السابق (3/112-113)، وأبطال التأويلات (ص:149) .
(8)
انظر: مجموع الفتاوى (6/398) .
وقد ذكر شيخ الإسلام نماذج وأحاديث أخرى (1) ،
وهي أحاديث واضحة الدلالة، مفهومة المعنى، لا تحتاج إلى تأويل، لأنه لا يتبادر إلى الذهن فيها أي معنى من المعاني الفاسدة التي ظنها هؤلاء.
وأهل السنة والجماعة يثبتون الصفات الواردة التي دلت عليها عشرات النصوص من الكتاب والسنة، ولا يفرقون، بينها، وهذا معروف متواتر سطرته كتب أهل السنة المتعددة، وقد أثبتوا جميع الصفات ومنها ما نفاه متأخرو الأشعرية - كالاستواء، والعلو، والنزول، والمجيء، والإتيان، والوجه، واليدين، والعين، والقدم، واليمين، والأصابع، وغيرها مما ثبت بالنصوص الواردة.
أما تلك الأحاديث - التي ظن النفاة أن ظاهرها يدل على معنى فاسد ويجب تأويلها - فلم يفهم منها أهل السنة إلا المعنى الحق الذي دل عليه النص بقرائنه الواضحة، وما اختلف فيه أهل السنة فهو من هذا الباب لأن بعضهم يرى أن القرائن تدل على أن القصد الصفة، وبعضهم يرى أنها تدل على معنى آخر، ولذلك لما ثبتت صفة "الساق" في الحديث أثبتها أهل السنة، وإن كانوا مختلفين حول دلالة الآية عليها، وهذا هو الذي يوضح الفرق بين منهج السلف، ومنهج المبتدعة من أهل الكلام.
(1) منها: حديث قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/142-144)، والتدمرية (ص: 73) - المحققة، والمقصود الكلام على المعنى الفاسد الذي توهموه وهو أن القلب متصلب بالأصابع مماس لها، وليس المقصود إثبات صفة الأصابع لأن هذا لهل باب آخر، والحديث لد عليه.
ومنها: حديث: إنا عند المنكسرة قلوبهم، انظر نقض التأسيس - مخطوط - (3/144-155) .
ومنها: حديث: كنت سمعه الذي يسمع به. انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/ 155-157) ، والاستغاثة (2/175-176) .
ومنها: حديث: الكبرياء ردائي والعظمة أزاري. انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/157-160) ، ومجموع الفتاوى (10/253) .
ومنها: حديث: آية الكرسي لها لسان. انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/160-162) .
وقد بين شيخ الإسلام أن هؤلاء النفاة أدى بهم منهجهم إلى كثير من الاضطراب والتناقض، فقال: "ولهذا لما لم يكن لهم قانون قويم، وصراط مستقيم في النصوص، لم يوجد أحد منهم يمكنه التفريق بين النصوص التي تحتاج إلى تأويل، والتي لا تحتاج إليه، إلا يما يرجع إلى نفس المتأول، المستمع للخطاب، لا بما يرجع إلى نفس المتكلم بالخطاب:
فنجد من ظهر له تناقض أقوال أهل الكلام والفلسفة - كأبي حامد وأمثاله، ممن يظنون أن في طريق التصفية نيل مطلوبهم - يعولون في هذا الباب على ذوقهم وكشفهم فيقولون: إن ما عرفته بنور بصيرتك فقرره، وما لم تعرفه فأوله (1) .
ومن ظن أن في كلام المتكلمين ما يهدي إلى الحق، يقول: ما ناقض دلالة العقل وجب تأويله، وإلا فلا.
ثم المعتزلي - والمتفلسف الذي يوافقه - يقول: إن العقل يمنع إثبات الصفات، وإمكان الرؤية.
ويقول المتفلسف الدهري: إنه يمنع إثبات معاد الأبدان، وإثبات أكل وشرب في الآخرة، ونحو ذلك.
فهؤلاء، مع تناقضهم، لا يجعلون الرسول نصب نفسه في خطابه دليلا يفرق به بين الحق والباطل، والهدى والضلال، بل يجعلون الفارق هو ما يختلف باختلاف الناس من أذواقهم وعقولهم، ومعلوم أن هذا نسبة للرسول إلى التلبيس وعدم البيان، بل إلى كتمان الحق وإضلال الخلق، بل إلى التكلم بكلام لا يعرف حقه من باطله، ولهذا كان حقيقة أمرهم الإعراض عن الكتاب والرسول، فلا يستفيدون من كتاب الله وسنة رسوله شيئا من معرفة صفات الله تعالى نفيا وإثباتا، وإنما دلالته عندهم في العمليات - أو بعضها - مع أنهم متفقون على أن مقصوده العدل بين الناس وإصلاح دنياهم" (2) .
(1) انظر: الأحياء للغزالي (1/103) .
(2)
انظر: درء التعارض (5/240-241) .
والغزالي ذكر تطور تأويل نصوص السمع عند المعتزلة والفلاسفة وغيرهم في أمور المعاد واليوم الآخر والصفات، وقد نقل شيخ الإسلام كلامه، وبين أنه حجة عليه، كما رد عليه تعويله على الكشف والمشاهدة (1) .
الأمر الثالث: هل قال الإمام أحمد بالتأويل؟ "
القول بأن الإمام أحمد قال بالتأويل تلقفته طائفتان:
إحداهما: طائفة من الحنابلة الذين مالوا إلى شيء من بدع أهل الكلام، حيث جعلوا مثل هذا النقل عن الإمام أحمد حجة لهم في مخالفتهم لما هو مشهور عن جمهور أصحابه المتبعين لمذهب السلف.
والأخرى: طائفة من الأشاعرة وغيرهم، ليستدلوا بمثل هذا النقل على صحة مذهبهم في تأويل بعض الصفات، وأنهم مخالفين لمذهب السلف. والذي روى عن الإمام أحمد في هذه المسألة لا يتعدى أحد نقلين:
أحدهما: ما نقله الغزالي - في معرض حديثه عن الإمام أحمد ومنعه من التأويل - قال الغزالي: "سمعت بعض أصحابه يقول: إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ: قوله صلى الله عليه وسلم: الحجر الأسود يمين الله في أرضه (2) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم: إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن (4) .." (5) وقد نقل الرازي هذا عن الغزالي مع تبديل في أحد الأحاديث (6) .
الثاني: ما نقله حنبل في المحنة، عن الإمام أحمد، يقول: احتجوا علي يوم المناظرة، فقالوا: تجيء يوم القيامة سورة البقرة، وتجيء سورة تبارك؟
(1) انظر: درء التعارض (5/347غ-357)، وانظر أيضاً: نقض التأسيس - مخطوط - (3/93-103) .
(2)
سبق تخريجه (ص:593) .
(3)
رواه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، ورقمه (2654) .
(4)
سبق تخريجه قريبا (ص: 1154) .
(5)
أحياء علوم الدين (1/103) .
(6)
انظر: ساس التقديس للرازي (ص: 81) حيث أبدل حديث أنا جليس من ذكرني بحديث قلوب العبد الذي ذكره الغزالي.
قال: فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله جل ذكره:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) ، وإنما تأتي قدرته، القرآن أمثال ومواعظ، وأمر ونهي، وكذا وكذا" (1) ، وأحال القاضي أبو يعلي في أبطال التأويلات على رواية حنبل فقال: "وقد قال أحمد في رواية حنبل في قوله {وَجَاءَ رَبُّكَ} قال قدرته" (2) . ونقل هذه الرواية عن القاضي أبي يعلي بعض الحنابلة، منهم ابن الجوزي في تفسيره (3) ، وفي كتابه الباز الأشهب (4) - الذي نصر فيه مذهب أهل التعطيل -، كما نسبه البيهقي إلى الإمام أحمد (5) .
والعجيب أن هؤلاء المعطلة - يعظم عندهم مثل هذين النقلين - مع ما فيهما من كلام كما سيأتي - وأما النصوص المتواترة المشتهرة عن الإمام أحمد في إثبات الصفات، والرد على الجهمية وأتباعهم، والتحذير من الخوض في علم الكلام وتأويل الصفات - فهذه لا حجة فيها عندهم على مذهب هذا الإمام الموافق لمذهب السلف، وغاية ما يقولون فيها أن الإمام أحمد إنما أراد بها التفويض!.
ومع ذلك فلا حجة لهم فيما نقلوه عن هذا الإمام، وبيان ذلك كما يلي: أما النقل الأول - الذي ذكره الغزالي والرازي - فقد قال فيه شيخ الإسلام "هذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف: لا علمه
(1) الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد (ص: 58)، وانظر (ص: 82) ، وانظر: الاستقامة (1/74) .
(2)
أبطال التأويلات، (ص:61) - مخطوط.
(3)
زاد المسير [البقرة: 21] ، (1/225)، وفي سورة الفجر آية: 22 أحال على آية البقرة.
(4)
(ص:61)، وهو نفسه "دفع شبه التشبيه" والنصف فيه (ص:45) ، وإن كان الباز فيه بعض الزيادات. والعجيب أن محققي الكتابين - الكوثري، ومحمد منير - يشربان من عين واحدة، هي عين التعطيل وقد رد على ابن الجوزي في دعواته نسبة التأويل إلى الإمام أحمد صاحب رسالة: ابن الجوزي بين التفويض والتأويبل (ص: 138-143) - ط على الآلة الكاتبة.
(5)
كما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية (10/327) - وقد سبقت الإشارة إلى ذلك (ص:584) .
بما قال، ولا صدقه فيما قال" (1) ، والدليل على ذلك اختلاف نقل الرازي عن نقل الغزالي، وله احتمالان: أن يكون الرازي غلط في النقل عن الغزالي، أو أن الغزالي نقل في كتاب آخر - غير الأحياء - خلاف ما ذكره في الإحياء، قال شيخ الإسلام: "وعلى التقديرين فيعلم أن هذا النقل الذي نقله غير مضبوط" (2) . وقال أيضاً عن الغزالي، وعدم علمه بالحديث وشهادته على نفسه بأن بضاعته فيه مزجاة: "ولهذا في كتبه من المنقولات المكذوبة الموضوعة ما شاء الله، مع أن تلك الأبواب يكون فيها من الأحاديث الصحيحة ما فيه كفاية وشفاء، ومن ذلك هذا لا نقل الذي نقله عن أحمد، فإنه نقله عن مجهول لا يعرف، وذلك المجهول أرسله إرسالا عن أحمد، ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه أن هذا كذب مفتري عليه، ونصوصه المنقولة عنه بنقل الاثبات والمتواتر عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه
…
" (3) .
ثم إن هذه الأحاديث التي أوردها الغزالي والرازي ليس فيها ما يوجب التأويل؛ لأن دلالتها واضحة، فزعمهم أنها - أو غيرها من الأحاديث - بحاجة إلى التأويل، أو أن الإمام أحمد قد تأولها، لا يفيدهم شيئاً في هذا الباب ولهذا ناقش شيخ الإسلام هذه الأحاديث وغيرها، وبينا ما فيها، وقد سبق قبل قليل نقل كلامه فيها.
وخلاصة القول:
1-
أن هذا النقل غير صحيح، ولم يورده أحد في مسائل وكلام الإمام أحمد.
2-
أن النقول الكثبرة عن الإمام أحمد تدل على إثباته ومنعه من التأويل.
3-
أن هذه الأحاديث لا حجة فيها لهم، لأن ما فهموه من الظواهر الفاسدة، قد دلت النصوص نفسها على أنه غير وارد.
(1) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/398)، وانظر: درء التعارض (7/149-150) .
(2)
نقض التأسيس - مخطوط - (3/94) .
(3)
المصدر السابق (3/100) .
أما النقل الثاني: الذي أورده حنبل في سياق المحنة، فقد ذكر شيخ الإسلام أن الحنابلة اختلفوا في هذه الرواية على خمس طرق:
1-
"قال قو: غلط حنبل في نقل الرواية، وحنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه، والجماهير يرون خلافه.
وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنل التي خالفه فيها الجمهور، هل تثبت روايته؟ على طريقين، فالخلال وصاحبه قد ينكرانها، ويثبتها غيرهما كابن حامد.
2-
وقال قوم منهم: إنما قال ذلك إلزاماً للمنازعين له، فإنهم يتأولون مجيء الرب بمجيء أمره، قال: فكذلك قولوا: مجيء كلامه ثوابه. وهذا قريب.
3-
وقال قوم منهم: بل هذه الرواية ثابتة في تأويل ما جاء من جنس الحركة والإتيان والنزول، فيتأول على هذه الرواية بالقصد والعمد لذلك، وهذه طريقة ابن الزاغزني وغيره.
4-
وقال قوم: بل يتأول بمجيء ثوابه. وهؤلاء جعلوا الرواية في جنس الحركة، دون بقية الصفات.
5-
وقال قوم منهم ابن عقيل وابن الجوزي: بل يتعدى الحكم من هذه الصفة إلى سائر الصفات التي تخالف ظاهرها، للدليل الموجب مخالف الظاهر" (1) .
ويلاحظ أن الأقوال الثلاثة الأخيرة تصحح نسبة التأويل إلى الإمام أحمد، وتجعل ذلك حجة لها على مذهبها المائل إلى الأشاعرة كما هو قول ابن الزاغوني وغيره، أو ما هو أشد غلوا منهم في التعطيل والنفي كما هو المشهور من مذهب ابن عقيل وابن الجوزي.
(1) الاستقامة (1/75-76) .
وقد نفي شيخ الإسلام بشكل قاطع ما نسب إلى الإمام أحمد من التأويل وقال: "لا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين إنه لا يقول إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره، بل هو ينكر على من يقول ذلك (1) " وقال: "والصواب أن جميع هذه التأويلات مبتدعة، لم يقل أحد من الصحابة شيئاً منها ولا أحد من التابعين لهم بإحسان، وهي خلاف المعروف المتواتر عن أئمة السنة والحديث، أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة"(2) . وهذه رسائل وأقوال الإمام أحمد مشهورة معروفة، وما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وله فيها كلام، ولم يرد فيها ما يخالف مذهب السلف، ولذلك عده الناس إماما لأهل السنة بسبب ما ابتلى به من المخالفين من أهل الأهواء الذين ناظرهم وبين بطلان أقوالهم، وهو في ذلك متبع لمن قبله من أئمة السلف (3) .
وإذا كان هذا هو المتواتر عن الإمام أحمد فلا بد من النظر إلى رواية حنبل - في المحنة - على أنها رواية فردة خالفت المشهور عنه، ولهذا قال القاضي أبو يعلى بعد ذكره لرواية حنبل، وتغليط ابن شاقلا له:"وقد قال أحمد في رواية أبي طالب، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: من الآية210) ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) من قال إن الله لا يرى فقد كفر، وظاهر هذا أن أحمد أثبت مجيء ذاته لأنه احتج بذلك على جوازه رؤيته، وإنما يحتج بذلك على جواز رؤيته إذا كان الإتيان والمجيء مضافا إلى الذات"(4) .
وخلاصة الجواب عن رواية حنبل - في المحنة -:
1-
أما أن يقال هذه من مفاريده وقد خالفت المتواتر والمشهور عنه.
2-
وعلى فرض ثبوت هذه الرواية فيقال: أن الإمام قال هذا إلزاماً لخصومه وقد قال شيخ الإسلام على هذا الاحتمال: "وهذا قريب"(5) .
(1) شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/401) .
(2)
المصدر السابق (5/409) .
(3)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (3/97-103) .
(4)
أبطال التأويلات - مخطوط - (ص: 61-62) .
(5)
سبق نقله قريباً من الاستقامة (1/75) .
وشرحه في موضع آخر فقال: "ومنهم من قال: بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم، يقول: إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيء والإتيان، ولم يكن ذلك دليلا على أنه مخلوق، بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره، فكذلك قولوا: جاء ثواب القرآن، لا أنه نفسه هو الجائي، فإن التأويل هنا ألزم، فإن المراد هنا الإخبار بثواب قارئ القرآن، وثوابه عمل له، لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن.
فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه، ثم تأولتم ذلك بأمره، فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فلأن تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأولى والأحرى.
وإذا قاله على سبيل الإلزام لم يلزم أ، يكون موافقا لهم عليه، وهو لا يحتاج إلى أ، يلتزم هذا؛ فإن هذا الحديث له نظائر كثيرة في مجيء أعمال العباد، والمراد مجيء قراءة القارئ التي هي عمله، وأعمال العباد مخلوقة، وثوابها مخلوق، ولهذا قال أحمد وغيره من السلف: إنه يجيء ثواب القرآن (1) ، والثواب إنما يقع على أعمال العباد، لا على صفات الرب وأفعاله" (2) .
والخلاصة:
1-
أن هذا مخالف لما تواتر عن الإمام أحمد من المنع من التأويل.
2-
أن حنبل تفرد بهذه الرواية.
3-
وعلى فرض صحته فالإمام قالها إلزاما لخصومه المعتزلة (3) .
هذه خلاصة مباحث "التأويل" تبين سلامة منهج أهل السنة في الصفات، كما شرحه شيخ الإسلام ورد على المجيزين للتأويل، ولا شك أن هذا الباب لما فتحه المتكلمون - وقد يكون عند بعضهم عن حسن نية - ولج منه أهل الإلحاد من القرامطة والباطنية والفلاسفة وغيرهم ليتواصلوا به إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، وإنكار المعاد وما فيه، وهذا وحده كاف لوجود سد هذا الباب الخطير.
(1) انظر الكلام على مجيء سورة البقرة وآل عمران في نقض التأسيس - مخطوط - (3/116-1126) .
(2)
شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى (5/400) .
(3)
انظر أيضاً: مجموع الفتاوى (16/404، 421-422) ، حيث نقل كلام ابن الزاغوني، وانظر أيضاً (6/156-166) .
ويمكن ذكر نموذج واحد لمقالات هؤلاء الذين فتحوا باب التأويل، يقول شيخ الإسلام:"ولهذا قال كثير منهم - كأبي الحسين البصري، ومن تبعه كالرازي والآمدي وابن الحاجب - أن الأمة إذا اختلفت في تأويل الآية على قولين، جاز لمن بعدهم أحداث قول ثالث، بخلاف ما إذا اختلفوا في الأحكام على قولين. فجوزوا أن تكون الأمة مجتمعة على الضلال في تفسير القرآن والحديث وأن يكون الله أنزل الآية، وأراد بها معنى لم يفهمه الصحابة والتابعون، ولكن قالوا: إن الله أراد معنى آخر. وهم لو تصوروا هذه المقالة لم يقولوا إن هذا فإن أصلهم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة"(1) .
ومن تدبر هذا وأمثاله عرف ما فيه وماله من آثار.
(1) الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/59) .
الأمر الرابع: الحقيقة والمجاز:
يشبه هجوم شيخ الإسلام على "المجاز" هجومه على المطق اليوناني، من حيث الدوافع والأسباب وقوة الهجوم، ثم الأثر الذي ترتب عليه، خاصة أثره فيمن جاء بعده من الموافقين والمخالفين. وإذا كان أي باحث في المنطق والفلسفة - المسماة بالإسلامية - لا يمكن أن يغفل أثر ما كتبه شيخ الإسلام في ذلك دفاعا عن مذهب السلف، فكذلك أي باحث في باب المجاز وما يتعلق به لا يمكنه إلا أن يشير إلى مذهب شيخ الإسلام وموقفه منه.
وقد أشار إلى هذا أحد الباحثين، ممن أفرد للمجاز كتابا مطولا، بلغ جزأين كبيرين (1)
- فقال في مقدمة كتابه بعد عرض مختصر لتاريخ القول بالمجاز بين مثبتيه ونفاته: "والمتابع لسير النزاع بين الفريقين يرى أن الخلاف بينهما كان هادئاً طوال القرون الأولى، حتى النصف الثاني من القرن السابع، والربع الأول من القرن الثامن، فقد اتجه الخلاف إلى الشدة والعنف - ولكن من جانب منكريه وحدهم، دون مجوزيه - فقد برز على الساحة الإمام أبو العباس أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (661-728هـ) وقد وهبه الله ذاكرة واعية، وقلبا ذكيا، ولسانا فصيحاً، وقلما جريئا، وتبنى مذهب السلف
(1) اسمه: المجاز في اللغة والقرآن بين الإجازة والمنع، للدكتور عبد العظيم المطعني، وقد استعرض تاريخ هذه المسألة بإسهاب، ولم كان ممن يرجح جواز المجاز في اللغة والقرآن فقد تصدى للدر على شيخ الإسلام وأطال في ذلك، انظر (2/639-903) من الكتاب السابق، وفي نقاشه لشيخ الإسلام يلاحظ أمران:
أحدهما: أنه كثيرا ما يصادر على المطلوب، فيحتج ببعض النصوص، وينقل كلام السابقين فيها، وأنهم قصدوا بذلك المجاز، وشيخ الإسلام يرى أن هذه النصوص حجة له، وكلام السابقين فيها يدل على سعة اللغة لا على المجاز، فشيخ الإسلام مثلا لا يشك في أن المقصود بسؤال القرية هم أهلها وليس البنيان، ولكن من قال إن هذا مجاز؟ بل القرية تطلق على هذا وهذا. فإذا جاء المؤلف أو غيره ليحتج على شيخ الإسلام بأن من السلف من قال المقصود: أهل القرية، وهذا مجاز، كان هذا مصادرة على المطلوب، لأنه هو موضع الخلاف.
والثاني: أن المؤلف مع أنه رجح إلى كتاب "الإيمان" والرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز، إلا أنه غفل عن بحث آخر مطول ومهم جدا عنوانه:"الحقيقة والمجاز" وهو ضمن مجموع الفتاوى (20/400-497) وقد أفرده للرد على الآمدي.
من حيث الجملة (1) ، وتصدي لأقاويل كثير من الفرق ولم يترك مجالا من مجالات الفكر الإسلامي إلا وكان له فيه قصب السبق، وكان مما أدلى فيه بدلوه موضوع المجاز، فاختار مذهب المنع
…
ومن يقرأ كتابه: "الإيمان" يجد نفسه أمام صخرة عاتية، لا تعمل فيها المعاول إذا أريد النيل منها
…
" (2) .
وعلى الرغم من أن المؤلف رد على شيخ الإسلام واشتد في الرد أحيانا إلا أنه ذكر السبب الصحيح لموقف شيخ الإسلام من المجاز، فقال "إن الضرورات والظروف التي جعلت الإمام يقف تلك الوقفة من المجاز في كتابه الإيمان، وفي رسالته المدنية، هي في الواقع ظروف جد خطيرة ومن يقف على خطورتها يسوغ للشيخ الإمام وقوفه ضدها، والعمل بكل طاقة على دفعها وكف شرها، ولو أدى ذلك إلى إنكار المجاز، إذ ليس هو عقيدة أو معلوما من الدين بالضرورة، وإنما هو مذهب قولي، وهو فن من فنون البيان لا يفسق منكره ولا يذم.
ومجمل ما يمكن تصوره هو كثرة التأويلات التي تعدى بها قائلوها على النصوص الشرعية، وتجاوزوا بها مرحلة المعقول المقبول، إلى المدخول المنحول، الذي يكاد يذهب بكل الحقائق التي جاء بها الإسلام وأقرها. فلم تكن المسألة مسألة تأويل مجازي، وإلا لهان الخطب، وإنما طم شرها وعم، وأغرب قائلوها كل الإغراب، حتى صارت بعض الألفاظ ليس لها مدلول محقق في خضم تلك التأويلات العمياء.
ومنشأ تلك التأويلات هو الفرق الكلامية والاعتقادية، والفلاسفة، وغلاة الصوفية، وقد وقف الإمام رحمه الله من تحريفات الفرق والمتكلمين وقفات جادة وطويلة وشاقة
…
" (3) .
ولا شك أن شيخ الإسلام ما كان ليعترض على المجاز أو غيره من العلوم الحادثة لو أنها بقيت مثل كثير من العلوم والفنون التي أفردت بمؤلفات خاصة بها
(1) هذا بحسب رأي المؤلف، لا بحسب الواقع.
(2)
المجاز في اللغة والقرآن الكريم - المطعمني (1/ح - ط) .
(3)
المجاز في اللغة والقرآن الكريم (2/890) .
- وصار لأصحاب كل فن اصطلاح خاص بهم - ولكن لما أخذ المعتزلة وغيرهم - ومن عنى منهم باللغة وفنونها - يبتدعون هذا المصطلح ليتواصلوا به إلى تصحيح عقائدهم الفاسدة، ودعمها بما يدعونه من الأدلة، بناء على مصطلح المجاز أو غيره، كان لا بد من الوقوف أمام هذه المصطلحات وبيان فسادها أصلا وفرعا. وهذا ما فعله شيخ الإسلام بالنسبة لطاغوت المجاز.
ولهذا يقول شيخ الإسلام في معرض رده على الآمدي ودعواه أن الخلاف بين مثبتي المجاز ونفاته، نزاع لفظي: "يقال: هو قد سلم أن النزاع لفظي، فيقال: إذا كان النزاع لفظيا، وهذا التفريق اصطلاح حادث لم يتكلم به العرب، ولا أمة من الأمم، ولا الصحابة والتابعون، ولا السلف - كان المتكلم بالألفاظ الموجودة التي تكلموا بها ونزل بها القرآن أولى من التكلم باصطلاح حادث لو لم يكن فيه مفسدة، وإذا كان فيه مفاسد، كان ينبغي تركه لو كان الفرق معقولا، فكيف إذا كان الفرق غير معقول، وفيه مفاسد شرعية، وهو إحداث في اللغة - كان باطلا عقلا، وشرعا، ولغة. أما العقل فإنه لا يتميز فيه هذا عن هذا. وأما الشرع فإن فيه مفاسد يوجب الشرع إزالتها. وأما اللغة فلأن تغيير الأوضاع اللغوية غير مصلحة راجحة، بل مع وجود المفسدة (1) .
فإن قيل: وما المفاسد؟ قيل: من المفاسد أن لفظ المجاز المقابل للحقيقة، سواء جعل من عوارض الألفاظ أو من عوارض الاستعمال، يفهم ويوهم نقص درجة المجاز عن درجة الحقيقة، لا سيما ومن علامات الجاز صحة إطلاق نفيه، فإذا قال القائل: إن الله تعالى ليس برحيم ولا رحمن، لا حقيقة، بل مجاز، إلى غير ذلك مما يطلقونه على كثير من أسمائه وصفاته وقال:"لا إله إلا الله" مجاز لا حقيقة، ما ذكره هذا الآمدي من أن العموم المخصوص مجاز
…
. ومعلوم أن هذا الكلام من أعظم المنكرات في الشرع، وقائله إلى أن يستتاب - فإن تاب وإلا قتل - أقرب منه إلى أن يجعل من علماء المسلمين
…
" (2) .
(1) كذا في مجموع الفتاوى، ولعل صحة العبارة:"وأما اللغة فلأن تغيير الأوضاع اللغوية ليس فيه مصلحة راجحة، بل معه توجد المفسدة".
(2)
الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/454-456) .
ثم ذكر شيخ الإسلام أن من هذه المفاسد: "جعل عامة القرآن مجازا كما صنف بعضهم مجازات القراءات (1) ، وكما يكثرون من تسمية آيات القرآن مجازا، وذلك يفهم ويوهمالمعاني الفاسدة، هذا إذا كان ما ذكروه من المعاني صحيحا، فكيف وأكثر هؤلاء يجعلون ما ليس بمجازا؟ وينفون ما أثبته الله من المعاني الثابتة، ويلحدون في أسماء الله وآياته، كما وجد ذلك للمتوسعين في المجاز من الملاحدة أهل البدع"(2) .
والخلاف في المجاز مشهورن وأشهر الأقوال فيه ثلاثة:
1-
قيل بوجوده في اللغة والقرآن، وهو قول كثير من المتأخرين.
2-
وقيل بوجوده في اللغة دون القرآن، وهذا قول داود الظاهري وابنه محمد، وابن حامد، وأبي الحسن الجزري، وأبي الفضل التميمي، ومحمد بن خويز منداد ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم.
3-
وقيل بعدم وجوده في اللغة والقرآن. وهو قول أبي إسحاق الاسفراييني وغيره (3) .
وليس المقصود مناقشة هذه الأقوال واستقصاء أدلتها، والترجيح بينها، وإنما المقصود بيان منهج شيخ الإسلام في ذلك، ويمكن تلخيصه من خلال ما يلي:
1-
الذي دفع شيخ الإسلام إلى بحث المجاز وإنكار وجوده في القرآن وفي اللغة، أمران:
(1) لعله يقصد مجاز القرآن لأبي عبيدة.
(2)
الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/458) .
(3)
انظر: الإيمان (ص:85) - ط المكتب الإسلامي، ورسالة منع جواز المجاز للشنقيطي (ص:7-8) .
أحدهما: القول بالمجاز في أسماء الله وصفاته، وما سببه ذلك من الإلحاد فيها كما سبق.
والثاني: قول المرجئة أن القول بأن الأعمال من الإيمان مجاز (1) .
2-
تقريره أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز حادث في كلام المتأخرين بعد القرون الثلاثة، لم يتكلم به أحد من الصحابة ولا التابعين. لا الأئمة المشهورين. وأن الغالب أن هذا حادث من جهة المعتزلة ونحوهم من المتكلمين (2) .
3-
أن التقسيم إلى حقيقة ومجاز لا حقيقة له، إذ ليس لمن فرق بينهما فرق معقول يمكن التمييز به بين نوعين، والتعريفات التي ذكروها لكل منهما غير دقيقة (3) .
4-
مناقشة الأمثلة والأدلة التي يذكرونها ويحتجون بها على وجود المجاز في القرآن، والكلام حول كل واحد منها وتوجيهه (4) .
5-
أن أخطر القضايا - في هذه المسألة - القول بأن بعض كلام الله تعالى مجاز، وقد بين شيخ الإسلام أن صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز لا بد فيه من أمور أربعة، يقول شيخ الإسلام في مناظرته لأحد الأشاعرة: "قلت له: إذا وصف الله نفسه بصفة، أو وصفه بها رسوله، أو وصفه بها المؤمنون - الذين اتفق المسلمون على هدايتهم ودرايتهم - فصرفها عن ظاهرها اللائق بجلال الله سبحانه، وحقيقتها المفهومة منها، إلى باطن يخالف الظاهر، ومجاز ينافي الحقيقة، لا بد فيه من أربعة أشياء:
(1) انظر: الإيمان (ص:83) - المكتب الإسلامي.
(2)
انظر: المصدر السابق (ص: 83-84) ، وانظر الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/451-454) .
(3)
انظر: الإيمان (ص:92-102) .
(4)
انظر: المصدر السابق (ص:103-107) ، والحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (20/462-467) .
أحدها: أن ذلك اللفظ مستعمل بالمعنى المجازي؛ لأن الكتاب والسنة وكلام السلف جاء باللسان العربي، ولا يجوز أن يراد بشيء منه خلاف لسان العرب، أو خلاف الألسنة كلها، فلا أن يكون ذلك المعنى المجازي مما يراد به اللفظ، وإلا فيمكن كل مبطل أن يفسر أي لفظ بأي معنى سنح له، وإن لم يكن له أصل في اللغة.
الثاني: أن يكون معه دليل يوجب صرف اللفظ عن حقيقته إلى مجازه، وإلا فإذا كان يستعمل في معنى بطريق الحقيقة، وفي معنى بطريق المجاز، لم يجز حمله على المجازي بغير دليل يوجب الصرف بإجماع العقلاء، ثم إن ادعى وجوب صرفه عن الحقيقة فلا بد له من دليل قاطع عقلي أو سمعي يوجب الصرف، وإن ادعى ظهور صرفه عن الحقيقة فلا بد من دليل مرجح للحمل على المجاز.
الثالث: أنه لا بد من أن يسلم ذلك الدليل - الصارف - عن معارض، وإلا فإذا قام دليل قرآني أو إيماني يبين أن الحقيقة مرادة امتنع تركها، ثم إن كان هذا الدليل نصا قاطعا لم يلتفت إلى نقيضه، وإن كان ظاهرا فلا بد من الترجيح.
الرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام، وأراد به خلاف ظاهره وضد حقيقته فلا بد أن يبين للأمة أنه لم يرد حقيقته، وأنه أراد مجازه سواء عينه، أو لم يعينه، لا سيما في الخطاب العلمي الذي أريد منهم فيه الاعتقاد والعلم، دون عمل الجوارح؛ فإنه سبحانه وتعالى جعل القرآن نورا وهدى وبيانا للناس وشفاء لما في الصدور، وأرسل الرسل ليبين للناس ما نزل إليهم، وليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
ثم هذا الرسول الأمي العربي بعث بأفصح اللغات وأبين الألسنة والعبارات، ثم الأمة الذين أخذوا عنه كانوا أعمق الناس علما، وأنصحهم للأمة، وأبينهم للسنة، فلا يجوز أن يتكلم هو وهؤلاء بكلام يريدون به خلاف ظاهرة إلا وقد نصب دليلا يمنع من حمله على ظاهره
…
" (1) .
(1) الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز - مجموع الفتاوى (6/360-361) .
ثم طبق شيخ الإسلام هذه على صفة "اليد" لتكون انموذجا يحتدذي عليه، وناقش ذلك مناقشة عظيمة ونافعة، بين في آخرها أن هذا الأشعري الذي ناقشه أظهر التوبة وتبين له الحق (1) .
(1) انظر: المصدر السابق (6/362-372) .