المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل: - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ٣

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثالث: موقفه في الرد عليهم تفصيلا

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: في توحيد الربوبية والألوهية

- ‌أولا: أول واجب على المكلف:

- ‌ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل:

- ‌ثالثا: توحيد الربوبية:

- ‌المبحث الثاني: في الأسماء والصفات

- ‌مقدمة:

- ‌أولا: أسماء الله تعالى:

- ‌ثانيا: الصفات التي أثبتها الأشاعرة:

- ‌ثالثاً: الصفات التي نفوها أو أولوها:

- ‌المسألة الأولى: حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، ومناقشتها:

- ‌أولاً: أدلتهم وحججهم العقلية:

- ‌ثانياً: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌ثانياً: مناقشة موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌الفرع الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه

- ‌الفرع الثاني: التأويل والمجاز:

- ‌الفرع الثالث: هل مذهب السلف هو التفويض

- ‌المسألة الثانية: القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات:

- ‌المسألة الثالثة: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية:

- ‌المسألة الرابعة: الصفات الخبرية:

- ‌المسألة الخامسة: العلو:

- ‌المسألة السادسة: كلام الله:

- ‌المبحث الثالث: في القضاء والقدر

- ‌مقدمة:

- ‌الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:

- ‌الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب

- ‌المبحث الرابع: الإيمان

- ‌أولاً: الأقوال في الإيمان

- ‌ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان:

- ‌ثالثاً: ردود شي الإسلام على جمهور الأشاعرة في الإيمان:

- ‌المسألة الأولى: هل الإيمان التصدق فقط

- ‌المسألة الثانية: أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان والرد على المرجئة:

- ‌المسألة الثانية: الاستثناء في الإيمان:

- ‌المبحث الخامس: مسائل متفرقة

- ‌أولاً: الرؤية:

- ‌ثانياً: النبوات والمعجزات:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل:

وجماهير النظار، كان يخالفهم فيه كثر من أصحابهم الأشاعرة وغاية قولهم- إن كان صحيحا- أن يكون وصف سلوك لطائفة معينة، أما أن يكون ذلك وصفا لجميع بني آم وأنه لا يحصل لهم العلم إلا بهذه الطرق التى يذكرونها- كما فعله كثير من المتصوفة والفلاسفة وغيرهم- فهو قول باطل لا دليل عليه (1) .

‌ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل:

وهذا من أهم الأبواب التي غلط فيها أهل الكلام- وفيهم الأشاعرة- وصار كلامهم فيه مشتملا على قليل من الحق وكثير من الباطل، ولاشك أن أسس الإسلام وقاعدته توحيد الله وحده لا شريك له.

والتوحيد والواحد والأحد عند الأشاعرة يشمل ثلاثة أمور:

1-

أن الله واحد في ذاته لا قسيم له.

2-

وأنه واحد في صفاته لا شبيه له.

3-

وأنه واحد في أفعاله لا شريك له (2) .

وأشهرها عندهم وأقواها دلالة على التوحيد النوع الثالث، وبه يفسرون معنى "لا إله إلا الله". والألوهية- عندهم- هي القدرة على الاختراع والخلق، فمعنى لا إله إلا الله لا خالق الا الله (3) .

ولما في هذا الكلام من القصور والتحريف والباطل فقد رد علهم شيخ الإسلام طويلا، وذلك من خلال بيان ما يلي:

(1) انظر: درء التعارض (8/17-21) .

(2)

انظر في ذلك من كتب الأشاعرة: مجرد مقالات الأشعري لابن فورك (ص: 55)، ورسالة الحرة للباقلافي- المطبوعة كاسم الإنصاف- (ص: 33-34) ، والاعتقاد للبيهقي (ص: 63) ،

وشرح أسماء الله الحسنى للقشيري (ص: 215)، والشامل (ص: 345-348) " والإرشاد (ص: 52)، ولمع الأدلة (ص: 86) ، وإحياء علوم الدين (1/33)، والاقتصاد في الاعتقاد (ص: 49) ، ونهاية الأقدام (ص: 90) وغيرها.

(3)

انظر: أصول الدين للبغدادى (ص: 123) ، والملل والنحل للشهرستاني (1/100) ،

ومجرد مقالات الأشعري (ص: 47) .

ص: 946

1-

ما في هذا الكلام من الحق والباطل، وشرح مقصودهم بعباراتهم تلك التى عرفوا بها التوحيد.

2-

أن هذا القول أخذوه عمن سبقهم من الجهمية والمعتزلة وغيرهم.

3-

الرد عليهم ومناقشتهم.

4-

بيان حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل.

أ- ما في كلامهم من الحق والباطل، وبيان مقصودهم بذلك:

فسر الأشاعرة معنى التوحيد والواحد بهذه الأصول الثلاثة، وقد بين شيخ الإسلام ما في قولهم من الحق والباطل؟ كما يلي:

1-

قولهم: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له:

ويفسرونه بأن معناه أنه لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا يتركب، وهذا الكلام مجمل، فإن قصد به أن الله تعالى أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد، وأنه يمتنع أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء فهذا حق، لكن إن قصد به نفي علوه ومباينته لخلقه، وأنه لا يشار إليه ولا ينزل كما يشاء فهذا باطل (1) ، فأي الأمرين يقصد هؤلاء، يقول شيخ الإسلام عنهم: "ليس مرادهم بأنه لا ينقسم ولا يتبعض أنه لا ينفصل بعضه عن بعض، وأنه لا يكون إلهين اثنين، ونحو ذلك مما يقول نحوا منه النصارى والمشركون، فإن هذا مما لا ينازعهم فيه المسملمون، وهو حق لا ريب فيه، وكذلك كان علماء السلف ينفون التبعيض عن الله بهذا المعنى، وإنما مرادهم بذلك أنه لا يشهد ولا يرى منه شيء دون شيء، ولا يدرك منه شيء دون شيء، بحيث إنه ليس له في نفس حقيقة عندهم قائمة بنفسها يمكنه هو أن يشير منها إلى شيء دون شيء، أو يرى عباده منها شيئا دون شيء، بحيث إذا تجلى لعباده يريهم من نفسه

(1) انظر: التدمرية (ص: 184-185)، ت السعوي. وانظر: تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/449-450) .

ص: 947

المقدسة ما شاء، فإن ذلك غير ممكن عندهم، ولا يتصور عندهم أن يكون العباد محجوبين عنه بحجاب منفصل عنهم يمنع أبصارهم عن رؤيته، فإن الحجاب لا يحجب إلا ما هو جسم منقسم، ولا يتصور عندهم أن الله يكشف عن وجهه الحجاب ليراه المؤمنون، ولا أن يكون على وجهه حجاب أصلا، ولا أن يكون بحيث يلقاه العبد أو يصل إليه أو يدنو منه أو يقرب إليه في الحقيقة، فهذا ونحوه هو المراد عندهم بكونه لا ينقسم، ويسمون ذلك نفي التجسيم، إذ كل ما ثبت له ذلك كان جسما منقسما مركبا، والبارئ منزه عندهم عن هذه المعاني " (1) ، وجماع المعاني التى قصدوها بقولهم هذا أنه تعالى عن قولهم ليس قائما بنفسه، ولا بائنا من خلقه ولا على العرش استوى، وأنه لا يشار إليه في جهة العلو.

وهذا ما يعبرون عنه بنفي الجسمية، والتحيز، والجهة، والرازي صرح بأن كل متحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو ليس بأحد (2) ، وهكذا صار حقيقة التوحيد والواحد والأحد عند هؤلاء نفى صفات الله الخبرية، ونفى علوه على عرشه.

2-

أما قولهم في تفسير التوحيد بأن معناهـ أيضا- أنه واحد في صفاته لا شبيه له، فيرى شيخ الإسلام أن هذه الكلمة أقرب إلى الإسلام، لكنهم أجملوها، حيث جعلوا نفى الصفات-كما فعلت المعتزلة- أو بعضها-كما فعلت الأشعرية داخلا في مسمى التشبيه، وهذا من بدع أهل الكلام، إذ لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسولهـ صلى الله عليه وسلم ولا أقوال السلف أن يجعل نفي الصفات أو بعضها من التوحيد (3) ، مع أن أهل الكلام مضطربون في هذا، لأن كل طائفة تجعل ما تنفيه من الأسماء أو الصفات من التشبيه الذي يجب تنزيه الله عنه، فالأشاعرة أدخلوا في مسمى التوحيد هذا نفي كثير من الصفات- أي ما عدا الصفات السبع التى لم يثبت غيرها متأخروهم- والمعتزلة أدرجوا في ذلك نفي جميع

(1) التسعينية (ص: 203-204) ، وانظر نقض التأسيس- المطبوع- (1/474-475) .

(2)

انظر: أساس التقديس للرازس (ص: 17) - ط الحلبي.

(3)

انظر: التسعينية (ص: 204) .

ص: 948

الصفات، والجهمية نفوا الأسماء والصفات جميعا، وزاد الغلاة من القرامطة والباطنية فقالوا لا يوصف بالنفي والإثبات، لأن القول بأحدهما يقتضي تشبيها، وهكذا (1) .

3-

أما الثالث فقولهم: إن من معاني التوحيد أنه تعالى: واحد في أفعاله لا شريك له، وأن الله رب كل شيء وخالقه، ويقول شيخ الإسلام عن هذا المعنى:

"وهذا معنى صحيح، وهو حق، وهو أجود ما اعتصموا به من الإسلام في أصولهم، حيث اعترفوا فيها بأن الله خالق كل شيء ومربيه ومدبره"(2) ، والخطأ الذي وقع فيه الأشاعرة هنا هو أنهم فهموا أن هذا هو التوحيد الذى دعت إليه الرسل، وأنه المقصود بشهادة أن لا إله إلا الله، ومن المعلوم أن هذا التوحيد قد أقر به المشركون، ولم ينكره أحد من بني آدم " ولكن غاية ما يقال: إن المعتزلة وغيرهم جعلوا بعض الموجودات خلقا لغير الله، كأفعال العباد، ولكنهم يقرون بأن اللَة خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا: إنهم خالقو أفعالهم" (3) .

هذه معاني التوحيد عند الأشاعرة، ومما سبق يتبين ما في ظاهر العبارات من الحق، وما قصدوه من الباطل، مع ما وقعوا فيه من التقصير.

ب- اتباعهم لمن سبقهم من الجهمية والمعتزلة في تعريف التوحيد:

وهذا من منهج شيخ الإسلام العام في ردوده على الأشاعرة، حيث إنه كثيرا ما يرجع أقوال هؤلاء إلى أصولها الفلسفية والاعتزالية، ولذلك فهو هنا حين رد على الرازى الذي نفى الصفات بناء على أن الله أحد، واحد، أرجع أقواله إلى أقوال المعتزلة فقال: "هذا الاستدلال هو معروف قديما من استدلال الجهمية النافية، فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون، فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد، وأنه يثبت تعدد

(1) انظر: التدمرية (ص: 182-183) - ت العسوى.

(2)

التسعينية (ص:207) .

(3)

انظر: التدمرية (ص: 180-181)، والتسعينية (ص: 207) .

ص: 949

القدماء، ولا يجعل القديم واحدا، فالجهمية من المتفلسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا، وقد يسمون أنفسهم الموحدين، ويجعلون نفي الصفات داخلا في مسمى التوحيد (1) ، ثم ذكر شيخ الاسلام أن أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره ردوا على هؤلاء، وبينوا ما في أقوالهم من التلبيس والباطل، يقول الإمام أحمد-رحمه الله: "فقالت الجهمية لنا لما وصفنا هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره، والله وقدرته، والله وعظمته، فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته؟ قلنا: لا نقول: إن الله لم يزل وقدرته، ولا نقول ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته، ونوره، لا متى قدر، ولا كيف قدر. فقالوا: لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا: قد كان الله ولا شيء، قلنا نحن نقول: قد كان الله ولا شيء ولكن إذا قلنا: ان الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته، وضربنا لهم مثلا في ذلك قولنا: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار، واسمها اسم شيء واحد، وسميت نخلة بجميع صفاتها؟ فكذلك اللهـ وله المثل الأعلى- بجميع صفاته إله واحد، لا نقول: إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته، والذى ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم، والذى لا يعلم هو جاهل، ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادرا مالكا، لا متى ولا كيف.

قال: وسمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال:" ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا "[المدثر: 11] ، وقد كان الذى سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، وقد سماه وحيدا بجميع صفاته وكذلك اللهـ وله المثل الأعلى- بجميع صفاته واحدا (2) .

فهؤلاء الذين واجههم الإمام أحمد-رحمه الله هم شيوخ لمن جاء بعدهم، من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة الذين-يزعمون أن الواحد هو الذي

(1) انظر: نقض التأسيس- المطبوع- (1/463) .

(2)

نقض التأسيس- المطبوع- (1/463-464)، وكلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 91-92) - ضمن عقائد السلف.

ص: 950

لا صفة له ولا قدرة، وابن سينا الفيلسوف يعبر عن ذلك بقوله " إن واجب الوجود واحد من كل وجه، ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم، أو يقال: ليس فيه كثرة حد ولا كثرة كم، ويقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل، ولا تركيب الأجسام، ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة"(1) ، والمعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، وجعلوا التوحيد أحد أصولهم الخمسة، ويبنون ذلك على أن القديم ليس معه في القدم غيره، فلو كان له صفات، للزم تعدد القدماء مع الله تعالى. فجعلوا حقيقة التوحيد نفي الصفات (2) .

فلما جاءت الأشعرية تلقفوا هذا الأصل عن هؤلاء، وجعلوا من مقتضيات التوحيد نفي ما ينفونه من الصفات كالعلو والاستواء، والوجه واليدين وغيرها.

وكل طائفة تجعل ما تنفيه من الصفات من مقتضيات التوحيد، وهذا اضطراب وتناقض ظاهر.

ب- الرد على الأشاعرة في قولهم في مسمى التوحيد:

وقد جاءت ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك كما يلي:

1-

بيان ما في أقوالهم من الحق والباطل- وقد تقدم بيان ذلك قريبا-.

2-

أن هؤلاء الأشاعرة اتبعوا المعتزلة والجهمية في ذلك، مع أن شيخهم ابن كلاب ينكر قول من يقول: إن الواحد لا صفة له، فإنه قال بعد بيانه:

أن الله بائن من خلقه، ليس داخلا في خلقه، ولا خلقه داخلون فيه: "فإن قالوا: فيعتقبه الطول والعرض؟ قيل لهم: هذا محال، لأنه واحد لا كالآحاد، عظيم لا تقاس عظمته بالخلوقات، كما أنه كبير عليم، لا كالعلماء، كذلك هو واحد عظيم لا كآحاد العظماء، فإن قلت: العظيم لا يكون إلا متحيزا؟ قيل لك:

(1) نقض التأسيس- المطبوع- (1/465) .

(2)

انظر: المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة.

ص: 951

والعليم لا يكون إلا متحيزا، وكذلك السميع والبصير، لأنك تقيس على المخلوقات " (1) ، يقول شيخ الإسلام معقبا: " وكان كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد، والتوحيد، بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية، ولم يفسروه بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك " (2) .

ولاشك أن أئمة الأشاعرة المتقدمين كالأشعري وغيره يثبتون لله صفات العلو والاستواء والصفات الخبرية، ولا تقتضي عندهم تشبيها، كما أن إثباتها لا يعارض

ما يقولون به من التوحيد لله تعالى.

3-

أن قولهم: إن الواحد هو الذي لا ينقسم ولا يتجزأ وليس بجسم، ليس معروفا في لغة العرب، بل المعروف في لغة العرب أنهم يطلقون على كثير من المخلوقات أنه واحد وهو جسم، بل "لا يوجد في لغة العرب، بل ولا غيرهم من الأمم استعمال الواحد، الأحد، الوحيد إلا فيما يسمونه هم جسما ومنقسما كقوله تعالى:(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا)[المدثر: 11]، وقوله تعالى:(وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ)[النساء: 11]، وقوله:(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ) - إلى قولهـ (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ)[الكهف: 32-37]، وقوله:(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ)[البقرة: 266]، وقوله تعالى:(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)[الكهف: 49]

والعرب وغيرهم من الأمم يقولون: رجل ورجلان اثنان، وثلالة رجال، وفرس واحد وجمل واحد، ودرهم واحد، وثوب واحد

فلفظ الواحد وما يتصرف منه في لغة العرب وغيرهم من الأمم لا يطلق إلا على ما يسمونه هم جسما منقسما لأن ما لا يسمونه هم جسما منقسما ليس هو شيئا يعقله الناس، ولايعلمون وجوده حتى يعبروا عنه" (3) ، وفي موضع آخر يذكر شيخ الإسلام نصوصا عديدة من الكتاب والسنة، ويعلق عليها. فيقول

(1) نقلا عن نقض التأسيس- المطبوع- (1/468) .

(2)

المصدر السابق (1/467-469) .

(3)

درء التعارض (7/114-116) .

ص: 952

في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)[النساء: 1] : " ومعلوم أن النفس الواحدة التي خلق منها زوجها هو آدم، وحواء خلقت من ضلع آدم القصيراء، من جسده خلقت، لم تخلق من روحه، حتى يقول القائل الوحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها. وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام، وقد سماها الله نفسا واحدة، علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة "(1) . ويقول معلقا على استدلال الإمام أحمد- وقد سبق نقله قريبا-: " وأبلغ من ذلك ما ذكره الامام أحمد وغيره من قوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا"[المدثر: 11] ، فإن الوحيد مبالغة في الواحد، فإذا وصف البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام " (2) ، ثم يذكر بعد ذكر نصوص القرآن نصوصا عديدة من السنة، منها أحاديث الصلاة في الثوب الواحد، مثل ما ورد في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم سئل: أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال: أو لكلكم ثوبان؟ "(3) ، وحديث نهي أن يصلي الرجل فِى الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء (4) ، وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في ثوب واحد (5)، وحديث مرور النبي- صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " (6) وغيرها من الأحاديث كثير (7) ،

(1) نقض التأسيس- المطبوع- (1/488) .

(2)

المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة.

(3)

المصدر السابق (1/489) ، والحديث رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد، ورقمه 358 (الفتح 1/470) .

(4)

رواه البخارى، كتاب الصلاة، باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه ورقمه 359 (الفتح 1/471) .

(5)

رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الواحد وأرقامه 354-357 (الفتح (1/468-469) .

(6)

رواه البخاري، كتاب الأدب، باب النميمة من الكبائر، ورقمه 6055 (الفتح 10/472) .

(7)

انظر: نقض التأسيس- المطبوع- (1/489-492) .

ص: 953

وهي تدل على استخدام لفظ الواحد فيما هو جسم خلافا لما يزعمه هؤلاء.

وإذا كان الأمر كذلك من أن الغالب في اللغة أن اسم الواحد يتناول ما ليس هو الواحد في اصطلاحهم " لم يجز أن يحتج بقوله تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [البقرة: 163] وقوله: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص: 1] ، ونحو ذلك مما أنزله الله بلغة العرب، وأخبرنا فيه أنه واحد، وأنه إله واحد- على أن المراد ما سموه هم في اصطلاحهم واحدا مما ليس معروفا في لغة العرب، بل إذا قال القائل: دلالة القرآن على نقيض مطلوبهم أظهر، كان قد قال الحق، فإن القرآن نزل بلغة العرب، وهم لا يعرفون الواحد في الأعيان إلا ما كان قديما بنفسه، متصفا بالصفات، مباينا لغيره، مشارا إليه. وما لم يكن مشارا إليه أصلا، ولا مباينا لغيره، ولا مداخلا له، فالعرب لا تسميه واحدا ولا أحدا، بل ولا تعرفه، فيكون الاسم الواحد والأحد دل على نقيض مطلوبهم منه، لا على مطلوبهم "(1) .

وشيخ الاسلام بهذه الأدلة الكثيرة إنما يقرر قاعدة من القواعد المهمة في باب الصفات وغيرها، وهي أن تفسير النصوص- في الصفات وغيرها- إنما يرجع فيه إلى لغة الذين خوطبوا به أول مرة، وماذا فهموا من النصوص، أما أن تنشأ مصطلحات جديدة وتحمل النصوص عليها فهذا مخالف لما هو متواتر من أن القرآن هدى للناس وفيه البيان التام. وهذه من المسائل الكبرى في الخلاف بين مذهب السلف وغيرهم من أهل البدع، لأنه إذا وقع خلاف حول نص من النصوص، فقال قائل: هذا يدل على إثبات الصفات لله، وقال الآخر: لا يدل، فمن الذي يفصل في المسألة، ويبين الحق فيها، وكل يدعى أن الحق معه؟ أهل البدع من النفاة يرجعون في ذلك إلى عقولهم، أو إلى أقوال شيوخهم، أو إلى شواذ اللغة، أو إلى مصطلحات أهل الفلسفة التى تلقوها عن غير المسلمين.

أما السلف فيرجعون إلى النصوص الأخرى من الكتاب والسنة التى تبين هذا النص وتوضحه، ويرجعوق إلى لغة العرب وفهم الصحابة والسلف من خير القرون،

(1) درء التعارض (7/117) .

ص: 954

وما قالوه في بيان معنى هذا النص، ولذلك يقول شيخ الاسلام- في معرض رده على الرازي حول استدلاله بالواحد والأحد على نفي الصفات-:"إن الاستدلال بالقرآن إنما يكون على لغة العرب التي أنزل بها، وقد نزل بلغة قريش كما قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ" [ابراهيم: 4] وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء: 195] فليس لأحد أن يحمل ألفاظ القرآن على غير ذلك من عرف عام واصطلاح خاص- بل ولا يحمله إلا على معاني عنوها بها، إما [أخص] من المعنى اللغوي أو أعم، أو مغايرا له، لم يكن له أن يضع القرآن على ما وضعه هو، بل يضع القرآن على مواضعه التي بينها الله لمن خاطبه بالقرآن بلغته، ومتى فعل غير ذلك كان ذلك تحريفا للكلام عن مواضعه، ومن المعلوم أنه ما من طائفة إلا وقد تصطلح على ألفاظ يتخاطبون بها، كما أن من المتكلمين من يقول: الأحد هو الذي لا ينقسم، وكل جسم منقسم، ويقول: الجسم هو مطلق المتحيز القابل للقسمة، حتى يدخل في ذلك الهواء وغيره، لكن ليس له أن يحمل كلام الله وكلام رسوله إلا على اللغة التي كان النبى- صلى الله عليه وسلم يخاطب بها أمته، وهى لغة العرب عموما ولغة قريش خصوصا "، ثم يطق هذا على المثال المطروح فيقول: " ومن المعلوم المتواتر في اللغة، الشائع بين الخاص والعام أنهم يقولون: درهم واحد، ودينار واحد، ورجل واحد، وامرأة واحدة، وشجرة واحدة، وقرية واحدة، وثوب واحد، وشهرة هذا عند أهل اللغة شهرة سائر ألفاظ العدد، فيقولون: رجل واحد، ورجلان اثنان، وثلاثة رجال، وأربعة رجال. وهذا من أظهر اللغة وأشهرها وأعرفها، فكيف يجوز أن يقال: إن الوحدة لا يوصف بها شيء من الأجسام، وعامة ما يوصف بالوحدة في لغة العرب إنما هو جسم من الأجسام؟! (1) .

فهذه الاصطلاحات الحادثة، التي يحدثها الناس أو أرباب العلوم المختلفة في كل عصر، هى اصطلاحات لهم- ولا مشاحة في أن يتفق أهل فن أو علم على اصطلاح معين يتعارفون عليهـ ولكن الخطأ أن يجعل هذا المصطلح الحادث

(1) نقض التأسيس - المطبوع- (1/492-493) .

ص: 955

هو المرجع في تفسير النصوص التي نزلت وتلاها الناس وفسروها وفهموها في زمن سابق قبل أن تنشأ تلك المصطلحات الحادثة، فكيف إذا كانت هذه المصطلحات تصادم المعنى الحق الذي دلت عليه النصوص، وقد أورد شيخ الإسلام اعتراضا حول موضوع الواحد مضمونه: أنه قد يقال: إنه يجوز أن يستعمل لفظ الواحد فيما قصده المتكلمون عن طريق المجاز أو المشترك اللفظي أو غيره وقد أجاب بقوله: " هب أنه يجوز لمن بعدهم أن يستعمل ذلك، لكن نحن نعلم أنهم [أي العرب الذين نزل بلغتهم القرآن] لم يستعملوه في ذلك، لأنهم لم يكونوا يثبتون هذا المعنى "(1)، ثم يحسم شيخ الإسلام بيان انتفاء دلالة النص على ما ادعاه هؤلاء في مسمى التوحيد من وجوه عشرة مهمة (2) قال في آخرها: " فتبين أن لفظ التوحيد والواحد والأحد في وضعهم واصطلاحهم غير التوحيد والواحد والأحد في القرآن والسنة والإجماع وفي اللغة التي جاء بها القرآن، وحينئذ فلا يمكنهم الاستدلال بما جاء في كلام الله ورسله وفي لفظ التوحيد على ما يدعونه هم، لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون، بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته

" (3) . وهذا ينطبق على مسألة الواحد والتوحيد وعلى غيرها مما جاء به القرآن الكريم مما يتعلق بأسماء الله وصفاته.

4-

أن لفظ "الأحد لم يجىء اسما في الإثبات إلا لله تعالى، أما في حق غيره فلم يستعمل إلا مع الاضافة، أو في غير الموجب، كالنفي والشرط والاستفهام، فاستعماله في الإثبات لله كقوله تعالى: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"

[الإخلاص: 1]، أما استخدامه في حق غير الله مضافا فكقوله تعالى:"قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا"[يوسف: 36]، وفي النفي كقوله:"وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا"[الكهف: 49]، والشرط كقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ" التوبة: 6] ، والاستفهام كما تقدم قريبا في حديث: أيصلي الرجل

(1) درء التعارض (7/119) .

(2)

انظرها في درء التعارض (7/120-122) .

(3)

انظر: المصدر السابق (7/122-223) .

ص: 956

في الثوب الواحد؟، ويقال: هل عندك أحد؟. ونكتة الرد هنا أن لفظ الأحد لم يستعمل فيما ادعاه هؤلاء لا في النفي ولا في الإثبات، ولو فرض أن معناهـ ما ليس بجسم كما يزعم هؤلاء- لوقع تناقض عظيم؛ فإنه يقال: إذا كان في الاثبات معناه إن الله أحد أي ليس بجسم، فهل يكون في النفى كذلك؟ هل يقال: إن معنى قوله تعالى: "وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ"[الإخلاص: 4] لم يكن ما ليس بجسم كفوا له، ومعنى قوله تعالى:"وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا"[الكهف: 26] : لا يشرك في حكمه ما ليس بجسم، ومعنى قوله:

"لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ"[الجن: 22] أى لن يجيرني من الله ما ليس بجسم؟ هل يكوَن مفهوم هذه النصوص أنه قد يكون ما هو جسما كفوا له، وقد يشرك في حكمه ما هو جسم وهكذا؟. هل يقول هذا عاقل، وهل يمكن أن تكون النصوص قد جاءت بمثل هذا التناقض والباطل (1) .

5-

أن قولهم باطل من جهة العقل أيضا، يقول شيخ الإسلام:" أما العقل فهذا الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة: إنه أمر لا يعقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، ليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات ولا قدر، ولا يتميز منه شيء عن شيء، بحيث يمكن أن لا يرى ولا يدرك ولا يحاط به وإن عاه المسمي جسما، وأيضا فإن التوحيد إثبات لشيء واحد، فلابد أن يكون له في نفسه حقيقة ثبوتية يختص بها، ويتميز بها عما سواه، حتى يصح أنه ليس كمثله شيء في تلك الأمور الثبوتية، ومجرد عدم المثل إذا لم يفد ثبوت أمر وجودي كان صفة للعدم، فنفي المثل والشريك يقتضي ما هو على حقيقة يستحق بها واحدا"(2) ، فهؤلاء ظنوا أن ما يتصورونه في أذهانهم موجود في الخارج، وهذا من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها أهل الكلام والتصوف والفلسفة ونبه

(1) انظر: تفسر سورة الإخلاص، مجموع الفتاوى (17/235) ، ودرء التعارض (7/121) ،

ونقض التأسيس- المطبوع- (1/493-494) .

(2)

نقض التأسيس- المطبوع- (1/483) .

ص: 957

شيخ الإسلام عليها كثيرا، مثل قول غلاة الصوفية إن الوجود واحد، وإن وجود الله هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، ومثل قول الفلاسفة بالجواهر والمجردات العقلية، حيث يزعمون أن الحقائق الموجودة في الخارج كالإنسان والفرس مكونة من المادة الكلية والصورة الجوهرية، ويزعمون أنهما جوهران عقليان، وهذا كله في الذهن، لأن الموجود لا يوجد الا معينا، فيقال وجود الواجب وهو الله ووجود الممكن كفلان وفلان، وكذلك هذه العقليات المجردة إنما تتصور

في الأذهان، أما في الحقيقة والواقع فليس الا الموجودات بأعيانها (1) .

6-

كما أن قول هؤلاء معارض للشرع، يقود شيخ الإسلام في بيان بطلان قولهم لغة وعقلا وشرعا:"وأما الشرع فنقول: مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم تعرف مسميات تلك الأسماء، حتى يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات وسلب إدراكه بالحواس ولا نفي الحد والقدر ونحو ذلك من المعاني التي ابتدع نفيها الجهمية وأتباعهم ولا يوجد نفيها في كتاب ولا سنة ولا عن صاحب ولا أئمة المسلمين"(2) . وبعد أن ينقل شيخ الإسلام نصا للدارمي في نقضه على المريسي يقول: "هذا النفي الذي يذكره النفاة ويفسرون به اسم الله (الواحد) وغير ذلك هو عند أهل السنة والجماعة مستلزم العدم، مناف لما وصف به نفسه في كتابه من أنه الأحد، الصمد، وأنه العلي، العظيم، وأنه الكبير المتعال، وأنه استوى على العرش، وأنه يصعد اليه، ويوقف عليه، وأنه يرى في الآخرة كما ترى الشمس والقمر، وأنه يكلم عباده، وأنه السميع البصير، (3) ، فمصادمة قولهم لهذه النصوص الشرعية الكثيرة- مع أنه أيضا لا يقوم على دليل صحيح- دليل على فساد قولهم.

7-

تأصيل القول في مسألة الفرق بين التشبيه والتمثيل ومدلولهما عند الإطلاق، يقول شيخ الإسلام:"وقف تنازع الناس هل لفظ""الشبه" و"المثل"

(1) انظر: درء التعارض (7/124-127) .

(2)

نقض التأسيس- المطبوع- (1/484) .

(3)

المصدر السابق (1/487) .

ص: 958

بمعنى واحد أو معنيين، على قولين:

أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار.

والئافي: أن معناهما مختلف عند الاطلاق لغة وشرعا وعقلا، وإن كان مع التقييد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر وهذا قول أكثر الناس.

وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية [وهي (1) ] : أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه؟ وللناس في ذلك قولان، فمن منع أن يشبه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد، ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، فرق بينهما عند الإطلاق " (2) ، وقد رجح شيخ الإسلام الثاني بقوله: " وهذا قول جمهور الناس؛ فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان، تشتبه في كونها ألوانا مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار ممائلة لحقيقة الماء، وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه، وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجوه وإن كان مخالفا له في الحقيقة. قال الله تعالى:"وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا"[البفرة: 25]، وقوله:"مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ"[آل عمران: 7] ، "وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا

اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ " [البقرة: 118] فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل؛ فإن القلوب

(1) في مطبوعة الجواب الصحيح وهو، ولعل الصواب ما أثبته.

(2)

الجواب الصحيح (2/233) - ط المدني.

ص: 959

وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم " الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس "(1) ، فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام، وبعضها حلال " (2) . وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام من أن هناك فرقا بين التشبيه والتمثيل، وأنه يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه كثيرا ما يقرره في كتبه، ويذكر له بعض الأدلة (3) ، ويذكر أن لفظ التماثل أخص من لفظ التشابه وذلك في معرض رده على الرازي حول تعريف المتشابه (4) ، ويرى أن سبب اضطراب أهل الكلام في مسألة الصفات ما يثبت منها وما ينفي، مرجعه إلى أنهم جعلوا مسمى التشبيه والتمثيل واحدا (5) .

8-

أن التشبيه على قول بعض المتكلمين: إن التشبيه هو التمثيل، ثم تعريفهم للمتماثلين بأنهما:" ماسد أحدهما مسد صاحبه، وقام مقامه، وناب منابه"(6) ، وقد يفسرونه بأنه " يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له"(7) ، التشبيه بهذا المعنى لا يقول به عاقل، لأنه يعلم بضرورة العقل امتناعه (8) ، ولأن " كل موجودين فلابد أن يكون بينهما نوع مشابهة، ولو من بعض الوجوه البعيدة، ورفع ذلك من كل وجه رفع للوجود "(9) . وفي موضع آخر يعلل شيخ الإسلام الفرق بقوله:

(1) متفق عليه، البخارى: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ورقمه 52 (الفتح 1/126) ، وفي البيوع، باب الحلال بين والحرام بين ورقمه 2051 (الفتح 4/290) . ومسلم كتاب

المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات ورقمه 1599.

(2)

الجواب الصحيح (2/233-234) .

(3)

انظر: الرسالة الاكملية- مجمرع الفتاوى- (6/113) .

(4)

انظر: نقض التأسيس- مخطوط- (1/261) .

(5)

انظر: درء التعارض (5/188) .

(6)

نقض التأسيس- مطبوع- (1/476) .

(7)

التدمرية (ص: 116) - ت السعوي.

(8)

انظر: المصدر السابق (ص: 117) .

(9)

نقض التأسيس- مخطوط- 2/82) .

ص: 960

"التشابه الذى هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات، بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي يقوم بها أحدهما مقام الآخر، وأما التشابه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شيء من الحقيقة، كما يقال للصورة المرسومة في الحائط: إنها تشبه الحيوان، ويقال: هذا يشبه هذا في كذا وكذا، وإن كانت الحقيقتان

مختلفتين، ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه؛ فإن مقتضى هذا كونه معدوما" (1) ، "وهذا

معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فها العقلاء الذين يفهمونها" (2) .

ومع تقرير شيخ الاسلام لهذه المسألة، إلا أنه ييين أن المتكلمين الذين يصرحون بنفي التشبيه مطلقا طائفتان:

طائفة: يطلقون القول بنفي التشبيه، ويقصدون أن الله لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوهـ وهذا الذى صرح به النفاة من الجهمية- فهؤلاء يقتضي قولهم أن يكون معدوما لأنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز.

وطائفة أخرى: يطلقون القول بنفي التشبيه، ويقصدون به التمثيل، فهؤلاء متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه، وهو قول صحيح قد دل عليه القرآن، والعقل أيضا، فالخلاف مع هؤلاء لفظي حيث سموا التمثيل تشبيها (3) .

وعلى قول هاتين الطائفتين يكون لفظ "التشبيه" من الألفاظ المجملة، التي قد تحتمل أكثر من معنى، ومن ثم فقبل الإثبات والنفي لابد من الاستفصال عن المعنى الذى يقصده القائل.

ولكن "لفظ "الشبه" فيه إجمال وإبهام، فما من شيئين إلا وهما متفقان في أمر من الأمور، ولو في كونهما موجودين، وذلك الذي اتفقا فيه لا يمكن نفيه إلا بنفي كل منهما، فإذا قيل: هذا لا يوافق هذا بوجه من الوجوه،

(1) نقض التأسيس- مطبوع- (1/477) .

(2)

نقض التأسيس- مخطوط (3/255) وقد أحال في تفصيل القول في ذلك على بعض كتبه كالأجوبة المصرية، وجواب المسألة الصرخدية.

(3)

انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/477) .

ص: 961

ولا يواطئه بوجه من الوجوه، كان هذا ممتنعا، وكذلك إذا أريد بقول القائل:"لا يشبهه بوجه من الوجوه، هذا المعنى، بخلاف ما إذا أراد المماثلة والمساواة والمكافأة، أو أراد ذلك بلفظ المشاركة والموافقة والمواطأة، فإنه سبحانه لا يماثله شيء بوجه من الوجوه، ولا شريك له بوجه من الوجوه"(1) . ويقول أيضا: "إن ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، ونفي (2) ذلك القدر المشترك ليس هو نفس (2) التمثيل والتشبيه الذى قام الدليل العقلي والسمعي على نفيه، وإنما التشبيه الذى قام الدليل على نفيه ما يستلزم ثبوت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى، إذ هو سبحانه " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" [الشورى: 11] ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله"(3)، وهذه المسألة مرتبطة بمسألة ما بين أسماء الله وصفاته وأسماء المخلوقين وصفاتهم من الاتفاق: هل هو من قبيل المشترك اللفظي أو المتواطئ؟ وهي مسألة اهتم بها شيخ الإسلام كثيرا. وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان لها في المبحث التالي عند الكلام على الأسماء والصفات.

9-

أن القرآن الكريم ورد بنفي التمثيل وما في معناه كالند والشريك والكفو، أما التشبيه فلم يرد نفيه ولا ذمه في الكتاب والسنة، ويرى شيخ الإسلام أن السبب ما في لفظ التشبيه من الاجمال والاشتراك والابهام بخلاف لفظ التمثيل (4)، ويشرح ذلك بشكل مفصل فيقول: "إن نفي التشبيه من كل وجه هو التعطيل والجحود لرب العالمين، كما عليه المسلمون متفقون، كما أن إثباته مطلقا هو جعل الأنداد لرب العالمين، لكن من الناس من لا يفهم هذا ولا يعتقد

أن لفظ التشبيه يدل على التمثيل المنفي عن الله، إذ لفظ التشبيه فيه عموم وخصوص

ومن هنا ضل فيه أكثر الناس؛ إذ ليس له حد محدود. وما هو (5) منتف بالاتفاق بين المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء المقرين بالله، معلوم بضرورة العقل، ومنه ما هو ثابت بالاتفاق بين

(1) درء التعارض (7/183) .

(2)

كذا في درء التعارض، ولحل الصواب (نفس) أو (نفي) في كليما.

(3)

درء التعارض (7/327) .

(4)

انظر نقض التأسيس- طبوع- (1/109) .

(5)

كذا في المخطوطة، ولعل صحة العبارة [منه ما هو] .

ص: 962

المسلمين، بل بين أهل الملل كلهم، بل بين جميع العقلاء [المقرين](1) بالصانع، فلما كان لفظ التشبيه يقال على ما يجب انتفاؤه وعلى ما يجب إثباته لم يرد الكتاب والسنة به مطلقا، لا في نفي ولا إثبات، ولكن جاءت النصوص في النفي بلفظ المثل والكفو والند والسمى،

و

الله ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، فيجب أن ينفي عنه المثل مطلقا ومقيدا، وكذلك الند والكفو والشريك، ونحو ذلك من الأسماء التي جاء القرآن ينفيها، و

من أدلة ذلك أن الله تعالى لما نفي المثل عن نفسه بقوله " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"[الشورى: 11]، والسمى بقوله "هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا" [مريم: 65] ، والند بقوله "فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا" [البقرة: 22] ، والكفو بقوله "وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ" [الإخلاص: 4] ، والشريك والعديل والمساوى بقوله " سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" [يونس: 18] ، "ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ" [الأنعام: 1] ، "إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ" [الشعراء: 97-98] ، فلا يخلو إما أن يكون النفي من ذلك مختصا بالمماثل من كل وجه، وهو المكافىء له من كل وجه فقط والمساوى والمعادل والمكافىء له من كل وجه، أو يكون النفي عاما في المماثل ولو من بعض الوجوه، والمكافىء ولو من بعض الوجوه، ولا يجوز أن يكون النفي مختصا بالقسم الأول لأن هذا لم يعتقده أحد من البشر، وهو سبحانه ذم ونهى عما هو موجود في البشر، ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم قال له رجل ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا، بل ما شاء الله وحده (2) ، فثبت أن هذه الأسماء المنفية تعم المثل والكفو والند والشريك والعديل،

(1) في المخطوطة [للتقرير] ، ولعل الصواب ما أثبته.

(2)

رواه أحمد (1/214، 283، 247) ، والبخاري في الأدب المفرد، ورقمه (783) ، وابن أبي شيبة في المصنف (9/117-118) ورقمه (6742) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة، ورقمه (987)[عن جابر وقد تفرد به عنه] ورقم (988) - عن ابن عباس- وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (ص 414) ، ورقمه (345) - ت خلف- وابن عدي في الكامل (1/419) ، في ترجمة الأجلح ابن عبد الله، وابن السني في عمل اليوم والليلة ورقمه (672) ، والطحاوى في مشكل الآثار (1/90) ، والطبراني في الكبير (12/244) ورقمه (13006،13005) ، وأبو نعيم في الحلية (4/99) ، =

ص: 963

ولو من بعض الوجوه، وهذا هو الحق؛ وذلك لأن المخلوقات وإن كان فيها شبه من بعض الوجوه في مثل معنى الوجود والحي والعليم والقدير، فليس (1) مماثلة بوجه من الوجوه ولا مكافئة، بل هو سبحانه له المثل الأعلى في كل ما يثبت له ولغيره، ولما ينفى عنه وعن غيره، لا يماثله غيره في إثبات شيء ولا في نفيه، بل المثبت له من الصفات الوجودية المختصة بالله، التي تعجز عقول البشر عن معرفتها، وألسنتهم عن صفتها ما لا يعلمه إلا الله مما لا نسبة إلى ما علموه من

الأمر المشتبه المشترك، إليه. والمنفي عنه لابد أن يستلزم وصفا ثبوتيا كما قررنا هذا في غير هذا الموضع (2) ، ومنافاته لذلك المنفي وبعده عنه، ومنافاة صفاته الوجودية، له فيه من الاختصاص الذي لا يشركه فيه أحد ما لا يعلمه أيضا إلا هو، بخلاف لفظ التشبيه، فإنه يقال على ما يشبه غيره ولو من بعض الوجوه

= والخطيب في تاريخ بغداد (8/105) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/217)، ورواه ابن ماجه بلفظ: إذا حلف أحدكم فلا يقل

ورقمه (2117) كلهم رووه عن ابن عباس- رضي الله عنهما، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/150) :"هذا اسناد فيه الأجلح بن عبد الله، مختلف فيه: ضعفه أحمد وأبو حاتم، والنسائي، وأبو داود، وابن سعد، ووثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان، وباقي رجال الاسناد ثقات، انظر الكلام حول الأجلح في كتب الرجال، خاصة تهذيب المزي (2/275) - ت بشار، وتهذيب التهذيب (1/189) ، والضعفاء الكبير للعقيلي (122/1) ، والكامل لابن عدي (1/417) الذي قال (ص: 419) : [وأجلح بن عبد الله له أحاديث صالحة غير ما ذكرته، يروى عنه الكوفيون وغيرهم، ولم أجد له شيئا منكرا مجاوزا الحد، لا إسنادا ولا متنا، وهو أرجو أن لا بأس به إلا أنه يعد في شيعة الكوفة، وهو عندى مستقيم الحديث صدوق، وقد نقل المزي كلام ابن عدي. والذي استقر عليه رأي المحققين من المتأخرين إنه صدوق، شيعي. انظر: ديوان الضعفاء والمتروكين للذهبي رقم الترجمة (287) ، ومن تكلم فيه وهو موثق للذهبي رقم الترجمة (13) ، والتقريب (1/49) ، وقد حسن الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (139) ، وانظر أيضا الأرقام (136 -138، 1093) ، وصحيح سنن ابن ماجه رقم (1720) ، حيث قال عنه: حسن صحيح. كما صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند، انظر الأرقام: (1839، 2561،1964) . كما حسنه محقق كتاب الصمت، وقال فيه صاحب النهج السديد في تخرج أحاديث تيسير العزيز الحميد- رقم (82) : "إسناده محتمل للتحسين ". والمطلع على الأقوال في ترجمة الأجلح ابن عبد الله، وشواهد الحديث المتعددة يجزم بأن الحديث لا يقل عن درجة الحسن. والله أعلم.

(1)

كذا، ولعل الصواب: فليست.

(2)

انظر مثلا: التدمرية- القاعدة الأولى- (ص: 57) وما بعدها. ت السعوى.

ص: 964

البعيدة، ومما يجب القول به شرعا وعقلا بالاتفاق، ولهذا [لما] عرف الأئمة ذلك، وعرفوا حقيقة قول الجهمية، وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع وجحوده، كانوا يبينون ما في كلامهم من النفاق والتعطيل، ويمتنعون عن إطلاق لفظهم العليل لما فهموه من مقصودهم، وإن لم يفهمه أهل الجهل

والتضليل (1) .

ومع أن التشبيه لم يرد نفيه في الكتاب والسنة إلا أن السلف رحمهم الله كانوا ينظرون إلى المعاني لا إلى الألفاظ، ولذلك لما وجدت بعض الفئات التي بالغت في الإثبات فشبهت الله بخلقه،- وسموا مشبهة- بادر السلف إلى ذم المشبهة وقرنوا الذم لهم بذم المعطلة، ولم يمنع السلف من هذا ما وصفهم به أعداؤهم النفاة من أن إثباتهم للصفات يجعلهم مشبهة، لأن مذهبهم في الصفات وسط بين تعطيل هؤلاء وتشبيه أولئك.

وشيخ الإسلام لما قرر أن لفظ التشبيه لم يرد نفيه في القرآن والسنة إنما قصد بيان أن ما ادعاه هؤلاء- في تعريفهم للتوحيد من أن من معانيه أن الله واحد في صفاته لا شبيه له، وأدخلوا في ذلك نفي علوه واستوائه وصفاته الخبرية- غير صحيح، لأن القرآن والسنة وردا بإثبات ذلك، والقول بأن إثبات هذه الصفات يقتضي تشبيها ينسحب إلى غيرها من الصفات التي يثبتها هؤلاء، كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر، بل ينسحب إلى الأسماء الثابتة لله سبحانه وتعالى، فالأخذ بظاهر هذه العبارة- أنه واحد في صفاته لا شبيه لهـ يؤدي إلى نفي جميع الصفات والأسماء عن الله تعالى، لأن ما من موجودين إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مميز، وأقرب مثال على ذلك الوجود، فالله موجود والمخلوق موجود، والوجود له معنى مشترك يصدق على وجود الله ووجود المخلوق، وإن كان وجود المخلوق ليس كوجود الله لأن المخلوق ممكن، حادث، قابل للعدم.

فهل يمكن القول بأن الله موجود بدون فهم معنى الوجود؟ إلا أن يقال بأننا خوطبنا بألغاز لها معاني أخر لا نفهمها، ولم يدل عليها الخطاب، وهو ما آل إليه أمر غلاة الصوفية والباطنية والقرامطة وغرهم من الملاحدة.

(1) نقض التأسيس- مخطوط- (3/285- 261) .

ص: 965

فما يقرره شيخ الاسلام في هذا الباب من أن لفظ الشبه والتشبيه لفظ مجمل، ولذلك لم يرد نفيه في الكتاب والسنة، إنما هو دفاع عن الصفاتية- من هؤلاء الأشاعرة وغيرهم- في مقابل المعتزلة والجهمية والقرامطة وغيرهم.

10-

ومذهب السلف- رحمهم الله تعالى- مشهور في الرد على نفاة الصفات أو بعضها، يقول شيخ الاسلام عن الأشاعرة بعد كلامه عن المعتزلة الذين جعلوا نفي الصفات كالعلم والقدرة من التوحيد والتنزيه عن التشبيه والتجسيم-:" ثم هؤلاء مضطربون فيما ينفونه من ذلك، لكن وافقوا أولئك على أن ما نفوه من التشبيه وما نفوه من المعنى الذي سموه تجسيما هو التوحيد الذى لا يتم الدين إلا به، وهو أصل الدين عندهم، وكل من سمع ما جاءت به الرسل يعلم بالاضطرار أن هذه الأمور ليست مما بعث الله به رسوله، ولم يكن الرسول يعلم أمته هذه الأمور ولا كان أصحاب رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم عليها، فكيف يكون هذا التوحيد الذي هو أصل الدين لم يدع إليه رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون، بل يعلم بالاضطرار أن الذى جاء به الرسول من الكتاب والسنة يخالف هذا المعنى الذي سماه هؤلاء الجهمية توحيدا، ولهذا ما زال سلف الأمة وأئمتها ينكرون ذلك "(1) ، ثم ساق شيخ الاسلام عددا من الروايات المشهورة عن أئمة السلف في ذمهم لأهل الكلام وأهل البدع الذين يخوضون في أسماء الله وصفاته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون (2) .

أما مسألة نفي التشبيه بإطلاق، فإمام أهل السنة أحمد بن حنبل-رحمه الله بين ذلك في الرد على الزنادقة- كا نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عنه معلقا على بعض أقواله، قال شيخ الاسلام:" ولهذا قال الامام أحمد: " فقلنا إن الشيء لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء، فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا " (3) ، فبين الامام أحمد أنه يعلم بالمعقول الصريح الذي

(1) التسعينية (ص:304) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص: 204-207) .

(3)

كلام الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية (ص: 68) - ضمن عقائد السلف وفيه: " فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء".

ص: 966

يشترك فيه العقلاء أن ما لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه لا شيء، كما نقل الناس أن جهما يقوله، ولهذا قال: فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا، أي لجميع العقلاء، فإن هذا لا يختص أهل السمع والكتاب، بل يشترك فيه العقلاء كلهم. فهذا سؤال عن كونه موجودا، ثم سألهم عن كونه معبودا فإن هذا يختص به من يوجب عبادة الله، وهم المسلمون قديما وحديثا، قال:" فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم، قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا، إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون"(1) ، فهنا جعل الكلام من المسلمين الذين يعبدون الله تعالى، والعبادة متضمنة لقصد المعبود وارادته، والقصد والإرادة مستلزم لمعرفته والعلم به. فلما قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق ثم قالوا: هو مجهول لا يعرف بصفة، كان قولهم هو مجهول لا يعرف بصفة تبين (2) للمسلمين الذين يعبدون، أنهم لا يثبتون شيئا يعبدونه، وإنما هم منافقون في ذلك، لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد، فعرف المسلمون بطلان قولهم: يعبدون الله ويثبتونه، كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه، وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة، فأنكروا صفاته مطلقا وأنكروا أن يشبه بالأشياء بوجه من الوجوه، فأنكروا بذلك وجوده " (3) .

وكلام الإمام أحمد يدل على مبلغ علم ووعي أئمة السلف رحمهم الله، ومعرفتهم بمداخل أئمة البدع الذين يزخرفون أقوالهم بعبارات التنزيه، وهم يقصدون من وراء ذلك أن يصلوا إلى ما يهدفون إليه من نشر البدع والتعطل.

والإمام أحمد لما قرئ عليه كتاب المحنة- زمن المأمون- وبلغ قوله "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"[الشورى: 11] ، وهو خالق كل شيء، قال الإمام أحمد عند قوله ليس كمثله شيء: وهو السميع البصير. فقال إسحاق ابن إبراهيم

(1) كلام الإمام أحمد في المصدر السابق، بعد الكلام السابق مباشرة وفيه "قد عرف المسلمون أنكم لا تؤمنون بشيء ".

(2)

كذا، ولعل صواباه بالياء.

(3)

نقض التأسيس- مخطوط- (3/263-264) .

ص: 967

- عامل الخليفة- ما أردت بهذا؟ فقلت: كتاب الله عز وجل ولم أزد في كتابه شيئا كما قال ووصف تبارك وتعالى (1) . قال أحد مترجمي الإمام أحمد معلقا: " قلت: انظر كيف فتح الله على الإمام أحمد بإقامة حجته في إثبات الصفات من الآية التى احتجوا عليه بها، فكان الذى استدلوا به دليلا له لا عليه رضى الله عنه "(2) .

فالإمام أحمد كان يحذر من التعطيل ومن التشبيه معا، وقد نقل شيخ الإسلام عن الطبري أنه ذكر في تاريخهـ قال شيخ الإسلام: لكن أرسل ذلك والله أعلم بحقيقته (3) - (أنه لما قرأ على علماء بغداد من المحنة كتاب المأمون الذي دعا الناس فيه إلى التجهم، فيه:"لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه ".

أقر بذلك من أقر به، وأما أحمد فقال: لا أقول: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه (4) ، وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام، واحترازه فيها، مع أن كثيرا من الناس يطلق هذه العبارة، ويريد بذلك نفي المماثلة، ومقصوده صحيح، وقد يريد ما يجمع الحق والباطل، أو يريد تنزيها مطلقا لا يحصل معناه " (5) .

وقد أعاد شيخ الإسلام في درء التعارض ذكر رواية الطبرى حول المحنة- ولم يذكر أنها مرسلة- وقال معلقا: (والمقصود أنه ذكر في كتابه:"لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه "، فوافقه من لم يعرف حقيقة هذه الكلمة، وذكر عن أحمد أنه قال: لا يشبه الأشياء، وليس كمثله شيء، ونحو ذلك، أو كما قال.

(1) انظر: سيرة الإمام أحمد بن حنبل، لولده صالح (ص: 49) ، وذكر محنة الإمام أحمد، لحنبل بن إسحاق بن حنبل (ص: 38) - وفي المطبوعة سقط-، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص: 387) ، ومحنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل لعبد الغني المقدسي (ص: 42-44) .

(2)

الجوهر المحصل في مناقب الإمام أحمد، تأليف محمد بن محمد بن أبي بكر السعدي الحنبلي المتوفي سنة 900 هـ (ص: 69) .

(3)

كأن شيخ الإسلام ابن تيمية استنكر انفراد الطبرى بها، إذ لم يذكرها مترجموه، حتى الذين أفردوا كتبا لترجمته أو لمحنته.

(4)

انظر: تاريخ الطبري 8/639.

(5)

نقض التأسيس- مخطوط- (3/264) .

ص: 968

وأما قوله: " بوجه من الوجوه " فامتنع منها، وذلك لأنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ولا شيء ولا حي ولا عليم، ولا قدير، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى، وهذا النفي حقيقة قول القرامطة، والله تعالى ليس كمثله شيء بوجه من الوجوه، بل هو سبحانه في كل ما هو موصوف به مختص بما لا يماثله فيه غيره وله المثل الأعلى " (1) .

فهذه الملاحظات الدقيقة التي يبديها أئمة السلف معلقين على مثل هذه العبارات لأجل ما فيها من الإيهام- تدل على حرصهم الشديد على تصفية العقيدة من أكدار التعطيل والتشبيه، وهذا يدل على ما في مثل عبارة الأشاعرة- حين يقولون: إن الله واحد في صفاته لا شبيه له، وخاصة إذا أبانوا عن مقصودهم بها وأنه إنكار علو الله واستوائه وتأويل بقية صفاته عدا الصفات السبع التي أثبتوها- من الإجال والإيهام والضلال.

11-

وأئمة الأشاعرة أقروا بأن إطلاق مثل هذه العبارات غير دقيق، وأن القول بنفي التشبيه مطلقا يؤدى الى إنكار صفات الله تعالى، يقول الجويني في نفي أن الله يشبه الحوادث أو يشبهه شيء منها:"والكلام في هذا الباب من أعظم أركان الدين، فقد غلطت طائفة في النفي فعطلت، وغلت طائفة في الإثبات فشبهت، فأما الغلاة في النفى فقالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه، وقالوا على هذا: القديم سبحانه لا يوصف بالوجود، بل يقال: ليس بمعدوم، وكذلك لا يوصف بأنه قادر، عالم، حي، بل يقال: ليس بعاجز، ولا جاهل، ولا ميت، قال: وهذا مذهب الفلاسفة والباطنية، فأما الغلاة في الإثبات فاعتقدوا ما يلزمهم القول بمماثلة القديم الحوادث"(2)، ثم قال الجويني: " فأما الرد على الفلاسفة فمن أوجه: أحدها: الاتفاق على أن السواد يشارك البياض في بعض صفات الإثبات من الوجود، والعرضية،

(1) درء التعارض (5/183) .

(2)

المصدر السابق (5/186-187) ، والنص لم أجده في الإرشاد كما قد توحي به عبارة شيخ الإملام في أول الكلام، وللجويني كلام طويل في هذه الموضوعات- في الشامل، انظر:(ص: 287-342) .

ص: 969

واللونية، ثم هما مختلفان، وكذلك الجوهر والعرض، والقديم والحادث، لا يمتنع اشتراكهما في صفة واحدة مع اختلافهما في سائر الصفات، ويقال لهم: أتثبتون الصانع المدبر أم لا تثبتونه؟، فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت، فاستويا في الثبوت" (1) .

فالجويني مع أنه يقول بتماثل الأجسام، وأن الاختلاف إنما هو في الأعراض، ومع ما في القول بتماثل الأجسام وأن الثلج مماثل للنار من كل وجه، والخبز مماثل للحديد من كل وجه، من مخالفة الحس والعقل (2) ، إلا أن قوله بأن القديم والحادث يستويان في الثبوت، ورده على الغلاة الذين قالوا: الاشتراك في صفة من صفات الإثبات يوجب الاشتباه: " تصرج بأن المختلفين يستويان ويشتركان في بعض الصفات، فكيف يمكن أن يقال مع هذا: إن المختلفين لا يشتبهان من بعض الوجوه، وقد صرح بتساويهما في بعض الأشياء؟

" (3) .

فالجويني هنا يرد على نفسه وعلى إخوانه الأشاعرة الذين قالوا: إن القول بإثبات علو الله واستوائه على العرش يقتضي أن يكون جسما والأجسام متماثلة.

ومن ثم فسروا التوحيد بنفي التشبيه عن الله وفسروه بتلك التفسيرات الباطلة، فهم بين أمرين، إما أن يقولوا بأن إثبات السمع والبصر والحياة والقدرة لله تعالى

يقتضي تشبيها مثل العلو واليدين، أو يقولوا بأن إثبات العلو والاستواء واليدين والوجه لله لا يقتضي تشبيها مثل السمع والبصر والحياة.

ويقول الرازي عن هذا الموضوع: " فإن قيل المشاركة في صفات الكمال يقتضي المشاركة في الإلهية. قلنا: المشاركة في بعض اللوازم البعيدة مع حصول المخالفة في الأمور الكثيرة لا تقتضي المشاركة في الالهية. قال: ولهذا المعنى قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [النحل: 60] ، وقال صلى الله عليه وسلم "تخلقوا

(1) درء التعارض (5/188-189) .

(2)

انظر: المصدر السابق (5/192)

(3)

انظر: المصدر نفسه (5/193) .

ص: 970

بأخلاق الله (1)" (2) ، قال شيخ الإسلام معلقا على هذا الكلام: (ومن المعلوم أن المشابهة هي المشاركة في صفات الكمال- التي هي العلم والقدرة- أعظم من المشابهة والمشاركة في مجرد مسمى الوجه"(2) .

ثم ينقل شيخ الإسلام عن الرازي أنه قال في نهاية العقول، في مسألة تكفير المخالفين من أهل القبلة في حجة من كفر المشبهة، قال:" ورابعها: أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم [إن (4) ] ، المشبه لا يخلو إما أن يكون هو الذي يذهب إلى كون الله مشبها بخلقه من كل الوجوه، أو ليس [كذلك (4) ] . والأول باطل؟ لأن أحدا من العقلاء لم يذهب إلى ذلك (5) ، ولا يجوز أن يجمعوا على تكفر من لا وجود له، بل المشبه الذى يثبت الإله على صفة بشر بها معها بخلقه (6) ، والمجسم كذلك لأنه إذا أثبت جسما [بحيز (7) ] معين فإنه يشبهه بالأجسام المحدثة، فثبت أن المجسم مشبه، وكل مشبه كافر بالإجماع، فالمجسم كافر"(8)، ثم قال الرازى في الجواب عن ذلك لأنهـ أى الرازي- نصر عدم تكفير أهل القبلة: " قوله: المجسم مشبه، والمشبه كافر، قلنا: إن عنيتم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله شبيها بخلقه من كل الوجوه، فلا شك في كفره، لكن المجسمة لا يقولون بذلك، فلا يلزم قولهم

(1) موضوع، قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا اللفظ لا يعرف عن النبى صلى الله عليه وسلم في شيء من كتب الحديث، ولا هو معروف عن أحد من أهل العلم، بل هو من باب الموضوعات عندهم.

وإن كان قد يفسر بمعنى صحيح يوافق الكتاب والسنة، فإن الشارع قد ذكر أنه يحب اتصاف العبد بمعاني أسماء الله تعالى كقول النبى-صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال. إنه وتر يحب الوتر. إنه طيب لا يقبل إلا طيبا

". نقض التأسيس- مخطوط- (3 / 272) .

(2)

نقض التأسيس- مخطوط- (3 / 253-254)، وكلام الرازي في أساس التقديس (ص: 86-87) .

(3)

نقض التأسيس- مخطوط- (3 لم 254) .

(4)

ما بين القوسين زيادة من نهاية العقول ليستقيم الكلام.

(5)

في نهاية العقول: لم يذهب الى كون الله تعالى مشبها لخلقه من كل الوجوه.

(6)

كذا في نقض التأسيس. وفي نهاية العقول: على صفة تشبه فعلها لخلقه.

(7)

في نقض التأسيس [غير] وهو تحريف، والتصويب من نهاية العقول.

(8)

نقض التأسيس- مخطوط- (3 / 254) . والنص في نهاية العقول (291- أ) .

ص: 971

بالتجسيم قولهم بذلك، ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام، ولا يلزمنا اعترافنا باشتراكها في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر والنمل والبق، وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه موجود وشيء وعالم وقادر، والحيوانات أيضا كذلك، وذلك لا يوجب الكفر، وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان، فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك، بل هو دعوى للإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه " (1) .

قال شيخ الإسلام معلقا على كلام الرازى السابق بعد نقله: " وهذا تصريح منه بأن القول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه داخل في قول كل المسلمين، ولا ريب أن كل موجودين فلابد أن يتفقا في شيء يشتركان فيه، وأن أحدهما أكمل فيه وأولى به من الآخر، وإلا فإذا قدر أنهما لا يتفقان في شيء أصلا ولا يشتركان فيه لم يكونا موجودين، وهذا معلوم بالفطرة البديهية التي لا يتنازع فيها العقلاء الذين يفهمونها"(2) .

فهؤلاء أئمة الأشاعرة يعترفون بهذه الحقيقة البدهية، والعجب أنهم ينسون ذلك حين يتعرضون لبعض مسلماتهم الأخرى- كنفي العلو، أو بعض الصفات- فيصمون من يقول بها ويثبتها بالتشبيه والتجسيم، ويجعلون مذهبهم النافي لها هو التوحيد!.

د- بيان حقيقة التوحيد الذى دعت إليه الرسل:

سبق بيان أنواع التوحيد الثلالة عند الأشاعرة وغيرهم من أهل الكلام، مع بيان ما فيها من الحق والباطل، وردود شيخ الإسلام على الأشاعرة حين أدخلوا في مسمى التوحيد نفى العلو والصفات، وتقصيرهم حين ركزوا على توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، والآن نبين حقيقة التوحيد الذي دعت إليه الرسل:

(1) نقض التأسيس - مخطوط- (3/254-255) ، والنص في نهاية العقول (293- أ) .

(2)

نقض التأسيس - مخطوط- (3/255) .

ص: 972

يقول شيخ الاسلام بعد ردود طريلة عليهم في ذلك: " والمقصود هنا أن "التوحيد" الذى أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله، وهو المذكور في الكتاب والسنة، وهو المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ليس هو هذه الأمور الثلاثة التى ذكرها هؤلاء المتكلمون، وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول، فهم مع زعمهم أنهم الموحدون، ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله، بل التوحيد الذى يدعون الاختصاص به باطل في الشرع والعقل واللغة ((1) .

ثم يبين حقيقة التوحيد الذي جاءت به رسل الله فيقول: " وذلك أن توحيد الرسل والمؤمنين هو عبادة الله وحده، فمن عبد الله وحده لم يشرك به شيئا فقد وحده، ومن عبد من دونه شيئا من الأشياء فهو مشرك به، ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان مع ذلك قائلا بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد، حتى لو أقر أن الله وحده خالق كل شيء وهو التوحيد في الأفعال"(2) .

ومنشأ الغلط عند هؤلاء أنهم فهموا أن معنى الإله في قول المسلمين: لا إله الا الله، هو القادر على الاختراع، وأن إله بمعنى آله، لا بمعنى مألوه، وهذا فهم خاطىء قال به الأشعري، وجعله أخص وصف الإله (3) ، وقد تبعه على ذلك جميع الأشاعرة.

وشيخ الإسلام يقرر أن الإله بمعنى المألوه المعبود لا بمعنى القادر على الخلق يقول: "والإله هو بمعنى المألوه المعبود، الذى يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق. فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد،

(1) نقض التأسيس- مطبوع- (11/478) .

(2)

المصدر السابق نفس الجزء والصفحة، وانظر أيضا (1/133-134) .

(3)

انظر: منهاج السنة (2/65) - مكتبة الرياض الحديثة، والجواب الصحيح (2/152) ، والاستغاثة (2/157) ، والصفدية (1/148) ، واقتضاء الصراط المستقيم (2/845) ، وأقوم ما قيل في القضاء والقدر- مجموع الفتاوى (8/101) ، ودرء التعارض (9/377) .

ص: 973

كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية- وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعهـ لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذى بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين.

قال تعالى: " وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ "[يوسف: 106] .

قال طائفة من السلف: تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون: الله، وهم مع هذا يعبدون غيره (1) . وقال تعالى:" قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ "[المؤمنون: 84-89]، وقال تعالى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ "[العنكبوت: 61] . فليس كل من أقر أن الله رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، راجيا له خائفا منه دون ما سواه يوالي فيه، ويعادي فيه، ويطيع رسله، ويأمر بما أمر، وينهى عما نهى عنه

" (2) .

فتوحيد الربوبية كان المشركون مقرين به، وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون إذا سلموا من البدع فيهـ كما يقول شيخ الإسلام (2) - أما التوحيد الذى جاءت به الرسل فلم يعرفوه ولم يبينوه. يقول شيخ الإسلام: (أما التوحيد الذى ذكره الله في كتابه، وأنزل به كتبه، وبعث به رسله، واتفق عليه المسلمون من كل ملة فهو كما قال الأئمة: شهادة أن لا اله الا الله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما بين ذلك بقوله:" وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ "[البقرة: 163] فأخبر أن الإله إله واحد، لا يجوز أن يتخذ إله غيره فلا يعبد الا إياه، كما قال في السورة الأخرى:"وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ

(1) انظر: عبارات السلف في تفسير الطبري- سورة يوسف-، آية: 106 (16/286)

ت شاكر. وفي تفسير ابن كثير لهذه الآية.

(2)

درء التعارض (1/226-227) .

(2)

انظر: التسعينية (ص: 209) .

ص: 974

" اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ "[النحل: 51]، وقال:" لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا - إلى قولهـ " فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا " [الإسراء: 22-39] وكما قال: " تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى "

[الزمر: 1-3] وكما قال: " وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ "[الفرقان: 68] والشرك الذي ذكره الله في كتابه إنما هو عبادة غيره من المخلوقات، كعبادة الملائكة أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء أو تماثيلهم، أو قبورهم، أو غيرهم من الآدميين ونحو ذلك مما هو كثير في هؤلاء الجهمية ونحوهم ممن يزعم أنه محق في التوحيد وهو من أعظم الناس اشراكا " (1) .

وكلام شيخ الإسلام في هذا الباب لا يحتاج إلى بيان، فكتبه كلها لا تكاد تخلو من بيان هذا الأمر العظيم الذى هو لب التوحيد وأسّه وهو توحيد الألوهية، والرد على من فسر التوحيد بأن المقصود به توحيد الربوبية فقط (2) ، ولا يعنى هذا أن شيخ الإسلام يهمل توحيد الربوبية، بل هو يرى- كما سيأتي إن شاء اللهـ أن أدلته فطرية بدهية، وأن جميع بني آدم مفطورون على الإقرار به ولم ينقل أهل المقالات عن أحد إثبات شريك مشارك لله في خلق جميع المخلوقات (3) ، والرسل

بنوا دعوة الناس إلى توحيد الألوهية على إقرارهم واعترافهم بتوحيد الربوبية، فالمقر بتوحيد الألوهية مقر ضمنا بتوحيد الربوبية لأنه متضمن له، كا أن توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية. وبعض الأشاعرة- كالشهرستاني- يقر بهذه الحقيقة إجمالاً ويذكر في معرض بيان أن العباد مفطورون على إثبات الصانع؛ أنه " لم يرد التكليف بمعرفة وجود الصانع، وإنما ورد بمعرفة التوحيد ونفى الشريك"(4) .

(1) التسعينية (ص: 208)، وانظر: مجموع الفتاوى (10/264-265) .

(2)

انظر: فهارس مجموع الفتاوى- ط الرياض- (36/2-18) .

(3)

انظر: التدمرية (ص: 177) - ت السعوي، والإيمان (ص: 72-73) . ط المكتب الإسلامي.

(4)

نهاية الإقدام (ص: 124) .

ص: 975

ويقرر شيخ الاسلام أن التوحيد الذي دعت اليه الرسل متضمن لأصلين:

أحدهما: التوحيد القولي، الذي هو الخبر عن الله تعالى، وهو التوحيد في العلم والخبر. وهو الذي دلت عليه آيات كثيرة منها سورة الاخلاص، "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ".

والثاني: التوحيد العملي، الذي هو توحيد العبادة لله تعالى، وهو توحيد القصد والطلب. وقد دلت عليه آيات كئيرة، منها سورة الكافرون (1) .

ويربط بين هذين النوعين من التوحيد بقوله: " الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل"(2) ، والله تعالى كما أنه هو المبدع الخالق

وحده فهو المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له (2) .

وشيخ الإسلام في تقريره لتوحيد الألوهية، وأنه التوحيد الذي دعت إليه الرسل، وهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، يركز على ما يضاده، وهو الشرك وأنواعه ووسائله وقد ألف في ذلك كتبا مستقلة منها:

1-

الجواب الباهر في زوار المقابر، كتبه بطلب من السلطان الناصر (4) .

2-

الرد على الأخنائي (5) .

3-

وقاعدة جليلة في التوسل والوسيلة.

(1) انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/479 - 480)، والتسعينية (ص: 210) ، والتدمرية (ص: 3- 5) .

(2)

مجموع الفتاوى (10/249) .

(2)

انظر: درء التعارض (9/374) .

(4)

انظر: الجواب الباهر (ص: 3- 5) .

(5)

هو محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي، كان قاضي القضاة في مصر، مالكي المذهب، ولد سنة 658 هـ وتوفي سنة 750 هـ. انظر: الديباج المذهب (2/321) ، والدرر الكامنة (4/27-28) - ط مصر-، وشجرة النور الزكية (1/187) ، والأعلام (6/56) .

ص: 976

4-

الرد على البكري (1) ، المعروف بالاستغاثة.

وغيرها من الرسائل وأجوبة المسائل التي كان يسأل عنها، وشيخ الإسلام رد في هذه الكتاب والرسائل على من ضل في هذه الباب من الأشاعرة وغيرهم، خاصة أهل التصوف حيث يكثر فيهم الغلو ومن ذلك غلوهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مشايخهم: سواء كانوا أحياء أو أمواتا.

والأشاعرة لما كان جل اهتمامهم العناية بتقرير توحيد الربوبية غفلوا عن تقرير توحيد الألوهية، وبيان ما يضاده من الشرك، وكان من آئار ذلك أن وقع بعضهم في ضلال مبين من جانبين:

أحدها: وقوع هذا البعض في أنواع من الشرك، ظنا منه أن ذلك لا يناقض التوحيد، يقول شيخ الإسلام- بعد رده على الأشاعرة بسبب اهمالهم لتوحيد الألوهية وعنايتهم بتوحيد الربوبية-:" ولهذا كان من أتباع هؤلاء من يسجد للشمس والقمر والكواكب، ويدعوها كا يدعو الله تعالى، ويصوم لها، وينسك لها، ويتقرب إليها، ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، وإنما الشرك إذا اعتقدت أنها هي المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك، فهذا ونحوه من التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهم لا يدخلونه في مسمى التوحيد الذي اصطلحوا عليه "(2) .

وهذا المنهج الخطير الذي سلكه الأشاعرة أثر في كتاباتهم العقدية، فقلما تجد لعالم من علمائهم كتابا أو رسالة في بيان توحيد العبادة، وأنواع العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله، أو في بيان الشرك وأنواعه، أو حكم السفر لزيارة القبور والدعاء والنذر لها، بل على العكس من ذلك تجد الكثير فهم يميل إلى مثل هذه الشركيات أو ما هو من وسائله.

(1) تقدمت ترجمته (ص: 238) .

(2)

انظر: درء التعارض (1/227-228)، وانظر: التسعينية (ص: 209) ، ونقض التأسيس - مطبوع- (1/481) .

ص: 977

وفي عصرنا الحاضر تأثر بهذا المنهج من تربى على كتب الأشاعرة والماتريدية، وما شابهها من كتب أهل الكلام، فتجد هؤلاء يؤلفون كتبا كثيرة في العقيدة، ولكن جل اهتمامهم منصب على تقرير توحيد الربوبية، فإذا كتبوا عن الطب وأسرار الإنسان، أو عن الكون وآفاقه، أو عن الجبال أو البحار، أو النبات، أو الحيوانات، أو غيرها، وما في دقة صنعها من دلائل قدرة الله تعالى يبرزون هذه الجوانب ليصلوا في النهاية إلى دلالتها على وجود الله ووجوب الإيمان به، والرد على الملاحدة الذين ينكرون وجود الله أو يقولون بالدهر أو الطبع أو يؤلهون العلم، ولا شك أن هذه جهود طيبة، ومفيدة لفئات محيرة تأثرت بالحاد الغرب أو الشرق، ولكن الخطأ فيها يكمن في ناحيتين:

1-

الغلو في إخضاع نصوص الوحي- من الكتاب والسنة- لتوافق النظريات العلمية الحديثة، وهذا الغلو فضلا عن أنه ينم- في الغالب- عن روح انهزامية، إلا أنه أيضا قد يجر إلى تحريف أو تأويل لبعض الآيات أو الأحاديث، وإغفال لما قاله الصحابة وجمهور السلف في تفسير هذه النصوص.

2-

اغفالها للجانب الأهم في التوحيد وهو توحيد الألوهية، لأنها تنتهي عند حد إثبات وجود الله وعلمه وقدرته فقط، ولا تشرح بشكل مفصل ومركز أن على العبد اذا أقر بربوبية الله ووحدانيته أن يفرده بالعبادة والطاعة، وأن يخلص في توحيده لله بأن يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن لا يصرف أي نوع من أنواع العبادة من الصلاة والدعاء والخوف والخشية، والرغبة والرهبة، والنذر والاستغاثة والاستعانة والرجاء والمحبة إلا لله تعالى، وأن يحذر من الوقوع في أي نوع من أنواع الشرك الذي ييطل عمل الإنسان وتوحيده ولو كان مقرا بأن الله هو الخالق الرازق.

والعجيب أن بعض هؤلاء الذين وقعوا في هذا الخطأ- خطأ التركيز على توحيد الربوبية وإغفال توحيد الألوهية- وصل بهم الأمر إلى اعتبار البحث في موضوع إخلاص العبادات لله، وشرح ما يضادها من أنواع الشرك من الأمور المستنكرة لأنها تؤدي الى التفرقة بين المسلمين، وتكفير بعضهم، والغلو في جزئيات لا ينبغي الوقوف عندها، وهكذا أصبح البحث والدعوة إلى تحقيق

ص: 978

التوحيد، وسد طرق الشرك والتحذير من وسائله حماية لجانب التوحيد الذي دعا اليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم- من الأمور التي لا تعجب كثيرا من هؤلاء إن لم تثر سخطهم. والله المستعان.

الثاني: الغلو في توحيد الربوبية الى حد ما يسميه الصوفية بالفناء (1)، يقول شيخ الإسلام: "واذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار، أهل الإثبات للقدر، المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون، فكذلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين الى المعرفة والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وهو أن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا سيما اذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها، ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد. ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما، فضلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء، (2) .

فالفناء في توحيد الربوبية عنذ هؤلاء الصوفية هو غاية ما يصبو اليه سالكو طرقهم الضالة، وقد يصل الأمر عند من شهد هذا التوحيد، وشهد القدر، أن يسير مع القدر حيث سار محبة ورضا، فهو مع المشركين إن انتصروا على المسلمين وهو أيضا مع من يفعل الفواحش ويسفك الدماء، بل مع عباد الأصنام

(1) الفناء عند الصوفية له عدة معان، منها أنه سقوط الأوصاف المذمومة، كما أن البقاء وجود الأوصاف الحمودة، ومنها أنه: تبديل الصفات البشرية كالصفات الالهية، أو هو عدم شعور الشخص بنفسه أو بلوازم نفسه، وهو درجتان: فناء عن شهود ما سوى الله فيفنى بمعبوده عن عبادته وبمعروفه عن معرفته بحيث يغيب عن شعوره بنفسه وبما سوى الله. والدرجة الثانية: فناء عن وجود السوى، بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، بحيث يرى أن ليس في الوجود إلا الله، وهناك فناء شرعي وهو الفناء عن عادة غير الله بعبادته وحده.

انظر: التعريفات (ص: 90) ، ورسالة في اصطلاحات الصوفية، لابن عربي (ص: 139) ط ملحقة بآخر التعريفات، ومعجم مصطلحات الصوفية (ص: 207-208) ، والمعجم الفلسفي (2/167) - صليبا، والتدمرية (ص: 187، 221-222) - ت السعوي.

(2)

التدمرية (ص: 186-187) - ت السعوي.

ص: 979

لأن هؤلاء جميعا خاضعون للقدر، وغاية العبودية- عندهم- أن تستسلم للقدر، ولذلك فليس غريبا على هؤلاء أن يبلغ عندهم بعض الأولياء مرتبة سقوط التكاليف، فلا يجب عليه واجب ولا يحرم عليه محرم، كما أن الشرك بشتى أنواعه وصوره منتشر بينهم. فأين تحقيق تحقيق توحيد الألوهية عند هؤلاء؟.

وقد أشار شيخ الاسلام في معرض ردوده المطولة ومناقشاته حول توحيد الألوهية، وما يتعلق به من تعظيم القبور، والسفر لزيارتها، والسؤال بالجاه، أشار إلى بعض أقوال الأشاعرة في هذه المسائل فاستشهد بأقوال بعض أئمتهم التي وافقوا فيها الحق، كما رد على بعضهم فيما خالفوا فيه وجه الحق، ومن ذلك:

1-

ما ذكره في الرد على المنطقيين في ردوده على الفلاسفة، حيث ذكر فشو الشرك فيهم، وذكر أن الشرك نشأ في بني آدم عن أصلين:

أحدهما: تعظيم قبور الصالحين.

والثاني: عبادة الكواكب، وأن لها تأثيرا (1) .

وقد سبقت الاشارة إلى أن شيخ الاسلام اتهم الرازي في أنه ألف كتابا في الشرك والسحر ومخاطبة النجوم (2) ، وهو في ذلك متأثر بالفلاسفة. كما ذكر أن قول الفلاسفة في الشفاعة أعظم شركا من قول غيرهم من مشركي العرب (2) ، وأن الرازي والغزالي- لدخولهم في الفلسفة- قد تأثروا بالفلاسفة في هذا الباب (4) .

(1) انظر: الرد على المنطقيين (ص: 285-286) .

(2)

انظر ما سبق- في الحديث عن الرازى ونجهـ: (ص: 699-701) .

(2)

انظر: الرد على المنطقيين (ص: 534-544) .

(4)

انظر: المصدر السابق (ص: 544- 545)، وانظر: مناقشات أخرى مطولة للغزالي وللرازي فيما قالوهـ موافقة للفلاسفة- من تأليه الملائكة وجواز مخاطبة النجوم ودعائها- في بنية المرتاد (ص: 184-217- 360-377) ت موسى الدويش، ط مكتبة العلوم والحكم، وانظر: قاعدة جليلة في التوصل والوسيلة (ص: 24-78،25) ، ط المكتب الإسلامي، ودرء التعارض (5 / 147-150) .

ص: 980

2-

وفي مسألة التوسل بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم، ذكر شيخ الإسلام أنه لم ير من جوزه إلا أبا محمد العز بن عبد السلام في الرسول خاصة، فنقل عنه أنه قال: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول اللهـ صلى الله عليه وسلم إن صح حديث الأعمى (1)، " قال شيخ الإسلام: فلم يعرف صحته " (2) ، ثم رد عليه (3) .

3-

وفي مسألة شد الرحال لزيارة القبور احتج شيخ الاسلام بالحديث المشهور في ذلك- وهو حديث لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد

(4) -

ثم ذكر أن الجمهور على أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة،

(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 147) - ط المكتب الإسلامي-، وفتوى العز موجودة في المطبوع من فتاويه (ص: 126-127) ونصها: "أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض

الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله: قل: اللهم أني أقسم عليك [كذا والوارد في الأحاديث: أسألك وأتوجه اليك، بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة " وهذا الحديث إن صح فينبغي أن يكون مقصورا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، وأن لا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وأن يكون هذا مما خص به تنبيها على درجته ومرتبته".

والحديث الذي أشار إليه هو حديث الأعمى الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء. رواه الإمام أحمد (4/138) ، والترمذي في الدعوات، باب رقم (119) ، ورقمه (3578) - ت عطوة. وهو في طبعة عثمان برقم 3649 (ومع تحفة الأحوذى 4/481- هندية)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة وأرقامه (658-660) - ت حماده، وابن ماجه في سننه، كتاب اقامة الصلاة باب ما جاء في صلاة الحاجه ورقمه (1385) . والحاكم (3/313) وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الكبير (9/19) ورقمه (8311)، والبيقي في دلائل النبوة (6/166-167) والحديث صححه اضافة إلى من سبق الألباني في التوسل (ص: 69-70) ، وصحيح ابن ماجه ورقمه (1137) .

ولحديث الأعمى روايات أخرى بزيادات ضعيفة- ذكرها الطبراني في الكبير- (9/17-18) برقم (8311) ، وفي المعجم الصغير (1/183) - ط السلفية في المدينة المنورة- (1/306) وبرقم (508) من الروض الداني إلى المعجم الصغير للطبراني، والبيهقي في دلائل النبوة (6/167-168) . وقد تكلم عنها وضعفها ابن تيمية في قاعدة جليلة (ص: 94) وما بعدها، والألباني في التوسل (ص: 83-93) .

(2)

قاعدة جليلة (ص: 147) .

(3)

انظر: المصدر السابق، ومجموع الفتاوى (27/83) وما بعدها.

(4)

متفق عليه: البخاري، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ورقمه 1189 (فتح البارى 3/63) . ومسلم، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، ورقمه (1397) .

ص: 981