الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: أول واجب على المكلف:
هذه المسألة مبنية على مسألة أخرى، وهي كيفية حصول المعرفة بالله عند الإنسان، حيث وقع الخلاف فيها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر، وهذا قول كثير من المعتزلة والأشاعرة وأتباعهم من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم.
القول الثاني: أن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العباد من غير سبب يتقدم، ومن غير نظر ولا بحث، وهذا قول كثير من الصوفية والشيعة، ومعنى هذا القول أن المعرفة بالله تقع ضرورة فقط.
القول الثالث: أن المعرفة بالله يمكن أن تقع ضرورة، ويمكن أن تقع بالنظر، وهذا قول جماهير المسلمين (1) .
إذا تبين هذا فالذين قالوا بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر اختلفوا في أول واجب على المكلف:
1-
فقال بعضهم: أول واجب النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم.
2-
وقالت طائفة: أول واجب القصد إلى النظر الصحيح.
3-
وقالت طائفة أخرى: أول واجب الشك.
4-
وقالت طائفة رابعة: أول واجب المعرفة بالله (2) .
ويقابل هذه الأقوال من يرى أن أول واجب على المكلف الشهاداتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله، وإفراد الله بالعبودية.
(1) انظر: درء التعارض (7/352-354، 8/24، 9/3،18-24) .
(2)
انظر: الإرشاد (ص: 3)، والمعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى (ص: 21) .
وانظر أيضا: النبوات (ص: 59، 62، 95) ، ومجموع الفتاوى (20/202) ، ودرء التعارض (7/353) ، والاستقامة (1/142) .
وهذه المعرفة التي يوجبها الأشاعرة مباشرة أو بوسائلها من النظر أو القصد إلى النظر هي معرفة الله تعالى، أي الإقرار بوجوده تعالى وأنه خالق العالم وأن ما سواه مخلوق محدث.
وشيخ الإسلام يوضح في هذا الباب أمرين مهمين:
أحدهما: أن الخلاف الذي وقع بين الأشاعرة حول أول واجب: هل هو المعرفة أو النظر أو القصد إلى النظر أو الشك - خلاف لفظي -، "فإن النظر واجب وجوب الوسيلة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والمعرفة واجبة وجوب المقاصد، فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة، ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر، وهو أيضا نزاع لفظي، فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة" (1) . فهذا تحليل لحقيقة الخلاف، وأن من قال: إن أول واجب النظر أو القصد، لم يقصد حقيقة ذلك، وإنما قصد أنهما مؤديان إلى المعرفة بالله فوجوبهما لذلك.
أما القول بأن أول واجب هو الشك - وهو قول منسوب إلى أبي هاشم الجبائي المعتزلي، وقد أخذ به الغزالي - كما مر (2) - ونسبه ابن حزم إلى الأشعرية (3) - فيرى شيخ الإسلام أنه مبني على أصلين:"أحدهما: أن أول الواجبات النظر، فلا يكون في حال النظر عالما"(4) ، أي أنه لو كان غير شاك لما احتاج إلى النظر.
الثاني: أن حكاية الأقوال - في كثير من مسائل العقيدة - إنما يحكيها هؤلاء وينسبوها إلى أئمة أهل السنة بحسب ما يعتقدون هم، لا بحسب المروي
(1) انظر: درء التعارض (7/353) .
(2)
انظر: (ص: 667)، وانظر: الجبائيان (ص: 333) .
(3)
الفصل (4/74) - المحققة -.
(4)
انظر: درء التعارض (7/419) .
حقيقة عن هؤلاء الأئمة، يقول شيخ الإسلام:"ولما كان الكلام في هذه الأبواب المبتدعة مأخوذا في الأصل عن المعتزلة والجهمية ونحوهم، وقد تكلم هؤلاء في أول الواجبات: هل هو النظر، أو القصد، أو الشك، أو المعرفة؟. صار كثير من المنتسبين إلى السنة والمخالفين للمعتزلة في جمل أصولهم يوافقونهم على ذلك، ثم الواحد من هؤلاء إذا انتسب إلى إمام من أئمة العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وصنف كتابا في هذا الباب يقول فيه: قال أصحابنا، واختلف أصحابنا، فإنما يعني بذلك أصحابه الخائضين في هذا الكلام، وليسوا من هذا الوجه من أصحاب ذلك الإمام؛ فإن أصحابه الذين شاركوه في مذهب ذلك الإمام إنما بينهم وبين أصحابه المشاركين له في ذلك الكلام عموم وخصوص، فقد يكون الرجل من هؤلاء، وبالعكس، وقد يجتمع فيه الوصفان (1) ".
ويضرب لذلك مثلا يقول أبي الفرج المقدسي الحنبلي في كتابه "التبصرة في أصول الدين": "فصل في أول ما أوجب الله على العبد معرفته، والثاني: أن أول ما أوجب الله على العبد النظر والاستدلال المؤديان إلأى معرفة الله تعالى"(2) .
يقول شيخ الإسلام معلقا: "قلت فهذا الكلام وأمثاله يقوله كثير من أصحاب الأئمة الأربعة، ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما قالوا لا هذا القول، ولا هذا القول، وإنما قال ذلك من أتباعهم من سلك السبيل المتقدمة"(3) أي المبتدعة والتي سبق أن ذكرها شيخ الإسلام من دليل الأعراض وغيره.
والغرض من ذكر هذه الحقيقة هنا - مع أنها لا تختص في هذا الموضع - الإشارة إلى أمرين: أحدهما: أن هذا جزء من منهج شيخ الإسلام ابن تيمية،
(1) درء التعارض (8/3-4) .
(2)
المصدر السابق (8/4-5)، وانظر: النص في "التبصرة في أصول الدين"(ص: 6-7) - مطبوع على الآلة الكاتبة - تحقيق إبراهيم بن محمد الدوسري، وأبو الفرج المقدسي اسمه: عبد الواحد ابن محمد علي الشيرازي المقدسي الأنصاري الحنبلي. توفي سنة 486 هـ، كانت له وقعات مع الأشاعرة.
انظر في ترجمته طبقات الحنابلة (2/248) ، وذيلها (1/68) ، وسير أعلام النبلاء (19/51) .
(3)
درء التعارض (8/6) .
فهو دائما يركز على وجوب الاهتمام بصحة نسبة الأقوال إلى أصحابها، ولما كان البحث هنا في أول مسألة من المسائل التى خالف فيها الأشاعرة مذهب أهل السنة، ناسب ذكر هذه المسألة التى تدل على خطأ منهجي وعلمي يمارسه كثير من أهل الكلام، والأمر الثاني: أن شيخ الِإسلام ضرب مثالا برجل حنبلي، وخطأه فيما نسب إلى أئمة الحنابلة من أقوال حين شمل بتعميمه جميع الحنابلة من كان منهم سائرا على مذهب السلف ومن كان خائضا فيما خاض فيه أهل الكلام، وكأن شيخ الاسلام قصد أن هذا الأسلوب إذا كان قد وقع لبعض الحنابلة حين نسبوا إلى بعض أئمتهم ما لم يقولوه فلأن يقع في غيرهم من باب أولى، ومع ذلك فهو يدل على العدل والِإنصاف الذي تحلى به شيخ الإسلام في أحكامه وأقواله؛ إذ لم يمنعه ميله إلى الحنابلة ودفاعه عنهم بأنهم أقل الطوائف انحرافا- وإن كان قد يوجد فيهم من وافق أهل الأهواء- لم يمنعه ذلك من ضرب المثال بخطأ أحد أعلامهم.
وشيخ الاسلام يرى أن القول بأن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر أو معرفة الله أو الشك، قول باطل، وأن الصحيح أن أول واجب هو الشهادتان المتضمنتان لتوحيد الله وإفراده بالعبودية ويذكر لذلك عدة أدلة من الكتاب والسنة، ومنها:
1-
حديث معاذ المشهور، يقول ابن تيمية: " والنبي- صلى الله عليه وسلم لم يدع أحدا من الخلق إلى النظر ابتداء، ولا إلى مجرد إثبات الصانع، بل أول ما
دعاهم إليه الشهادتان، وبذلك أمر أصحابه، كما قال في الحديث المتفق على صحته لمعاذ ابن جبل- رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: إنك تأتي قوما أهل كتاب،
فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم
والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " (1) ، وكذلك سائر الأحاديث عن النبي- صلى الله عليه وسلم
(1) متفق عليه، البخارى: كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة ورقمه 1458 (الفتح 3 / 322) ، وباب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء، ورقمه 1496 (الفتح 3 / 357) . ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ورقمه 19.
موافقة لهذا" (1) ، ويلاحظ التصريح بلفظ " أول " في الحديث حيث قال: " فليكن أول ما تدعوهم إليه " فهو نص في الموضوع، مع أن المتواتر من أحواله صلى الله عليه وسلم وسيرته أنه كان يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وهذا منهج رسل الله جميعا حيث إنهم " يأمرون بالغايات المطلوبة من الِإيمان بالله ورسوله وتقواه، ويذكرون من طرق ذلك وأسبابه ما هو أقوى وأنفع، وأما أهل البدع المخالفون لهم فبالعكس يأمرون بالبدايات والأوائل (2) "، وإذا
كانت معرفة الله فطرية، والعباد مفطورون على الِإقرار بربهم وخالقهم فالأجدى والأنفع لهم أن يدعوا إلى إفراد هذا الرب بالعبادة والطاعة، لا أن يشغلوا بما هو بدهي وفطري، ومع ذلك فإن شيخ الإسلام يذكر أن بعض الناس قد يعرض له ما يفسد فطرته فيكون بحاجة إلى نظر حتى تحصل له المعرفة، والخطأ الذي وقع فيه أهل الكلام زعمهم أن معرفة الله لا تتم إلا بهذا الطريق، يقول شيخ الإسلام:"إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة وهذا قول جمهور الناس، وعليه حذاق النظار، أن المعرفة تارة تحصل بالضرورة وتارة بالنظر"(3) . وقد سبق في بداية هذه الفقرة ذكر الخلاف في ذلك.
2-
ومن الأدلة على أن النظر ليس أول واجب قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ"[العلق: 1]، يقول شيخ الاسلام:" وهذه الآية أيضا تدل على أنه ليس النظر أول واجب، بل أول واجب ما أوجب الله على نبيهـ صلى الله عليه وسلم "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ"، لم يقل انظر واستدل حتى تعرف الخالق، وكذلك هو أول ما بلغ هذه السورة، فكان المبلغون مخاطبين بهذه الآية قبل كل شىء، ولم يؤمروا فيها بالنظر والاستدلال "(4) ، ويجيب هنا عن
(1) درء التعارض (8/6-7) .
(2)
المصدر السابق (8/21) .
(3)
مجموع الفتاوى (16/328) .
(4)
مجموع الفتاوى (16/328) ، وانظر أيضا (16/232) .
الاعتراض الذى يورده الباقلاني ومضمونه: أن المعرفة لو حصلت بغير النظر لسقط التكليف بها، فيبين أن المعرفة نفسها لم يدل دليل على وجوبها، بل هي موجودة عند جميع الناس لأنهم مفطورون عليها، ولذلك فإن الرسل افتتحوا دعوتهم بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، كما في قصة نوح، وهود، وصالح، وشعيب، وغيرهم من الأنبياء، لأن أممهم كانوا مقرين بالخالق، لكنهم كانوا يعبدون معه غيره، كما هو حال مشركي العرب (1)، ولذلك قالت الرسل "أَفِي اللَّهِ شَكٌّ" [إبراهيم: 10] وهذا نفي، " أي ليس في الله شك، وهو استفهام تقرير يتضمن تقرير الأمم على ما هم مقرون به من أنه ليس في الله شك، فهذا استفهام تقرير "(2) .
3-
وبعد أن يفصل شيخ الإسلام القول في أحاديث الفطرة، وقوله تعالى:" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"[الذاريات: 56] يقول: " والمقصود هنا أنه معروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقهم، ضروري لهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم وذلك ضروري منهم وهذا هو الإقرار بالشهادة المذكورة في قوله: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ . قَالُوا بَلَى
…
" [الأعراف: 172] .. "(3) .
4-
ومن الأدلة أيضا الإجماع؛ فإن أئمة الدين وعلماء المسلمين " مجمعون على ما علم بالاضطرار من دين الرسول: أن كل كافر فإنه يدعى إلى الشهادتين سواء كان معطلا أو مشركا أو كتابيا، وبذلك يصير الكافر مسلما، ولا يصير
(1) مجموع الفتاوى (16/332) .
(2)
المصدر السابق (16/339) .
(3)
درء التعارض (8/482) .
مسلما بدون ذلك" (1) ، ويستشهد بكلام ابن المنذر: "أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وأن كل ما جاء به محمد حق، وأبرأ إلى الله من كل دين يخالف دين الإسلام- وهو بالغ صحيح يعقل- أنه مسلم. فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدا، يجب عليه ما يجب على المرتد" (2) ، وهذا موافق لما دلت عليه النصوص، وما ابتدعه هؤلاء من وجوب النظر والمعرفة فليس عليه دليل، وإنما أخذوه من أهل الاعتزال والكلام.
ولا يكتفي شيخ الإسلام بهذه الردود المباشرة على قول هؤلاء، وإنما يرد عليهم من وجوه أخر، يبين فيها تناقض الأشاعرة وردود بعضهم على بعض، كما يربط المسألة بمسائل أخر توضح خطأهم فيها:
1-
فإبراز التناقض عند الأشاعرة من منهج شيخ الإسلام العام في الرد على الأشاعرة- وقد سبق تفصيل القول فيهـ، ووجه تناقضهم هنا أنهم مع قولهم بأن أول الواجبات النظر أو المعرفة إلا أنهم يقولون لا واجب إلا بالشرع - خلافا للمعتزلة- وهذا يناقض ما أوجبوه من النظر، يقول شيخ الإسلام:
"ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على قول من يقول: لا واجب إلا بالشرع، كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أو سبع، لا وجوب على من لم يبلغ ذلك، وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين إن (3) كان لم يتكلم بهما، وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة، وهذا هو المعنى الذي قصده من قال: أول الواجبات الطهارة والصلاة، فإن هذا أول ما يؤمر به المسلمون إذا بلغوا أو إذا ميزوا"(4) ، وفي موضع آخر يبين شيخ الإسلام جانبا
(1) درء التعارض (8/7) .
(2)
المصدر السابق (8/7) وكلام ابن المنذر في الإجماع (ص: 154) - ط دار طيبة.
(3)
في المطبوعة [وإن] ولعل الواو زأندة.
(4)
درء التعارض (8/12-13) .
آخر من غلطهم وتناقضهم في هذا، وهو أنه لو قدر أن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر، فهل من شرط ذلك أن يتأخر إلى البلوغ، ولو فرض أنه نظر قبل البلوغ لحصل له ذلك وهو غير واجب عليه (1) .
2-
ويطبق شيخ الاسلام جانبا آخر من منهجه العام في الرد على الأشاعرة، وهو ردود بعضهم على بعض- وقد سبق توضيح ذلك في الفصل السابق- وهو هنا ينقل كلام بعض الأشاعرة أو المائلين إلى طريقتهم:
أ- فالشهرستاني يصرح في نهاية الاقدام أن معرفة الله فطرية، ويقول:" إن الفطرة السليمة الإنسانية شهدت بضرورة فطرتها، وبديهة فكرتها على صانع حكيم، قادر عليم، "أَفِي اللَّهِ شَكٌّ" [إبراهيم: 10](2) ، فأين وجوب النظر أو القصد أو الشك؟.
ب- والرازي صرح في نهاية العقول بقوله بعد كلام: " وبهذا يتبين خطأ قول من زعم أن أول الواجبات القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم "(3)، قال شيخ الإسلام معلقا:" قلت: هذا القول الذي خطأه الرازي هو الذي ذكره أبو المعالي في أول الإرشاد (4) ، كما ذكره طوائف من أهل الكلام المعتزلة وغيرهم "(5) ، والرازي يرى إن إثبات الصانع لا يتوقف على هذا الطريق بل هناك طرق أخرى، وقد صرح الرازي بأن هناك معارف يمكن أن تحصل بغير النظر وتكون ضرورية (6) ، وقصته مع نجم الدين الكبرى - أحمد الحيوقي- أحد شيوخ المعرفة، وكان من أجل شيوخ وقته في بلاده
(1) انظر: درء التعارض (7/421)، ومن تناقضهم أيضا أن كثيرا منهم يقول مع ذلك: إن المعرفة لا تحصل الا بالشرع، انظر نصوصا من كلامهم في درء التعارض (9/16-38) .
(2)
درء التعارض (7/97)، والنص في نهاية الإقدام (ص: 124) .
(3)
درء التعارض (5/290) ، والنص في نهاية الهقول (14-أ) .
(4)
ص 3.
(5)
درء التعارض (5/290) .
(6)
انظر: المصدر السابق (7/355) .
جرجان وخوارزم (1) - قال: " دخل على فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة كبير فيهم، فقالا: يا شيخ، بلغنا أنك تعلم علم اليقين، فقلت: نعم أنا أعلم علم اليقين، فقالا لي: كيف تعلم علم اليقين، ونحن نتناظر من وقت كذا إلى وقت كذا، وكلما أقام حجة أبطلتها، وكلما أقمت حجة أبطلها؟
فقلت: ما أدري ما تقولان، ولكن أنا أعلم علم اليقين، فقالا: بين لنا ما هذا اليقين فقلت: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها فجعلا يرددان هذا الكلام، ويقولان: واردات ترد على النفوس تعجز النفوس عن ردها، وتعجبا من هذا الكلام؛ لأنه رحمه الله بين أن ذلك من العلوم الضرورية التي تلزم القلب لزوما لا يمكنه مع ذلك دفعها، ثم قالا له: كيف الطريق إلى هذه الواردات؟ فقال لهما: بأن تسلكا طريقتنا التي نأمركم بها، فاعتذر الرازي بما له من الموانع، وأما المعتزلي فقال: أنا محتاج إلى هذه الواردات فإن الشبهات قد أحرقت قلبي، فأمره الشيخ بما يفعله من العبادة والذكر، وما يتبع ذلك، ففتح الله عليه بهذه الواردات- والمعتزلة ينفون العلو والصفات، ويسمون من أثبت ذلك مجسما حشويا- فلما فتح الله تعالى عليه بذلك قال: والله ما الحق إلا فيما عليه هؤلاء الحشوية والمجسمة، أو كما قال " (2) . والرازي لم يسلك هذا الطريق لوجود الموانع لا لقناعته بأن هذا ليس طريقا للمعرفة.
ج-- وكذلد الآمدي صرح بأن المعرفة قد تحصل بطريق التصفية وأخبار الأنبياء أو بغير ذلك (3)، وقال جوابا لاعتراض على وجوب النظر: " قولهم:
لا نسلم توقف المعرفة على النظر، قلنا: إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له، فالنظر في حقه غير واجب " (4) . وهذا تصريح منه بأن طرق المعرفة كثيرة فحصر أول واجب بالنظر المفضي إلى المعرفة غير صحيح.
(1) انظر: درء التعارض (7/432) .
(2)
درء التعارض (7/431-432) ، وانظر القصة أيضا في مجموع الفتاوى (4/43-44) ،
ونقض التأسيس- المطبوع- (1/264-266) .
(3)
انظر درء التعارض (7/356) . وانظر ما سبق في هذه الرسالة (ص: 713) عند الحديث عن الآمدي.
(4)
درء التعارض (7/356-357) ، وكلام الآمدي في أبكار الأفكار (29-أ) .
د- والقاضي أبو يعلى صرح في المعتمد بوجوب النظر، ثم تراجع عن ذلك في كتابه عيون المسائل، وقد نقل شيخ الأسلام أقواله في ذلك (1) .
فهذه أقوال الأشاعرة تدل على فساد ما يقوله كثير منهم من أن أول واجب على المكلف النظر وأنه لا طريق إلى معرفة الله إلا بذلك، وشيخ الإسلام وهو يرد على من قال بوجوب النظر يورد هذا الاعتراض الذى يذكره البعض، فيقول:" فإن قيل: إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتا في كل فطرة، فكيف ينكر ذلك كثير من النظار- نظار المسلمين وغيرهم- وهم يدعون أنهم الذين يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الالهية؟ "- ويجيب شيخ الإسلام بقولهـ:
" فيقال: أولا: أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه المعرفة هم أهل الكلام - الذي اتفق سلف الأمة على ذمهـ من الجهمية والقدرية، وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم، ولكن انتشر كثير من أصولهم في المتأخرين من الذين يوافقون السلف على كثير مما خالفهم فيه سلفهم الجهمية، فصار بعض الناس يظن أن هذا قول صدر في الأصل عن علماء المسلمين، وليس كذلك، إنما صدر أولا عمن ذمه أئمة الدين وعلماء المسلمين، الثاني: أن الأنسان قد
يقوم بنفسه من العلوم والإرادات وغيرها من الصفات ما لا يعلم أنه قائم بنفسه، فإن قيام الصفة بالنفس غير شعور صاحبها أنها قامت به، فوجود الشيء في الإنسان وغيره غير علم الإنسان به
…
" (2) .
3-
وإضافة إلى ما سبق من الردود على الأشاعرة في هذه المسألة، فإن شيخ الإسلام يناقش القضية من زوايا أخرى لها علاقة بها:
أ- فمن ذلك أن لفظ "النظر" فيه إجمال، ولذلك كثر اضطراب الناس وتناقضهم فيه، وهؤلاء المتكلمون يوجبون النظر لأنه يتضمن العلم ثم يقولون:
إن النظر يضاد العلم، فكيف يكون ما يتضمن العلم مضادا له، لا يجتمعان؟، وهنا قال من قال بوجوب الشك، ويناقش شيخ الإسلام هذا الإجمال فيقول:
(1) انظر: درء التعارض (7/442-443، 8/348، 9/36) .
(2)
مجموع الفتاوى (6 / 340- 341)، وانظر بقية كلام شيخ الاسلام إلى (ص: 346) .
"فمن فرق بين النظر في الدليل، وبين النظر الذي هو طلب الدليل، تبين له الفرق، والنظر في الدليل لا يستلزم الشك في المدلول، بل قد يكون القلب ذاهلا عن الشيء، ثم يعلم دليله، فيعلم المدلول وإن لم يتقدم ذلك شك وطلب، وقد يكون عالما به، ومع هذا ينظر في دليل آخر لتعلقه بذلك الدليل، فتوارد الأدلة على المدلول الواحد كثير، لكن هؤلاء لزمهم المحذور؛ لأنهم أوجبوا النظر لكون المعرفة لا تحصل إلا به، فلو كان الناظر عالما بالمدلول لم يوجبوا عليه النظر، فإذا أوجبوه لزم انتفاء العلم بالمدلول، فيكون الناظر طالبا للعلم، فيلزم أن يكون شاكا فصاروا يوجبون على كل مسلم أنه لا يتم إيمانه حتى يحصل له الشك في الله ورسوله بعد بلوغه سواء أوجبوه أو قالوا هو من لوازم الواجب"(1) ، ولا شك أن هذا الذي التزموه قول باطل مخالف لما يجب أن يكون عليه المؤمن من اليقين والإيمان.
ب- ويربط شيخ الإسلام مسألة وجوب النظر بمسألة أخرى كثر فيها الخلاف وهي مسألة النظر هل هو من فروض الأعيان أو الكفايات، يقول شيخ الاسلام عن أبي الحسن الأشعري: " وقد تنازع أصحابه وغيرهم في النظر في قواعد الدين: هل هو من فروض الأعيان، أو من فروض الكفايات؟. والذين لا يجعلونه فرضا على الأعيان: منهم من يقول: الواجب هو الاعتقاد الجازم.
ومنهم من يقول: بل الواجب العلم، وهو يحصل بدونه [أي بدون النظر] كما ذكر ذلك غير واحد من النظار من أصحاب الأشعري وغيرهم كالرازي والآمدي وغيرهما.
والذين يجعلونه فرضا على الأعيان متنازعون: هل يصح الايمان بدونه، وتاركه آثم، أم لا يصح؟ على قولين. والذين جعلوه شرطا في الايمان أو أوجبوه ولم يجعلوه شرطا اكتفوا بالنظر الجملي دون القدرة على العبارة والبيان، ولم يوجب العبارة والبيان إلا شذوذ من أهل الكلام، ولا ريب أن المؤمنين على
عهد رسول اللة- صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لم يكونوا يؤمرون بالنظر الذي
(1) درء التعارض (7/420-421) .
ذكره أهل الكلام المحدث" (1) ، وقد صرح أبو المعالي الجويني بأن تكليف عامة الناس النظر الصحيح التام تكليف بما لا يطاق، ونص على أنه تراجع عن قوله السابق في ذلك (2) .
وقد وقع الخلاف في مسألة وجوب النظر هل يجب على كل أحد أو لا يجب على أحد أو يجب على بعض الناس دون بعض، فمن حصلت له المعرفة لم يجب عليه، ومن لم تحصل له المعرفة والِإيمان إلا به وجب عليه والأخير قول الجمهور (3) .
ومن المسائل المتعلقة بهذا الباب أن العلم والايمان واجب بحسب الإمكان وبحسب أحوال الناس و" ترتيب الواجبات في الشرع واحدا بعد واحد ليس هو أمرا يستوي فيه جميع الناس، بل هم متنوعون في ذلك، فكما أنه قد يجب على هذا ما لا يجب على هذا، فكذلك قد يؤمر هذا ابتداء بما لا يؤمر به هذا، فكما أن الزكاة يؤمر بها بعض الناس دون بعض، وكلهم يؤمر بالصلاة فهم مختلفون فيما يؤمر به ابتداء من واجبات الصلاة، فمن كان يحسن الوضوء وقراءة الفاتحة ونحو ذلك من واجباتها أمر بفعل ذلك، ومن لم يحسن ذلك أمر بتعلمه ابتداء، ولا يكون أول ما يؤمر به هذا من أمور الصلاة هو أول ما يؤمر به هذا
…
" (4) .
وقد سبقت الإشارة- في بداية هذه الفقرة- إلى ذكر الخلاف في حصول المعرفة، هل تحصل ضرورة أو بالنظر، وهل تحصل بالعقل أو بالسمع. وجمهور المسلمين أنها تحصل بهذا تارة وبهذا تارة، وأدلة السمع ليست مجرد الخبر بل هي متضمنة للأدلة العقلية.
وبهذا العرض المتنوع لهذه القضايا يتبين أن زعم هؤلاء بأن أول واجب هو النظر وأنه لا طريق إلى المعرفة إلا به قول يخالفهم فيه جماهير المسلمين،
(1) درء التعارض (7/408) .
(2)
انظر: المصدر السابق (7/440) .
(3)
انظر: المصدر نفسه (7/405) .
(4)
انظر: المصدر نفسه (6/18-17)، وانظر أيضا:(7/426-427) .