الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من العلم، ومن ثم أقروا بأن الخلاف بينهم وبين المعتزلة لفظي أو قريب من اللفظي (1) .
ولا شك أن هذا اعترف منهم بفشلهم في الجمع بين نفي العلو والزعم بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وبين إثبات الرؤية.
6-
أما احتجاجهم بأن كل موجود يصح أن يرى، فهو دليل ضعف لأنه يلزم منه أن ترى الأصوات والروائح وهي موجودة. أما دليل المرآة فهو باطل لأن الذي في المرآة الخيال والصورة وليس الذات.
وقد أورد شيخ الإسلام ردودا أخرى عديدة (2) ، ولا شك أن قول الاشاعرة بالرؤية مع نفي العلو في غاية التناقض، وجميع أجاباتهم ومحاولاتهم لإزالة هذا التناقض لم تفلح إلا بأن تفسر الرؤية بما يقربها إلى مذهب المعتزلة، وهذا ما فعله بعض المتأخرين منهم. وهو ما استقر عليه مذهبهم كما في شرح المواقف (3) .
ثانياً: النبوات والمعجزات:
يوافق الأشاعرة أهل السنة في مسألة النبوات والمعجزات الدالة عليها. ولكنهم - لمذاهبهم المنحرفة في الصفات والقدر - خالفوا أهل السنة في بعض تفاصيل مسألة النبوات والمعجزات والكرامات.
وأول من فصل القول في ذلك من الأشاعرة الباقلاني، حيث أفرد لذلك كتابا مستقلا، وهو رأس الذين اتبعوه كالقاضي أبي يعلى والجويني والرازي والآمدي وغيرهم (4) . وقد سبق عرض مذهبه في ذلك مفصلا (5) .
(1) انظر:،قض التأسيس - مطبوع - (1/360، 2/396، 404، 418، ومجموع الفتاوى (6/32، 41، 16/85) ، ودرء التعارض (1/250) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى - (12/175) .
(2)
انظر: نقض التأسيس - مطبوع - (1/357-368، 2/101-106، 421-431)، والتسعينية (ص:259، 262) ، ودرء التعارض (1/247-248، 7/239-240) .
(3)
(8/115-116) .
(4)
انظر: النبوات (ص:3959) .
(5)
انظر: (ص:543-545) في ترجمة الباقلاني.
وكتاب النبوات أفرده شيخ الإسلام للرد على الباقلاني وغيره من الأشاعرة، ومجمل ملاحظات وردود شيخ الإسلام عليهم يمكن عرضها - باختصار - كما يلي:
1-
حصرهم دلائل النبوة بالمعجزات التي هي خوارق، وهذا موافق لرأي المعتزلة، وإن اختلوفا معهم في كيفية دلالتها على صدق النبي. أم رأي جمهور أهل السنة، فهو أن دلائل ثبوت نبوة الأنبياء كثيرة، ومنها المعجزات (1) .
2-
قول بعض الاشاعرة: إن المعجزة تدل على صدق النبي لئلا يفضي إلى تعجيز الرب، لأنه لا دليل على الصدق إلا خلق المعجز، فلو لم يكن دليلا لزم أن يكون الرب غير قادر على تصديق الرسول الصادق. وهذه طريقة الأشعري - في أحمد قوليه - والقاضي أحيانا، والاسفراييني وابن فورك، وأبو يعلى وغيرهم.
وبعض الأشاعرة قالوا العلم بصدق المعجز يحصل ضرورة، وهذه طريقة الجويني والرازي، لأنهم عرفوا ضعف مسلك أولئك، بسبب أنهم يقولون بتجويز أن يفعل الله كل شيء ولو كان قبيحا، ومن ذلك إظهار المعجزة على يد كذاب. فلما علم أن هذا قد يؤدي إلى عدم التفريق بين الصادق والكاذب، جعلوا المعجزة تدل على صدق النبي، وأن الله لا يظهرها على يد كاذب لئلا يفضي إلى ذلك إلى تعجيز الرب عن إثبات صدق أنبيائه. وهذا تناقض منهم. والحق أن الله لا يظهرها على يد كاذب لأنه يفعل لحكمة ولأنه منزه عن ذلك. أما من جز على الله كل قبيح فقوله باطل ومتناقض كما فعلوا هنا (2) .
3-
وعلى مذهبهم في تعريف المعجزة، وأنها أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي يظهر على يد نبي، سالم من المعارضة - يجعل الفرق بين المعجزة وبين السحر والشعوذة هو فقط عدم المعارضة، وكونها جاءت على يد مدعي النبوة - وهذا فرق ضعيف جدا، لأن مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي وغيرهما لم يعارضوا، فلو أنهم أتوا بسحر وكهانة وادعوا النبوة، فما الفرق بينهم وبين
(1) انظر: درء التعارض (9/40) .
(2)
انظر: النبوات (ص:51-57، 148-149) ط دار الكتب العلمية، والجواب الصحيح (4/259-261) ، ودرء التعارض (1/89-90، 96، 9/52-53)، وشرح الأصفهانية (ص:156-165) ت مخلوف.
معجزة الأنبياء؟ (1) .
ومعلوم أن آيات الأنبياء الدالة على نبوتهم "هي التي تعلم أنها مختصة بالأنبياء، وأنها مستلزمة لصدقهم، ولا تكون إلا مع صدقهم، وهي لا بد أن تكون خارقة للعادة، خارجة عن قدرة الإنس والجن، ولا يمكن أحد أن يعارضها. لكن كونها خارقة للعادة، ولا تمكن معارضتها هو من لوازمها، ليس هو حدا مطابقا لها، والعلم بأنها مستلزمة لصدقهم قد يكون ضروريا كانشقاق القرم، وجعل العصا حية وخروج الناقة، فمجر العلم بهذه الآيات يوجب علما ضروريا بأن الله جعلها آية لصدق هذا الذي استدل بها
…
وقد تكون الآيات على جنس الصدق، وهو صدق صاحبها، فيلزم صدقه إذا قال: أن نبي، ولكن يمتنع أن يكون لكاذب" (2) .
4-
أنهم لم يفرقوا بين المعجزات والسحر، بل جعلوا الفرق فقط هو تحدي الرسول بالإتيان بمثله، قالوا ولو احتج الساحر بسحره وادعي به النبوة أبطله الله بوجهين: أحدهما: أن ينسبه عمل السحر، والثاني: أن تمكن معارضته. ولما طولب الباقلاني بالفرق بين السحر والمعجزات التي للأنبياء عول على أن المعجز لا يكون معجزا حتى يكون واقعا من فعل الله، على وجه خارق للعادة، مع تحدي الرسول بالإتيان بمثله (3) .
وقد ناقش شيخ الإسلام هذا الكلام ورد عليه من وجوه عديدة منها:
أ - أن كون آيات الأنبياء مساوية في الحد والحقيقة لسحر السحرة معلوم الفساد بالإضطرار من دين الرسل.
ب - أن في هذا قدحا في الأنبياء حيث جعلت آياتهم من جنس السحر والكهانة.
ت - أنه على تقديم قولهم: يمكن للساحر أن يدعي النبوة، وما ذكر
(1) انظر: النبوات (ص:282-283) ط دار الكتب العلمية.
(2)
النبوت (ص:283)، وانظر أيضاً (ص:297-298، 315-316، 320) وما بعدها.
(3)
انظر: النبوات (ص:47-49) .
من إبطال بدعواه بأمرين، منقوض بمذهبه الذي جوزوا فيه على الله فعل كل شيء ولو كان قبيحا كإظهار المعجزة على يد الكاذب.
ث - أنه، أي الباقلاني، جوز أن تظهر المعجزات على يد كاذب إذا خلق الله مثلها على يد من يعارضه فعمدته سلامته من المعارضة بالمثل.
ج - أن من الناس من اعدى النبوة، وكان كاذبا وظهرت على يده بعض هذه الخوارق، فلم يمنع منها، ولم يعارضه أحد، كما حدث للأسود العنسي ومسيلمة، وبابك وغيرهم. وإنما عرف كذبهم بطرق متعددة. فدعواهم أن الكذاب لا يأتي بمثل هذه الخوارق ليس كما يدعونه (1) .
5-
وأخيرا فإن أقوال الأشاعرة في هذه المسائل أدى بهم إلى بعض الأقوال - أو تجويز بعض الأمور - الباطلة، ومنها:
أ - تجويز بعضهم أن يقع الفسخ في شرائع الأنبياء في الأصول الجامعة، كالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبر الوالدين، والصدق، والعدل، وتحريم الفواحش. وهذا لأنهم جوزوا أن يأمر الله بكل شيء وينهى عن كل شيء، وأن مرد ذلك إلى محض المشيئة.
وهم وإن قالوا إن شيئا من ذلك لم يقع، إلا أن تجويزهم له خالفوا به قول جمهور السلف الذين لا يجوزون دخول النسخ في هذه الأمور (2) .
ب - تجويز بعضهم - كالباقلاني - أن يكون النبي فاعلا للكبائر، بناء على نفيهم للتحسين والتقبيح العقلي (3) .
ت - قولهم إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء نظرا لمذهبهم
(1) انظر: النبوات (ص:49-51) .
(2)
انظر: المصدر السابق (ص:321-323) .
(3)
انظر: المصدر السابق (ص:146) ، ومنهاج السنة (2/324-327) ط دار العروبة المحققة.
في شروط المعجزة حيث جعلوا منها: أن تقارن دعوى النبوة. وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوا من آيات الأنبياء، لأنها مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيهان ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم كرامات (1) .
ث - تناقضهم في قولهم إن كل ممكن فهو جائز على الله، مع قولهم، إنه لا يظهر المعجزة على يد الكاذب (2) .
ج - تناقضهم أيضاً، حيث جعلوا من شرط المعجزة أن تكون مما ينفرد الرب بالقدرة عليه، مع قولهم: كل ما في الوجود فهو مقدور لله، حتى قدرة العبد عندهم غير مؤثرة في مقدورها. فإذا صح هذا فما معنى الشرط السابق؟ (3) .
ح - قول الباقلاني: إن الخوارق تدل على الولاية بالإجماع، مع تجويزه ظهورها على يدي الكفار والسحرة. وهذا تناقض (4) .
هذه لمحات في مسألة المعجزات وما يتعلق بها، وهي تدل على تداخل أمور العقيدة، وتأثير الانحراف في بعضها على الانحراف في جوانبها الأخرى.
وفي ختام هذا المبحث الذي هو آخر مباحث هذا الفصل الذي اشتمل على ردود شيخ الإسلام التفصيلية على الأشاعرة، لا بد من الإشارة إلى أن هناك
(1) انظر: النبوات (ص:306-307) .
(2)
انظر: النبوات (ص:372) .
(3)
انظر: المصدر السابق (ص:206) .
(4)
انظر: المصدر نفسه (ص:181) .
بعض المسائل الفرعية التي قد تشتمل عليها كتب الأشاعرة، وهي مخالفة لمذهب السلف، ولكن هذه المسائل إما أن تكون متعلقة بمسألة من المسائل المشهورة كالصفات أو القدر أو الإيمان أو غيرها، أو تكون وردت في بعض كتب الأشاعرة رأيا لصاحب الكتاب، واجتهاد منه، فمناقشتها تكون ضمن بحوث مستقلة تفرد لتتبع هذا الكتاب أو آراء صاحبه.
والأشاعرة موافقون لأهل السنة فيما يتعلق بالسمعيات كالمعاد والحشر والحوض والصراط والجنة والنار، وعذاب القبر، ونحو ذلك. وكذلك في الإمامة والتفضيل وما يتعلق بهما. وكذلك في أنه لا يخلد أحد من أهل القبلة في النار. فهم - كما قال شيخ الإسلام - مخالفون للخوارج والشيعة، ومن ثم كانوا أقرب الطوائف إلى السلف وأهل السنة والحديث (1) .
(1) انظر: النبوات (ص:198) ط دار الكتب العلمية.