الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم نقل عن بعض العلماء- كالغزالي، والجويني، وأبي حامد الأسفراييني، وابن عبد البر، وأبي محمد المقدسي وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد- أنهم قالوا: المراد بالحديث نفي الفضيلة والاستحباب، ونفي الوجوب بالنذر، لا نفي الجواز (1)، ثم بين شيخ الإسلام من خلال ردوده المطولة أن أحدا من العلماء لم يقل: إن السفر إلى غير هذه الأماكن الثلاثة- بقصد التعظيم أو التقرب- مستحب (2) .
4-
كما ذكر شيخ الإسلام أن السفر إلى زيارة القبور رخص فيه بعض المتأخرين كالغزالي (3)، كما رد على القاضي عياض في قوله: إن التربة التي دفن فيها النبى-صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الحرام (4) ، كما ذكر عن بعض نفاة الغلو أنهم يعظمون المتصوفة، وأن أحدهم يأخذ ورقة فيها سر مذهبه،
يرقى بها المرضى كما يرقى المسلمون بفاتحة الكتاب، قال شيخ الإسلام- كما أخبرنا بذلك الثقاة- وهم يقدمون تلك الرقية على فاتحة الكتاب (5) .
ثالثا: توحيد الربوبية:
سبقت الإشارة إلى أن النوع الثالث من أنواع التوحيد عند الأشاعرة قولهم: إن الله واحد في أفعاله لا شريك له، وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع، وأن معنى لا إله إلا الله لا خالق إلا الله، كا تقدم بيان ما في هذا القول من الحق والباطل، وأن إثباتهم لتوحيد الربوبية صحيح، ولكن الخطأ الذي وقعوا فيه ظنهم أن هذا هو غاية التوحيد الذي دعت إليه الرسل وإغفالهم لتوحيد الألوهية.
(1) الرد على الأخنائي (ص: 33، 166-184،167) - ط السلفية، القاهرة، وانظر مختصره في مجموع الفتاوى (27/226) .
(2)
انظر: المصدر السابق، الصفحات نفسها.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (27/27-28) .
(4)
انظر: المصدر السابق (27/37-38) .
(5)
انظر: درء التعارض (6/170) .
وهنا نشير إلى طرائقهم في إثبات هذا التوحيد- توحيد الربوبية- لأنهم عنوا به كثيرا، وأطالوا بحثه في كتبهم، وقد ناقشهم شيخ الإسلام ابن تيمية وبين ما في أقوالهم وأدلتهم من الحق والباطل.
وشيخ الإسلام يبين دائما أن مسألة إثبات الربوبية من المسائل التي فطر عليها بنو آدم، ولذلك فهو حينما يذكر طرق هؤلاء الأشاعرة وغيرهم في إثبات الصانع، إنما يذكرها لأنهم يعارضون بها كلام الله وكلام رسوله، ويزعمون أن هذه الأدلة العقلية تعارض ما جاءت به الرسل. ويهدف من وراء مناقشتهم إلى بيان أمرين:
أحدهما: أن ما عارض النصوص من أقوالهم وأدلتهم لا يكون إلا باطلا.
والثاني: أن ما لم يعارض نصوص الوحي، قد يكون حقا وقد يكون باطلا وما كان منها حقا فقد يكون طويلا لا يحتاج إليه (1) .
كما أن شيخ الاسلام ينتقد هؤلاء المتكلمين حين يزعمون أن لا طريق إلى إثبات الصانع مثلا إلا هذا الطريق الذي ذكروه، ومن ثم يرمون من خالفه بالإلحاد والمروق. يقول: " ثم مما ينبغي أن يعرف أن الذين سلكوا الطرق المبتدعة في إثبات الصانع وتصديق رسله، إذا اعتقدوا أنه لا طريق إلا ذلك الطريق جعلوا
من خالفهم في صحة تلك الطريق ملحدا، أو دهريا، أو نحو ذلك، وهذا يذكرونه في مواضع:
منها: أنهم لما اعتقدوا أن إثبات الصانع تعالى موقوف على إثبات الجوهر الفرد (2) جعلوا إثبات ذلك من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين.
(1) انظر: درء التعارض (8/90-91) .
(2)
الجوهر الفرد، ويسمى: الجزء الذي لا يتجزأ، أو الذرة، ويعرف بأنه: متحيز لا ينقسم لا بالفك والقطع، ولا بالوهم والغرض [الصحائف الإلهة: السمرقندي ص: 255] ، أو هو: جوهر لا يقبل الانقسام أصلا، ولا بحسب الحارج، لا بحسب الوهم أو الغرض العقلي [التعريفات ص: 41] ، وانظر: المعجم الفلسفي- مجمع اللغة- (ص: 88) ، والمعجم الفلسفي- صليبا (1/588،427،400)، وانظر: مسألة في إثبات الجوهر الفرد للشهرستاني (ص: 505-511) - طبعت في ذيل نهاية الإقدام، وانظر أيضا مذهب الذرة عند المسلمين بينيس (ص: 1-16) .
وكذلك قد يقولون: إن تماثل الجواهر والأجسام من أقوال المسلمين، ونفي ذلك من أقوال الملحدين.
وكذلك قد يقولون: إن تناهي الحوادث من أقوال المسلمين، والقول بعدم تناهيها من أقوال الدهرية الملحدين. ولهذا نظائر (1) .
وأهم المسائل المتعلقة بتوحيد الربوبية هي:
أ- دليل حدوث الأجسام على لإثبات وجود الله.
ب- مسألة التسلسل والرد الصحيح على الفلاسفة الدهرية.
ب- الأدلة الأخرى على إثبات الصانع التي ذكرها الأشاعرة.
د- لألبات وحدانية الله.
أ- دليل حدوث الأجسام:
سبقت الاشارة إلى هذا الدليل في انمهج العام في الرد على الأشاعرة، عند بيان عدم تعارض العقل والنقل، حيث جعل الأشاعرة دليل حدوث الأجسام من الأصول العقلية التي عارضت مدلول السمع، فوجب تقديمها عليه.
وهذا الدليل هو المسلك المشهور للمعتزلة، وأخذه عنهم جمهور الأشاعرة (2) ، والماتريدية، وخاصة الباقلاني، والجويني، والباجي، وأبا بكر ابن العربي، والآمدي، والماتريدي والصابوني. وهي الغالبة على كتب الأشاعرة قديما وحديثا، وإن كان بعض أعلامهم- كالرازي- يذكرها ويذكر غيرها، وربما ضعف هذا الدليل ونقده.
وخلاصة الدليل أن هؤلاء قالوا: لا يعرف صدق الرسول حتى يعرف إثبات الصانع، ولا يعرف إثبات الصانع حتى يعرف حدوث العالم، ولا يعلم حدوث العالم إلا بما به يعلم حدوث الأجسام، ثم استدلوا على حدوث الأجسام
(1) انظر: درء التعارض (8/93-94) .
(2)
انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/257-258) ، ودرء التعارض (9/132) .
بأنها لا تخلو من الحوادث- أو بعبارة أخرى مستلزمة للأعراض أو بعضها- ثم قالوا وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، ثم ان هؤلاء احتاجوا الى أن يقولوا: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث، ثم منهم من تفطن الى أن هذا لا يكفي لإثبات الصانع فاضطر أن يقول بإبطال حوادث لا أول لها (1) .
فلما استقر الدليل عند هؤلاء قالت المعتزلة يجب نفي جميع الصفات عن الله تعالى لأن ما قامت به الصفات قامت به الأعراض، وما قامت به الأعراض فهو حادث، فجاءت الكلابية والأشعرية فقالوا بإثبات الصفات، وقالوا لا نسميها أعراضا. لكن الصفات الاختيارية حوادث فيجب نفيها طردا لهذا الدليل.
هذه خلاصة هذا الدليل، ولخطورته وأهميته، وتركيز شيخ الإسلام عليه في جميع كتبه تقريبا، وكونه يشير إليه أحيانا إشارات مجملة بناء على أنه فصل القول فيه في أماكن أخرى، ولأن هذا الدليل هو لب الكلام المذموم الذي ذمه السلف، وقد بين ذلك شيخ الإسلام مرارا ومن ذلك قوله: "إن هذه الطريقة
هي أصل الكلام الذي ذمه السلف والأئمة وتوسعوا في الكلام في ذلك من وجهين:
أحدما: أنهم [أي أهل الكلام] جعلوا ذلك أصل الدين، حتى قالوا:
إنه لا يمكن معرفة الله وتصديق رسوله إلا بهذه الطريق. فصارت هذه الطريق أصل الدين، وقاعدة المعرفة، وأساس الإيمان عندهم، لا يحصل إيمان ولا دين ولا علم بالصانع إلا بها، وصار المحافظة على لوازمها والذي فيها أهم الأمور عندهم
…
الوجه الثاني: وهو الكلام بذلك في حق الله سبحانه وتعالى [فإنه (2) ] كان من لوازم هذه الطريقة نفي ما جعلوه من سمات الحدوث عن الرب تعالى،
(1) انظر: شرح الأصفهانية (ص: 264) - ت السعوي-، ودرء التعارض (1/302-303) .
(2)
في المخطوطة فإن، ولعل الصواب ما أثبته.
فإن تنزيهه عن الحدوث (1) ودلائله أمر معلوم بالضرورة، متفق عليه بين جميع الخلق لامتناع أن يكون صانع العالم محدثا، لكن الشأن فيما هو من سمات الحدوث، فإن في كثير من ذلك نزاعا بين الناس
…
(2) .
لهذا كله لابد من شرح هذا الدليل وتوضيح بعض جزئياته، وبيان كيف أدى بهؤلاء الى هذه النتائج الباطلة التي خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة وصار ذمهم يتردد على لسان كل علم من أعلام أهل السنة والجماعة، وهذا سيفيد أيضا في بيان بطلانه، لأن الباطل أحيانا لا يحتاج إلى ردود، بل تصوره يكفي في بيان أنه باطل.
وشرحه سيكون- في الفقرة الأولى- ضمن ردود شيخ الإسلام على أصحاب هذا الدليل، وهي كما يلي:
1-
أن الأشاعرة وأهل الكلام القائلين بهذا الدليل، مختلفون في كثير من تفاصيله، وإذا كان الدليل مبنيا على مقدمات يترتب بعضها على بعض، ثم جاء من يعارض في بعض المقدمات، فهو في هذه الحال يرد على من سلم بها، وخصمه أيضا يرد عليه ما أتى به من مقدمات بديلة عنها، وهكذا.
وبيان ذلك أن هؤلاء بعد أن سلموا بأن إثبات الصانع لا يعلم إلا بحدوث العالم، وحدوث العالم لا يعلم إلا بما به يعلم حدوث الأجسام- اختلفوا في كيفية تقرير دليل حدوث الأجسام:
فطائفة: قالت: إن الجسم لا يخلو عن الحوادث، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
وطائفة: قالت: إن الجسم لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض وقالوا: إن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، ثم قالوا والعرض لا يبقى زمانين، فتكون الأعراض كلها حادثة شيئا بعد شيء، والأجسام لا تخلو منها.
(1) في المخطوطة عن سمات الحدوث، وسياق الكلام يقتضى حذف كلمة [سمات] هنا. والله أعلم.
(2)
نقض التأسيس- مخطوط- (1/122-123) .
وهذا المسلك هو المسلك المشهور للأشاعرة وهو ما ارتضاه الآمدي ورد ما سواه.
ومنهم: من قال: إن أجزاء العالم مفتقرة إلى ما يخصها بما لها من الصفات الجائزة لها، وكل ما كان كذلك فهو محدث، فالعالم محدث.
ومنهم: من قال: كل جسم متناهي القدر، وكل متناهي القدر محدث.
ومنهم: من قال: لو كان الجسم أزليا لكان في الأزل مختصا بحيز معين، لأن كل موجود مشار إليه حسا بأنه هنا أو هناك يجب كونه كذلك، والأزلي يمتنع زواله، فامتنعت الحركة عليه، وقد ثبت جوازها.
ومنهم: من قال: كل ما سوى الواحد ممكن بذاته، وكل ممكن بذاته فهو مفتقر إلى الموثر، والموثر لا يوثر إلا في الحادث لا في الباقي.
ومنهم: من قال: لو كان الجسم قديما لكان قدمه، إما أن يكون عين كونه جسما، وإما مغايرا لكونه جسما، والقسمان باطلان، فبطل القول بكون الجسم قديما.
وقول الطائفة الأولى والثانية هو المشهور عند الأشاعرة، أما الأقوال الأخرى فقد حكاها بعض المتأخرين كالرازي والآمدي (1) .
والقائلون بقول الطائفة الأولى والثانية، تنازعوا في بعض مقدمات دليلهم:
* ففي المقدمة الأولى وهي: أن الجسم لا يخلو عن الحوادث، اختلفوا فيها:
ففريق: منهم قال: الجسم لا يخلو من الحركة والسكون، وهما حادثان.
وهذه طريقة المعتزلة، وذكرها الرازي (2) .
(1) انظر: درء التعارض (2/344،3/3، 4، 8، 18، 351، 448، 451) ، وأبكار الأفكار ج- 2 ل 95- ب- 104- ب وما بعدها، الأربعين للرازي (ص: 13- 41) .
(2)
انظر: الأربعين (ص: 13) .
وفريق: قال: إن الأجسام لا تخلو من الاجتماع والافتراق، وهما حادثان، وهذه طريقة الأشعري وغيره، وهذا القول مبني على القول بالجوهر الفرد الذي يقوم على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة- من جوهرين فأكثر- فالجواهر إما مجتمعة أو متفرقة. ومن لم يقل بالجوهر الفرد لا يلزمه هذا الدليل، والأشاعرة مختلفون في إثبات الجوهر الفرد، فأكثرهم يثبته، وفيهم من ينفيه.
والطائفة الثانية: قالت- موافقة على المقدمة الأولى-: إن الجسم لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض، فخالفوا أقوال الطائفة الأولى لأن كل فريق ألزم الجسم أنواعا محددة من الأعراض، وكذا قولهم- وهي المقدمة الثانية للطائفة الثانية- إن العرض لا يبقى زمانين كثير من العقلاء قالوا: إن هذا باطل ضرورة.
* وفي المقدمة الثانية وهي قولهم: ما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
فقد تنوعت عباراتهم فيها:
فتارة: يقولون: ما لم يخل من الحوادث لم يسبقها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث.
وتارة: يقولون: ما لم يسبق الحوادث- أو ما لم يخل منها- لا يكون الا معها أو بعدها، وما لا يكون الا مع الحوادث أو بعدها فهو حادث.
ثم بعض هؤلاء: لا يقرر هذه المقدمة بناء على ظهورها لأنهم يفهمون من "الحوادث" أن جملتها حادثة بعد أن لم تكن.
وفريق منهم: انتبه الى أن الدليل لم يستكمل بعد، لأن ما ذكروه من الدليل لم يدل إلا على أن الأجسام مقارنة لجنس الحوادث، لا تكون إلا ومعها حادث، فإذا قدر أن الحوادث دائمة، توجد شيئا بعد شيء دائما لم يلزم أن يكون ما لم يسبقها حادثا. فلهذا صار كثير منهم يحتاجون الى بيان امتناع حوادث لا أول لها (1) .
(1) انظر: فيما سبق شرح الأصفهانية (ص: 264-267) - ت السعوي- مطبوع على الآلة الكاتبة. ودرء التعارض (1/302-303) ، ونقض التأسيس- مطبوع- (1/141-144) .
ومن هذا العرض المفصل لأقوال هؤلاء حول دليلهم الذي رأوا أنه لا يمكن إثبات الصانع إلا به، والتزموا لأجله لوازم باطلة خالفوا بها الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة- من هذا العرض يتبين أنهم لم يتفقوا على مقدمة واحدة من مقدمات دليلهم:
- فاختلفوا في الأعراض والحوادث هل تكون شاملة أو مخصوصة بأنواع منها.
- واختلفوا في الجوهر الفرد.
- واختلفوا هل الصفات أعراض فيجب نفيها، أو ليست بأعراض.
- واختلفرا هل العرض يبقى زمانين أم لا؟
2-
كما أن بعض الأشاعرة صرحوا ببطلان مسالك أئمتهم وإخوانهم في تقرير دليل حدوث الأجسام، يقول شيخ الإسلام عن الآمدي والرازي: " والمقصود هنا ذكر ما قاله الآمدي، وذلك أنه لما ذكر مسالك الناس في إثبات حدوث الأجسام أبطل عامتها، واختار الطريقة المبنية على أن الجسم لا يخلو من الأعراض،
وأن العرض لا يبقى زمانين، فتكون الأعراض حادثة، ويمتنع حدوث ما لا نهاية له، وما لا يخلو من الحوادث التي لها أول فله أول. وذكر أن هذه الطريقة
هي المسلك المشهور للأشعرية وعليه اعتماده.
والرازي وأمثاله لم يعتمدوا هذا المسلك، لأنه مبني على أن الأعراض ممتنعة البقاء، وهذه مقدمة خالف فيها جمهور العقلاء، وقالوا: إن قائليها مخالفون للحس ولضرورة العقل، فرأى أن الاعتماد عليها في حدوث الأجسام في غاية الضعف (1) .
والآمدي قدح في الطرق التى اعتمد عليها الرازي كلها" (2) .
(1) انظر: درء التعارض (2/389- 390، 3/30، 451-453) ، ومجموع الفتاوى (5/215-216، 6/40-41، 16/275) .
(2)
انظر: درء التعارض (4/267-275)، وانظر: شرح الأصفهانية (ص: 88) - ت السعوي.- ومجموع الفتاوى (12/ 140-141)، والنبوات (ص: 62) .
والرازي والآمدي من المتأخرين الذين خبروا المذهب وعرفوه، ولذلك جمعوا في كتبهم أقوال سابقيهم في هذه المسألة (1) وفحصوها، وعرفوا ما فيها من فجوات، وإن كان هذا لم يؤد بهم إلى الرجوع إلى الحق في المسائل التفصيلية، وإنما زادوا المذهب غلوا وتطرفا حين أدخلوا فيه أدلة ومذاهب الفلاسفة والمعتزلة وغيرهم.
3-
كما أن أئمة الأشعرية- غير الرازي والآمدي- قد ذموا هذه الطريقة لطولها وغموضها وكثرة مقدماتها، ولأن الأنبياء لم يدعوا اليها، ومن هؤلاء أبو الحسن الأشعري، والغزالي، والخطابي، والبيهقي، والحليمي، والقاضي أبو يعلى، وابن عقيل، وغيرهم.
ومما ينبغي ملاحظته أن الذين ذموا دليل الأعراض وحدوث الأجسام نوعان:
"منهم من يذمها لأنها بدعة في الإسلام، فإنا نعلم أن النبي-صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس اليها، ولا الصحابة؛ لأنها طويلة، مخطرة، كثيرة الممانعات والمعارضات. فصار السالك فيها كراكب البحر عند هيجانه، وهذه طريقة الأشعري في ذمه لها، والخطالى، والغزالي، وغيرهم ممن لا يصرح ببطلانها.
ومنهم: من ذمها لأنها مشتملة على مقدمات باطلة، لا تحصل المقصود بل تناقضه، وهذا قول أئمة الحديث وجهور السلف" (2) .
(1) ذكر الرازي خمسة يراهين عل حدوث العالم، قدح الأرموي في كل واحد منها، انظرها مع قدح الأرموي فها في درء التعارض، البرهان الأول (2/344) وما بعدها، والثاني (3/3-4) ، والثالث (3/4-8) ، والرابع (8/3-18) ، والخامس (3/18/23)، وقال شيخ الإسلام معقبا (3/23) :"والمقصود هنا أن هذه البراهين الخمسة التي احتج بها على حدوث الأجسام قد بين أصحابه المعظمون له ضعفها، بل هو نفسه أيضا بين ضعفها في كتب أخرى مثل: المطالب العالية، وهي آخر ما صنفه، وجمع فها غاية علومه، والمباحث الشرقية، وجعل منتهى نظره وبحثه تضعيفها".
أما الآمدي فقد ذكر سبعة مسالك، زيف ستة منها، واختار المسلك السابع الذي هو المسلك المشهور للأشاعرة، وهو دليل الأعراض وحدوث الأجسام. انظر: درء التعارض (1/302، 3/448-449، 4/267) .
(2)
الصفدية (1/275) .
وشيخ الإسلام كثيرا ما يؤكد على الفرق بين هؤلاء وهؤلاء (1)، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك (2) . كما سبق- في ترجمة الأشعري- نقل كلامه حول دليل الأعراض وقوله: إنه بدعة لم تدع إليه الرسل (3) .
أما الخطابي فكلامه الذي نقله شيخ الإسلام في هذا الموضوع طويل، خاصة من كتابيه الغنية وشعار الدين (4) .
فهذه نماذج من أقوال متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم- ومنهم الرازي- تبين كيف أن هؤلاء الأعلام انتقدوا هذا الدليل الذي جعله كثير منهم الأساس
الذي يقوم عليه دين الإسلام.
4-
وهذا الدليل يجب أن يكون باطلا لوجوه:
أ- أنه دليل طويل، كثير المقدمات التي لا يفهمها كثير من الناس.
ب- أنه دليل مبتدع في دين الله لم يدع إليه رسول اللهصلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه من بعده، ولا أئمة السلف، وإنما هو قول مبتدع، حدث بعد المائة الأولى وانقراض عهد التابعين.
ب- أنه يلزم عليه لوازم فاسدة، من نفي صفات الله، ونفي قدرته على الفعل، والقول بأنه فعل بعد أن كان الفعل ممتنعا عليه، وأنهرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح، وكل هذا خلاف المعقول الصحيح، وخلاف الكتاب والسنة.
(1) انظر: شرح حديث النزول- مجموع الفتاوى- (5/543-544) ، ودرء التعارض (1/309) ، ونقض التأسيس- مطبوع- (1/248-249) .
(2)
انظر: (ص: 859-860) .
(3)
انظر: (ص: 416-417) . وانظر تعليقات ابن تيمية حول موقف الأشعري من هذا الدليل في: التسعينية (ص: 254-255) ، ونقض التأسيس- مطبوع- (1/117)، والنبوات (ص: 62) ، ومجموع الفتاوى (3/303-304، 6/520) ودرء التعارض (4/289، 7/ 71، 223-224) .
(4)
انظر: درء التعارض (7/278-312، 8/351 -355) حبث نقل نصوصا من كتاب الغنية للخطابي، حول ذمه لدليل حدوث الأجسام، وانظر أيضا: نقض التأسيس- مطبوع- (1/176-182) ، حيث نفل نصوصا من كتابه الآخر شعار الدين حول الموضوع نفسه.
د- أن هذا أوجب تسلط الفلاسفة على المتكلمين في مسألة حدوث العالم إلى غير ذلك من الوجوه (1) .
5-
أما احتجاجهم على صحة دليل حدوث الأجسام بقصة الخليل، وأنه قال:"لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ"[الأنعام: 76]، وقولهم: إن إبراهيم الخليل "استدل على حدوث الكواكب والشمس، والقمر بالأفول، والأفول هو الحركة، والحركة هي التغير، فلزم من ذلك أن كل متغير محدث، لأنه لا يسبق الحوادث، لامتناع حوادث لا أول لها، وكل ما قامت به الحوادث فهو متغير فيجب أن يكون محدثا، فهذه الطريق التي سلكناها هي طريقة إبراهيم الخليل"(2) .
فقد رد عليهم شيخ الإسلام من وجوه:
أ- "أن قول الخليل (هذا ربي) - سواء قاله على سبيل التقدير لتقريع قومه، أو على سبيل الاستدلال والترقي، أو غير ذلك- ليس المراد به: هذا رب العالمين القديم الأزلي، الواجب الوجود بنفسه، ولا كان قومه يقولون: إن الكواكب أو القمر أو الشمس رب العالمين الأزلي الواجب الوجود بنفسه، ولا قال هذا أحد من أهل المقالات المعروفة التي ذكرها الناس: لا من مقالات أهل التعطيل والشرك الذين يعبدون الشمس والقمر والكواكب، ولا من مقالات غيرهم، بل قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذونها أربابا يدعونها ويتقربون اليها بالبناء عليها والدعوة لها والسجود والقرابين، وغير ذلك، وهو دين المشركين"(3)، فليس هناك أحد من العقلاء يقول: إن شيئا من الكواكب أو الشمس أو غيرها هو خالق هذا العالم (4) .
(1) انظر: فيما سبق شرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/541-545)، وشرح الأصفهانية (ص: 134-135) - ت السعوى-. ودرء التعارض (1/97-99، 105، 308 - 810، 7/ 71؛ 245،242، 9/170- 171، 10/135) ، ومنهاج السنة (2/199-212) - المحققة.
(2)
درء التعارض (1/ 100- 101)، وانظر في احتجاج الأشاعرة بهذا الدليل: ما سبق (ص: 534، 574-575)، والاعتقاد للبيهقي (ص: 40) ، والشامل للجويني (ص: 246) ، وأساس التقديس للرازي (ص: 21-22) - ط الحلبي-، وتفسير الرازي (سورة الأنعام آية 76 وما بعدها)(13/46) وما بعدها.
(3)
انظر: بغية المرتاد (المسمى بالسبعينية)(ص: 260) - ت الدويش-، ومنهاج السنة (2/142) - المحققة.
(4)
درء التعارض (1/313)، وانظر: منهاج السنة (144/2) - المحققة.
ب- ولو قالوا: إن إبراهيم عليه السلام أراد بقوله (هذا ربي) رب العالمين "لكانت قصة الخليل حجة على نقيض مطلوبهم؛ لأن الكوكب والقمر والشمس مازال متحركا من حين بزوغه إلى عند أفوله وغروبه، وهو جسم متحرك متحيز صغير، فلو كان مراده هذا للزم أن يقال: ان إبراهيم لم يجعل الحركة والانتقال مانعة من كون المتحرك المنتقل رب العالمين، بل ولا كونه صغيرا بقدر الكواكب والشمس والقمر. وهذا- مع كونه لا يظنه عاقل ممن هو دون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهـ فإن جوزوه عليه كان حجة عليهم لا لهم"(1) . "فتبين أن قصة الخليل إلى أن تكون حجة عليهم أقرب من أن تكون حجة لهم. ولا حجة لهم فيها بوجه من الوجوه، (2) .
ج-- أن مقصود إبراهيم عليه الصلاة لا إثبات التوحيد لله، لا إثبات الصانع. بخلاف ما ظنه هؤلاء (3) .
د- أن إبراهيم- عليه السلام "قال "لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ" فنفي محبته فقط ولم يتعرض لما ذكروه"(4) .
هـ- "أن الأفول هو المغيب والاحتجاب، ليس هو مجرد الحركة والانتقال، ولا يقول أحد- لا من أهل اللغة ولا من أهل التفسير- إن الشمس والقمر في حال مسيرهما لي السماء: إنهما آفلان، ولا يقول للكواكب المرئية في السماء، في حال ظهورها وجريانها: إنها آفلة، ولا يقول عاقل لكل من مشى وسافر وسار وطار: إنه آفل (5) "، "والأفول ليس هو الحركة، سواء كانت حركة مكانية وهي الانتقال، أو حركة في الكم كالنمو، أو في الكيف كالتسود والتبيض، ولا هو التغيير، فلا يسمى في اللغة كل متحرك أو متغير آفلا، ولا أنه أفل، ولا يقال للمصلي أو الماشي إنه آفل، ولا يقال للمتغير الذي هو استحالة كالمرض
(1) انظر: درء التعارض (1/313)، وانظر: منهاج النة (2 / 144) - المحققة.
(2)
انظر: درء التعارض (1/ 111) .
(3)
انظر: شرح الأصفهانية (ص: 137) - ت السعوي-.
(4)
بنية المرتاد (المسمى بالسبعينية)(ص: 360) .
(5)
انظر: درء التعارض (1/313-314) .
واصفرار الشمس: إنه أفول، لا يقال للشمس إذا اصفرت: إنها أفلت، وإنما يقال: أفلت إذا غابت واحتجبت وهذا من المتواتر المعلوم بالاضطرار من لغة العرب، أن آفلا بمعنى غائب وقد أفلت الشمس تأفل وتأفل أفولا: أي غابت
…
ومعلوم أنه لما بزغ القمر والشمس كان في بزوغه متحركا، وهو الذي يسمونه تغيرا، فلو كان قد استدل بالحركة المسماة تغييرا لكان قد قال ذلك من حين رآه بازغا (1) ".
وبالرجوع إلى كتب أهل اللغة وغريب القرآن نجد أنهم لا يفسرون الأفول إلا بالمغيب فقط (2) ، وكذلك كتب التفسير، إلا أن الزمخشري شرح الأفول وساق الدليل ليوافق دليل حدوث الأجسام، أما البيضاوي فقد فسر الأفول بالمغيب لكنه ألمح إلى دليل حدوث الأجسام (3) .
وقد اعترف العز بن عبد السلام بأن استدلال المتكلمين بهذه الآية مشكل غاية الإشكال، وبين ذلك بما ينقض استدلالهم (4) .
و "أن هذا القول الذي قالوه لم يقله أحد من علماء السلف، أهل التفسير، ولا من أهل اللغة، بل هو من التفسيرات المبتدعة في الإسلام كما ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدارمي وغيره من علماء السنة، وبينوا أن هذا من التفسير المبتدع (5) ". وقد قال الدارمي في رده على المريسى: "واحتججت أيها المريسى في نفي التحرك عن الله والزوال بحجج الصبيان، فزعمت أن إبراهيم حين رأى كوكبا وشمسا وقمرا قال: "قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ
(1) انظر: درء التعارض (1/09-11) .
(2)
انظر في مادة أفل: الصحاح للجوهرى، وممجم مقاييس اللغة (1/119) ، ومجمل اللغة، ولسان العرب، وتاج العروس. والمعجم الكبير (مجمع اللغة العربية) . وانظر أيضا: تفسير المشكل عن غريب القرآن لمكي (ص: 77)، وتحفة الأريب لأبي حبان (ص: 47) - أما كتب غريب الحديث فلم ترد فيها مادة "أفل" فيما اطلعت عليه منها. وفي مجمع البحرين (5/307) للطريحي- شيعي إمامي- فسر أفل بمعنى غاب فقط.
(3)
انظر: تفسير الطبري (الأنعام آية: 76) . وانظر أيضا: الكشاف وأنوار التنزيل نفس الآية.
(4)
انظر: فوائد في مشكل القرآن للعز بن عبد السلام (ص: 119) .
(5)
انظر: درء التعارض (1/314) .
الْآفِلِينَ" [الأنعام: 76] ثم قلت: فنفى إبراهيم المحبة عن إله زائل، يعني أن الله إذا نزل من سماء إلى سماء أو نزل يوم القيامة لمحاسبة العباد، فقد أفل وزال كما أفلت الشمس والقمر، فتنصل من ربوبيتهما إبراهيم، فلو قاس هذا القياس تركي طمطماني أو ذي أعجمية ما زاد على ما قست عليه قبحا وسماجة، ويلك، ومن قال من خلق الله: إن الله إذا نزل أو تحرك أو نزل ليوم الحساب أفل في شيء، كما تأفل الشمس في عين حمئة
…
" (1)
أما أقوال أهل اللغة والتفسير فقد سبقت الإشارة إليها قريبا.
وبهذا يتبين بطلان استدلالهم بقصة إبراهيم على ما يدعونه من دليل حدوث الأجسام (2) .كما يتبين أيضا بطلان من فسر الأفول بالإمكان كالرازي وابن سينا (3) ، ومن فسره بالعقول والنفوس كالغزالي (4) .
6-
وشيخ الإسلام وهو يبطل دليلهم على حدوث العالم الذي هو دليل حدوث الأجسام، يذكر البديل عن ذلك، ويسوق أمثلة على الدليل الصحيح مبينا أن هؤلاء الدهرية الفلاسفة ليس معهم دليل صحيح على إثبات قدم شيء من العالم أصلا " بل غاية ما يستدلون عليه دوام نوع الفعل، وذلك لا يدل على قدم شيء معين للفرق بين العين والنوع الذي يعترفون بصحته، وإن لم يعترفوا بصحته لزم فساد مذهبهم من أصله (5) ".
وهذا ما سيرد في الفقرة التالية:
(1) رد الإمام الدارمي عثمان بن سعيد على المريسي العنيد (ص: 412-413) - ضمن عقائد السلف.
(2)
انظر أيضا: في مناقشة استدلالهم هذا الرد عل المنطقيين (ص: 304-307) ، ودرء التعارض (8/355-356، 9/82-84) .
(3)
انظر في: مناقشتهما درء التعارض (1/314-315) ، ومنهاج السنة (1/144- 145) - المحققة، وأيضا (2/141-143) - المحققة. وكلام ابن سينا في الإشارات والتنبيهات (3/531-532) . ت سليمان دنيا وكلام الرازي في تفسيره (13/53-55) .
(4)
انظر: الرد عليه في بغية المرتاد (ص: 360-374) ، ودرء التعارض (6/316 -318) .
(5)
شرح الأصفهانية (ص: 141) - ت السعوي-.
ب- مسألة التسلسل والرد الصحيح على الفلاسفة الدهرية (ومسألة حوادث لا أول لها) :
وهذه المسألة من المسائل الطويلة التي ذكرها شيخ الاسلام مبينا فيها بطلان مذهب الفلاسفة وضعف أدلة المتكلمين حول إثبات الصانع وحدوث العالم، وهي مباحث عويصة قال عنها شيخ الإسلام: إنها من محارات العقول (1)، بل قال عن بعض مسائلها وفروعها: إنها من الكلام المذموم (2) ، ولا شك أن شيخ الاسلام خاض فيها مضطرا ليبين خطأ وضلال أولئك الذين خاضوا فيها مخالفين لمنهج الرسل- صلوات الله وصلامه عليهم- وإلا فمسألة إثبات الصانع وحدوث ما سواه من المسائل البدهية التي يعرفها عوام المسلمين.
وقد اشتهر عن ابن تيمية أنه يقول بجواز حوادث لا أول لها، وتلقفها مناوئوه وحساده من أعداء السلف فرموه صراحة بأنه يقول بقدم العالم كالفلاسفة، وهؤلاء- إذا أحسنا الظن بهم- غاية ما عندهم أنهم لم يعرفوا إلا مذهبين في هذا الباب، مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم، ومذهب شيوخهم المتكلمين القائلين بحدوث العالم لأدلة خاصة جاءوا بها، فظنوا أنه إذا بطل مذهب الفلاسفة صح مذهب المتكلمين، ولم يعلموا أن هناك في بعض المسائل المتعلقة بهذا الباب قولا ثالثا قال به أئمة السلف وجمهور المسلمين.
وتلخيص المسألة (3) يمكن عرضه كما يلي:
(1) انظر: منهاج السنة (1/299) - ت رشاد سالم-، ط جامعة الامام.
(2)
المصدر السابق (1/212) ، نفس الطبعة.
(3)
الكلام حول هذه المسألة ومقدماتها طويل جدا، وتوضيح رأى شيخ الإسلام في ذلك لا يتم إلا من خلال مناقشات عديدة لابد من إيرادها، حتى يفهم حقيقة مذهبه في ذلك. والموضوع له شقان:
أ- شق يتعلق بأصل المسألة، وشيخ الإسلام مع جماهير المسلمين القائلين بحدوث العالم. وضد الفلاسفة الذين يقولون بقدم شيء من العالم، وهذه مسألة واضحة لا تحتاج إلى بيان. وإن كان شيخ الإسلام رد على المتكلمين ما أدى اليه استدلالهم هذا من نفي الصفات أو بعضها.
ب- وشق يتعلق بالدفاع عن ابن تيمية فيما وجه اليه من تهمة القول بحوادث لا أول لها وهذه ضمن مسائل أخرى تحتاج إلى تأليف مستقل، وقد حاول أحد الباحثين [انظر: ابن تيمية المفترى عليه،
تأليف سليم الهلالي، (ص: 68-98) ] الدفاع عن ابن تيمية في هذه المسألة فأصاب في بعض الأوجه، ولم يصب في الأوجه الأخرى.
أ- استدل المتكلمون- كما سبق- بدليل حدوث الأجسام، على حدوث العالم، وكان مساق دليلهم يقتضي:
أ- نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، ولذلك نفوا عن الله تعالى أن تقوم به صفات الأفعال، ولما قيل لهم إن تولكم إن الله خالق العالم بعد أن لم يكن العالم موجودا هو قول بحلول الحوادث به تعالى، فأجابوا بمذهبهم المشهور: إن الخلق هو المخلوق، ومعنى ذلك أن صفة الخلق لم تقم بهـ عند الخلق- وإنما وجد المخلوق منفصلا عنه. بينما جاهر المسلمين يقولون: إن الخلق غير المخلوق. فيفرقون بين ثلاثة أشياء: الخالق تعالى، وصفة الخلق التي قامت به تعالى كغيرها من الصفات، والمخلوق الموجد المنفصل عنه تعالى (1) . فيقال في الخلق مثل ما يقال في الكلام والاستواء والنزول من صفات الأفعال التي تقوم به تعالى، وهو سبحانه إذا شاء خلق وإذا شاء لم يخلق، وإذا شاء تكلم وإذا شاء لم يتكلم وهكذا فصفة الخلق قامت به، وعلى قول أولئك هو معطل عن هذه الصفة- وسيأتي إن شاء الله تعالى مزيد بيان في مبحث الصفات-. فالأشاعرة قالوا: الخلق هو المخلوق هربا من القول بحلول الحوادث بذاته تعالى.
ب- لما قالوا: ما قامت به الحوادث فهو حادث، قالوا أيضا: ما لم يسبق الحوادث فهو حادث أو ما لم يخل من الحوادث فهو حادث، ثم قالوا بامتناع حوادث لا أول لها بناء على أن التسلسل ممتنع، وقد احتجوا على ذلك بدليل لهم سموه: برهان التطبيق (2) وبناء على ذلك قالوا: إن الله تعالى لم يكن قادرا
(1) انظر: كلام البخاري في ذلك في خلق أفعال العباد (ص: 186-188) - ت البدر-.
(2)
دليل التطبيق، والموازاة والمسامتة، خلاصته:"أن مالا يتناهى إذا فرض فيه حد كزمن الطوفان، وفرض حد آخر كزمن الهجرة، وقدر امتداد هذين إلى مالا نهاية له، فإن تساويا لزم كون الزائد مثل الناقص وإن تفاضلا لزم وقوع التفاضل فيما لا يتناهى" درء التعارض (ص: 304)، وانظر: الأربعين للرازي (ص: 15) .
وقد رد على هذا الدليل بأن مثل هذا التفاضل جائز، مثل المستقبل، لأن من الطوفان إلى مالا نهاية له في المستقبل أعظم من الهجرة إلى مالا نهاية له في المستقبل، وهو جائز، ووجود التفاضل من الجانب المتناهي لا من الجانب الذي لايتناهى لامحذور فيه. ورد عليهم أيضا أن التطبيق إنما يمكن في الموجود لا في المعدوم فإن تضعيف الواحد أقل من عدد تضعيف العشرة، وعدد تضعيف العشرة أقل من عدد تضعيف المئة والجميع لايتناهى.
انظر: درء التعارض (1/304-305، 2/365-369، 3/40-47، 9/177-197-202) -منهاج السنة (1/432) - ط جامعة الإمام-.
على الفعل في الأزل ثم صار قادرا (1)، أو بمعنى آخر قالوا: إن الفعل كان ممتنعا عليه تعالى ثم صار ممكنا، والذى ألجأهم إلى هذا أن يسلم لهم القول بحدوث العالم لأنه لو قيل بجواز أن يكون قادرا على الخلق قبل ذلك لأدى ذلك إلى صحة القول بقدم العالم، لأنه ما من زمن يفترض فيه خلق العالم إلا وجائز أن يقع
قبله، لأن الله أزلي. وهذا ممتنع.
2-
بناء على قول المتكلمين في منع التسلسل في الماضي، صارت الأقوال في التسلسل في الآثار ثلاثة:
أ- منعه في الماضي والمستقبل، وهذا قول جهم والعلاف، وحجة هؤلاء أنه اذا كان ممتنعا في الماضي فيجب أن يكون ممتنعا في المستقبل، فقال
الجهم بفناء الجنة والنار، وقال العلاف بفناء حركات أهلهما.
ب- منعه في الماضي وتجويزه في المستقبل، وهذا قول أكثر أهل الكلام الذين يقولون بدوام نعيم الجنة.
ب- جوازه فيهما، وهو قول أهل السنة والحديث (2) .
ويلاحظ أن المقصود التسلسل في الآثار لا في الفاعلين لأن هذا مقطوع بامتناعه وأنه لابد أن ينتهي إلى الخالق تعالى.
وقد اعترض على المتكلمين في قولهم بجواز دوام الحوادث في المستقبل دون الماضي، بأنه لا دليل لهم على التفريق بينهما، وقد ذكر الجويني فرقا ضرب
(1) وقول بعضهم إن الله كان قادرا في الأزل على ما لم يزل، متناقض، لأنه يقال لهم: حين كان قادرا هل كان الفعل ممكنا، فلابد أن يقولوا: لا، فيقال لهم: كيف وصف بالقدرة مع امتناع المقدور؟. انظر: درء التعارض (9/185) ، ومجموع الفتاوى (16/238) .
(2)
انظر: منهاج السنة (1/99، 122، 221-222، 2/307) - المحققة. ط دار العروبة. وأيضا (2/23-25) - مكتبة الرياض الحديثة- والصفدية (1/10-11، 22-27) ، ودرء التعارض (1/363، 4/ 292-293، 9/ 180-185، 238- 241) ، ومسألة الأحرف- مجموع الفتاوى. (12/45) .
له مثالا، لكن مثاله لم يكن مطابقا، ولذلك نوقش فيه (1) .
3-
لما رأى الفلاسفة أن هذا مذهب المتكلمين اعترضوا على دليلهم في إثبات حدوث العالم باعتراضين:
أحدهما: أن في قولكم- لم يكن قادرا ثم صار قادرا- ترجيحا لأحد طرفي الممكن بلا مرجح، والترجيح لابد له من مرجح تام يجب به، ثم قالوا والقول بوجود سبب بقتضي الترجيح يحتاج إلى سبب آخر وهكذا إلى غير نهاية فيلزم التسلسل وهو ممتنع عندكم.
الثالي: أن الموثر التام يستلزم أثره، والعلة التامة تستلزم معلولها، ومن ثم قال هؤلاء الفلاسفة بقدم العالم لأن العلة التامة الأزلية يجب أن يقارنها معلولها.
4-
أجاب المتكلمون عن اعتراض الفلاسفة الأول بأن المرجح عندهم:
الإرادة القديمة أو القدرة، أو العلم القديم، أو إمكان الحدوث، أو غير ذلك.
لكن الفلاسفة قالوا: إن هذه الأجوبة غير مفيدة، لأن هذه الأمور إن لم يحدث بسببها حادث لزم الترجيح بلا مرجح، وإن حدث سبب حادث فالكلام في حدوثه كالكلام في حدوث ما حدث به (2) .
وبعضهم أجاب بتجويز ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وانتفاء هذا وبطلانه متفق عليه بين العقلاء، حتى إن الرازي جعل ذلك- أي أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه الا بمرجح- مقدمة ضرورية (2) .
وبعض الأشاعرة- كالرازي- عدل إلى الإلزام في هذه المسألة وهو أن هذا يقتضي أن لا يحدث في العالم حادث، والحس يكذبه، وقد أجاب الفلاسفة بأن هذا يلزم إذا كان التسلسل باطلا- وأنتم تقولون بإبطالهـ وأما نحن فلا نقول
(1) انظر: الإرشاد (ص: 26-27) ، ودرء التعارض (2/358-359، 9/186) .
(2)
انظر: درء التعارض (1/322) .
(2)
انظر: المصدر السابق (8/291) .
بإبطاله، ولذلك فإذا كان الحدوث موقوفا على حوادث متجددة زال هذا المحذور (1) .
وبهذا يتبين أن المتكلمين- أشاعرة ومعتزلة- لم يستطيعوا التخلص من هذا المأزق الذي وقعوا فيه، يقول شيخ الإسلام:"وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلا وأبدا، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحا بلا مرجح "(2) ، ثم بين شيخ الإسلام أن قول ملاحدة الدهرية والفلاسفة ينزع إلى هذا الأصل وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث (2) .
5-
كما أجاب المتكلمون عن اعتراض الفلاسفة الثاني وهو دليل العلة التامة بأن قالوا "المؤثر التام يجوز بل قد يجب أن يتراخى عنه أثره، فقالوا:
البارى كان في الأزل مؤثرا تاما وتراخى عنه أثره" (4) ، ولكن رد عليهم بأن هذا باطل لأنه يلزم منه " أن يصير المؤثر مؤثرا تاما بعد أن لم يكن موثرا تاما بدون سبب حادث، أو أن الحوادث تحدث بدون مؤثر تام، وأن الممكن يرجح وجوده على عدمه بدون المرجح التام" (5) ، وهذا كله باطل.
6-
أما موقف ورأي ابن تيمية فيما جرى بين الفلاسفة والمتكلمين حول حدوث العالم فيتلخص بما يلي:
(1) انظر: درء التعارض (1/322) .
(2)
المصدر السابق (8/107) .
(3)
المصدر نفسهـ نفس الجزء والصفحة- وانظر أيضا: حول الترجيح بلا مرجح: الصفدية (1/144) ، وشرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/559- 560) ، والمسألة المصرية في القرآن - الفتاوى (12/214) ، ومنهاج السنة (1/145-146) - المحققة- ط مكتبة دار العروبة، ودرء التعارض (3/63، 8/291-295، 9/161- 166) .
(4)
درء التعارض (8/270) .
(5)
المصدر السابق (3/63) .
أ- أن دليل المتكلمين- معتزلة وأشاعرة- على حدوث العالم أدى بهم إلى نفي صفات الله تعالى، وأن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بلا كلامه مخلوق منفصل عنه، وأن الله لا يرى في الآخرة، هذا عند المعتزلة.
أما الأشاعرة فقد التزموا نفي الصفات الفعلية عن الله تعالى بناء على أنها حوادث، وما حلت به الحوادث فهو حادث. كما التزم متأخروهم- مع المعتزلة- نفي علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه، وهذا كله من أعظم الباطل المخالف لدين الرسل عليهم الصلاة والسلام.
ب- أن إجابات المتكلمين عن اعتراضات الفلاسفة كانت ضعيفة ولذلك تسلط هؤلاء عليهم، حيث ظنوا أن هذا الذي يقوله المتكلمون هو دين الرسل، يقول شيخ الإسلام:" وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم، لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم ونسوا فساده، ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه باطل قالوا: إن الرسول لم يبين الحقائق، سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم ما ينتفعون به. فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطين في السمعيات والعقليات، وصار خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين، وقولهم. وقد رأوا أن قول أولئك باطل. فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلا، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسولهصلى الله عليه وسلم- "(1) .
وذلك أن جواب المتكلمين حول الترجيح بلا مرجح، والعلة التامة كان جوابا ضعيفا.
فمثلا قول جمهور الأشاعرة: إن المرجح هو الإرادة القديمة (2) ، قول ضعيف لأنهم " ذكروا لها ثلاثة لوازم، والثلاثة تناقض الإرادة:
(1) شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/224-225) .
(2)
وهو الجواب الذي ذكره الغزالي في رده على الفلاسفة، انظر: التهافت (ص: 96) وما بعدها.
الأول: قالوا: إنها تكون ولا مراد لها، بل لم يزل كذلك، ثم حدث مرادها من غير تحول حالها. وهذا معلوم الفساد ببديهة العقل، فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل فالمتقدم كان عزما على الفعل وقصدا له في الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال، بل إذا فعل فلابد من إرادة الفعل في الحال
…
.
الثاني: قولهم: إن الإرادة ترجح مثلا على مثل. فهذا مكابرة، بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح وجوده على عدمه عند الفعل، إما لعلمه بأنه أفضل، أو لكون محبته له أقوى
…
.
الثالث: قولهم: إن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة. فهذا أيضا باطل، بل متى حصلت القدرة التامة والإرادة الجازمة وجب وجود المقدور وحيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة، والرب تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
…
" (1) .
وكذا جوابهم عن شبهة العلة التامة وقولهم: إنه يجب أن يتراخى عنها معلولها، فإنه جواب غير صحيح، كما أن قول الفلاسفة إنه يجب أن يقارنها معلولها بالزمان قول باطل. والصحيح قول ثالث: "وهو أن التأثير التام من المؤثر يستلزم الأثر، فيكون عقبه، لامقارنا له، ولامتراخيا عنه، كما يقال: كسرت الإناء
فانكسر، وقطعت الحبل فانقطع، وطلقت المرأة فطلقت، وأعتقت العبد فعتق، قال تعالى:"إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"[يس: 82] ، فإذا كون شيئا كان عقب تكوين الرب له، لا يكون مع تكوينه ولامتراخيا عنه. وقد يقال: يكون مع تكوينه، بمعنى: إنه يتعقبه لا يتراخى عنه.
وهو سبحانه ما شاء كان ووجب بمشيئته وقدرته، وما لم يشأ لم يكن لعدم مشيئته له، وعلى هذا فكل ما سوى الله تعالى لا يكون إلا حادثا مسبوقا بالعدم، فإنه يجب أن يكون عقب تكوينه له فهو مسبوق بغيره سبقا زمانيا، وما كان كذلك لا يكون إلا محدثا، والمؤثر التام يستلزم وجود أثره عقب كمال
(1) مجموع الفتاوى (16/458-459) ، وانظر أيضا (16/305) .
التأثير التام" (1) . أما قول الفلاسفة فيلزم منه أمور باطلة منها أنه لا يحدث في العالم شيء، وهذا خلاف المحسوس (2) .
ب- أن القول الحق في مسألة التسلسل في الآثار قول أئمة السلف وهو جوازه في الماضي والمستقبل، لكن هذا القول وإن قال به الفلاسفة إلا أن مذهب الفلاسفة في حقيقته باطل. ومذهب السلف يتميز عنه بأمور:
منها: أن السلف يقولون بأن الله متصف بصفات الكمال، كالعلم والإرادة والقدرة وغيرها، كما أنه تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء، وهو الفعال لما يريد. وهو الخلاق العليم، أما الفلاسفة فينكرون هذه الصفات جميعها، وهذا غاية التعطيل والنقص. ولذلك آلت أقوالهم في التسلسل إلى القول بقدم العالم، وإذا أقروا بوجود الله سموه علة فاضت منها نفوس وعقول وأفلاك بلا إرادة منه، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة.
ومنها: أن الفلاسفة لم يفرقوا بين الآحاد والنوع من المفعولات، فقالوا بقدم الآحاد، وهذا هو التسلسل الباطل الممتنع، أما السلف فيقولون بقدم النوع، لأن الله لم يزل مريدا، خلاقا، فاعلا، متكلما إذا شاء متى شاء.
يقول شيخ الإسلام في رده على الفلاسفة:"ومن أسباب ذلك [أي ضلالهم في قولهم بقدم العالم] أنهم لم يعرفوا حقيقة السمع والعقل، فلم يعرفوا ما دل عليه لكتاب والسنة، ولم يميزوا في المعقولات بين المتشابهات، وذلك أن العقل يفرق بين كون المتكلم متكلما بشيء بعد شيء دائما، وكون الفاعل يفعل شيئا بعد شيء دائما، وبين آحاد الفعل والكلام فيقول: كل واحد من الأفعال لابد أن يكون مسبوقا بالفاعل وأن يكون مسبوقا بالعدم، ويمتنع كون الفعل المعين مع الفاعل أزلا وأبدا [كما هو قول الفلاسفة] وأما كون الفاعل لم يزل يفعل فعلا بعد فعل فهذا من كمال الفاعل، فإذا كان الفاعل حيا وقيل: إن الحياة
(1) درء التعارض (8/270 - 271) ، وانظر أيضا (358/1-372، 62/3) .
(2)
انظر: المصدر السابق (8/271) .
مستلزمة الفعل والحركة- كما قال ذلك أئمة أهل الحديث كالبخاري والدارمي وغيرهما- وأنه لم يزل متكلما إذا شاء وبما شاء ونحو ذلك- كما قاله ابن المبارك وأحمد وغيرهما من أئمة أهل الحديث والسنة- كان كونه متكلما أو فاعلا من لوازم حياته، وحياته لازمة له، فلم يزل متكلما فعالا مع العلم بأن الحي يتكلم
ويفعل بمشيئته وقدرته، وأن ذلك يوجب وجود كلام بعد كلام وفعل بعد فعل.
فالفاعل يتقدم على كل فعل من أفعاله، وذلك يوجب أن كل ما سواه محدث مخلوق. ولا نقول: إنه كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق له قدرة،
والذى ليس له قدرة هو عاجز، ولكن نقول: لم يزل الله عالما قادرا مالكا، لا شبه له ولا كيف. فليس مع الله شيء من فعولاته قديم معه، لا، بل هو
خالق كل شيء، وكل ما سواه مخلوق له، وكل مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن، وإن قدر أنه لم يزل خالقا فعالا" (1) ، ثم يقول شيخ الإسلام رادا على المتكلمين والفلاسفة: "وإذا قيل: إن الخلق صفة كمال لقوله تعالى:"أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ"[النحل: 17] أمكن أن تكون خالقيته دائمة، وكل مخلوق له محدث مسبوق بالعدم، وليس مع الله شيء قديم. وهذا أبلغ في الكمال من أن يكون معطلا غير قادر على الفعل ثم يصير قادرا، والفعل ممكنا له بلا سبب، وأما جعل المفعول المعين مقارنا له أزلا وأبدا فهذا في الحقيقة تعطيل لخلقه وفعله، فإن كون الفاعل مقارنا لمفعوله أزلا وأبدا مخالف لصريح المعقول" (2) .
ومنها: أنه يلزم على قول الفلاسفة أن لا يحدث في العالم شيء، وهذا باطل مخالف للمحسوس، لأن العالم حادث مخلوق مشاهد، وقولهم: إنه أزلي مقارن لفاعله بالزمان يستلزم عدم وجوده وهذا باطل، فقول الفلاسفة لم يزل الفلك مقارنا لله أزلا وأبدا يمنع أن يكون مفعولا له لأن الفاعل لابد أن يتقدم على فعله (3) .
د- الرد على الفلاسفة في قولهم بقدم العالم أو بعضه كالأفلاك، أو النفوس
(1) شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/227-228) ، ودرء التعارض (8/337- 346، 9/147-158، 178-190) .
(2)
شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/228) .
(3)
شرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/229) .
والعقول-كما يقوله بعضهم- وشيخ الإسلام لما بين ضعف ردود المتكلمين على الفلاسفة، بين أيضا أن الفلاسفة أنفسهم ليس معهم أى دليل يدل على قولهم، بل أقوالهم ظاهرة البطلان من وجوه عديدة (1) .
وشيخ الإسلام لما يقرر في مناسبات عديدة أن ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وأن كل قول يخالف ذلك فهو قول باطل إنما يقرر ذلك ليبين أن مذهب السلف في ذلك مخالف لما قد يتوهمه بعض المتكلمين من أن القول بحدوث العالم لا يتم ولا يصح إلا بأن يقال: إن الله كان معطلا عن الفعل ثم فعل وإلا لزم القول بقدم العالم، يقول شيخ الإسلام "والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وباطل، وقابلوا الباطل بباطل، وردوا البدعة ببدعة، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها، فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول لها، وأقاموا الدليل على دوام الفعل، لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء وهذا جهل عظيم، فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء، وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه، لا يقدر أحد من بني آدم أن يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا، وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل، وأن الفاعل لم يزل فاعلا، وأن الحوادث لا أول لها، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء، بل يوافقها، وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأن الله خالق كل شيء، فكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فلا يمكن أحدا أن يذكر دليلا عقليا يناقض هذا
…
" (2) .
(1) انظر: على سبيل المثال درء التعارض (1/351، 358، 398) وما بعدها (3/299، 8/139، 9/211- 221) ، ومنهاج السنة (1/176-177، 180- 181، 187-298) - ط جامعة الإمام-.
(2)
درء التعارض (8/279-280) .
وقد ذكر شيخ الإسلام وجوها أخرى تبين فساد مذهب الفلاسفة، وتوضح الفرق بين مذهبهم ومذهب أهل السنة في ذلك (1) .
فمذهب ومنهج شيخ الإسلام في هذا واضح جدا، والذين يتهمونه بالميل إلى مذهب الفلاسفة حينما قال بجواز حوادث لا أول لها:
- إما أنهم جاهلون بحقيقة مذهبه في هذه المسألة.
- وإما أنهم ممن سار على طريقة المتكلمين، فظن أنه لا يصح القول
بحدوث العالم إلا على هذه الطريقة التى سلكها هؤلاء ومن خالفها فهو قائل بقدم العالم.
- وإما أنهم حاقدون على شيخ الاسلام- لأمور كثيرة- فرأوا أن هذه المسألة تصلح للتشنيع عليه ورميه بما هو برىء منه.
وليس مع أي من هؤلاء حجة على صحة قوله، ولا على بطلان ما قاله شيخ الإسلام، والدليل على ذلك أن أحدا منهم لم يناقش ما في كتب شيخ الإسلام مناقشة علمية، بل غاية ما يذكرونه كليمات يقذفونها في ثنايا كتبهم أو حواشيها يتهمون فيها شيخ الاسلام بالقول بقدم العالم (2) ، كما يتهمونه بغيره من التجسيم
والتشبيه والحشو.
هـ- أما أدلة السمع فيرى شيخ الإسلام أنها موافقة لما ذهب إليه السلف، مبطلة لمذهب الفلاسفة والمتكلمين، يقول شيخ الإسلام عن الفلاسفة: " وهؤلاء
(1) انظر: بعض هذه الأوجه في درء التعارض (8/161-163، 271-276) .
(2)
من هؤلاء أبو بكر الحصني المتوفي سنة 829 هـ في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد، الذي خصصه للطعن في شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد اتهم شيخ الإسلام بأنه يقول بقدم العالم انظره:(ص: 60) .
ومن هؤلاء الكوثري- الحاقد- كشيخه الحصني على أهل السنة، والذى ملأ الكتب التي صححها بحواش كلها سباب وشتائم لأعلام أهل السنة ولشيخ الإسلام ابن تيمية بالذات، انظر مثلا: تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 375)، وتعليقه على السيف الصقيل- للسبكي- الذي رد فيه على نونية ابن القيم (ص: 72-74) وغيرها، ومن هؤلاء أيضا من سمى نفسه ب- " أبي حامد بن مرزوق" في كتابه براءة الأشعريين- الذي ملأه سبابا وشتائم في ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب (2/31، 88) . ومن هؤلاء من ألف كتابا سماه: ابن تيمية ليس سلفيا. انظره (ص: 124) ومابعدها.
أبعدوا (1) أن يمكنهم إقامة الدليل على قدم شيء من العالم، فإن الفاعل الذي يفعل بإرادات قائمة به بذاته شيئا بعد شيء، لا يقوم لهم دليل على أن شيئا من مفعولاته لم يزل مقارنا له، إذ يمكن أنه فعل مفعولا بعد مفعول، وأن هذا العالم خلقه من مادة كانت قبله، كما أخبرت بذلك الرسل، فأخبر الله تعالى
في القرآن أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأخبر أنه سبحانه: " اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: 11-12] وقال في الآية الأخرى: "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" [البقرة: 29] ، فأخبر أنه سواهن سبع عوات في يومين، وأن السماء كانت دخانا، وهو بخار الماء كما جاء تفسيره في عدة آثار: أنه خلق السموات من بخار الماء (2) ، والبخار
دخان الماء، كما أن دخان الأرض دخان، وإن أريد بالدخان دخان التراب قط، أو دخان التراب والماء، فكل ذلك فيه إخبار الله أنه خلق السموات السبع من
مادة أخرى، كما أخبر أنه خلق الإنسان من مادة وأنه خلق الجان من مادة
…
" - ثم قال بعد ذكر بعض النصوص: " ففي هذه الآثار المنقولة عن الأنبياء أنه كان موجودا قبل خلق هذا العالم أرض وماء وهواء، وتلك الأجسام خلقها الله من أجسام أخرى، فإن العرش أيضا مخلوق، كما أخبرت بذلك النصوص، واتفق
على ذلك المسلمون" (3) .
(1) كذا ولعل الصواب [أبعد من] .
(2)
انظر تفسير آية: 29 من سورة البقرة في الطبري (1/433-436) - ت شاكر-، وابن كثير، والدر المنثور للسيوطي. وانظر الرد على الجهمية للدارمي (ص: 31-32) - ت بدر البدر-، والأسماء والصفات للبيهقي (ص: 379) ، وتاريخ الطبري (1/32- 1 4) ، والتوحيد لابن خزيمة (2/886-888) - ت الشهوان-، والعرش لابن أبي شيبة (ص: 49-55) .
(2)
درء التعارض (8/287- 290)، وانظر أيضا: درء التعارض (1/347-348) ، ومنهاج السنة (1/360-364) - ط جامعة الإمام-. وشرح حديث عمران بن حصين- مجموع الفتاوى (18/234-236)، وبغية المرتاد (ص: 287-288) - ت الدويش-.
فالنصوص دلت على حدوث العالم، كما دلت على أن هذه السموات والأرض قد خلق قبلها مخلوقات، وأن هذه الخلوقات قد خلقت من مادة. وكلام السلف ورواياتهم في ذلك واضحة جدا (1) ، ومذهب المتكلمين القائلين بأن الله لم يكن فاعلا في الأزل ثم فعل وخلق، يلزم منه أن البارى تعالى كان معطلاً منذ الأزل إلى بدء الخلق، أي أنه تعالى قبل خلق الخلق، إلى ما لا نهاية له كان معطلا غير فاعل، وهم يقولون يجب أن يكون كذلك. والمتدبر للمسألة يجد هذا القول خطيرا جدا لأنه يلزم منه وصف الله في هذه المدد التي لا نهاية لها بالتعطيل عن صفة الخلق التي أجمع عليها الناس والتي هي من أوضح الدلائل على ربوبيته ووحدانيته.
وإذا كان الله متصفا بصفة الحياة والعلم والقدرة والإرادة أزلا فكيف يقول قائل: إن الله يجب أن يكون معطلا وغير فاعل؟.
ولكن بقي في الأدلة السمعية حديثان، كثيرا ما يحتج بهما المتكلمون وغيرهم على مذهبم في خلق العالم:
أحدهما: حديث "أول- أو إن أول- ما خلق الله القلم، فقال له اكتب، قال: رب وماذا اكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم
الساعة " (2) .
(1) انظر الفقرة- قبل السابقة، وما سبق إيراده قبل قليل.
(2)
هو حديث مشهور مروي عن عبادة بن الصامت وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم، رواه أبو داود: كتاب السنة، باب في القدر، ورقمه (4700) ، والترمذي في كتاب القدر باب رقم (17) ورقمه (2155) ، وكتاب التفسير- باب ومن سورة ن- ورقمه (3319) ، وأحمد في مسنده (5/317) ، وابنه عبد الله في السنة، ورقمه (871- 872) - ت القحطاني-، وأبو داود الطيالسي في مسنده، رقم (577) ، والبخاري في التاريخ الكبير (6/92) ، وابن وهب في كتاب القدر، رقم (27،26)(ص: 121-122) ، وابن الجعد في مسنده رقم (3569) ، وأبو يعلى الموصلي في مسنده رقم (2329) ، (4/217) - ت أسد-، وفي المعجم- معجم شيوخهـ رقم (69) ، والطبراني في الكبير رقم (12500) ، (12/68-69) ، وفي الأوائل رقم (1) ، وابن أبي شيبة في المصنف رقم (17771) ، (14/114) ، والدولابي في الكنى (1/103) ، والحاكم في المستدرك (2/498)، والآجري في الشريعة (ص: 177-179) ، والدارمي في الرد على الجهمية (ص: 121) - ت البدر-، وفي رده على المريسي (ص: 553-554) ضمن عقائد السلف، =
والثاني: حديث عمران بن حصين- في قصة وفد بنى تميم والأشعريين - وفيه أن النبي-صلى الله عليه وسلم قال: كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض " (1) ، وفي لفظ ولم يكن شيء غيره، وفي لفظ: معه (2) .
= وابن جرير في تاريخه (1/32-34)، وفي تفسيرهـ سورة ن- آية رقم: 1، وابن أبي عاصم في السنة رقم (102-108) ، وفي الأوائل رقم (1-3) ، والدارقطني في الصفات رقم (14) ،
(ص: 35-36) - ت الفقيهي-، و (18-19) - ت الغنيمان-، والبيهقي في السنن الكبرى (9/3)، وفي الأسماء والصفات (ص: 378) ، وأبو نعيم في الحلية (8/181) ، والحديث بمجموع
طرقه صحيح. وقد صححه الألباني في صحيح الترمذي رقم (1749) ، وسلسلة الصحيحة رقم (133)، وتخريج الطحاوية (ص: 294-295) - ط الرابعة-. وفي ظلال الجنة رقم (102-108) .
(1)
رواه البخارى، كتاب بدء الخلق- باب ما جاء في قول الله تعالى:(وهو الذي ييدأ الخلق ثم يعيده)[الروم: 27] ، ورقمه (3191) ، (الفتح 6/286) ، وفي كتاب التوحيد، باب (وكان
عرشه على الماء) [هود: 7] ورقمه (7418)، (الفتح: 13/403) ، كما رواه في مواضع أخرى مختصرا، ورواه الإمام أحمد (4/431) - مطولا- (4/426، 433، 436) - مختصرا- والترمذي
مختصرا في كتاب المناقب، باب مناقب في ثقيف وأبي حنيفة، ورقمه (3951) - ت عطوة-. كما رواه أبو الشيخ في العظمة رقم (207) ، والنسائي في الكبرى، كما في تحفة الأشراف، رقم (1029) . وغيرها من كتب السنة.
(2)
ذكر شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18/216) ، وفي الصفدية (1/15) أن الألفاظ الثلاثة في البخاري، أي لفظة: غيره، وقبله،- ومعهـ وقال في مجموع الفتاوى (2/275) : ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح " كان الله ولا شيء معه". أما رواية "غيره" فهي في بدء الخلق، وأما رواية " قبله" فهى في التوحيد. وأما رواية " معه" فقد ذكر الألباني في تخريج الطحاوية (ص: 139) - ط الرابعة- أنه لم يجدها في البخاري. وقد بحثت في طبعات البخاري- بولاق، واسطنبول، والمنيرية- وفي شروحه: لابن حجر، والعيني، والقسطلاني، فلم أجدها، كما رجعت إلى تحفة الأشراف، ونكت ابن حجر عليه رقم (10829) ، والى مسند الصحيحين لعبد الحق الهاشمي (4/262-264) - مخطوطة- حيث ذكر الروايات بأسانيدها ومتونها، فلم أجد هذه اللفظة منسوبة إلى البخاري. فلعلها في إحدى نسخه أو المستخرجات عليه. والله أعلم.
وبعد كتابة هذا الكلام وجدت شيخ الإسلام ذكر في الرسالة العرشية- مجموع الفتاوى (6/551) - روايتي البخاري- قبله، وغيره، ثم قال: وفي رواية لغيره صحيحة: "كان الله ولم يكن شيء معه
وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء، فترجح أنها ليست في البخاري، لكن كونها صحيحة لا يغير من واقع الأمر شيئا. ولذلك ناقشها شيخ الإسلام كغيرها من الروايات لثبوثها عنده.
فاحتجوا بذلك على أن للحوادث مبتدأ، وأن الله تعالى كان معطلا عن الخلق، ثم خلق، وأن القلم هو أول المخلوقات.
وقد بين شيخ الإسلام وجه الحق في ذلك ببيان مايلي:
1-
أن العلماء مختلفون في العرش والقلم أيهما خلق قبل:
فقيل: إن القلم خلق أولا، وأنه أول الخلوقات لحديث " أول ما خلق الله القلم ".
وقيل: إن العرش خلق قبل، وأن المقصود بقوله:" أول ما خلق الله القلم " أى من هذا العالم، واحتج هؤلاء بعدة أدلة:
أ- منها: حديث " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وعرشه على الماء"(1) ، ففي هذا الحديث بين أن كتابة المقادير كانت قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وأن عرشه كان على الماء. فهو سابق للتقدير والكتابة.
ب- ومنها: ما روى موقوفا عن ابن عباس- رضي الله عنهما أنه قال: إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فكان أول ما خلق الله القلم، فأمره، وكتب ما هو كائن، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه (2) . فقول ابن عباس يفسر المقصود بأولية القلم وأنها ليست أولية مطلقة وإنما خلق قبله العرش.
(1) رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى. ورقمه (2653) ، والإمام أحمد (2/169) ، ورقمه عند أحمد شاكر (6579) . والترمذي في كتاب القدر، باب رقم (18)، ورقمه (2156) - ت عطوة-. والبيهقي في الأسماء والصفات (ص: 374) ، وفي الاعتقاد (ص: 136) ، والبغوي في شرح السنة (1/123)، والدارمي في الرد على الجهمية (ص: 122، 126) ، والآجري في الشريعة (ص: 176) ، والحديث يكفى تخريجه عن مسلم، وإنما ذكرت تخريجه من بعض كتب العقائد ليرجع من شاء إلى أقوال علماء السلف في معناه.
(2)
رواه الدارمي في الرد على الجهمية (ص: 31) - ت البدر-، واللالكائي في شرح السنة (4/669-670) .
ج-- أن في بعض روايات حديث عمران بن حصين: كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء (1) . فعطف الخلق والكتابة على العرش بثم، وفي لفظ آخر:" كان الله عز وجل ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب جل ثناؤه في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض "(2)، قال البيهقي عن حديث أول ما خلق الله القلم:" وإنما أراد- واللة أعلم- أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش والقلم، وذلك بين في حديث عمران بن الحصين - رضى الله عنهـ ثم خلق السموات والأرض "(3) .
د- أنه قال في حديث القلم: "قال وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة"، "وهذا يبين أنه أمره حينئذ أن يكتب مقادير هذا الخلق إلى قيام الساعة، ولم يكتب حينئذ ما يكون بعد ذلك، وهذا يؤيد حجة من جعله أول الخلوقات من هذا الخلق الذي أمره بكتابته، فإنه سبحانه كتبه وقدره قبل أن يخلقه بخمسين ألف سنة "(4) .
هـ- ولما ورد في بعض ألفاظه: " لما خلق الله القلم قال له اكتب "(5) .
فهذه الأدلة وغيرها تبين أن حديث القلم ليس فيه دلالة لهؤلاء وأن القلم ليس أول المخلوقات، بل هناك مخلوقات قبله كالعرش والماء (6) .
ولهذه الأدلة تكلم العلماء في معنى حديث " أول ما خلق الله القلم: فقال له اكتب
…
هل هو جملة أو جملتين، وهل " أول" بالرفع أو النصب (7) .
(1) هذه رواية البخاري في صحيحهـ كتاب التوحيد- وقد سبق تخريجه قريبا.
(2)
البيهقي في الأسماء والصفات (ص: 375) .
(3)
الأسماء والصفات (ص: 378)، وانظر: بغية المرتاد (ص: 288) .
(4)
بغية المرتاد (ص: 294) .
(5)
رواه الطبراني في الكبير- رقم (12500) .
(6)
انطر حول ما سبق: بغية المرتاد (ص: 275-294) ، ومنهاج السنة (1/361) - طبعة جامعة الإمام، وبهذا يتبين أن من أخذ بحديث القلم دون غيره من الأحاديث، وقال إن القلم أول المخلوقات كلها قد جانبه الصواب. والله أعلم.
(7)
انظر نونية ابن القيم مع شرحها لابن عيسى (1/374-377) ، وللهراس (1/186 -187) . - ط مكتبة ابن تيمية، القاهرة، وانظر شرح الطحاوية (ص: 294- 296) - ط المكتب الإسلامى-، الرابعة.
2-
أما حديث " كان الله ولم يكن شيء قبله، أو غيره، أو معه، فقد أفرد له شيخ الإسلام بمصنف، ذكر فيه اختلاف الناس فيه، وأنهم على قولين:
أحدما: " أن مقصود الحديث إخباره بأن الله كان موجودا وحده، ثم إنه ابتدأ إحداث جميع الحوادث، وإخباره بأن الحوادث لها ابتداء بجنسها.
وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، جنس الحركات والمتحركات حادث، وأن الله صار فاعلا بعد أن لم يكن يفعل شيئا من الأزل
إلى حين ابتداء الفعل، ولا كان الفعل ممكنا
…
".
"والقول الثاني في معنى الحديث: أنه ليس مراد الرسول هذا، بل إن الحديث يناقض هذا، ولكن مراده إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي
خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش كما أخبر القرآن العظيم بذلك في غير موضع، فقال تعالى: " وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ،
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود: 7]، وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو عن النبى-صلى الله عليه وسلم أنه قال: قدر الله مقادير الخلائق، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " (1) ، فأخبر- صلى الله عليه وسلم أن تقدير خلق هذا العالم المخلوق في ستة أيام، وكان حينئذ عرشه على الماء،؟ أخبر بذلك القرآن والحديث المتقدم الذي رواه البخاري في صحيحه عن عمران- رضي الله عنه (2) ، ومن هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبادة بن الصامت عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟، قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة " (3) ، فهذا القلم خلقه لما أمره بالتقدير المكتوب قبل خلق السموات والأرض، وهو أول ما خلق من هذا العالم، وخلقه بعد العرش
(1) سبق تخريجه قريبا، والذى في طبعات مسلم "وعرشه على الماء".
(2)
تقدم تخريحهما قريبا.
كما دلت عليه النصوص وهو قول جمهور السلف" (1) .
ثم رجح شيخ الاسلام القول الثاني، وذكر أدلة ترجيحه من وجوه عديدة بلغت خمسة عشر وجها (2) . بين فيها- من خلال الأدلة الشرعية والعقلية- موافقة هذا الحديث لمذهب السلف. وقد ذكر بعض هذه الأوجه ملخصة شارح الطحاوية (3) .
هذه بعض اللمحات في بيان شيخ الاسلام لهذه المسألة- مسألة حوادث لا أول لها- ومن أراد استيعاب أقواله ومذهبه في ذلك، فلابد له من الرجوع إلى ما أورده في كتبه ورسائله المتعددة من تحقيقات ومناقشات (4) .
ج-- الأدلة الأخرى على إثبات الصانع التي ذكرها الأشاعرة:
سبق الحديث عن الدليل المشهور للأشاعرة على إثبات حدوث العالم وهو دليل حدوث الأجسام، الذي قصدوا من تقريره إثبات الصانع والرد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم أو قدم شيء منه، وقد تبين من خلال مناقشات شيخ الإسلام لهذا الدليل أن كثيرا من الأشاعرة نقدوا هذا الدليل وضعفوه، ورأوا أن إثبات
الصانع لا يتوقف على هذا الدليل الذي زعم بعضهم أنه لا دليل غيره.
ولذلك لما ذكر المتأخرون- كالرازي- أدلة إثبات الصانع، ذكروا للناس
(1) شرح حديث عمران بن الحصين- مجموع الفتاوى (18/211-213) .
(2)
انظرها في المصدر السابق (18/213-243) ، وشرح حديث عمران مطبوع مجموعة الرسائل والمسائل، تعليق محمد رشيد رضا (5/171-195) . وانظر أيضا الصفدية (1/14) ومابعدها،
ومنهاج السنة (1/ 360) ومابعدها،- ط جامعة الإمام-. وحقيقة مذهب الاتحاديين- مجموع الفتاوى (6/275) ، ودرء التعارض (8/287-290) .
(2)
(ص:140-141) .
(4)
انظر مثلا: شرح الأصفهانية (ص: 348) - ت السعوي، وشرح حديث النزول- مجموع الفتاوى (5/540 - 541) ، ومجموع الفتاوى (12/593)، والدرء (ج- 1 ص: 120- 303،125-304، 320-324،347-348، 406) ، (وج- 2 ص: 260 -270، 276-281، 344- 399) (وج- 3 ص: 40-56) (وج- 4 ص: 66- 70)، (وب 9 ص:،72، 103، 138، 158) ، والصفدية (1/ 50-54، 61 -65، 277،81) وغيرها كثير.
في ذلك عدة مسالك (1)، وهي:
المسلك الأول: دليل حدوث الأجسام لقيام الأعراض بها. وهذه هي الطريقة المشهورة للأشاعرة، وقد تقدم الحديث عنها، وهي الطريقة التي ذمها السلف وصرح الأشعري بأنها مذمومة محرمة في الشرع، وإن كان مع ذلك يرى أنها صحيحة، وإنما ذمها لطولها وغموضها (2) .
المسلك الثاني: الاستدلال بإمكان الأجسام، وهذا عمدة الفلاسفة كابن سينا وأمثاله، وهو الذي اعتمده الرازي وغيره كالآمدي، قالوا: الأجسام ممكنة، وكل ممكن فلابد من مؤثر- أي واجب- وبنوا ذلك على أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وأن الممكن لابد له من واجب. وقد بين شيخ الإسلام أن هذه الطريقة باطلة وضعيفة من عدة وجوه:
أ- أن الممكن عندهم- والذي هو قسيم الواجب- يتناول القديم والحادث، أي أن الممكن قد يكون أزليا، فاحتجوا على وجود الممكن الذي تقبل ذاته الوجود والعدم بالحوادث التي تكون موجودة تارة ومعدومة أخرى، فلم يمكنهم ذلك لأن هذه الممكنات قد تكون- عندهم- أزلية قديمة، فكيف يمكن إثبات الواجب والقول بأن الممكن لابد له من واجب؟ يقول شيخ الإسلام:
"فهؤلاء إذا قيل لهم: اثبتوا واجب الوجود- الذي هو قسيم الممكن عندهم، والممكن عندهم يتناول القديم والحادث- لم يمكنهم إثبات هذا الواجب الا بإثبات ممكن يقبل الوجود والعدم. وهذا لا يمكنهم إثباته الا بإثبات الحادث، الذي يكون موجودا تارة ومعدوما أخرى، والحادث يستلزم ثبوت القديم، والقديم عندهم
لا يجب أن يكون واجب الوجود، بل قد يكون ممكن الوجود. فهم لم يثبتوا:
(1) انظر: هذه المسالك في نهاية العقول للرازي (58 -أ-63-أ)، والأربعين له (ص: 70) ومابعدها، وانظر أيضا: النبوات (ص: 76-77) ، وتفسير سورة الإخلاص- مجموع الفتاوى (17 / 246)، وشرح الأصفهانية (ص: 260- 261) - ت السعوي، ودرء التعارض (1/ 307،96-308، 3 / 72-87/292-294، 7/229-232) .
(2)
انظر: درء التعارض (1/309) .
لا واجب الوجود، ولا ممكن الوجود، الذي به يثبت واجب الوجود الذي ادعوه " (1) . ولذلك فطريقتهم هذه لو أدت إلى إثبات واجب الوجود لم تثبت أنه مغاير للأفلاك إلا ببيان إمكان الأجسام (2) .
ب- أن هذه الطريقة مبنية على توحيد ابن سينا ومن اتبعه من الفلاسفة الذين نفوا صفات الله تعالى لشبهة التركيب، قالوا: إن المتصف بالصفات مركب، والمركب مفتقر إلى أجزائه، وهذا هو الممكن. وهذا من أبطل الباطل ومن أفسد الأقوال، ولذلك دخل الملاحدة من أصحاب وحدة الوجود من هذا الطريق (2) .
ج-- أن هذا المسلك كما أنه باطل عند أهل الملل، فهو باطل أيضا عند جمهور الفلاسفة المتقدمين كأرسطو وأتباعه، والمتأخرين كابن رشد وغيره (4) .
المسلك الثالث: الاستدلال بإمكان الصفات، وهو مبني على أن الأجسام متماثلة، ومن ثم فتخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص.
ولم يفرقوا بين الأجسام، بل شملوها كلها بهذا الحكم، سواء كانت واجبة أو ممكنة، قديمة أو محدثة (5) ، وقد بنوا على ذلك أن الفاعل لا يجوز أن يكون جسما، ونفوا لأجل ذلك صفات العلو والاستواء وغيرها.
وعمدة هذا الدليل القول بتماثل الأجسام، وهي من عمد نفاة الصفات من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، وقد ناقشها شيخ الإسلام طويلا، وبين فسادها
(1) انظر: درء التعارض (8/125)، وانظر: مناقشات أخرى لصياغة هذا الدليل عندهم في شرح الأصفهانية (ص: 141-145) - ت السعوي-.
(2)
انظر: المصدر السابق (8/123،3/75) .
(2)
انظر: درء التعارض (3/75، 138، 5/293، 7/230) ، ومجموع الفتاوى (1/49) .
(4)
انظر: درء التعارض (5/293، 8/127) ومابعدها، حيث نقل كلام ابن سينا، وابن رشد الذي وافق أرسطو الذي استدل بدليل الحركة دون دليل الإمكان، وقد بين شيخ الإسلام بطلان المذهبين. وانظر:(8/139) .
(5)
انظر: درء التعارض (3/75، 5/293) .
بالعقل والشرع (1) .
وقد ناقمق شيخ الإسلام هذا المسلك- مسلك إمكان الصفات- ورد على الرازي الذي اعترف بأن القول بتماثل الأجسام قول باطل (2) .
المسلك الرابع: الاستدلال بحدوث الصفات والأعراض، مثل صيرورة النطفة علقة، ثم مضغة، ثم إنسانا، ومثل تحول القطن إلى غزل مفتول، ثم إلى ثوب، ومثل تحول الطين إلى آجر ولبن، ثم تحوله إلى دار، فهذا التحول والتغير في هذه الأجسام يدل على أن لها فاعلا فعلها، وأن النطفة لابد لها من صانع صنعها وهو الله تعالى.
وهذا الدليل ذكره الأشعري في اللمع (2) ، وفي رسائله إلى أهل الثغر (4) ، وعده الرازي من ضمن مسالك إثبات الصانع، وقد بين شيخ الاسلام أن هذا مسلك صحيح، وأنهـ إذا جرد من الأمور الباطلة التي أدخلت فيهـ جزء من طريقة القرآن "التي جاءت بها الرسل، وكان عليها سلف الأمة وأئمتها، وجماهير العقلاء من الآدميين؟ فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه من السحاب والمطر والنبات والحيوان، وغير ذلك من الحوادث، ويذكر في آياته خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، ونحو ذلك، لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم، يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها، بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها، بتقدير حدوثها، ولا تزال موجودة، وإنما تغيرت صفاتها،
(1) انظر: درء التعارض (5/192-203) ، حيث بين بوضوح وتفصيل فساد القول بتماثل الأجسام، وانظر أيضا: درء التعارض (1/115، 4/200-202، 7/112-114، 10/312-316، 262) ، وغيرها.
(2)
انظر: درء التعارض (3/75-82) .
(2)
(ص: 6-7) . مكارثي و (ص: 17-19) ، غرابة، وفد سبق نقل كلامه (ص: 414- 415) .
(4)
(ص: 34-40) .
بتقدير حدوثها كما تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون، وكما تتغير ألوانه، وكما تتغير أشكاله، وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم" (1) .
ولكن شيخ الإسلام ينتقد طريقة الأشعري والرازي في إيراد هذا الدليل - دليل حدوث الصفات- لأمرين:
أحدهما: أن الطريقة التى جاء بها القرآن: الاستدلال بحدوث الأعيان والمخلوقات ذاتها من الإنسان وغيره، يقول شيخ الإسلام:"الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة ونحوها، على وجود الخالق سبحانه وتعالى، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، ووجوب تناهي الحوادث. والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بين. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني، كا قال تعالى: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ " [الطور: 35] ، فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب، ونحو ذلك، معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة (2) ".
فالأشعري والرازي وغيرهم قصروا في هذا الدليل من جهة أنهم لم يستدلوا بنفس الحدوث وإيجاد الإنسان وغيره من عدم على وجود المحدث الخالق، وانما
استدلوا بتغير صفاتها وتحولها من حال إلى حال.
والثاني: أنهم بنوا ذلك على الجوهر الفرد، وأن الأجسام لم تزل ولا تزال من حين حدوثها باقية، وإنما التغير يقع على صفاتها، وأن الحادث إنما هو إجماع
الجواهر وافتراقها، وحركتها وسكونها، أو غيرها من الأعراض (2) ، والقول بالجوهر الفرد- الذي-يزعم أصحابه أن الأجزاء تنتهي إلى جزء لا يتجزأ- قول
باطل وقد اعترف كثير من الأشاعرة وغيرهم ببطلانه. والذين قالوا به حاروا فيه،
(1) درء التعارض (3/83) .
(2)
درء التعارض (7 / 219)، وانظر شرح الأصفهانية (ص: 261) - ت السعوي.
(3)
انظر: درء التعارض (7 / 224-232)، وشرح الأصبهانية (ص: 261-262) - ت السعوي- والنبوات (ص: 73-79) .
وربما قالوا مرة أخرى ببطلانه (1) . وأبو الحسن الأشعري ممن يقول به (2) .
والرازي متوقف فيه (3) ، بل توتف فيه الجويني وغيره (4) .
كما ينتقد شيخ الإسلام الرازي أيضا بإدخاله دليل الإمكان في هذا الدليل، ودليل الإمكان تقدم القول فيه في المسلك الثاني، وأنه اتبع فيه طريقة ابن سينا وأصحابه، يقول شيخ الإسلام- معلقا على المسلك الرابع الذي ذكره الرازي وهو الإستدلال بحدوث الصفات: "قلت: قد ذكرنا في غير موضع أن هذا المسلك
صحيح، لكن الرازي قصر فيه من وجهين: أحدهما: أنه لا يستدل بنفس الحدوث، بل يجعل الحدوث دليلا على إمكان الحادث، ثم يقول: والممكن لابد له من مرجح، وهذا الإمكان الذي يثبته هو الإمكان الذي يثبته ابن سينا، وهو الإمكان الذي يشترك فيه القديم والحادث، فجعل القديم الأزلي ممكنا، يقبل الوجود والعدم، وهذا مما خالفوا فيه سلفهم وسائر العقلاء، فإنهم متفقون على أن الممكن الذي يقبل الوجود والعدم لا يكون إلا حادثا، وابن سينا وأتباعه يوافقون الناس على ذلك، لكن يتناقضون" (5) ، ثم ذكر الوجه الثاني الذي سبق ذكره، وهو أنهم بنوه على مسألة الجوهر الفرد (6) .
وقد ظن بعض المعتزلة أن الأشعري لما ذكر دليل النطفة وتحولها وتغيرها، انما قصد إثبات دليل حدوث الأجسام المشهور، وقد بين شيخ الإسلام خطأ هذا الظن فقال: "الأشعري قصد العدول عن هذه الطريقة التي سلكها المعتزلة عمدا، مع علمه بها، كما قد بين ذلك في رسالته إلى الثغر، وبين أنها بدعة محرمة في الشرائع، لم يسلكها السلف والأئمة، وعدل عنها إلى الاستدلال بحدوث صفات الإنسان، لأن ذلك أمر مشهود معلوم، والقرآن العزيز قد دل عليها
(1) انظر: درء التعارض (1/158-159، 4/201، 6/292، 8/321) .
(2)
انظر: المصدر السابق (8/312) .
(3)
انظر: المصدر نفسه (2/390) .
(4)
انظر: نقض التأسيس- مطبوع- (1/495-496) .
(5)
درء التعارض (7/231- 232) .
(6)
انظر: المصدر السابق (7/232) .
وأرشد إليها، (1)، لكن شيخ الإسلام حدد موطن الخطأ عند الأشعري: أنه "لما أراد تقرير حدوث النطفة سلك في الاستدلال على حدوثها الطريقة المعروفة
للمعتزلة في حدوث الأجسام، فهو وإن كان قد وافقهم على صحة هذه الطريقة، فهو يقول: إن فيها تطويلا وشبهات، ومقدمات كثيرة، فيها نزاع، فلا يحتاج
إليه ابتداء، ولا يقف العلم والإيمان بالله تعالى عليها، بخلاف نفس تحول النطفة من حال إلى حال، فإن هذا أبين وأظهر عن كون كل جسم لابد له من أعراض
مغايرة له، والأعراض حادث النوع
…
" (2) .
وقد حاول الباقلاني في شرحه (3) للمع الأشعري أن يفسر أقوال الأشعري في هذه المسألة ليقرب من مذهبه، فقد ذكر أن الأشعري قصد تعميم النطفة إلى سائر
الأعراض، كما حاول أن يدلل على أن المحدث لابد له من محدث وأن هذه مسألة نظرية تحتاج إلى برهان. بينما الأشعري سكت عنها لأنها مسألة بدهية لا يخالف فيها أحد من العقلاء. والباقلاني قررها بمنهجه في هذه المسألة حيث ذكر دليل التخصيص، وأن تخصيص المحدث بوقت لون وقت لابد له من مخصص، وهذا وإن
كان صحيحا إلا أن ما قصده الأشعري من أن المحدث لابد له من محدث أبين وأقوى.
وقد أطال شيخ الإسلام في مناقشة الباقلاني (4) ، ثم بين في النهاية أن طريقة الأشعري خير من طريقة الباقلاني وأن طريقة الباقلاني خير من طريقة المعتزلة ومن وافقهم من الأشاعرة (5) .
المسلك الخامس: الاستدلال بما في العالم بما في الإحكام والإتقان، على علم البارىء تعالى، والذي يدل على علمه يدل على ذاته من باب أولى (6) .
(1) دوء التعارض (8/100) .
(2)
المصدر السابق، نفس الجزء والصفحة. وانظر: مجموع الفتاوى (16/267-270) .
(3)
هذا الكتاب- كما ذكر مترجو الباقلاني، غير موجود، وقد نقل منه شيخ الإسلام بعض النصوص. انظر: ما سبق في ترجمة الباقلاني (ص: 527) .
(4)
انظر: درء التعارض (4/304-307، 8/70-88، 300-343) ، وانظر الوجهين في الرد عل الباقلاني، أحدهما (8/106) ، والثاني (8/310) .
(5)
انظر: المصدر السابق (8/304-306، 308-309) .
(6)
انظر: المصدر نفسه (3/86-87، 5/294)، والنبوات (ص: 77) .
هذه أهم المسالك التي ذكرها الأشاعرة لإثبات الصانع، وقد أوردها شيخ الإسلام، وبين ما فيها من حق وباطل، فرد الباطل ونقضه، وأيد الحق (1) ، ومحصه إن كان قد تلبس به بعض الباطل. ومن ذلك يتبين مبلغ إنصافه لخصومه، وقبوله للحق ممن جاء به، ولذلك قال بعد مناقشات مطولة للأشاعرة:"وليس العلم بإثبات الصانع سبحانه مفتقرا إلى شيء من الطرق المبتدعة وإن كانت صحيحة، فكيف اذا كانت باطلة؟ لكن الرجل إذا استدل على الحق بدليل صحيح لم يكن هذا مذموما مطقا، كما تجد كثيرا من أهل الحديث، والصوفية، والمتفقهة يعيبون من أقام دليلا عقليا صحيحا على بعض المطالب الدينية، ويجعلون هذا من الكلام المذموم، وليس الأمر كما يقوله هؤلاء، بل الدليل الصحيح مقبول وإن لم يعلم استدلال غيره به، لكن قد يذم لأسباب؛ مثل أن يكون فيه خطر، وغيره مغن عنه، كمن سلك إلى مكة الطريق البعيد (2) المخوفة مع إمكان القرينة الأمينة، وكذلك إذا رد الباطل بممانعة صحيحة، أو معارضة صحيحة. لكن المذموم أن يدعي صحة الباطل، أو يتوقف الإيمان على بدعة ما شرعها الله تعالى ورسوله، فكيف إذا اجتمعا جميعا، كما زعم هؤلاء حيث قالوا: لا يمكن تصديق الرسول-صلى الله عليه وسلم إلا بما ذكروه من الطرق النظرية التي ابتدعوها (3) ".
ويلاحظ أن شيخ الإسلام سبق أن ذكر أن أعظم الطرق لإثبات الصانع طريقة القرآن التي تقوم على الاستدلال بذوات المحدثات والمخلوقات على خالقها، قال تعالى:"أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ"[الطور: 35] ، كما سبق بيان أن الإيمان بالصانع والإقرار به أمر فطري، فدليله ضروري وأن كثيرا من الأشاعرة صرح بذلك (4) .
(1) انظر مثلا: تأييده للشهرستاني فيما ذكره في إثبات الصانع. في درء التعارض (3/128-137) .
(2)
كذا، ولعل الجواب: البعيدة.
(3)
شرح الأصفهانية (ص: 317) - ت السعوي-.
(4)
انظر ما سبق (ص: 867-868)، وانظر أيضا: درء التعارض (1/91-92، 8/155) . وانظر: كلام شيخ الإسلام الطويل حول الفطرة في درء التعارض (8/359) إلى آخر الجزء.
وقد ساق شيخ الإسلام عددا كبيرا من الأدلة الدالة على إثبات الصانع، دون الحاجة إلى تلك المقدمات الباطلة أو الظنية التي أتى بها أولئك المتكلمون، ونظرا لأن شيخ الإسلام ساق هذه الأدلة في مكان واحد فلعل الإشارة إلى موضعها يغني عن الإطالة بذكر نماذج منها (1) .
د- " توحيد الربوبية" أو "وحدانية الرب":
والمقصود إفراد الله بالربوبية والخلق، وهذا التوحيد لا تكاد تخالف فيه طائفة معروفة من بني آدم (2) ، وقد قرره علماء الأشاعرة جميعا بدليل التمانع المشهور (3)، وخلاصته كما يقول الأشعري:"فإن قال قائل: لم قلتم إن صانع الأشياء واحد؟ قيل له: لأن الاثنين لا يجرى تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على إحكام، ولابد أن لا يلحقهما العجز أو واحدا منهما، لأن أحدهما إذا أراد أن يحيى إنسانا وأراد الآخر أن يميته، لم يخل أن يتم مرادهما جميعا، أو لا يتم مرادهما، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر. ويستحيل أن يتم مرادهما جميعا، لأنه يستحيل أن يكون الجسم حيا ميتا في حال واحدة، وإن لم يتم مرادهما جميعا وجب عجزهما والعاجز لا يكون إلها ولا قديما وإن تم مراد أحدهما دون الآخر وجب العجز لمن لم يتم مراده منهما، والعاجز لا يكون إلها ولا قديما فدل ما قلناه على أن صانع الأشياء واحد، وقد قال تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22] فهذا معنى احتجاجنا آنفا"(4) .
وجميع الأشاعرة يسوقون هذا الدليل، مع تنويع الأمثلة التى يوردونها، كالحركة والسكون، والإحياء والإماتة وغيرها.
(1) انظر: درء التعارض (3/98-127، 265-266) .
(2)
انظر: التدمرية (ص: 177-178) - ت السعوي. وشرح الأصفهاية (ص: 98- 102) - ت السعوي-.
(3)
انظر مثلا- غير اللمع للأشعري الذي سيرد نص كلامه فيهـ: التمهيد للباقلاني (ص: 25) ت مكارثي، والمعتمد لأبي يعلى (ص: 41) ، والإرشاد للجويني (ص: 53-59) ، ونهاية الإقدام (ص: 91-97) ، والأربعين للرازي (ص: 221-226) . (4) اللمع (ص: 8) - ت مكارثي، و (ص: 20- 21) - ت غرابة.
وشيخ الإسلام يقرر أن دليل التمانع دليل صحيح، موصل إلى المطلوب في إثبات وحدانية الله تعالى في ربوبيته (1) ، ولكنه يرد على، الأشاعرة لوقوعهم في خطأين، أحدهما وقع فيه متقدموهم- ومن جاء بعدهم ممن وافقهم عليهـ والثاني وقع فيه المتأخرون دون المتقدمين، ثم إن شيخ الإسلام يذكر لهذا الدليل برهانين ورد بهما القرآن للدلالة على أن الله واحد.
1-
أما الخطأ الذي وقع فيه المتقدمون من الأشاعرة ووافقهم عليه المتأخرون فهو ما أورده الأشعري مما سبق نقله من كلامه حين احتج على دليل التمانع بقوله تعالى: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا"[الأنبياء: 22] ، وقد أوضح شيخ الإسلام أن هذا الاحتجاج خاطىء، لأن هذه الآية جاءت لتقرير توحيد الألوهية والعبادة، لا توحيد الربوبية، ويربط شيخ الإسلام خطأ هؤلاء بخطئهم في فهم المقصود بالتوحيد الذي دعت إليه، حيث ظنوا أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل (2) ، وقد سبق شرح ذلك-، ويبين شيخ الإسلام الفرق بين دليل التمانع وبين هذه الآية بقوله:
" هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكلام، من ذكر دليل التمانع الدال على وحدانية الرب تعالى؛ فإن التمانع يمنع وجود المفعول، لا يوجب
فساده بعد وجوده. وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التى تجري (3) مجرى العلل الفاعلات. والثاني يذكر في الحكم والنهايات التى تذكر في العلل التي هي
الغايات، كما في قوله تعالى:"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"[الفاتحة: 5] ، فقدم الغاية المقصودة على الوسيلة الموصلة" (4) . وهذا واضح، لأن التمانع يدل على أنه لو فرض أكثر من صانع لما وجدت المخلوقات، فوجودها يدل على صانع واحد، أما الآية فهى دالة على أنه لو وجد أكثر من إله يعبد لحدث الفساد،
(1) انظر. درء التعارض (9/354) ، حيث رد عل ابن رشد الذي رد على الأشاعرة في ذلك.
(2)
انظر: شرح الأصفهانية (ص: 104-105) ت السعوي-.
(3)
في المطبوعة المحققة (تجر) ولعله خطأ مطبعي. وهو على الصواب في طبعة حامد الفقي (ص: 461) .
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/846) .
ففى الآية " بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشىء عن عبادة ما سوى الله تعالى، لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته، من جهة غاية أفعالهم ونهاية
حركاتهم، وما سوى الله لا يصلح، فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة، فإنه سبحانه هو المعبود المحبوب لذاته، كما أنه هو الرب الخالق بمشيئته. وهذا معنى قول النبي-صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها الشاعر، كلمة لبيد:
ألا كل شيء ماخلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل (1)
ولهذا قال الله في فاتحة الكتاب: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"[الفاتحة: 5] وقدم اسم الله على اسم الرب في أولها حيث قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"[الفاتحة: 1] ، فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته، وهو الغاية والمعين، وهو البارىء المبدع الخالق
…
" (2) .
والخلاصة أن الآية جاءت لتقرير توحيد الألوهية المتضمن لتوحيد الربوبية ومعنى الآية أنه لو كان فيهما- أي السموات والأرض- آلهة غير الله لفسدتا ولكن ما فسدتا تدل على أنه ليس فيهما آلهة إلا الله (3) .
2-
والخطأ الذي وقع فيه المتأخرون من الأشاعرة هو ظنهم أن القسمة في تقرير دليل التمانع لم تنته، وأنه بقي قسم رابع وهو أن يقال: يجوز أن يتفقا
فلا يفضي ذلك إلى الاختلاف.
والأشاعرة حيال هذا الأمر ثلاثة أقسام:
أ- المتقدمون، كأبي الحسن الأشعري، والباقلاني، والقاضي أبي يعلى (4) ،
(1) الحديث متفق عليه، بالشطر الأول فقط من بيت الشعر: البخاري باب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية، ورقمه (3841)(الفتح 7/149) ، وكتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر، ورقمه (6147)(الفتح 10/537) ، ومسلم، كتاب الشعر، ورقمه (2255) - عدة روايات.
(2)
منهاج السنة (3/334-335) - ط جامعة الإمام-.
(3)
انظر: منهاج السنة (3/314) - ط الامام-، ودرء التعارض (9/369-378) .
(4)
سبق قبل قليل ذكر كتبهم التي أوردوا فيها هذا الدليل، ويلاحظ أن الباقلاني ذكر في التمهيد (ص: 25) دليل التمانع دون ذكر احتمال اتفاق الارادتين، ولكنه في رسالة الحرة- المطبوعة باسم الإنصاف- (ص: 34) ، أورد الاحتمال على شكل اعتراض ورد عليه. أما الأشعري وصاحب المعتمد فلم يذكرا في كتابيهما- اللمع والمعتمد- إلا الاحتمالات الثلاثة فقط.
ذكروا دليل التمانع باحتمالاته الثلاثة، ولم يذكروا الرابع- الذي هو احتمال الاتفاق- لأنهم " علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما، كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما، فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير لأن مقصوده أن يبين أن فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما، فإذا قيل: إن أحدها لا يمكنه مخالفة الآخر، كان ذلك أظهر في عجزه "(1) ، وهذا واضح مما فعله هؤلاء في كتبهم فإنهم ضربوا صفحا عن التطويل بذكر هذا الاحتمال الفاسد.
ب- وبعض المتأخرين، كالجويني، والشهرستاني والرازي (2) ، قرروا دليل التمانع، ولكن أوردوا الاحتمال الرابع، وردوا عليه من طرق عديدة لكنهم أجابوا "بوجوه عارضهم فيها غيرهم "(3) .
3-
وبعض المتأخرين رأى أن هذا الاعتراض- باحتمال الاتفاق- مشكل، ولذلك ظن بعض هؤلاء أن التوحيد إنما يعرف بالسمع (4) . ومن الذين زيفوا دليل
التمانع وظنوا أن الاعتراض عليه باحتمال الاتفاق قادح فيه الآمدى (5) .
وقد رد عليه شيخ الإسلام، وبين أن دليل التمانع برهان عقلي صحيح كما قرره فحول النظار، وبعد أن أورد دليل التمانع كما ساقوه قال: "فلما قيل لهم: هذا يلزم إذا اختلفت إرادتهما، فيجوز اتفاق إرادتهما. أجابوا بأنه إذا اتفقا في الآخر (6) امتنع أن يكون نفس ما فعله أحدهما نفس الآخر، فإن استقلال أحدهما بالفعل
والمفعول، يمنع استقلال الآخر به، بل لابد أن يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول هذا، وهذا معنى قوله تعالى:"إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ"[المؤمنون: 91] وهذا ممتنع؛ فإن العالم مرتبط بعضه ببعضه ارتباطا يوجب أن فاعل هذا ليس هو مستغنيا عن فاعل الآخر، لاحتياج بعض أجزاء العالم إلى بعض.
(1) منهاج السنة (3/306) - ط جامعة الامام-.
(2)
سبقت الإشارة إلى كتبهم التي ذكروا فيها ذلك.
(3)
منهاج السنة (3/305) - ط جامعة الإمام.
(4)
انظر: درء التعارض (9/354-369) .
(5)
انظر: أبكار الأفكار (ج- 1- 165- ب- 171- ب)، وغاية المرام (ص: 151- 155) .
(6)
في درء التعارض: الآخرة، ولعل الصواب ما أثبته.
وأيضا فلابد أن يعلو بعضهم على بعض، فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما، وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادرا، فإنهما إذا كانا قادرين، لزم جواز اختلاف الإرادة. وإن قدر أن لا يجوز اختلاف الإرادة، بل يجب اتفاق الإرادة كان ذلك أبلغ في دلالته على نفي قدرة كل واحد منهما، فإنه إذا لم يجز أن يريد أحدهما ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعله، لزم أن لا يكون واحد منهما قادرا، إلا إذا جعله الآخر قادرا، ولزم أن لا يقدر أحدهما إلا إذا لم يقدر الآخر، وعلى التقديرين يلزم أن لا يكون واحد نهما قادرا، فإنه إذا لم يمكنه أن يريد ويفعل، إلا ما يريده الآخر ويفعله، والآخر كذلك- وليس فوقهما أحد يجعلهما قادرين مريدين - لم يكن هذا قادرا مريدا حتى يكون الآخر قادرا مريدا، وحينئذ فإن كان كل منهما جعل الآخر قادرا مريدا، كان هذا دورا قبليا، وهو دور في الفاعلين والعلل" (1) وهو ممتنع.
وقد أطال شيخ الإسلام في مناقشة هذا الأمر في بعض كتبه (2) ، وبين صحة هذا الدليل وسلامته. فهو متفق مع الأشاعرة في ذلك، ونقاشه لبعضهم لا يتطرق لنتيجة الاستدلال المتفق عليها، وإنما أراد شيخ الإسلام أن يستكمل النقص الذي ظن الآمدي وغيره أنه ينال من صحة دليل التمانع وقوته.
4-
وقد ذكر شيخ الإسلام- في أثناء مناقشاته لدليل التمانع- أن القرآن الكريم جاء بالأدلة العقلية الواضحة على إثبات التوحيد لله تعالى، وبين أن من ذلك ما ذكره تعالى بقوله:"مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ"[المؤمنون: 91] ، وذكر أن الآية دلت على برهانين يقينيين- وسماهما في شرح الأصفهانية لازمين- يدلان على إفراد الله تعالى بالألوهية.
(1) درء التعارض (9/356-357) .
(2)
انظر: المصدر السابق (9/362- 370) ، وشرح الأصفهانية (103-134) ، ومنهاج السنة (3/305-313) - ط جامعة الإمام-، والصفدية (1/92- 95) .
وشيخ الإسلام وهو يشرح هذين البرهانين لا يفوته أن يُذكِّر بالفرق الواضح بين منهج المتكلمين ومنهج القرآن في ذلك. فالمتكلمون قصدوا تقرير توحيد الربوبية فقط لظنهم أنه غاية التوحيد الذي دعت إليه الرسل. وهذا منهج قاصر، لأن القرآن إنما جاء بالدعوة إلى توحيد الألوهية، لأنه الغاية المقصودة، أما توحيد الربوبية فإن المشركين كانوا مقرين به كما هو معروف، يقول شيخ الإسلام:" ومقصود القرآن توحيد الألوهية، وهو مستلزم لما ذكروه من غير عكس، ولهذا قال: "لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا" [الأنبياء: 22] فلم يقل: لو كان فيهما إلهان، بل المقدر آلهة غير إلإله المعلوم أنه إله، فإنه لم ينازع أحد في أن الله إله حق، وإنما نازعوا هل يتخذ كره إلها مع كونه مملوكا له
…
" (1) .
وقد سبق- قبل قليل- الإشارة إلى هذين اللازميين أو البرهانين الذين يلزمان على تقدير وجود ربين خالقين، وهذان اللازمان الباطلان هما: اللازم الأول: ما أشار إليه توله تعالى: "إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ"[المؤمنون: 91] يقول شيخ الإسلام: "أما اللازم الأول- وهو ذهاب كل إله بما خلق- فهذا لازم، سواء فرضا متماثلين في القدرة أو متفاضلين فيها، وإن كان كل من التقديرين ممتنعا، لكن بطلان هذا اللازم مما يدل على امتناع كل منهما؛ وذلك لأنه قد تبين أنه يمتنع أن يكون المفعول الواحد فعلا لكل منهما على سبيل الاستقلال، ويمتنع أيضا التعاون، بحيث لا يصير أحدهما قادرا إلا إذا أعانه الآخر، ولا يصير فاعلا إلا إذا [أعانه] الآخر، ويبين ذلك أن ذلك ممتنع لذاته، بل لابد أن يكون أحدهما قادرا على الفعل، يفعل بإرادته دون معاونة الآخر، وإذا كان كذلك وجب أن يتميز مفعوله عن مفعول الآخر، وأن يذهب بمفعوله، لأنه لا يجب اختلاط المفعولين إلا إذا احتاج أحد الفاعلين إلى الآخر، كالحاملين للخشبة، لا يقدر أحدهما على حملها إلا بمعاونة الآخر، فلا يتميز أثره في الخشبة عن أثر الآخر.
(1) درء التعارض، (9/369-370) .
فأما القادر- الذي يمتنع افتقاره إلى من يعينه، وقدرته من لوازم ذاته الغنية عن أن يجعله غيره قادرا- فهذا مقدوره متميز مستقل" (1) ، ثم يقول: "و
…
تعاونهما ممتنع لذاته، سواء قدر أن كلا منهما يقدر على الاستقلال أو قدر أنه لا يقدر على الاستقلال، وتمانعهما ممتنع لذاته.
وخلط أحد المفعولين بالآخر لا يخرج عن التمانع والتعاون؛ فإنه إن كان بمشيئة الآخر لزم التعاون، وإن كان بدون مشيئته لزم التمانع، وكلاهما ممتنع
في الربين المقدرين، وما لزم منه الممتنع [فهو ممتنع] .
فتبين أنه لو كان مع الله آلهة تخلق لذهب كل إله بما خلق، والموجود خلاف هذا؛ فإن العالم مرتبط بعضه ببعض، متعلق بعضه ببعض، ما من مخلوق إلا وهو متصل بغيره من المخلوقات، محتاج إليه مرتبط به " ثم قال بعد بيان كيف تحتاج المخلوقات إلى بعضها:" فتبين انتفاء اللازم في قوله تعالى: إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ"[المؤمنرن: 91] ، وحذف سبحانه نفي اللازم لظهوره ووضوحه؛ فإن ذهاب كل إله بمخلوقه، وانفراده به، استقلاله به: أمر يظهر بطلانه لعموم العقلاء، والمقدمات الظاهرة البينة لا يحتاج إلى ذكرها في البيان الفصيح، الذي هو طريقة القرآن " (2) ، أي أنه لو كان معه إله لذهب كل إله بمخلوقاته، وهذا غير واقع، لأن العالم مرتبط بعضه ببعض، وليس هناك عالم مستقل عن هذا العالم، فدل على أن خالقه واحد (3) .
أما اللازم الثاني: فقد دل عليه قوله "وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ"[المؤمنون: 91]، يقول شيخ الإسلام: [وأما البرهان الثاني: وهو لزوم علو بعضهما على بعض، وذلك يمنع إلهية المغلوب، فإنه يمتنع أن يقدر أحدهما على عين مقدور الآخر؛ لأن ذلك يستلزم أن يكون ما فعله أحدهما يقدر الآخر أن يفعله، مع كونه فعل الأول.
(1) شرح الأصفهانية (ص: 124- 125) .
(2)
شرح الأصفهانية (ص: 126-127) - ت السعوي-.
(3)
انظر أيضا: المصدر السابق إلى (ص 131) ، ودرء التعارض (9/359- 361) ، ومنهاج السنة (3/315-317) - ط جامعة الإمام-.
ويمتنع أن يكون كل منهما لا يقدر إلا إذا مكنه الآخر وأقدره، فإن ذلك يستلزم أن لا يكون أحدهما قادرا، فيمتنع أن يكون كل منهما قادرا على الاستقلال، ويمتنع أن يكونا قادرين على مفعول واحد، فيلزم حينئذ أن لا يوجد مفعول واحد، لا بطريق استقلال أحدهما ولا بطريق اشتراكهما فيه، وذلك يمنع أن يكون أحدهما قادرا.
وكذلك يمتنع أن يكونا متماثلين في القدرة، ة إنه إن أمكن كل منهما منع الآخر من الفعل، لزم امتناع الفعل، وانتفاء القدرة عن كل منهما، وإن لم يمكنه ذلك، لزم أن لا يكون قادرا على ما يقدر عليه الَاخر، إذا لو كان قادرا عليه لأمكنه فعله، وذلك ممتنع.
وإن لم يكن قادرا على ما يقدر عليه الَاخر، لم تكن قدرته مثل قدرته فإن المثلين هما اللذان يسد أحدهما مسد الآخر، ويقوم مقامه.
وإذا امتنع تماثل القدرتين، وجب كون أحدهما أقدر من الَاخر، وحينئذ فالأقدر الأقوى يغلب الأضعف، وهذا معنى قوله "وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ" [المؤمنون: 91] (1) ". والخلاصة أنه إذا قدر إلهان فلابد أن يكون أحدهما أقدر من الآخر، والأقدر لابد أن يعلو من هو دونه في القدرة، وإذا علا بعضهم على بعض فالعالي هو الإله القاهر المستقل بالفعل وحده (2) .
(1) درء التعارض (9/361) .
(2)
انظر: شرح الأصفهانية (ص: 131-133) - ت السعوي-، ومنهاج السنة (3/318-325) - ط جامعة الإمام-.