الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبين هذه الطوائف - الثلاث - قد تنشأ فرق أخرى، تميل في بعض المسائل إلى طائفة، وفي المسائل الأخرى إلى طائفة ثانية، ويكون الحكم عليها حسب ما يغلب على مذهبها، فقد يقال إنها مائلة إلى مذهب الجبر، أو إلى مذهب القدرية، أو إلى مذهب السلف. ومن أشهر هذه الطوائف طائفة الأشعرية، حيث يغلب عليهم مخالفة المعتزلة والميل إلى مذهب الجبرية، وإن لم يصلوا إلى حد موافقة الجهم في أقواله وفي غلوه.
وشيخ الإسلام ابن تيمية اهتم كثير بمسألة القدر، ورد على المنحرفين فيه من الجبرية والقدرية وغيرهم، وشرح مذهب السلف في ذلك وذكر أدلته وأصوله.
ومما يجب ملاحظته أن مذهب الأشاعرة في القدر لا يتمثل في مسألة "الكسب" فقط، كما هو مشهور عنهم، وإنما ارتبط بهذه المسأ - التي اشتهروا بها وصارت شه علم عليهم، لا يذكر الكسب إلا ويذكر مذهب الأشاعرة - مسائل أخرى مرتبطة بها لا تنفك عنها، ولها أثر كبير على مذهبهم في الكسب وأفعال العباد.
ويولي شيخ الإسلام - بمنهجه الدقيق، الشامل، وبطريقته الفريدة في تلك المسائل أهمية خاصة نظرا لأثرها الكبير على خلاف الطوائف - من الأشاعرة وغيرهم - في القر.
ولذلك سيكون - بعون الله - عرض مباحث القدر على أساس الفرعين التاليين:
الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:
وأهم هذه المسائل:
1-
تعليل أفعال الله.
2-
هل الإاردة تقتضي المحبة أم لا؟.
3-
التحسين والتقبيح.
4-
معنى الظلم.
5-
تكليف ما لا يطاق.
الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب":
ومن خلال ذلك سيتم عرض الخلاف باختصار، وبيان مذهب الأشاعرة وخطئهم ومنهج شيخ الإسلام في الرد عليهم من خلال بيانه لمذهب السلف.
أما تعريف القدر اصطلاحا: فهو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخلقه لها.
والإيمان بالقدر يشمل الإيمان بأربع مراتب:
الأولى: العلم، أي أن الله علم ما الخلق عاملون بعلمه الأزلي.
الثانية: الكتابة: وأن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ.
الثالثة: المشيئة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ليس في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته - سبحانه -، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.
الرابعة: الخلق: أي أن الله خالق كل شيء، ومن ذلك أفعال العباد. هذا هو مذهب السلف الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة (1) .
وبعد بيان مذهب السلف بإجمال ننتقل إلى الكلام على الفرعين السابقين:
الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:
وهذه المسائل: منها ما للخلاف فيه تأثير على مسألة القدر، حسب مذهب كل طائفة، ومنها ما له علاقة قوية بالقدر أو هي اثر من آثار الخلاف فيه. وأهم هذه المسائل:
أولاً: تعليل أفعال الله وإثبات الحكمة فيها:
كل ما خلقه الله تعالى فله فيه حكمة، والحكمة تتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه تعالى، يحيها ويرضاها.
(1) انظر: الواسطية - مجموع الفتاوى - (3/148-150)، وشفاء العليل لابن القيم (ص:66) ط دار التراث.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده، هي نعمة عليهم، يفرحون بها، ويلتذون بها، وهذا يكو في المأرات وفي المخلوقات (1) .
فهو "سبحانه حكيم، لا يفعل شيئاً عبثا ولا بغير معنى ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى"(2) ، وقد ذكر ابن القيم بعضها (3) .
وقد وقع الخلاف في مسألة تعليل أفعال الله على أقوال:
1-
قول من نفى الحكمة وأنكر التلعيل، وهؤلاء يقولون: إن الله تعالى خلق المخلوقات، وأمر المأمورات، لا لعلة ولا لداع ولا باعث، بل فعل ذلك لمحض المشيئة، وصرف الإرادة، وهذا مذهب الجهمية والأشاعرة وهو قول ابن حزم وأمثاله (4) .
2-
إن الله فعل المفعولات وخلق المخلوقات، وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، ولكن هذه الحكمة مخلوقة، منفصلة عنه، لا ترجع إليه، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (5) .
3-
قول من يثبت حكمة وغاية قائمة بذاته تعالى، ولكن يجعلها قديمة غير مقارنة للمفعول.
4-
إن الله فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة، وهذه الحكمة تعود إلى الرب تعالى، لكن بحسب علمه، والله تعالى خلق الخلق ليحمدوه
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/35-36) .
(2)
شفاء العليل لابن القيم (ص:400) - ط التراث.
(3)
انظر: المصدر لاسابق (ص:400-434) .
(4)
انظر: الإرشاد للجويني (ص:268) وما بعدها، ونهاية الأقدام (ص:297) ، ومحصل أفكار المتقدمين للرازي (ص:205) ، الفصل (3/174) - ط دار المعرفة. الأحكام لابن حزم (8/1110) وما بعدها.
(5)
انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل. لعبد الجبار الهمذاني (6/48، 11/92-93) .
ويثنوا عليه ويمجدوه، فهذه حكمة مقصودة واقعة، بخلاف قول المعتزلة فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد. وهذا قول الكرامية الذين يقولون: من وجد منه ذلك فهو مخلوق له وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخوقه له (1) .
5-
قول أهل السنة وجمهور السلف وهو أن الله حكمة في كل ما خلق، بل له في ذلك حكمة ورحمة - كما سبق بيانه في بداية هذه المسألة.
هذه خلاصة الأقوال في هذه المسألة، ويلاحظ أنها تنتهي إلى قولين أحدهما: نفاة الحكمة، وهو قول الأشاعرة ومن وافقهم.
والثاني: قول الجمهور الذين يثبتون الحكمة. وهؤلاء على أقوال: أشهرها قول المعتزلة الذين يثبتون حكمة تعود إلى العباد ولا تعود إلى الرب، وقول جمهور السلف الذين يثبتون حكمة تعود إلى الرب تعالى (2) .
ويلاحظ أن من نفي الحكمة والتعليل - كالأشاعرة - دفعه إلى ذلك إلى الميل إلى الجبر وإثبات الكسب القدرة غير المؤثرة للعبد. ومن أثبت حكمة تعود إلى العباد، جعلوا هذه الحكمة لا تتم إلا بأن يكون العباد هم الخالقين لأفعالهم وهذا قول المعتزلة.
أما أهل السنة فلم يلزمهم لازم من هذه اللوازم الباطلة، ولذلك جاء مذهبهم وسطا في باب القدر - كما سيأتي أن شاء الله -.
والأشاعرة الذين نفوا الحكمة والتعليل، احتجوا على مذهبهم بعدة حجج أهمها:
?- أن ذلك يستلزم التسلسل، فإنه إذا فعل لعلة، فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلىعلة، وهكذا إلى غير نهاية وهو باطل.
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/39) .
(2)
انظر: أقوم ما قيل في القضاء والقدر - مجموع الفتاوى (8/83-93، 97-98) ، منهاج السنة (1/97-98) ط دار العروبة المحققة، والاستغاثة (ص:2/27) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/198-203) ، درء التعارض (8/54) ، مجموع الفتاوى (8/377-381) ، ومنهاج السنة (1/94-95) ط دار العروبة المحققة.
وقد رد شيخ الإسلام على هذه الحجة من وجوه:
1-
يقال لهم في الكمة ما يقولونه هم في "الفعل"، وذلك بأن يقال لهم:"لا يخلو إما أن يكون الفعل قديم العين أو قديم النوع، أو لا يمكن ذلك. فإن جاز أن يكون قديم العين أو قديم النوع، جاز في الحكمة التي يكون الفعل لأجلها أن تكون قيدمة العين أو قديمة النوع"(1) .ويلاحظ هنا أن القول بأن الفعل قديم "العين" هو قول الفلاسفة، ومعلوم أن الفلاسفة نفاة للحكمة - فهم موافقون للأشاعرة في هذا - فهذا الإلزام صالح لهم. ومن قال هذا ممتنع - أي قدم العين أو النوع في العقل - قيل وكذلك الحكمة يمتنع تسلسلها.
"وإن لم يمكن أن يكون الفعل لا قديم العين ولا قديم النوع، فيقال إذا كان فعله حادث العين والنوع، كانت حكمته كذلك"(2) .
فتبين أن معنى كونه تعالى يفعل لحكمة "أنه يفعل مرادا لمراد آخر يحبه، فإذا كان الثاني محبوبا لنفسه، لم يجب أن يكون الأول كذلك، ولا يجب في هذا تسلسل"(3) .
2-
يقال لهم في الحكمة ما يقال في الأسباب، فإذا كان تعالى خلق شيئاً بسبب، وخلق السبب بسبب آخر حتى ينتهي إلى أسباب لا أسباب فوقها فكذلك خلق لحكمة والحكمة لحكمة حتى ينتهي إلى حكمة لا حكمة فوقها (4) .
3-
أن هذا التسلسل الذي يدعونه إنما هو تسلسل في الحوادث المستقبلة لا في الحوادث الماضية، فإنه إذا فعل فعلا لحكمة كانت الحكمة حاصلة بعد الفعل - والتسلسل في المستقبل جائز عند جماهير المسلمين وغيرهم، والجنة أكلها دائم (5) .
(1) شرح الأصفهانية (ص:363-364) ت السعوي.
(2)
المصدر السابق (ص:364) .
(3)
المصدر نفسه، ونفس الصفحة.
(4)
انظر: المصدر نفسه (ص:365) .
(5)
انظر: المصدر نفسه.
- والحجة الثانية للأشعرة على نفي الحكمة والتعليل هي حجة الكمال والنقصان، ومعناها - عندهم - أن الله "لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصا بدونهها مستكملا بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدما بالنسبة إليه سوءا، أو يكون وجودها أولى به، فإن كا الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودهاأولى به، فيكون مستكملا بها، فيكون قبلها ناقصا"(1) . وهذه الحجة أصلها مبني على نفي حلول الحوادث.
وقد سبق مناقشة هذه الحجة في مسألة الصفات، عند مناقشة الصفات الاختيارية القائمة بالله التي يسميها الأشاعرة وغيرهم حلول الحوادث.
وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجة هنا - في مبحث التعليل - من وجوه:
1-
"أن هذا منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فما كان جوابا في المفعولات، كان جوابا عن هذا، ونحن لانعقل في الشاهد فاعلا إلا مستكملا بفعله"(2) .
2-
أن قولهم "مستكمل بغيره" باطل، لأن هذا إنما حصل بقدرته ومشيئته، لا شريك له في ذلك، فلم يكن في ذلك محتاجا إلى غيره وإذا قيل: كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره، كان كما لو قيل كمل بصفاته، وبذاته" (3) .
3-
"أن العقل الصرحي يعلم أن من فعل فعلا لا لحكمة، فهول أولىبالنقص ممن فعل لحكمة كانت معدومة، ثم صارت موجودة في الوقت الذي أحب كونها، فكيف يجوز أن يقال: فعله لحكمة يستلزم النقص، وفعله لا لحكمة لا نقص فيه"(4) .
(1) مجموع الفتاوى (8/183)، وانظر الأربعين للرازي (ص:149-150) .
(2)
مجموع الفتاوى (8/146)، وانظر: شرح الأصفهانية (ص:360) ت السعوي.
(3)
مجموع الفتاوى (8/146) .
(4)
شرح الأصفهانية (ص:362) ت السعوي.
4-
"إنه ما من محذور يلزم بتجويز أن يفع للحكمة، إلا والمحاذير التي تلزم بكونه يفعل لا لحكمة أعظم وأعظم
…
" (1) .
وهناك أوجه أخرى في مناقشة هذه الحجة (2) ، كما أن لشيخ الإسلام مناقشات عديدة للاشاعرة حول نفيهم للحكمة التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة (3) .
كما أشار - أحياناً - إلى تناقضهم في هذا الباب (4) .
والأدلة على إثبات الحكمة والتعليل على وفق مذهب أهل السنة كثير جداً، ذكر طرقا منها شيخ الإسلام (5) ، وذكر جملة منها ابن القيم - كما سبق -.
ثانياً: هل الإاردة تقتضي المحبة أم لا؟
هذه المسألة مرتبطة بشكل قوي بالمسألة السابقة - مسألة تعليل أفعال الله - لأن حدا بالأشاعرة إلى أن ينكروا التعليل ما توهموه من وجود تعارض بين الأمر والقدر، وكيف يريد الله أمرا إرادة كونية كالكفر والمعاصي، ثم هو لا يحبها ولا يريدها دينا؟ فرأوا أن الخروج من هذا المأزق يكون بإنكار الحكمة والتعليل في أفعال الله وأوامره.
وموضوع الإاردة وهل هي مستلزمة للرضى والمحبة مما خاض فيه أهل الأهواء، وضلوا فيه عن الحق وأدى بهم ضلالهم إلى انحراف خطير جدا في مسألة القضاء والقدر وفي مسألة الأمر والنهي، وعلاقة هذه بتلك. وقد وصل الأمر
(1) انظر: شرخ الأصفهانية (ص:363) ت السعوي.
(2)
انظر: المصدر السابق (ص:357-363) ، ومجموع الفتاوى (8/146-147) ، ودرء التعارض (4/203) ، ومنهاج السنة (1/297-298) ط دار العروبة المحققة.
(3)
انظر: شرح الأصفهانية (ص:354-379) - حيث استقصى حججهم كما ذكرها الرازي وناقشها، وانظر أيضاً: منهاج السنة (1/97-98، 398-301) - ط دار العروبة المحققة، ونقض التأسيس - مطبوع - (1/199-217)، والنبوات (ص:131-134، 357-361) - ط دا رالكتب التعليمية، ومجموع الفتاوى (16/130-132) ، والجواب الصحيح (4/257-259) .
(4)
انظر: أمثلة على ذلك في الاستغاثة (2/228) ، ومجموع الفتاوى (14/183-184) .
(5)
انظر: شرح الأصفهانية (ص:157-159) - ت السعوي.
بغلاة الصوفية إلى أن اعتقدوا "أنه ليس في مشهدهم لله محبوب مرضى مراد إلا ما يقع، فما وقع فالله يحبه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فهم من غلب كانوا معه، لأن من غلب كان القدر معه، والمقدور عندهم هو محبوب الحق، فإذا غلب الكفار كانوا معهم، وإذا غلب المسلمون كانوا معهم"(1) ، وعلى هذا فإبليس وجميع الكفار والملاحدة والعصاة مطيعون لله، لموافقتهم للقدر، ولعل هذا سر ما يؤثر عن غلاة الصوفية من انحرافات أخلاقية سافة، ومن أقوال كفرية لم تؤثر حتى عن الكافرين والملاحدة.
والخلاف في هل الإاردة تستلزم الرضى والمحبة وقع على قولن:
القول الأول: أن الإاردة تستلزم الرضى، وهذا قول المعتزلة والجهمية وأغلب الأشاعرة (2) .
وبعض الأشاعرة لهمع بارات تخفف من هذه المقالة، مثل قول بعضهم يحمل المحبة والرضا على الإرادة، ولكنه يقول: إذا تعلقت الإاردة بنعيم ينال عبدا فإنها تسمى محبة ورضى، وإذا تعلقت بنقمة تنال عبدا فإنها تسمى سخطا" (3)، فمن جوز إطلاق المحبة على الإاردة قالوا: إن الله يحب الكفر ويرضاه كفرا معاقبا عليه (4) .
ولكن هؤلاء الذين اتفقوا على أن الإرادة بمعنى الحبة والرضى - اختلفوا فيما بينهم على قولين جعلت أقوالهم تتباين كثيرا في مسألة القدر:
?- فالمعتزلة القدرية قالوا: قد علم بالدليل أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ويكره الكفر والفسوق والعصيان، ولما كان هذا ثابتا لزم أن تكون المعاصي ليست مقدرة له ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه، قالوا: ولما كنا مأمورين بالرضى بالقضاء، ومأمورين بسخط هذه الأفعال وبغضها وكراهتها، فإذن يجب أن لا تكون واقعة بقضاء الله وقدره فأنكروا لذلك مرتبة المشيئة والخلق (5) .
?- وأما الأشاعرة - ومن معهم - فقالوا قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولما ثبت عندهم أن المشيئة والإرادة والمحبة والرضى كلها بمعنى واحد
(1) رسالة الاحتجاج بالقدر (ص:80-81) - المكتب الإسلامي.
(2)
انظر: المغني في أبواب التوحيد والعدل (ج-6 - قسم 2- ص: 51-6)، والحر - المطبوعة باسم باسم الانصاف - للباقلاني (ص:44-45) ، ولباب العقول للمكلاتي (ص:288) .
(3)
الإرشاد للجويني (ص:239) وشرح المواقف (ص:288) - جزء مستقل محقق.
(4)
انظر: لباب العقول (ص:288) .
(5)
انظر: الاحتجاج بالقدر (ص:66-67) - ط المكتب الإسلامي.
- قالوا: فالمعاصي والكفر كلها محبوبة لله لأن الله شاءها وخلقها (1) .
وهكذا انتهى الأمر بهاتين الطائفتين إلى قولين باطلين: إما إخراج بعض المقدورات أن تكون مقدرة ومرادة لله كما فعل المتزلة، وإما بالقول بأن الله يحب الكفر والمعاصي كما فعلت الأشعرية الذين خالفوا نصوص الكتاب والسنة (2) .
القول الثاني: أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة، بل بينهما فرق، وهذا قول عامة أهل السنة المثبتين للقدر، وهؤلاء يقولون إن قول المعتزلة والأشاعرة مخالف للكتاب والسنة والإجماع، فإنهم متفقون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وعلى أن الله لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن الكفار يبيتون مالا يرضى من القول. كما هو صريح النصوص.
ولكن هل بين النصوص تعارض كما توهمه أولئك؟ أهل السنة يرون أن النصوص الواردة في المشيئة والإرادة، وفي المحبة ليس بينهما تعارض مطلقا إذا أعطيت حقها من الفهم والتفسير الصحيح.
وذلك أن أهل السنة يقولون إن الخطأ الذي وقع فيه المخالفون لهم من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، هو ظنهم أن الإاردة في النصوص كلها بمعنى واحد.
(1) انظر: الاحتجاج بالقدر (ص:67) ، ومدارج السالكين لابن القيم (1/228، 251، 2/189) .
(2)
انظر: الرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/115-116) ، ومنهاج السنة (1/358-359) - ط مكتبة الرياض الحديثة.
والحق أن الإرادة نوعان:
أحدهما: نوع بمعنى المشيئة العامة، وهذه هي الإاردة الكونية القدرية، فهذه الإاردة كالمشيئة شاملة لكل ما يقع في هذا الكون، وأدلة هذا النوع كثيرة، منها قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} (الأنعام: من الآية125) .
فهذه الإرادة لا تستلزم المحبة، وليست بمعناها.
والثاني: نوع بمعنى المحبة والرضى، كقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: من الآية185) وهذه هي الإرادة الدينية الشرعية.
وهذه الإرادة هي المستلزمة للمحبة والرضى، وهي المستلزمة للأمر (1) . وعلى هذا فبالنسبة لوقوع المراد، وفي أي النوعين يتعلق - تكون الأقسام أربعة:
أحدها: ما تعلقت بن الإرادتان الكونية والدينية، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فهذه مرادة دينا لأنها أعمال صالحة مأمور بها، ومرادة كونا لأنها وقعت.
الثاني: ما تعلقت به الإاردة الدينية فقط، وهو ما أمر الله به من الطاعات والأعمال الصالحة، فعصى ذلك الكفار ولم يأتوا به، فهذا مراد شرعا لأنها من الأعمال الصالحة، وغير مرادا كونا لأنه لم يقع م الكفار والعصاة.
الثالث: ما تعلقت به الإاردة الكونية فقط، كالمباحات والمعاني التي لم يأمر بها الله إذا فعلها العصاة. فهي غير مرادة دينا، ولكنها مرادة كونا لأنها وقعت.
(1) انظر: في ذلك مراتب الإاردة - مجموع الفتاوى - (8/88-190، 197) ، ومجموع الفتاوى (8/22-23، 44، 474-476) ، والرسالة الأكملية - مجموع الفتاوى - (6/115-116) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/101) ، ومنهاج السنة (1/360) ، مكتبة الرياض الحديثة - (3/90، 102) ط بولاق ومجموع الفتاوى (18/132) ، وما بعدها، والتسعينية (ص:270) .
الرابع: ما لم تتعلق به الإرادتان، وذلك مما لم يقع ولم يوجد من أنواع المباحات والمعاصي (1) .
وبهذا التفصيل (2) - الذي دلت عليه النصوص - يتبين رجحان مهب أهل السنة والجماعة.
أما محاولة بعض الأشاعرة أن يجيبوا عن النصوص التي دلت على أن الله لا يحب الكفر ولا الفساد - بأن هذا خاص بمن لم يقع منه الكفر والفساد، والمعنى أن الله لا يحب الفساد لعباده المؤمنين ولا يرضاه لهم - فهذا جواب فاسد لأن لازم هذا أن الله لا يحب الإيمان ولا يرضاه من الكفار، لأنه لم يقع منهم، لأن المحبة عندهم كالإرادة إنما تتعلق بما وقع دون ما لم يقع. وهذا من أعظم الباطل (3) .
ولا شك أن تخبط الأشاعرة ومعهم المعتزلة في هذه المسائل أدى بهم إلى الانحراف في مسألة القدر وأفعال العباد.
ثالثا: التحسين والتقبيح:
أول من اشتهر عنه بحث هذا الموضوع الجهم بن صفوان الذي وضع قاعدته المشهورة: "إيجاب المعارف بالعقل قبل ورود الشرع"(4) ، وبنى على ذلك أن العقل يوبج ما في الأشياء من صلاح وفساد، وحسن وقبح، وهو يفعل هذا قبل نزول الوحي، وبعد ذلك يأتي الوحي مصدقا لما قال به العقل من حسن بعض الأشياء وقبح بعضها، وقد أخذ المعتزلة بهذا القول ووافقهم عليه الكرامية (5) .
(1) انظر: مراتب الإرادة - مجموع الفتاوى - (8/189) .
(2)
ومثل الإرادة ما ورد في القرآن من الأمر والحكم، والقضاء، والأذن، والكتاب، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم، والجعل، فإنها كلها تنقسم إلى كونية ودينية، انظر: مجموع الفتاوى (8/61) ، التحفة العراقية في الأعمال القلبية - مجموع الفتاوى - (10/24-26) ، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - مجموع الفتاوى - (11/265-270) ، والحسينة والسيئة - مجموع الفتاوى (14/383-384) ، ونقض التأسيس - مخطوط - (2/293-298) .
(3)
انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر (ص:68) - ط المكتب الإسلامي.
(4)
الملل والنحل (1/88) ت كيلاني.
(5)
انظر: نشأة الفكر الفلسفي للنشار (1/346)، والتجسيم عند المسلمين - مذهب الكرامية - سهير مختار - (ص:363) .
ومن ثم وقع الخلاف حوله على ثلاث أقوال:
1-
أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل، ولافعل حسن أو قيح إما لذاته، وإما لصفة من صفاته لازمة له وإما لوجوه واعتبارات أخرى، والشرع كاشف ومبن لتلك الصفات فقط. وهذا هو مذهب المعتزلة والكرامية ومن قال بقولهم من الرافضة والزيدية وغيرهم (1) .
2-
أنه لا يجب على الله شيء من قبل العقل، ولا يجب على العباد شيء قبل ورود السمع، فالعقل لا يدل على حسن شيء، ولا على قبحه قبل ورود الشرع، وفي حكم التكليف، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع وموجب السمع. قالوا: ولو عكس الشرع فحسن ما قبحه، وقبحا ما حسنه لم يكن ممتنعا. وها قول الأشاعرة ومن وافقهم (2) .
3-
التفصيل، لأن إطلاق التحسين والتقبيح على كل فعل من جهة العقل وحده دون الشرع، أو نفي أي دور للعقل في تحسين الأفعال أو تقبيحها، غير صحيح، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية مذهب أهل الحق في هذا توضيحاً كاملاً، فيقسم الأفعال إلى ثلاثة أنواع:
"أحدها: أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة أو مفسدة، ولو لم يرد الشرع بذلك، كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة العالم، والظلم يشتمل على فسادهم، فهذا النوع هو حسن أو قبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك، لا أنه ثبت للفعل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقبا في الآخرة إذا لم يرد شرع بذلك، وهذا ما غلط فيه غلاة القائلين بالتحسين والتقبيح، فإنهم قالوا: إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة، ولو لم يبعث الله إليهم رسولا، وهذا خلاف النص، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا
(1) انظر المغني لعبد الجبار ج6 - القسم الأول - (ص:26-34، 59-60) ، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري (1/363) ، والبحر الزخار لابن المرتضى (1/59)، والعقل عند المعتزلة (ص:98-100) ، والمعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية (ص:137) .
(2)
انظر الإرشد (ص:258) وما بعدها، والمحصل للرازي (ص:202) ، وشرح المواقف (8/181-182) .
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الاسراء: من الآية15) .
النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا، وإذا نهى عن شيء صار قبيحاً، واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع.
النوع الثالث: أن يأمر الشارع بشيء ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه، ولا يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم بذبح ابنه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين} (الصافات:103) حصل المقصود، ففداه بالذبح وكذلك حديث أبرص وأقرع وأعمى، فلما أجاب الأعمى قال الملك: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم، فرضى عنك وسخط على صاحبيك" (1) . فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس الأمور به.
وهذا النوع والذي قبله لم يفهمه المعتزلة، وزعمت أن الحسن والقبح لا يكون إلا لما هو متصف بذلك بدون أمر الشارع، والأشعرية ادعوا أن جميع الشريعة من قسم الامتحان، وأن الأفعال ليست صفة لا قبل الشرع ولا بالشرع. وأما الحكماء والجمهور فأثبتوا الأقسام الثلاثة، وهو الصواب" (2) .
وشيخ الإسلام يزيد الأمر تحقيقاً فيبين أن التحسين والتقبيح قسمان:
أحدهما: كون الفعلا ملائما للفاعل نافعا له أو كونه ضارا له منافرا فهذا قد اتفق الجميع على أنه قد يعلم بالعقل (3) .
الثاني: كونه سببا للذم والعقاب، فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف:
- فالمعتزلة قالوا قبح الظلم والشرك والكذب والفواحش معلوم بالعقل، ويستحق عليها العذاب في الآخرة وإن لم يأت رسول.
(1) متفق عليه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع ورقمه (3464) الفتح (6/500) ، ومسلم كتاب الزهد ورقمه (2964) .
(2)
مجموع الفتاوى (8/434-436) .
(3)
انظر: المصدر السابق (8/90، 309-301) ، ومنهاج السنة (1/364) - مكتبة الرياض الحديثة.
- والأشاعرة قالوا: لا حسن ولا قبح ولا شر قبل مجيء الرسول، وإنما الحسن ما قييل فيه الفعل، والقبيح ما قيل فيه لا تفعل. ولم يجعلوا أحكام الشرع معللة، وهذا يوافق مذهبهم في التعليل.
- جمهور أهل السنة قالوا: الظلم والشرك والكذب والفواحش كل ذلك قبيح قبل مجيء الرسول، لكن العقوبة لا تستحق إلا بمجيء الرسول (1) .
وما فصله شيخ الإسلام هو الموافق لمذهب السلف، وهو الذي دلت عليه النصوص، أما الكلام في هذه المسألة كاصطلاح فإنما نشأ في المائة الثالثة من الهجرة (2) .
والأشاعرة لأنهم يميلون إلى "الجبر" في القدر، قالوا بالتحسين والتقبيح الشرعي فقد. ولذلك احتج الرازي صراحة عليه بالجبر، فإنه أثبت أن العبد مجبور على فعله القبيح، فلا يكون شيء من أفعال العباد قبيحا.
ويرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة هي في الأصل حجة المشركين المكذبين بالرسول الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام: من الآية148) ، فإنهم نفوا قبح الشرك وتحريم ما لا يحرمه الله من الطيبات بإثبات القدر، لكن شيخ الإسلام يستدرك - انصافا لخصومه - فيقول: "لكن هؤلاء الذين يحتجون بالجبر على نفي الأحكام إذا أقروا بالشرع لم يكونوا مثل المشركين من كل وجه، ولهذا لم يكن المتكلمون المقرون بالشريعة كالمشركين وإن كان فيهم جزء من باطل المشركين.
لكن يوجد في المتكلمين من المتصوفة طوائف يغلب عليهم الجبر حتى يكفروا حينئذ بالأمر والنهي والوعد والوعيد والثواب والعقاب، إما قولا وإما حالاً وعملا
…
" (3) .
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/677-686، 11/676-677) .
(2)
انظر: التسعينية (ص:347) .
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/677-686، 11/676-677) .
ولا شك أن الأشاعرة - وكذلك المعتزلة - ليسهم له حجة على قولهم في التحسين والتقبيح، سوى أخذهم ببعض النصوص دون بعض، وشيخ الإسلام كثيرا ما يفصل الخلاف في ذلك مبينا المذهب الحق (1) .
رابعاً: معنى "الظلم":
القول في معنى "الظلم" مبنى على مسألة التحسين والتقبيح، وقد وقع الخلاف في معنى الظلم على ثلاثة أقوال:
1-
قول الجهمية والأشاعرة، وهؤلاء قالوا في تعريف الظلم: إما أنه التصرف في ملك الغير، أو أنه مخالفة الآم الذي تجب طاعته، وهؤلاء يقولون: الظلم بالنسبة لله غير ممكن الوجود، بل كل ممكن إذا قدر وجوده فإنه عدل، والظلم منه ممتنع غير مقدور، وهو محال لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجوداً معدوماً.
وهؤلاء يقولون لو عذب الله المطيعين ونعم العاصين لم يكن ظالما، لأن الظلم عندهم إنما هو التصرف في ملك الغير، والله تعالى مالك الملك، فأي فعل فعله ولو كان تعذيب أنبيائه وملائكته وأهل طاعته، وتكريم أعدائه من الكفار والشياطين لم يكن ظالما، لأنه لم يتصرف إلا في ملكه، وكذلك فليس هناك آمر فوقه حتى يخالفه.
وهذا قول جمهور الأشاعرة، وهو قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلي، وأتباعه، وأبي المعالي الجويني وأتباعه، وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهم (2) .
(1) انظر: أقوم ما قيل ي القضاء والقدر - مجموع الفتاوى - (8/90) ، قاعدة في المعجزات والكرامات - مجموع الفتاوى - (11/347-355) ، منهاج السنة (1/316-317) ، ط دار العروبة المحققة، الدرء (8/22، 492، 9/49-62)، شرح الأصفهانية (ص:161) ت مخلوف، الرد على المنطقيين (ص:420-437) ، النبوات (ص:139) وما بعدها، ط دار الكتب العلمية، الجواب الصحيح (1/314-315) ، مجموع الفتاوى (16/498) .
(2)
انظر: منهاج السنة (1/90، 2/232) ط دار العروبة المحققة. وجامع الرسائل - رسالة في معنى كون الرب عادلا، وي تنزهه عن الظلم - (1/121-122) ، ورسالة في شرح حديث أبي ذر - مجموعة الرسائل المنيرية (3/207) .
3-
قول المعتزلة، وهؤلاء يقولون: إن الظلم مقدور لله تعالى، ولكنه منزه عنه، وهذا حق، ولكنهم يجعلن الظلم الذي حرمه الله وتنزه عنه نظير الظلم من الآدميين بعضهم لبعض، وشبهوه في الأفعال ما يحسن منها وما لا يحسن بعباده، فضربوا له من أنفسهم الأمثار، ولذلك فهم يسمون مشبهة الأفعال.
وبناء على هذا قالوا: "إذا أمر العبد ولم يعنه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة كان ظالما له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالا كما قالوا: إنه لا يقدر أن يضل مهتديا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخص أحدهما بإعانته على فعل المأمور كان ظالما إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تركه لها ظلما، وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فعله مقدرا ظلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك ومن لم يقم"(1) .
فالله عند المعتزلة عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب، لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان، بل العباد يفعلون ذلك بغير مشيئته، والله لم يخلق شيئاً من أفعال العباد لا خيراً ولا شراً، لأنه لو كان خالقا لها ثم عاقب العاصين لكان ظالما لهم (2) .
4-
قول أهل السنة، قالوا: الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهذا معناه في اللغة، يقال: من أشبه أباه فما ظلم، ومن استرعى الذئب فقد ظلم (3)، وعلى هذا المعنى بنى أهل السنة تعريفهم للظلم الذي نزه الله نفسه عنه فقالوا: إن الله تعالى حكم عدل يضع الأشياء مواضعها، فلا يضع شيئاً إلا في موضعه الذي يناسبه، ولا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين (4) .
وعلى هذا فالظلم الذي حرمه الله على نفسه، وتنزه عنه فعلا وإرادة هو ما فسره به سلف الأمة وأئمتها أنه لا يحمل المرء سيئات غيره، ولا يعذب بما لم تكسب يداه،
(1) شرح حديث أبي ذر - مجمو الرسائل المنيرية (3/206) .
(2)
انظر: جامع الرسائل (1/123) .
(3)
انظر: الصحاح، ولسان العرب مادة - ظلم - وانظر: تأويل مشكل القرن (ص: 467) .
(4)
انظر: جامع الرسائل (1/124) .
وأنه لا ينقص من حسناته فلا يجازي بها أو ببعضها، وهذا هو الظلم الذي نفي الله خوفه عن العبد بقوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} (طه:112) ، قال المفسرون لا يخاف أن يحمل عليه من سيئات غيره ولا ينقص من حسناته، وقيل: يظلم بأن يؤاخذ بما لم يعمل (1) .
والله تعالى قادر على الظلم، ولكنه تعالى نزه نفسه عنه، وحرمه على نفسه، كما ورد في ذلك الأدلة الكثيرة، وأشهرها حديث أبي ذر:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم مكرما فلا ظالموا"(2) . وغيره.
ويلاحظ أن الأشاعرة جاء تفسيرهم للظلم مواكبا لمذهبهم في القدر، فهم لميلهم إلى مذهب الجبرية، إذا قيل لهم إن قولكم إن للعبد قدة غير مؤثرة، نتيجته الجبر، فكيف يعذب الله العباد على ما جبرهم عليه، هذا ظلم، قالوا ليس هذا ظلماً لأن الظلم هو التصرف في ملك الغير أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته، وهذا منتفق بالنسبة لله.
ولا شك أن هذا التفسير للظلم مخالف للمعروف من لغة العرب، ولما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة التي ورد فيها هذا اللفظ، كما أن قولهم بأن الظلم ممتنع عليه ليسه فيه مدح ولا كمال، وإنما المدح والكمال أن يقال: إن الله سبحانه منزه عنه، لا يفعله لعدله، والمدح إنما يكون بترك المقدور عليه، لا بترك الممتنع (3) .
خامساً: تكليف ما لا يطاق:
الطاقة هي الإستطاعة، والخلاف بين الطوائف قائم حول تحديد المقصود با لا يطاق، هل هو الممتنع عادة، أو المستحيل كالجمع بين الضدين، أو هو كتكليف الكافر وهو لا يؤمن.
(1) انظر: زاد المسير - سورة ط آية: 112- شرحح الطحاوية (ص:50) ط المكتب الإسلامي، ومنهاج السنة (1/90-92) . ط دار العروبة المحققة.
(2)
سبق تخريجه (ص:728) .
(3)
انظر: في مسألة الظلم والأقوال فيه: جامع الرسائل (1/27-129) ، والجواب الصحيح، (1/219)، النبوات (ص:143) - ط دار الكتب العلمية، منهاج السنة (1/318) ط دار العروبة المحققة، (1/361) - مكتبة الرياض الحديثة، (3/23-26) - ط بولاق، مجموع الفتاوى (8/505-510، 11/675-676) ، درء التعارض (10/28) .
وشيخ الإسلام يبين أن هذا الخلاف ناتج عن عدم التفريق بين أمرين متعلقين بالنزاع في هذه المسألة:
1-
ما يرجع إلى الفعل المأمور به، وهذا فيما يتعلق بالقضاء والقدر.
2-
وما يرجع إلى جواز الأمر بالشيء، وهذا فيما يتعلق بمسائل الأمر والنهي.
والذين خلطوا بين هذين القسمين وقعوا في المحذور، مثل قياس بعضهم أمر الله الكافر بالإيمان مع علمه تعالى أنه لا يفعل، بمسألة العاجز الذي لو أراد الفعل لم يقدر عليه، وجعلهم القسمين قسما واحداً وأنه تكليف بما لا يطاق.
فهذا جمع مخالف لما يعلم بالإضطرار من الفرق بينهما، وهو من مثارات الأهواء بين القدرية والجبرية (1) .
ولذى يرى شيرخ الإسلام أن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق من البدع الحادثة في الإسلام (2) .
وقد وقع الخلاف في تكليف ما لا يطاق على أقوال:
1-
جواز تكليف ما لا يطاق، ومنه تكليف الأعمى البصر، والزمن أن يسير إلى مكة. وهذا قول جهم بين صفوان (3) .
2-
عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وقد معونه لقبحه عقلا، وهذا مبني على مذهبهم في أن القدرة تكون قبل الفعل فقط، حتى يتحقق التكليف، ومن ثم يترتب عليه الثواب والعقاب، ولذلك منعوا أن تكون القدرة مقارنة لمقدورها، لأن معنى ذلك أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفاً بما لا يطاق؛ إذ لو أطاقه لوقع منه، فلما يقع منه دلي على أنه غير قادر عليه، وتكليف ما لا يطاق قبيح، وهذا قول المعتزلة ومن وافقهم (4) .
(1) انظر: درء التعارض (1/64-65) .
(2)
انظر: المصدر السابق (1/65) .
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/297) .
(4)
انظر: شر ح الأصول الخمسة (ص:396)، والمختصر في أصول الدين لعبد الجبار الهمذاني (ص:218) ، ونظرية التكليف، عبد الكريم عثمان (ص:301) ، وشرح المواقف (ص:331) - الجزء المحقق.
3-
أن تكليف ما لا يطاق جائز، وهذا مذهب الأشاعرة، وبنوا ذلك على ما في مذهبهم من أنه لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء. لكن الأشاعرة يقولون، إن ما لا يطاق أقسام:
?- أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه، كتكليف الكافر الإيمان في حالة كفره، وهذا جائز عند جميع الأشاعرة، وهذا النوع هو مالا يستطيعه المكلف لاشتغاله بضده فقط وهو الذي منعه المعتزلة (1) .
?- أن يمتنع الفعل لنفسه، بكون محالا كالجمع بين الضدين. وهذا اختلف فيه الأشاعرة، منهم من أجازه كالرازي ومنهم من منعه (2) .
?- ألا تتعلق به القدرة الحادثة عادة، كحمل الجبل، والطيران، فهذا يجوزه بعض الأشاعرة وإن لم يقع من خلال الإستقراء، وبعض المجوزين يحتج لذلك بتكليف أبي لهب الإيمان مع ورود الخبر أنه لا يؤمن (3) .
4-
مذهب السلف، التفصيل، وذلك أن يقال: تكليف مالا يطاق على وجهين:
أحدهما: مالا يقدر على فعله لاستحالته، وهو نوعان:
أما وقع ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران، وكالمقعد الذي لا يقدر على القيام، والأخرس الذي لا يقدر على الكلام.
ب وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين، وجعل المحدث قديما، والقديم محثدا، ونحو ذلك.
فهذا النوعان قد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع، وأنه لا يجوز تكليفه (4) .
(1) انظر: شرح المواقف (ص:331-332) الجزء المحقق.
(2)
انظر: الإرشاد (ص:226) ما بعدها، معالم أصول الدين للرازي (ص:85-86) ، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وشرح المواقف (ص:332) الجزء المحقق.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/295)، وشرح المواقف (ص:333) الجزء المحقق.
(4)
انظر: مجموع الفتاوى (8/301) .
والثاني: ما لا يقدر عليه لإستحالته، ولا للعجز عنه، لكن لتركه والاشتغال بضده، مثل تكليف الكافر الإيمان في حال كفره، فهذا جائز خلافا للمعتزلة، لأنه من التكليف الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة. ولكن إطلاق تكليف ما لا يطاق على هذا مما منعه جمهور أهل العلم، وإن كان بعض المنتسبين إلى السنة قد أطلقه في ردهم على القدرية (1) .
بقي الكلام في احتج به بعض الأشاعرة من جواز تكليف الممتنع عادة، بقصة أبي لهب (2) ، فشيخ الإسلام يرى أن هذا خطأ، لأن من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلي النار، بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان، فهذا حق حققت عليه كلمة العذاب، فهو كالذي يعاين الملائكة وقت الموت، فلم يبق هذا مخاطباً من جهة الرسول بالأمرين المتناقضين. وهو أيضاً كقوم نوح حين أخبر الله نوحاً عليه السلام أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، فلم يكن بعد هذا يأمرهم بالإيمان بهذا الخطاب (3) .
"بل إذا قدر أنه أخبر بصليه النار المستلزم لموته على الكفر وأنه سمع هذا الخطاب ففي هذا الحال انقطع تكليفه، ولم ينفعه إيمانه حينئذ، كإيمان من يؤمن بعد معاينة العذاب، قال تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (غافر: من الآية85)(4) .
فأبو لهب قد حقت عليه كلمة العذاب، فلا ينفعه الإيمان (5) .
وهكذا فالقول الراجح هو التفصيل فيها. ومن ذلك يتبين خطأ المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة علما بأن من الأشاعرة من ذلك القول الحق بتفصيله
(1) انظر: المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى (ص:46-147) ، ومجموع الفتاوى (8/298-302) ، ودرء التعارض (1/60) .
(2)
كالرازي في معالم أصول الدين (ص:85) ، ط مكتبة الكليات الأزهرية، وانظر: مجموع الفتاوى (8/303) .
(3)
انظر: مجموع الفتاوى (8/302) ، ودرء التعارض (1/63) .
(4)
انظر: درء التعارض (1/63-64) .
(5)
انظر: مجموع الفتاوى (8/438، 473-474) .
في هذه المسألة (1) .
هذه أهم المسائل المتعلقة بالقدر، وهي وإن كانت مسائل فرعية إلا أنها ذات صلة قوية بموضوع القدر، أو هي جزء منه، ولا شك أن الأشاعرة لم يسلكوا فيها المسلك الصحيح الذي هو مسلك السلف رحمهم الله ولذلك جاء مذهبهم في القدر وفي أفعال العباد، منحرفا عن المذهب الحق.
(1) انظر: المعتمد في أصول الدين (ص:146)، والاقتصاد للغزالي (ص:112-114) ط دار الكتب العلمية، ومجموع الفتاوى (8/296، 469-470) .