المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة السادسة: كلام الله: - موقف ابن تيمية من الأشاعرة - جـ ٣

[عبد الرحمن بن صالح المحمود]

فهرس الكتاب

- ‌الفصل الثالث: موقفه في الرد عليهم تفصيلا

- ‌مقدمة:

- ‌المبحث الأول: في توحيد الربوبية والألوهية

- ‌أولا: أول واجب على المكلف:

- ‌ثانيا: التوحيد عند الأشاعرة وحقيقة التوحيد الدي دعت إليه الرسل:

- ‌ثالثا: توحيد الربوبية:

- ‌المبحث الثاني: في الأسماء والصفات

- ‌مقدمة:

- ‌أولا: أسماء الله تعالى:

- ‌ثانيا: الصفات التي أثبتها الأشاعرة:

- ‌ثالثاً: الصفات التي نفوها أو أولوها:

- ‌المسألة الأولى: حجج الأشاعرة العامة على ما نفوه من الصفات والعلو، ومناقشتها:

- ‌أولاً: أدلتهم وحججهم العقلية:

- ‌ثانياً: موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌ثانياً: مناقشة موقفهم من أدلة السمع المثبتة للصفات:

- ‌الفرع الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه

- ‌الفرع الثاني: التأويل والمجاز:

- ‌الفرع الثالث: هل مذهب السلف هو التفويض

- ‌المسألة الثانية: القواعد العامة في ردود شيخ الإسلام على الأشاعرة فيما نفوه من الصفات:

- ‌المسألة الثالثة: الرد عليهم في نفيهم للصفات الاختيارية:

- ‌المسألة الرابعة: الصفات الخبرية:

- ‌المسألة الخامسة: العلو:

- ‌المسألة السادسة: كلام الله:

- ‌المبحث الثالث: في القضاء والقدر

- ‌مقدمة:

- ‌الفرع الأول: المسائل المتعلقة بالقدر:

- ‌الفرع الثاني: أفعال العباد ومسألة "الكسب

- ‌المبحث الرابع: الإيمان

- ‌أولاً: الأقوال في الإيمان

- ‌ثانياً: مقدمات في عرض أصل الخلاف في الإيمان:

- ‌ثالثاً: ردود شي الإسلام على جمهور الأشاعرة في الإيمان:

- ‌المسألة الأولى: هل الإيمان التصدق فقط

- ‌المسألة الثانية: أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان والرد على المرجئة:

- ‌المسألة الثانية: الاستثناء في الإيمان:

- ‌المبحث الخامس: مسائل متفرقة

- ‌أولاً: الرؤية:

- ‌ثانياً: النبوات والمعجزات:

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المسألة السادسة: كلام الله:

‌المسألة السادسة: كلام الله:

يعتبر مذهب ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأتباعهم في كلام الله من المذاهب الجديدة التي لم يسبقوا إليها، ولذلك أصبحت هذه المسألة هي أخص مذهب الأشعري التي يكون الرجل بها مختصا بكونه أشعريا، أما سائر المسائل فليس لابن كلاب أو الأشعري بها اختصاص "بل ما قالا، قاله غيرهما، إما من أهل السنة والحديث، وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام، وأتبعه عليه الأشعري، فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف"(1) .

وهي مسألة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسألة الصفات الاختيارية، وقيامها بالله تعالى، بل مسألة الكلام إحدى أصولها الكبار.

وقبل عرض مذهب الأشاعرة فيه (2) ، ومنهج شيخ الإسلام في مناقشاته لهم، لا بد - لكي تتضح الصورة - من عرض خلاف الطوائف في مسألتين:

إحداهما: أقوالهم في مسمى "الكلام" ومن "المتكلم"؟

الثانية: أقوالهم في "كلام الله".

(1) درء التعارض (2/99)، وانظر التسعينية (ص: 149-288) .

(2)

انظر في مذهب الأشاعرة في كلام الله ما سبق في فصل تطور المذهب الأشعري، وأقوال أعلامهم فيه، ويمكن الإشارة إلى بعض كتبهم وأقوالهم في كلام الله، انظر: اللمع للأشعري (ص:17-18) ت مكارثي، والرسالة إلى أهل الثغر (ص:70-72) ، والتمهيد للباقلاني (ص:250-251) ت مكارثي، ورسالة الحرة - المطبوعة باسم الاتصاف (ص:80-143) حيث أطال جدا في شرح مذهب الأشاعرة، وانظر: مشكل الحديث لابن فورك (ص:169-192-194، 212-215) ، ط المكتبة العصرية، وأصول الدين للبغدادي (ص:106-108) ، والاعتقاد للبيهقي (ص:94-111) ، والأسماء والصفات له (ص:181-276) ، حيث شرح مذهب الأشاعرة وجمع في ذلك نصوصا كثيرة مع ذكر أقوال السلف، وحاول تأويلهابما لا يعارض مذهب الأشاعرة. وانظر: الإرشاد للجويني (ص:99-137)، ولمع الأدلة له (ص:89-93) ط الأولى، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص:73-83) ط دار الكتب العلمية، ونهاية الأقدام (ص: 268-317) ، والأربعين للرازي (صك173-184)، وغاية المرام للآمدي (ص:88-120) ، وطوالع الأنوار للبيضاوي (ص:78-79) ، والمواقف للإيجي - مع شروحه - (8/91-104) وغيرها.

ص: 1253

أولاً: الأقوال في مسمى "الكلام" و"المتكلم":

والمقصود مسمهما عند الإطلاق، ويلاحظ أن الخلاف في ذلك قد بنت عليه كل طائفة قولها في كلام الله تعالى.

والأقوال في مسمى "الكلام" أربعة:

1-

قيل هو اسم لمجرد الحروف، ومسماه هو اللفظ، وأما المعنى فليس جزء مسماه؛ بل هو مدلول مسماه، وهذا قول المعتزلة وغيرهم، فعندهم أن الكلام اسم للفظ بشرط دلالته على المعنى. ولذلك قالوا في كلام الله إنه مخلوق منفصل عن الله، لأن الكلام هو الألفاظ والحروف، وهذه لا يجوز أن تقوم بالله فجعلوها مخلوقة منفصلة.

2-

وقيل: هو اسم لمجرد المعنى، فمسماه هو المعنى، وإطلاق الكلام على اللفظ والحروف مجاز، لأنه دال عليه، وهذا قول الكلابيةوالأشعرية الذين يقولون إن الكلام هو المعنى المدلول عليه باللفظ. ولقولهم هذا قالوا في كلام الله إنه معنى قائم بالنفس، ليس بحروف ولا أصوات، ثم قالوا عن القرآن المتلو إنه ليس كلام الله، بل هو حكاية أو عبارة عن كلام الله، لأن الكلام عندهم هو المعنى فقط، أما إطلاق اللفظ عليه فمجاز.

3-

وقيل: إن الكلام يطلق على كل من اللفظ والمعنى بطريق الاشتراك اللفظي. وهذا قول بعض متأخري الأشعرية لجأوا إليه كمخرج من التناقض الذي وقعوا فيه، ومن هؤلاء الجويني والرازي (1) . ويلاحظ أن التعبير بالمشترك اللفظي لا يقتضي أن يكون بينهما تقارب في المعنى، بل هما يمنزلة المشتري الذي يطلق على الكوكب وعلى المبتاع.

(1) هذا هو القول الثاني للأشاعرة بعد القول السابق، وقد ذكر شيخ الإسلام أن للأشاعرة قولا ثالثا يروى عن أبي الحسن وهو: أن اللفظ مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين، لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائما بغير المتكلم، بخلاف الكلام القرآني فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أ، يكون كلامه. الإيمان (ص:162) .

ص: 1254

4-

وقيل: إن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعا، كم يتناول لفظ الإنسان للروح والبدن جميعا، وهذا قول السلف والفقهاء والجمهور الذين يقولون إن الكلام اسم عام لهما جميعا، يتناولها عند الإطلاق وإن كان مع التقييد يراد به هذا تارة، وهذا تارة. ولقول السلف هنا في الكلام قالوا في كلام الله تعالى - من القرآن وغيره مما تكلم به - إنه شامل للفظ والمعنى، وإن القرآن حروفه ومعانيه كلامه الله تعالى (1) .

أما أهم الأقوال في من "المتكلم" فثلاثة:

1-

أحدها أن المتكلم من فعل الكلام، ولو كان منفصلا عنه، فعله في غيره. وهذا قول المعتزلة والجهمية. وهؤلاء يقولون: هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات. ولذلك أنكروا صفة الكلام الثابتة لله، وقالوا إن كلام الله مخلوق.

2-

الثاني: أن المتكلم هو من قام به الكلام، ولو لم يكن بفعله، ولا هو بمشيئته وقدرته، وهذا قول الكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء يقولون: هو صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته. ولذلك قالوا في كلام الله إنه المعنى النفسي القائم بالله، وإن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء، بل كلامه أزلي قائم به كحياته وعلمه.

3-

الثالث: أن المتكلم من جمع الوصفين، فقام به الكلام وقدر عليه. فهو من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته، وقام به الكلام، وهذا قول السلف وأكثر أهل الحديث وطوائف من المرجئة والكرامية متعلق بمشيئته وقدرته. وهذا مطابق لمذهب السلف في كلام الله (2) .

(1) انظر في هذه الأقوال: الإيمان (ص:162) ط المكتب الإسلامي، ودرء التعارض (2/329، 10/222) ، والاستقامة (1/211) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/67) ، ومجموع الفتاوى (6/533) .

(2)

انظر: منهاج السنة (2/294) - ط دار العروبة المحققة، ودرء التعارض (10/222)، والتسعينية (ص:146) ، وشرح الأصفهانية (ص:67-69) - ت مخلوف.

ص: 1255

والخلاف في هاتين المسألتين: "الكلام" و"المتكلم" يوضح كيف وقع الخلاف في المسألة الأصل "مسألة كلام الله تعالى". التي وقع فيها خلاف عريض بين الطوائف.

ثانياً: الأقوال في "كلام الله":

الأقوال في كلام الله على وجه الإجمال ستة أو سبعة، وعلى وجه التفصيل عشرة أو تزيد، وأهم هذه الأقوال:

1-

أن كلام الله ليس صفة قائمة به، ولا مخلوقا منفصلا عنه، بل هو ما يفيض على النفوس إما من العقل الفعال أو غيره، حسب نظريتهم في الخلق، حيث إنهم يزعمون أن الله لا تقوم به الصفات، وليس خالقا باختياره، وليس عالما بالجزيئات. وهذا قول الفلاسفة والصائبة ومن وافقهم. وهؤلاء ربما سموا هذا الفيض كلاما بلسان الحال، وربما قالوا: إن الله متكلم مجازا.

2-

قول من قد يوافق الفلاسفة في أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من العقل الفعال أو غيره، لكن يقولون إن هذا الفيض يكون للأنبياء والأولياء، ثم إذا غلب عليهم القول بالإتحاد ووحدة الوجود قالوا: كل كلام في الوجود هو كلام الله، سواء نثره ونظامه، حسنه وقبيحه - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا - وهذا قول غلاة الصوفية وفلاسفتهم (1) .

3-

إن كلام الله مخلوق منفصل عنه، خلقه في غيره، وهذا قول المعتزلة والجهمية الذين ينفون أن تقوم بالله صفة من الصفات، لا حياة، ولا علم، ولا قدرة، ولا كلام.

4-

إن كلام الله معنى واحد قديم، قائم بذات الله أزلا وأبدا، هو الأمر بكر ما أمر الله به، والنهي عن كل ما نهي الله عنه، والخبر عن كل ما أخبر الله عنه، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة،

(1) لم يفرد شيخ الإسلام مذهب الطائفة بقول مستقل، وإنما جعل مذهبهم مع مذهب الفلاسفة، وكأنه اعتبره حالة تمر على بعض غلاتهم، ولكنه أشار إلى مذهبهم بوضوح في مجموع الفتاوى (6/316) .

ص: 1256

وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، والأمر والنهي والخبر عندهم ليست أنواعا ينقسم الكلام إليها، وإنما هي صفات إضافية، كما يوصف الشخص الواحد بأنه ابن لزيد، وعم لعمرو، وخال برك. ويقول هؤلاء إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه بغير حرف وصوت. وهذا قول ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهم. ثم هؤلاء افترقوا:

أفمنهم من قال: إنه معنى واحد في الأزل، وإنه في الأزل أمر ونهي وخبر. وهذا قول الأشعري.

ب ومنهم من قال: هو عدة معان: الأمر والنهي والخبر والاستخبار. وهذا قول ابن كلاب.

ت ومنهم من قال: بل يصير أمراً ونهيا عند وجود المأمور والنهي. وهو قول بعضهم.

5-

قول من يوافق الكلابية والأشعرية في أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولكنهم قالوا: القديم هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة لازمة لذات الرب أزلا وأبدا، لا يتكلم بها بمشيئته وقدرته، ولا يتكلم بشيء بعد شيء. ولم يفرق هؤلاء بين جنس الحروف وجنس الكلام، وبين عين الحروف الأزلية، بل كله قديم أزلي، وليست الباء قبل السين ولا السين قبل الميم.

وهذا قول السالمية ومن اتبعهم كابن الزاغوني وبعض أهل الحديث وغيرهم. ومن هؤلاء من يقول في الحروف: إن الترتيب يكون في ماهيتها لا في وجودها، كما أن من هؤلاء من يقول: إن ما يسمع من أصوات العباد بالقرآن أو بعضه هو الكلام القديم، وقد يصرحون بأنه صوت الله. وهذا أقوال باطلة ظاهرة الفساد.

6-

إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته بالقرآن العربي وغيره، وكلامه قائم به، لكنه حادث بذات الله، تكلم به بعد أن لم يكن متكلما، قالوا: ولم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون كلامه قديما لامتناع كون المقدور قديما. وهؤلاء يقولون: إن الله يتكلم بحروف وأصوات. وهذا قول الكرامية والهشامية ومن وافقهم.

ص: 1257

7-

"قول من يقولك كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته. ثم من هؤلاء من يقول: لم يزل ذلك حادثا في ذاته، كما يقوله أبو البركات صاحب المعتبر، ومنهم من لا يقول بذلك. وأبو عبد الله الرازي يقول بهذا القول في مثل المطالب العالية".

8-

"قول من يقول: كلامه يتضمن معنى قائما بذاته، وهو ما خلقه في غيره، ثم من هؤلاء من يقول في ذلك المعنى بقول ابن كلاب، وهذا قول أبي مصنرو الماتريدي، متشيعهم ومتصوفهم".

9-

"قول من يقول: كلام الله مشترك بين المعنى القديم بالذات، وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات. وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه من متأخري الأشعرية"(1) .

10-

قول أهل السنة والجماعة: وهو أن الله "لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء، وكيف شاء، بكلام يقوم به، وهو يتكلم بصوت يسمع، وإن نوع الكلام أزلي قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما"(2) . فهم يقولون: "إن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره، ولكن أنزله على رسوله، وليس القرآن أسماً لمجرد المعنى، ولا لمجرد الحرف، بل لمجموعهما، وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط، ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح، ولا مجرد الجسد، بل مجموعهما وإن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح، وليس ذلك كأصوات العباد، لا صوت القارئ ولا غيره، وإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته، فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه، ولا حروفه يشبه حروفه، ولا صوت الرب يشبه صوت العبد،

(1) منهاج السنة (2/281-282) ط دار العروبة - المحققة.

(2)

المصدر السابق (2/281) .

ص: 1258

فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته" (1) .

هذه خلاصة الأقوال في كلام الله (2) ،وبعضها - كما يلاحظ - قد يتشعب إلى أقوال أخرى، كما هي سنة الله في الاختلاف والافتراق أنه لا يقف عند حد معين.

والذي يهم من هذا الأقوال:

- قول الأشاعرة ومن تبهم.

- قول أهل السنة والجماعة، وموقفهم من مذهب الأشاعرة كما شرحه وأوضحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

رد شيخ الإسلام على الأشاعرة في كلام الله:

يلاحظ أن مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى يقوم على عدة أمور - بعد إثباتهم لصفة الكلام بإجمال ضمن الصفات السبع - فهم يقولون:

1-

إنه معنى قائم بالنفس، دون الحروف والألفاظ. وهذا ما يسمونه بالكلام النفسي، ومن ثم منعوا أن يكون كلام الله بحرف وصوت.

2-

وإنه قديم أزلي قائم بذات الله تعالى كحياته وعلمه، ولذا فهو لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، ولا يتكلم إذا شاء متى شاء.

(1) مجموع الفتاوى (12/243-244) .

(2)

انظر فيما سبق من الأقوال: الجواب الصحيح (2/162-163، 3/94-103) ، مسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/42-52) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى (12/163-173) ، ومنهاج السنة (2/278-286) ط دار العروبة المحققة (3/104-107) ط بولاق، درء التعارض (2/255)، شرح الأصفهانية (ص:341) ت العودة، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/165-166)، والنبوات (ص:202) ط دار الكتب العلمية، ومجموع الفتاوى (9/283-285) . وانظر: مختصر الصواعق (2/286-293)، وشرح الطحاوية (ص:179-180) ط المكتب الإسلامية الرابعة، وقد اعتمد شارح الطحاوية في نقل الأقوال على ما في منهاج السنة (2/278-286) . ط در العروبة، ت رشاد سالم.

ص: 1259

3-

وإنه معنى واحد لا يتجزأ، هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي عنه، والخبر عن كل مخبر عنه، إن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً.

4-

إن القرآن العربي عبارة عن كلام الله، إن القرآن العربي عبارة عن كلام الله، وهو مخلوق، أتى به جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو أوجده الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ. ودعموا مذهبهم هذا بمذهب اللفظية الذين قالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ولما كان الإمام أحمد وهو إمام أهل السنة قد أ، كر على الطائفتين وبدعهم: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال لفظي به غير مخلوق، لما في ذلك من اللبس وخلط الحق بالباطل - قالت الأشعرية: إن الإمام قصد باللفظ: النبذ والطرح، ولم يقصد التلاوة، وإنه قصد إنكار هذا المعنى على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق (1) .

5-

إن تكليم الله لملائكته وتكليمه لموسى، وتكليمه لعباده يوم القيامة، ومناداته لمن ناداه، إنما هو خلق إدراك في المستمع أدرك به ما لم يزل موجوداً (2) .

وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام وردوده على الأشاعرة في هذه المسائل متنوعة وكثيرة، إما في رسائل مستقلة أو ضمن كتبه المطولة، وأهمها ما جاء في كتبه التالية:

1-

قاعدة في القرآن وكلام الله.

2-

مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم.

3-

المسألة المصرية في القرآن.

4-

الكيلانية.

وهذه - مع رسائل وفتاوى غيرها - موجودة ضمن الجزء الثاني عشر الخاص بالقرآن، من مجموع الفتاوى.

(1) انظر في مسألة "اللفظ" ومذهب الأشعرية فياه وفي المقصود بكلام الإمام أحمد: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/359-364) .

(2)

انظر: درء التعارض (2/305-306) .

ص: 1260

5-

التسعينية. وقد اشتملت على مناقشة للأشاعرة من ثمانية وسبعين وجها (1) ، كلها للرد عليهم حول كلام الله. وهي مناقشات فريدة في هذا الباب.

ويمكن ذكر منهجه في ذلك كما يلي:

أولاً: نشأة قول الأشاعرة في كلام الله، وأسبابه:

قلما يعرض شيخ الإسلام لمسألة كلام الله وأقوال الكلابية والأشاعرة فيه إلا ويعرض لنشأة مذهبهم في ذلك، تلك النشأة التي أصبحت تمثل مذهبا خاصا بهم، تميزوا به عن غيرهم.

وقد بين شيخ الإسلام أن قول الأشاعرة في كلام الله جزء من مذهبهم في الصفات الاختيارية القائمة بالله، والتي نفوها لأجل دليل حدوث الأجسام والأعراض الذي استدلوا به على حدوث العالم - وقد سبق شرحه عند الكلام على توحيد الربوبية، وعلى ما نفوه من الصفات - وأول من ابتدع مقالة نفي الصفات الفعلية القائمة بالله ومقالة القول بقدم كلام الله وأنه معنى واحد ليس بحرف ولا صوت ابن كلاب، وتبعه على ذلك الأشاعرة.

فإن الناس قبل ابن كلاب كانوا في الصفات على قولين:

- قول أهل السنة الذين يثبتون جميع الصفات، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والوجه واليدين والعين والمجيء والنزول والاستواء والغضب والمحبة وغيرها، دون أن يفرقوا بين صفات الذات، وصفات الفعل المتعلقة بمشيئته وقدرته.

- وقول الجهمية والمعتزلة الذين ينفون جميع هذه الصفات دون تفريق.

(1) عرض شيخ الإسلام في بداية التسعينية لبعض المتعلقة بمحنته في مصر، وموقفه منها، وأهمها مسألة العلو والجهة ومسألة كلام الله، وبدأ في (_ص:30) مناقشة مسألة كلام الله والحرف والصوت، وفي (ص:138-143) نقل كلام الرازي في نهاية العقول، ثم رد عليه من ثمانية وسبعين وجها (ص:143-241) .

ص: 1261

- ولم يكن هناك قول ثالث غيرهما حتى جاء ابن كلاب فأثبت لله الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والإرادة والكلام والوجه واليدين، ونفي ما يتعلق بمشيئته وإرادته مما يقوم بذاته، من الصفات الاختيارية. وتبعه على ذلك الأشعري وجمهور الأشاعرة.

وكذلك كانوا في كلام الله على قولين:

- قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره. ولذلك قالوا بخلق القرآن.

- قول أهل السنة الذين يثبتون صفة الكلام وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلم موسى، ويكلم عباده يوم القيامة، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهذا شامل لحروفه ومعانيه، وأن نوع الكلام قديم وجنسه حادث بناء على أن الله يتكلم بمشيئته وإرادته.

- ولم يكن هناك قول ثالث حتى جاء ابن كلاب فابتدع القول بأن كلام الله قديم، وأنه معنى واحد، وأنه لا يتعلق بمشيئة الله وإرادته.

يقول شيخ الإسلام في جواب سؤال عن أن القول بأن كلام الله قديم، لا بصوت ولا حرف إلا معنى قائم بذات الله، هو قول الأشعرية - فقال: "هذا صحيح ولكن هذا القول أول من قاله في الإسلام عبد الله بن كلاب، فإن السلف والأئمة، كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات، والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته. والجهمية تنكر هذا وهذا، فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة، وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته

" (1) ، ثم ذكر أن الأشعري وافق ابن كلاب على قوله.

وابن كلاب والأشعري إنما ابتدعا هذا القول - في كلام الله وفي الصفات الاختيارية - لتقصيرهما في علم السنة، وتسليمهما للمعتزلة أصولا فاسدة، فصارا يوافقان المعتزلة في بعض أصولهم وإن لم يكونا موافقين لهم بإطلاق (2) .

(1) المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى - (12/178) .

(2)

انظر: الاستقامة (1/212) .

ص: 1262

وقد نقل شيخ الإسلام نصا لأبي نصر السجزي في رسالته المعروفة إلى أهل زبيد - والتي تسمى باسم: الرد على من أنكر الحرف والصوت - بين فيه نشأة قول ابن كلاب ومن اتبعه في كلام الله فقال: "اعلموا - أرشدنا الله وإياكم - أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والأشعري وأقرانهم - الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم، بل أخس منهم في الباطن - من أن الكلام لا يكون إلا حرفا وصوتا، ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت به اللغات، وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف متسقة، وأصوات مقطعة، وقالت [العرب] (1) - يعني علماء العربية (2) -: الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل زيد وعمرو، والفعل مثل جاء وذهب، والحرف الذي يجيء لمعنى مثل هل وبل وقد، وما شاكل ذلك، فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفا وصوتا.

فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه، وحاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة، ولا ما كان السلف عليه، ولا يحتجون بالأخبار الواردة في ذلك، زعما منهم أنها أخبرا آحاد وهي لا توجب علما، وألزمتهم المعتزلة أن الإتفاق (3) حاصل على أن الكلام حرف وصوت، ويدخله التعاقب والتأليف

قالوا: فعلم بهذه الجمة أن الكلام المضاف إلى الله تعالى خلق له، أحدثه وأضافه إلى نفسه، كما نقول: خلق الله، وعبد الله، وفعل الله.

فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن، وتركهم قبولها، وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فإلتزموا ما قالته المتزلة، وركبوا مكابرة العيان، وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر،

(1) ليست في درء التعارض، وهي في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص:89) - ط على الآلة الكاتبة.

(2)

شرح من شيخ الإسلام.

(3)

هكذا في الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:90) ، والذي في درء التعارض (2/84) [وألزمتهم المعتزلة الاتفاق على أن الاتفاق حاصل

] .

ص: 1263

وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما سمى ذلك كلاما على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم، فمنهم من اقتصر على هذا القدر، ومنهم من احترز عما عمل دخوله على هذا الحد، فزاد فيه: "تنافي (1) السكوت والخرس والآفات المانعة فيه (2) من الكلام، ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم، وإثبات اللغة تشبيه، وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل:

إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا (3)

فغيروه وقالوا:

إن الكلام من الفؤاد (4) " (5) .

ثم نقل شيخ الإسلام نصوصا أخرى للسجزي وللكرجي، ولأبي حامد الإسفراييني الذي اشتهر عنه مخالفة ابن كلاب والأشاعرة في مسألة كلام الله، التي تطرق إليها في أصول الفقه عند الكلام على صيغ الألفاظ، وأن الأمر هل هو أمر لصيغته أو لقريبنة تقترن به (6) .

(1) في الرد على من أنكر الحرف [ما ينافي] .

(2)

[فيه] ليست في الرد على من أنكر الحرف.

(3)

لم أجده في ديوانه - صنعة السكري - وكثيرا ما يورده الأشاعرة في كتبهم. انظر التمهيد للباقلاني (ص:251) ت مكارني، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص:75) ، وغاية المرام (ص:97) ، وذكر المحقق في الحاشية أن بعض طابعي ديوان الأخطل أضافوا هذا البيت إلى ما نسب غليه. وانظر الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:92-93) - حاشية المحقق. وقال شيخ الإسلام في الإيمان (ص:132) ط المكتب الإسلامي: "من الناس من أنكر أن يكون هذا من شعره، وقالوا: إنهم فتشوا دواوينه فلم يجدوه. وهذا يروى عن أبي محمد الخشاب. وقال بعضهم: لفظه: إن البيان لفي الفؤاد

"، وانظر: مجموع الفتاوى (6/296-297) .

(4)

في الرد على من أ، كر الحرف والصوت (ص:92) :

أن الكلام من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا

(5)

درء التعارض (2/83-86)، وقارن بالرد على من أنكر الحرف والصوت (ص:87-92) . ط على الآلة الكاتبة.

(6)

انظر: درء التعارض (2/95-108) .

ص: 1264

ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقا على هذه النصوص التي نقلها، مبينا الأصل والسبب الذي حدا بابن كلاب والأشعري إلى أن يقولا في كلام الله ما قالا، - قال -: "وإنما اضطر ابن كلاب والأشعري ونحوهما إلى هذا الأصل، أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، لا فعل ولا تكلم ولا غير ذلك، وقد تبين لهم فساد قول من يقولك القرآن مخلوق، ولا يجعل لله تعالى كلاما قائماً بنفسه، بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره، وعرفوا أن الكلام لا يكون معفولا منفصلا عن المتكلم، ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه، بل إذا خلق الله شيئاً من الصفات والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل، لا لله،

وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف، مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم، ولازم هذا أن من قال: القرآن العربي مخلوق، أن لا يكون القرآن العربي كلام الله، بل يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه

والمقصود هنا: أن عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به، فما لا يكون إلا بائنا عنه لا يكون كلامه، كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، فقالوا:"منه بدأ" ردا على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره. ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر:1) وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (السجدة: من الآية13) وأمثال ذلك.

ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل، وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدوراً له متعلقا بمشيئته، بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة، فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا مالا يكون مقدوراً مرادا، قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة، فأثبتوا معنى واحد، مل يمكنهم إثبات معان متعددة، خوفا من إثبات مالا نهاية له، فاحتاجوا أن يقولوا معنى واحدا، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين، بل جمهور العقلاء عليهم.

ص: 1265

وأنكر الناس عليهم أمورا:

- إثبات معنى واحد، هو الأمر والخبر.

- وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به، وأن الكلام المنزل ليس هو كلام اله.

- وإن التوراة والإنجيل والقرآن إنما تختلف عباراتها، فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن.

- وإن الله لا يقدر أن يتكلم، ولا يتكلم بمشيئته وإختياره.

- وتكليمه لمن كلمه من خلقه - كموسى وآدم - ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط.

ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى وبكل موجود، فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع، كما يقوله أبو الحسن.

ومنهم من يقول: بل كلام الله لا يسمع بحال، لا منه ولا منه غيره؛ إذ هو معنى، والمعنى يفهم ولا يسمع، كما يقوله أبو بكر ونحوه.

ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القارئ مع صوته المسموع منه، كما يقول ذلك طائفة أخرى.

وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة، وإنما الجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير، وإذا انتفى اللازم انتفي الملزوم

" (1) .

فهذه الأصول الفاسدة - مع عدم المعرفة التامة بأصول السنة - هي التي أوقعت الكلابية والأشعرية في هذه البدعة الكبرى في كلام الله، كما شرحه قبل قليل السجزي المتوفي سنة 44هـ، ثم بينه وزاده تحقيقا شيخ الإسلام ابن تيمية.

(1) درء التعارض (2/111-115) .

ص: 1266

ومما سبق يتبين أن هذا القول بقدم القرآن وأنه معنى واحد أول من ابتدعه ابن كلاب (1)، وأن الذين اتبعوه في أقواله في كلام الله - بناء على نفي الصفات الاختيارية القائمة بالله - طائفتان:

الطائفة الأولى: الأشارعة من اتبعهم، وهؤلاء قالوا بقول ابن كلاب تماماً، ولم يخالفوه إلا في ثلاث مسائل:

أإحداها: مسألة أزلية الأمر والنهي، أي هل كان في الأزل آمرا وناهيا؟ أو صار آمرا ناهيا بعد أ، لم يكن، أي عند وجود المأمور والمنهي.

الأول: وهو القول بأزلية الأمر والنهي هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (2) .

ب والثانية: أن الكلام مع القول بقدمه وأزليته وأنه معنى واحد: هل هو صفة واحدة، أو خمس صفات، الأول هو قول الأشعري، والثاني قول ابن كلاب (3) .

ت والثالثة: أن القرآن حكاية عن كلام الله عند ابن كلاب، وعبارة عنه عند الأشعري.

والطائفة الثانية: السالمية ومن اتبعهم، جعلوا الأزلية للحروف والأصوات، ليجمعوا بين: موافقة ابن كلاب على نفي أن تقوم بالله الصفات الاختيارية،

(1) انظر في ذلك: شرح الأصفهانية (ص:324-325) ت السعوي، ومجموع الفتاوى (12/301-302) ، وشرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/533،552-553) .

(2)

انظر ما سبق (ص:450) في ترجمة ابن كلاب، وانظر الكيلانية - مجموع الفتاوى (12/376) .

(3)

انظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/376)، وانظر أيضاً: في مذهب الكلابية والأشعرية في كلام الله: درء التعارض (2/172-173، 304-307)، شرح الأصفهانية (ص:27) ت مخلوف، التسعينية (ص:85-87) ، مجموع الفتاوى (6/251، 7/662، 12/245-526) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/53، 86-87) ، الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/392) .

ص: 1267

وموافقة الجمهور على أن الكلام ألفاظ ومعاني (1) .

وابن كلاب ومن اتبعه من هاتين الطائفتين مخالفون لأقوال جمهور السلف وأئمة الحديث والسنة، بل وجمهور العقلاء.

ومما سبق من بيان نشأة قول الأشاعرة في كلام الله وأسبابه والأصول التي قادتهم إلى أقوالهم يتبين ما يلي:

1-

أن قولهم هذا مبتدع في الإسلام، خالفوا فيه إجماع الناس.

2-

أن ادعاء الأشاعرة أن قولهم موافق لقول السلف غير صحيح؛ لأن مذهب السلف كان معروفا قبل ابن كلاب، ولما ابتدع مقالته تلك اشتد نكير جماهير اسلف عليه وعلى أتباعه.

3-

أن أتباع ابن كلاب انقسموا إلى طائفتين: الأشعرية، والسالمية، وكل طائفة تطعن في قول الطائفة الأخرى. وهذا يدل على بطلانهما جميعاً.

4-

بطلان دعوى الإجماع التي ادعوها على صحة قولهم (2) .

ثانياً: الرد عليهم في قولهم بالكلام النفسي:

أثبت الأشاعرة - بإجمال - صفة الكلام لله، وقالوا - خلافا للمعتزلة والجهمية وغيرهم من النفاة - إن هذه الصفة ثابتة، قائمة بالله تعالى، ولكنهم فسروها بأنها معنى يقوم بذات الله، لازم له أزلا وأبدا، وسموا هذا المعنى بالكلام النفسي، وقالوا إن هذا المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الرب وشيء منه عند الملائكة، بل اسماع الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط (3) .

(1) انظر في قول هذه الطائفة ومناقشتها: منهاج السنة (2/101-102) ط مكتبة الرياض الحديثة، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/370-371)، التسعينية (ص:96-101) ، منهاج السنة (3/105) ط بولاق، شرح حديث النزول - مجموع الفتاوى - (5/556-557) ، ومجموع الفتاوى (9/284) .

(2)

أطال شيخ الإسلام في مناقشة هذه الدعوى، فناقشها في التسعينية، الأوجه:(8-11، 26-29) ، انظر الصفحات (147-151، 169-172) . وهي مناقشات مهمة جدا ناقش فيها أيضاً منهج الأشاعرة وأهل الكلام في دعواهم الإجماع على أقوالهم.

(3)

انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/52) .

ص: 1268

فحصروا الكلام بما يقوم بالنفس، وأنه لازم للذات لا ينفك عنها، وأن الألفاظ والحروف ليست كلاما. وقد احتجوا لأقوالهم بعدة حجج منها:

1-

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِم} (المجادلة: من الآية8) .

2-

وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} (لأعراف: من الآية205) .

3-

قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الملك:13) . فسمى الإسرار قولا.

4-

وقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} (آل عمران: من الآية41) .

وقو عمر رضي الله عنه: "زورت في نفسي مقالة أردت أن أقولها"(1) .

6-

وقول الأخطل السابق:

إن الكلام لفي الفؤاد

..

هذه أهم حججهم على الكلام النفسي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه الحجج، وبين أنه لا دليل لهم فيها:

1-

أما قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} (المجادلة: من الآية8) فعنه جوابان:

أحدهما: أن المراد أنهم قالوه بألسنتهم سرا، وحينئذ فلا حجة لهم فيه. وهذا هو الذي ذكره المفسرون، حيث كانوا يقولون: سام عليك، فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم، أي يقول بعضهم لبعض: لو كان نبيا عذبنا بقولنا له ما نقول (2) .

(1) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب رجم الحبلي من الزنا إذا أحصنت، حيث ساق حديث السقيفة بطوله، ورقمه (6830)(الفتح 12/144-145) ، ورواه أ؛ مد (1/55-56) ، ورقمه عند أحمد شاكر (391) .

(2)

انظر: الإيمان (ص:129) ط المكتب الإسلامي، ومجموع الفتاوى (15/35) .

ص: 1269

والثاني: إنه قيده بالنفس، وهذا على أن المقصود أنهم قالوه بقلوبهم، وإذا قيد القول بالنفس كان دلالة المقيد خلاف دلالة المطلق، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل"(1) ، وهذا رد عليهم مطلقاً لأنه قال "ما لم تتكلم" فدل على أن حديث النفس ليس هو الكلام المطلق.

2-

وأما قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَة} (لأعراف: من الآية205) فالمقصود الذكر باللسان لأنه قال (تضرعا وخيفة ودون الجهر منالقول) ، ومن استقراء النصوص يتبين أن الذي يقيد بالنفس لفظ "الحديث"، مثل الحديث السابق:"وما حدثت به أنفسها"، أما لفظ "الكلام" فلم يعرف أنه أريد به ما في النفس فقط (2) .

3-

أما قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ} (الملك: من الآية13) واحتجاجهم على أن القول المسر في القلب دون اللسان لقوله تعالى في آ×ر الآية {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، ف-"هذه حجة ضعيفة جداً، لأن قوله {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ} يبين أن القول يسر به تارة، ويجهر به أخرى، وهذا إنما هو فيما يكون في القول الذي هو بحروف مسموعة، وقوله بعد ذلك: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه إذا كان عليما بذات الصدور فعلمه بالقول المسر والمجهور به أولى"(3) .

4-

أما قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} (آل عمران: من الآية41) فقد ذكر في مريم {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} (مريم: من الآية10) والمعنى: آيتك ألا تكلم الناس، لكن ترمز لهم رمزاً" (4) .

(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب إذا خنث ناسيا في الأيمان ورقمه (6664)(الفتح 11/548-549) ، ومسلم، كتاب الأيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس ورقمه (127) .

(2)

انظر: ألإيمان (ص:130) .

(3)

مجموع الفتاوى (15/36)، وانظر: الإيمان (ص:130) .

(4)

الإيمان (ص:131) .

ص: 1270

5-

أما قول عمر في قصة السقيفة "زورت في نفسي مقالة" فهي حجة عليهم، لأن التزوير: إصلاح الكلام وتهيئته، "فلفظها يدل على أنه قدر في نفسه ما يريد أ، يقوله ولم يقله، فعلم أنه لا يكون قولا إلا إذا قيل باللسان، وقبل ذلك لم يكن قولا، لكن كان مقدرا في النفس، يراد أن يقال، كما يقدر الإنسان في نفسه أنه يحج وأنه يصلي، وأنه يسافر، إلى غير ذلك، فيكون لما يريده من القول والعمل صورة ذهنية مقدرة في النفس، ولكن لا يسمى قولا وعملا إلا إذا وجدت في الخارج

(1) " وهذا يدل عليه الحديث السابق: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل.

6-

أما البيت المنسوب للأخطل، ففيه ما فيه من ناحية صحة نسبته إليه، حتى ألفاظ البيت حرفت لتوافق مقصود من استشهد هب من أهل الكلام، وقد تعجب شيخ الإسلام من هؤلاء الذين يحتجون بهذا البيت الذي قاله نصراني، ولم يثبت عنه - فقال:"ولو احتج محتج في مسألة بحديث أخرجاه في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول، وهذا البيت لم يثبت نقله عن قائله بإسناد صحيح لا واحد وأكثر من واحد، ولا تلقاه أهل العربية بالقبول (2) ، فكيف يثبت به أدنى شيء من اللغة، فضلا عن مسمى الكلام"(3) ، وقد أطال شيخ الإسلام في المناقشة ما يشفي ويكفي (4) .

هذه أدلة الأشاعرة النقلية واللغوية على قولهم بالكلام النفسي، مع بيان بطلان استدلالهم فيها، وبيان أنها في الرد عليهم أقرب من أن تكون دليل لهم.

وشيخ الإسلام لم يقتصر مثل هذه الردود، وإنما ناقش حقيقة مذهبهم في الكلام النفسي، وأن قولهم فيه باطل، وقد جاءت هذه المناقشة المهمة في التسعينية

(1) الإيمان (ص:131-132) ط المكتب الإسلامي.

(2)

بحثت عن هذا البيت في لسان العرب - من خلال فهارسه المطولة التي بلغت سبعة مجلدات- فلم أجده، وكذا في كتب اللغة الأخرى.

(3)

الإيمان (ص:132) .

(4)

انظر: المصدر السابق (ص:132-134) .

ص: 1271

من خلال عدد من الأوجه (1)، ويمكن تلخيص مناقشاته هذه بما يلي:

اعترض على دعوى الأشاعرة بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس فقيل لهم: أنتم قتلم إن الكلام هو الخبر والأمر والنهي، وأن ذلك كله معنى يقوم بالنفس، فيقال لكم إذا كان الكلام عندكم لا صيغة له فما الفرق بين الخبر والعلم، وبين الأمر والنهي والإرادة؟ لأن الخبر - بدون صيغة وألفاظ - ليس غير العلم الذي يقوم بالنفس، وكذا الأمر والنهي - بغير صيغة ولفظ الأمر والنهي - ليس غير الإرادة التي تقوم بالنفس. وإذا صح هذا كان إثباتكم للكلام النفسي على أنه الخبر والأمر والنهي إنما يرجع إلى صفتي: العلم والإرادة، والنتيجة أن قولكم يؤدي إلى إنكار صفة الكلام، لأن ما أثبتموه من الكلام النفسي لم يكن غير العلم والإرادة.

أجاب الأشاعرة عن ذلك - كما يعبر عنهم الرازي - بما يلي:

أبالنسبة للخبر أن قالوا بأن الإنسان قد يحكم بما لا يعتقده ولا يظنه، أي أنه قد يخبر بخبر هو فيه كاذب، مع علمه بخلاف الخبر، فيكون أ×بر بخلاف علمه. وهذا يدل على مغايرة الخبر للعم.

ب وبالنسبة للأمر والنهي قالوا: إن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد، فالله أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه كونا، ونهاه عن الكفر، وأراده منه كونا، قاولا فهذا يدل على أن الأمر والنهي قد يكون مغايرا للإرادة (2) .

وقد نوقش الأشاعرة في جوابهم بما يلي:

أأجاب بعضهم بأن الخبر يؤول إلى العلم، بناء على أن بعض الناس قال في الكلام إن الأمر والنهي يؤول إلى الخبر، وإذا كان كذلك فلم لا يؤول الخبر أيضاً إلى العلم. ولكن شيخ الإسلام ضعف هذا الجواب بناء على أن الإنسان يجد في نفسه فرقا بين الطلب والخبر (3) .

(1) انظر: التسعينية الوجه الثاني عشر إلى الوجه الخامس والعشرين (ص:151-169) .

(2)

انظر: التسعينية (ص:140-154) .

(3)

انظر: المصدر السابق (ص:152-154) الوجه الخامس عشر.

ص: 1272

ثم إنه أجاب عن ذلك بأن الرازي والأشاعرة إذا كانوا قد أجابوا عن مسألة الأمر والنهي بأن الله قد يأمر بما لا يريد - ومعهم في هذا حق بالنسبة للإرادة الكونية - إلا أنهم لم يمكنهم أن يقولوا: إن الله أخبر بما لا يعلمه، أو بما يعلم ضده، بل علمه من لوازم خبره ولهذا أخبر الله تعالى عن رسوله بأن القرآن لما جاءه، جاء العلم فقال تعالى:{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (آل عمران: من الآية61) وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (البقرة: من الآية120) ، وهذا مما احتج به الأئمة على تكفير من قال بخلق القرآن، لأن الله أخبر أن هذا الذي جاءه من العلم، وقول المتعزلة يستلزم أن يكون علم الله مخلوقا (1) .

أما دعوى أن الإنسان قد يحكم أو يخبر بخلاف علمه - وهي حجة الرازي التي سبقت - فإن شيخ الإسلام رد عليها من وجوه:

أحدها: أن الأشاعرة أنفسهم قد أقروا بفسادها؛ وذلك "أنهم يحتجون على وجوب الصدق لله بأن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب العلم لله، وامتناع الجهل، وهذا الدليل قد ذكره جميع أئمتهم حتى الرازي ذكره - لكن قال: إنما يدل على صدق الكلام النفساني لا على صدق الحروف الدالة عليه - وإذا جاز أن يتصف الحي بحكم نفساني لا يعلمه ولا يعتقده ولا يظنه، بل يعلم خلافه، امتنع حينئذ أن يقال: الحكم النفساني مستلزم للعلم، أو أنه يمتنع أن يكون بخلاف العلم فيكون كذبا. وهذا الذي قالوه تناقض في عين الشيء، ليس تاقضا من جهة اللزوم

" (2) ، ووجه التناقض واضح فإنهم لما أرادوا أن يقولوا أن الخبر قد يغاير العلم استدلوا بأن الإنسان قد يحكم ويخبر بخلاف علمه مما هو كذب، فيكون خبره مخالفا لعلمه، ثم قالوا في الاستدلال على أن الله صادق أن الكلام النفساني يمتنع فيه الكذب لوجوب اعلم لله وامتناع الجهل، وعليه فيمتنع أن يكون في خبر الله ما يخالف علمه، وهذا يناقض القول السابق

(1) انظر: التسعينية (ص:154) .

(2)

التسعينية (ص:155)، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/129) .

ص: 1273

بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه، وإذا علم أن أصل المسألة إنما يتعلق بخبر الله وعلمه لا خبر الإنسان وعلمه بأن تناقضهم، ولم يدهم شيئاً كون ذلك قد يقع للإنسان، لأنهم إنما احتجوا بذلك ليتوصلوا به إلى صحة مغايرة الخبر للعلم بالنسبة لله، وهم يقولون إن خبر الله لا يخالف علمه.

الثاني - تناقضهم أيضاً في مسألة الإيمان، فإنهم يقولون - كما يقول الجويني - "إن حقيقة الإيمان التصديق بالله تعالى، فالمؤمن بالله من صدقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس، ولا يثبت كلام النفس إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد"(1)، قال شيخ الإسلام مبينا تناقضهم:"وهذا تصريح بأنه لا يكون [أي الإيمان والتصديق] مع عدم العلم، ولا يكون على خلاف المعتقد، وهذا يناقض ما أثبتوا به كلام النفس وادعوا أنه مغاير للعم"(2) ، ويلاحظ هنا أن الجويني صرح بأن التصديق - على التحقيق - كلام النفس، ثم صرح بأنه لا يكون النفس إلا مع العلم. وهذا مناقض تماما لما ذكروه في الكلام النفسي.

ولبعض الأشاعرة تناقض آخر في مسألة الإيمان، حيث صرح أبو إسحاق بأن الإيمان هو التصديق، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالمعرفة والإقرار، وإذا كان من المعلوم أن الإقرار إنما يكون باللسان، كن هذا مناقضا لما ادعوه من أن الكلام مجرد ما يقوم بالنفس (3) .

الثالث: أن دعواهم - في مغايرة الخبر للعلم - بأن الإنسان قد يخبر بخلاف علمه مما هو كذب "يهدم عليهم إثبات العلم بصدق الكلام النفساني القائم بذات الله، وإذا فسد ذلك لم ينفعهم إثبات كلام له يجوز أن يكون صدقا أو كذبا، بل لم ينفعهم إثبات كلام لم يعلموا وجوده إلا وهو كذب؛ فإنهم لم يثبتوا الخبر النفساني إلا بتقدير الخبر الكذب، فهم لم يعلموا وجود خبر نفساني

(1) الإرشاد للجويني (ص:397)، وهو في التسعينية (ص:157) .

(2)

التسعينية (ص:157)، وانظر بقية المناقشة إلى ص:162.

(3)

انظر: التسعينية (ص:160-161) .

ص: 1274

إلا ما كان كذبا، فإن أثبتوا لله ذلك كان كفرا باطلا خلاف مقصودهم، وخلاف إجماع الخلائق، إذ أحد لا يثبت لله كلاما لازما لذاته هو كذب، وإن لم يثبتوا ذلك لم يكن لهم طريق إلى إثبات الخبر النفساني بحال، لأنا حينئذ لم نلم وجود معنى نفسانيا صدقا غير العلم ونحوه لا شاهدا ولا غائبا" (1) .

الرابع: أنه الله تعالى قال: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: من الآية33)"فنفي عنهم التكذيب وأثبت الجحود، ومعلوم أالتكذيب باللسان لم يكن منتفيا عنهم، فعلم أنه نفي عنهم تكذيب القلب، ولو كان المكذب الجاحد علمه يقوم خبر نفساني لكانوا مكذبين بقلوبهم، فلما نفي عنهم تكذيب القلوب علم أن الجحود الذي هو ضرب من الكذب، والتكذيب بالحق المعلوم - ليس هو كذبا في النفس ولا تكذيبا فيها، وذلك يوجب أن العالم بالشيء لا يكذب به ولا يخبر في نفسه بخلاف علمه"(2) ، وقد اعترض على هذا باعتراض أجاب عنه شيخ الإسلام (3) .

ولشيخ الإسلام مناقشات وأوجه أخرى في الرد (4) . وبهذه الأوجه يتبين أن ما ادعاه الأشاعرة من أن الخبر يغاير العلم غير صحيح بالنسبة لله، وإذا ثبت هذا تبين أن إثباتهم للكلام النفسي ليس شيئاً غير صفة العلم، فأين صفة الكلام التي أثبتوها مغايرة لصفة العلم؟.

ب أما بالنسبة لقولهم في مغايرة الأمر والنهي للإرادة بأن الله قد يأمر بما لا يريد، فقد أجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأجوبة منها:

الأول: أنه احتج بإرادة الكائنات، وهذا في الإرادة الشاملة لكل موجود المنتفية عن كل معدوم وهي الإرادة الكونية القدرية، وهذه ليست الإرادة التي هي مدلول الأمر والنهي، لأن هذه مستلزمة للمحبة الرضا. وقد جاءت

(1) التسعينية (ص:162) ، وانظر (صك163) .

(2)

المصدر السابق (ص:165) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (ص:165-166) .

(4)

انظر: المصدر نفسه (ص:166-169) .

ص: 1275

النصوص بالتفريق بن الإرادتين، فالكونية مثل قوله تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} (الأنعام: من الآية125) والثانية مثل قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: من الآية6) ، وغيره كثير (1) .

الثاني: أن احتجاج الرازي بإرادة الكائنات - وهي الإرادة الكونية - وأن الله قد يأمر بما لا يريد - معارض بأن النهي مستلزم لكراهة المنهي عنه، كما أن الأمر مستلزم لمحبة المأمور به، والمكروه لا يكون مرادا - شرعا -. والمنهي عنه إذا وقع - يعتوره أمران:

- أنه مراد إرادة كونية شاملة.

- وأنه غير مراد الإرادة الدينية، بل هو مكروه.

فالإرادة المنفية عن المكروه الواقع غير الإرادة اللازمة له، وكل منهي عنه وإن كان مرادا فهو مكروه والكراهة مستلزمة له، فإجابة الرازي بأن إرادة الكائنات فهيا ما هو منهي مردودة بأن ما كان منها منهيا عنه فهو مكروه، فزلمت الكراهية النهي وإن كان مرادا كونا وهذا يضعف احتجاجه بأن الله قد ينهي عما يريد. وقد أجاب الرازي بقوله: لا نسلم أنها مكروهة، بل هي منهي عنها. ولكن هذا الجواب مخالف لإجماع المسلمين بل لما علم بالضرورة من الدين، والله تعالى يقول:{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (الاسراء:38)(2) .

الثالث: أن الرازي لما طولب بالفرق بين الطلب والإرادة ذكر وجهين ضعيفين، ذكرهما شيخ الإسلام وناقشهما (3) .

(1) انظر: التسعينية (ص:151) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص:152) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (ص:151-152) .

ص: 1276

ومع ذلك فإن شيخ الإسلام قد ذكر أن تفريق الأشاعرة بني الخبر والعلم ليس عندهم فيه أي دليل صحيح، بخلاف تفريقهم بين الأمر والنهي وبين الإرادة، بأن الله قد يأمر بما لا يريد، مع ما في هذا الدليل مما سبق بيانه (1) .

وبما سبق من مناقشة أدلة الأشاعرة على الكلام النفسي، وما تلاه من اعترض عليهم بأنه لا فرق بين الخبر والعل، ولا بين الأمر والنهي والإرادة، ما داموا حصر الكلام بأنه ما قام بالنفس فقط، فصفتا العلم والإرادة تقومان مقامه.

ثالثاً: الرد عليهم في قولهم بقدم الكلام وأن الله لا يتكلم بمشيئته:

وهذا مبني - كما سبق - على نفيهم لقيام الصفات الاختيارية بالله، فقالوا بقدم الكلام ومنعوا أن يكون الله يتكلم إذا شاء متى شاء، ومذهب أهل السنة والجماعة إن الله لم يزل مت كلما إذا شاء، وأن كلام اله لآدم أو لموسى أو للملائكة، كل في وقت تكليمه ومناداته، أي أنه تعالى لم يناد موسى قبل خلقه ومجيئه عند الشجرة، وإن كانت صفة الكلام أزلية، وقد بنى أهل السنة مذهبهم على مقدمتين:

- على أن الأمور الاختيارية تقوم بالله.

- وعلى أن كلام الله لا نهاية له كما قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف:109) وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} (لقمان: من الآية27)(2) .

وقد ذكر السلف - توضيحا لمذهبهم، وتميزاً له عن مذهب الكلابية والأشعرية ومن اتبعهم - أن الله يوصف بالسكوت، وأنه إذ اشاء تكلم وإذا شاء سكت، وكان من أشهر ما وقع في ذلك قصة ابن خزيمة مع الكلابية

(1) انظر: التسعينية (ص:154-155) .

(2)

انظر: منهج السنة (2/98) ط مكتبة الرياض الحديثة.

ص: 1277

- وكان ممن اعتنق مذهبه بعض تلامذته - فجرت ذكرها الحاكم في تاريخ نيسابور، ونقلها وعلق عليها شيخ الإسلام (1) ، وأشار أبو إسماعيل الأنصاري إلى هذه القصة في مناقب أحمد بن حنبل، ومما قاله فيها:"وجاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثا"(2)، ثم قال بعد ذكره لموقف أبي بكر بن خزيمة من هؤلاء:"فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر، فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر ولقن في الكتاتيب، ونقض في المحاريب: إن الله متكلم، إن شاء الله تكلم وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوفير نبيه خيرا"(3) .

ويلاحظ التنصيص على ألفاظ واضحة البيان في مخالفة مذهب الكلابية والأشعرية، ومن ذلك قول ابن خزيمة - كما قصته مع الكلابية -: "الذي أقول به إن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن شيئاً منه، ومن (4) وحيه وتنزيله مخلوق، أو يقول: إن الله لا يتكلم بعدما كان يتكلم به في الأزل

فهو عندي جهمي يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه" (5) .

وذكر عن ابن خزيمة أيضاً أنه قال: "زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام فهم لا يفهمون كتاب الله

" (6) .

ولهذا لما كان مذهب الأشاعرة نفي ما يقوم بالله من الصفات الاختيارية بناء على ني حلول الحوادث، ومن ثم منعوا أن يقال: إن الله يتكلم إذا شاء متى شاء كلاما قائما به، وإنه يتكلم شيئاً بعد شيء - أجابهم شيخ الإسلام بقوله:

(1) في درء التعارض (2/9-10، 78-83) ، ومجموع الفتاوى (6/169-177) .

(2)

درء التعارض (2/76-77) .

(3)

عن درء التعارض (2/77-78)، وشرح الأصفهانية (ص:202-203) ت السعوي.

(4)

كذا في درء التعارض وفي مجموع الفتاوى [وعن] .

(5)

درء التعارض (2/79) ، ومجموع الفتاوى (6/170) .

(6)

نفس المصدر السابقين: درءا لتعارض (2/79) ، ومجموع الفتاوى (6/171) .

ص: 1278

"قلنا من أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل، وهو قول لازم لجميع الطائف (1)

" (2) .

والنصوص الدالة على إثبات صفة الكلام لله - على وفق مذهب السلف - كثيرة جدا، بل إن فيها أن الله يد يوصف بالسكوت، ومن هذه الأدلة:

1-

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل:8) وقوله: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} (القصص:30) وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} (النازعات: من الآية 15-16) وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى} (طه:11)، قال شيخ الإسلام معلقا على هذه النصوص:"وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي، ولم يناد قبل ذلك، ولما فيها من معنى الظرف"(3) .

2-

ومن ذلك قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} (القصص:65)، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (القصص:74) فإنه وقت النداء بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه" (4) .

3-

"ومثل هذا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: من الآية30) وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (البقرة: من الآية34) وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين، فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته"(5) . وهذه النصوص

(1) كما صرح بذلك الرازي نفسه، حيث ذكر أن القول بحلل الحوادث لازم لجميع الطوائف ومنهم الأشاعرة، انظر تصريحه بذلك واعترافه به في المطالب العالية (2/106-111) ت السقا ط 1407هـ.

(2)

منهاج السنة (2/298) ط دار العروبة المحققة.

(3)

مجموع الفتاوى (12/131) .

(4)

المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة.

(5)

المصدر السابق - نفس الجزء والصفحة.

ص: 1279

واضحة الدلالة في الرد عليهم، لأنه إذا كانت دالة على أن الله تكلم بالكلام المذكور، في ذلك الوقت، فكيف يقال إنه كان أزليا أبديا، وهل يمكن أن يقال أن لم يزل ولا يزال قائلاً {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} ، {اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا} (هود: من الآية48) ؟ (1) .

4-

أما الأحاديث في ذلك فكثيرة، منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم صلاة الصبح بالحديبية "أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟، قالوا الله ورسوله أعلم، قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر (2) .."، وحديث "إذا قضى الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للي قال الحق وهو العلي الكبير

" (3) ، وفي لفظ آخر أكثر صراحة: "إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفا.." (4) ،

فكيف يفسرون مثل

(1) انظر: منهاج السنة (3/104-105) ط بولاق.

(2)

متفق عليه: البارين كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم ورقمه (846) الفتح (2/333) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنؤ، ورقمه (71) .

(3)

رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الحج، باب (إلا من استرق السمع) ، ورقمه (4701) الفتح (8/380) وسورة سبأ، باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم) ورقمه (4800) الفتح (8/8/537) .

(4)

روى عن عبد الله بن مسعود - مرفوعا وموقوفا - والموقوف في حكم المرفوع، رواه أبو داود - كتاب السنة، باب في القرآن، ورقمه (4738) - ت الدعاس، والبخاري تعليق، موقوفا - كتاب التوحيد، باب (ولا تنفع الشفاعة عنده غلا لمن أذن له) الفتح (13/452-453)[ووصله ابن حجر في التعليق (5/352-353) ] ، وف يخلق أفعال العباد رقم (465) ت البدر، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (207-209) - مرفوعا وموقوفا - ت الشهوان وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة رقم (536-540)، والبيهقي في لاأسماء والصفات (ص:200-203) ، والطبري في تفسيره - موقوفا - سورة سبأ، آية 23، (22/90) ط الحلبي، وابن حبان في صحيحه - الإحسان - رقم (37) ، ت الأرناؤوط - أسد، والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق - موقوفا - رقم (5-6) ، والخطيب في تاريخ بغداد - مرفوعا وموقوفا - (11/392-393) ..والحديث صحيح، وقد صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (1293) وقال: "والموقوف وإن كان أصح من المرفوع، ولذلك علقه البخاري في صحيحه

فإنه لا يعل المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي كما هو ظاهر، لا سيما وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا نحوه أخرجه البخاري والترمذي

" سلسلة الصحيحة (3/283) .

ص: 1280

هذه النصوص من الكتاب والسنة بأن المقصود من كلام الله لهم خلق إدراك لم يسمعون به الكلام القديم (1) ؟، ولا شك إن ذلك تأويل وتحريف للنصوص مثل تأويل بقية الصفات التي أولها النفاة ومن يوافقهم من هؤلاء.

5-

أما الأحاديث التي فيها ذكر السكوت، فمنها حديث: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو

" (2) وحديث: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" (3) .

(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/180) .

(2)

رواه أبي الدرداء الحاكم (2/375) وقا لصحيح الإسناد ووافقه الذهبي، والبزار، كشف الأستار - رقم (123، 2231، 2855) ، وقال إسناده صالح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/55)"رواه البزار ورجال ثقات"، وقال أيضا (1/171) : رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن، ورجال موثقون. وحسنه الألباني في غاية المرام رقم (22) ، أما من حديث سلمان، فرواه الترمذي، كتاب اللباس، باب ما جاء في ليس الفراء، ورقمه (1726) - ت عطوة - وابن ماجه في الأطعمة - رقم (3367) ، والبيهقي (10/12) ، والحاكم (4/115) ، والعقيلي في الضعفاء الكبير - في ترجمة سيف ابن هارون البرجمي - (2/174) ، رقم الترجمة (693) ، والكامل لابن عدى - في نفس الترجمة - (3/1267) . وقد رجح الألباني - تبعا للبخاري كما نقل عنه الترمذي - وقفه على سلمان، وضعفه، وهو في المعنى كالذي قبله فذال يغني عنه - انظر: غاية المرام (ص:17) .

(3)

رواه الدارقطني - آخر باب الرضاع، (4/183-184) مع التعليق المغني، والبيهقي (10/12-13)، والحاكم (4/115) - بلفظ وترك أشياء - وغيرهم من حديث أبي ثعلبه الخشني..وله شاهدان من حديث أبي الدرداء: أحدهما روه الطبراني في الصغير رقم (111) ت محمد شكور وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171)"رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه أصرم بن حوشب وهو متروك، ونسب إلى الوضع". والثاني رواه الدارقطني كتاب الصيد والذبائح - آخر حديث فيه - (4/297-298) مع التعليق المغنى وفي إسناده نهشل وهو كذاب.

وحديث أبي ثعلبة حسنه النووي في أربعينه رقم (30) ، وفي رياض الصالحين - كتاب المنثورات والملح - رقم (1841) - ت الألباني، كما حسنه أبو بكر السمعاني في أماليه كما في جامع العلوم والحكم (ص:261) - ط الحلبي - الرابعة، وحسنه أ] ضاً أبو الفتوح الطائي في الأربعين - كما في غاية المرام للألباني (ص:18) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/171) - بعد أن ذكر رواية الطبراني في الكبير بلفظ "وغفل عن أشياء

": "رواه الطبراني في الكبير وهو هكذا في هذه الرواية، وكان بعض الرواة ظن أن هذه معنى: وسكت، فرواها كذلك، والله أعلم، ورجاله رجال الصحيح) .

وقد تعقب النووي ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وذكر له علتين، ما تعقب النووي وغيره الشيخ ناصر الدين الألباني في مقدمة تحقيق رياض الصالحين (ص:11) ، وفي غاية المرام رقم (4) حيث قال - بعد ذكر من رواه -: "قلت وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم، لكن له علتان كما قال الحافظ ابن رجب

" ثم ذكر الألباني أن العلة الثانية ليست قادحة، أما الأولى وهي الانقطاع - حيث لم يسمع مكحول من أبي ثعلبة - فهي قادحة ولذلك حكم بضعفه، ثم ذكر - الشاهدين - للطبراني في الصغير، والدارقطني في كتاب الصيد - وقال إنهما واهيان جدا فلا يصلحان للشهادة. ولا شك أن الأحاديث الضعيفة - التي فيها كذاب أو من هو متهم بالوضع - لا تصلح لتقوية الأحاديث الضعيفة، ولكن يلاحظ أن من حسنه من المتأخرين كالأرناؤوط في تحقيقه لجامع الأصول (5/59) ، ذكر أن من شواهده أيضا حديث أبي الدرداء السابق "ما أحل الله فهو حلال

" الذي حسنه الألباني وغيره. ولكن الشأن في صلاحية متنه أن يكون شاهدا. والله أعلم.

ص: 1281

قال شيخ الإسلام معلقا على هذه الأحاديث: "فثبت بالسنة والإجماع أن الله يوصف بالسكوت. لكن السكوت يكون تارة عن التكلم، وتارة عن إظهار الكلام وإعلامه، كما قال في الصحيحين عن أبي هريرة: "يا رسول الله: أرأيتك سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب

" (1) إلى آخر الحديث، فقد أخبره أنه ساكت، وسأله ماذا تقول؟ فأخبره أنه يقول في حال سكوته، أي سكوته عن الجهر والإعلان.

لكن هذان المعنيان المعروفان في السكوت، لا تصح على قول من يقول: إنه متكلم كما إنه عالم، لا يتكلم عند خطاب عباده بشيء، وإنما يخلق لهم إدراكا ليسمعوا كلامه القديم، سواء قيل: هو معنى مجرد، أو معنى وحروف، كما هو قول ابن كلاب والأشعري، ومن قال بذلك من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من الحنبلية وغيرهم، فهؤلاء إما أن يمنعوا السكوت - وهو المشهور من قولهم - أو يطلقوا لفظه ويفسروه بعدم خلق إدراك للخلق يسمعون به الكلام القديم، والنصوص تبهرهم، مثل قوله: إذا تكلم الله بالوحي

" (2) والله تعالى فرق بين إيحائه وتكليمه كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ

(1) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، ورقمه (744) الفتح (2/227) ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، ورقمه (598) .

(2)

مجموع الفتاوى (6/179-180)، وانظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى - (13/131) .

ص: 1282

اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (الشورى: من الآية51) ، وغيرها، وكذا تكليم عباده يوم القيامة، وغير ذلك من النصوص، وكلها تدل على تجدد تكليم من جهته تعالى (1) .

وقد حاول بعض الحنابلة - كالقاضي أبي يعلي وابن الزاغوني - أن يفسروا قول الإمام أحمد: "لم يزل الله متكلما إذا شاء" بما يوافق مذهبهم الكلابي، وقد ناقش شيخ الإسلام هذه المسألة وبين خطأ هؤلاء في تفسيرهم لكلام الإمام أحمد، مبينا أن تفسير هؤلاء - وغيرهم - للسكوت بأنه عدم خلق إدراك لغيره - غير معقول (2) .

وجمهور الأشاعرة يمنعون من أن يوصف الله بالسكوت ويجعلون ذلك من حججهم على قولهم بأن كلام الله قديم، فإن لهم في ذلك حجتين:

الحجة الأولى: أنه لو لم يكن الكلام قديما للزم أ، يتصف في الأزل بضد من أضداده، إما السكوت وإما الخرس، ولو كان أحدهما قديما لامتنع زواله وامتنع أن يكون متكلما فيما لا يزال، ولما ثبت أنه متكلم فيما لم يزل ثبت أنه لم يزل متكلما، وأيضاً فالخرس آفة ينزه الله عنها.

والحجة الثانية: أنه لو كان مخلوقا لكان قد خلق إما في نفسه، أو في غيره، أو قائما بنفسه، والأول ممتنع، لأنه يلزم أن يكون محلا للحوادث، والثاني باطل، لأنه يلزم أ، يكون كلاما للمحل الذي خلق فيه، والثالث باطل لأن الكلام صفة والصفة لا تقوم بنفسها، فلما بطلت الأقسام الثلاثة تعين أنه قديم" (3) .

والحجة الثانية هي الحجة المشهورة التي بنوا عليها مذهبهم في كلام الله وفي الصفات الاختيارية وهي مسألة حلول الحوادث التي منعوها (4) .

(1) انظر: درء التعارض (4/128-129) .

(2)

انظر: تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى (6/157-163)، وشرح الأصفهانية (ص:204-205) - ت السعوي - ط على الآلة الكاتبة.

(3)

مجموع الفتاوى (6/291) .

(4)

انظر: التسعينية (ص:101-102) ، ومجموع الفتاوى (6/519) .

ص: 1283

وهاتان الحجتان هما من حجج الأشاعرة القديمة جاءت على يد الأشعري (1) . ولقفها أتباعه من بعده.

وقد ناقش شيخ الإسلام هاتين الحجتين بتفصيل ووضوح، وبين ما فيهما من حق وهو الدلالة على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه، وما فيهما من باطل وهو الزعم بأنها تدل أن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته (2) .ونقاش شيخ الإسلام لذلك طويل ومهم، ويمكن تلخيصه بما يلي:

أأما الحجة الأولى: للأشاعرة - وهي أن ضد الكلام الخرس والسكوت - وأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده

فيقال فيها ما يلي:

1-

أن أصحابهم المتأخرين - كالرازي والآمدي - خالفوهم في هذا (3) .

2-

أن القاعدة الكلية التي ذكروها، وهي "أن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده - باطلة، لأن هذه لا يجوز أن تدعى إلا في حق الله خاصة، أما المخلوق فإنه إذا كان قابلا للشيء كان وجود القبول فيه غيره وهو الله تعالى، وإحداث الله لذلك القبول لا يجوز أن يكون مقارنا للقابل، بل يجوز أ، يتوقف على شروط يحدثها الله، وعلى موانع يزيلها، فوجود القبول هنا ليس منه [أي من المخلوق] فلم تكن ذاته كافية فيه، وأما الرب تعالى فلا يفتقر شيء من صفاته وأفعاله على (4) غيره، بل هو الأحد الصمد المستغنى عما سواه

" (5) ، وقد شرح هذا بالنسبة لله فقال: "تقرير الحجة بأن يقال: لأن الرب تعالى إذا كان قابلا للاتصاف بشيء لم يخل منه أو من ضده، أو يقال: بأنه إذا كان قابلا للاتصاف بصفة كمال لزم وجودها له؛ لأن ما كان الرب قابلا له لم يتوقف وجوده له على غيره، فإن غيره لا يجعله متصفا ولا فاعلا، بل ذاته وحدها هي الموجبة لما كان قابلا له" (6) .

(1) انظر: الإبانة (ص:66-67،72) - ت فوقية، واللمع (ص:17) - ت مكارثي.

(2)

انظر: هذه المناقشة في مجموع الفتاوى (6/292-329) .

(3)

انظر: المصدر السابق (6/293) .

(4)

كذا ولعل صوابها: إلى.

(5)

مجموع الفتاوى (6/294) .

(6)

المصدر السابق (6/293) .

ص: 1284

وإذا تقررت هذه الحجة فإنها تكون دالة على قدم صفة الكلام، وأنه تعالى لم يزل متكلما، بل تكون دالة على قدم جميع صفاته، وأن ذاته مستلزمة لجميع صفات الكمال - مما لا نقص فيه بوجه من الوجوه - ومن ذلك صفة الكلام لأن من يتكلم أكمل ممن لا يتكلم (1) .

ويقرر شيخ الإسلام - هذه الحجة على وفق مذهب السلف فيقول: "يقال: إما أن يكون قادرا على الكلام أو غير قادر، فإن لم يكن قادرا فهو الأخرس، وإن كان قادرا ولم يتكلم فهو الساكت" ثم بين أن الكلابية لا يمكنهم أن يحتجوا بهذه الحجة لأن الكلام عندهم ليس بمقدور - ثم أكمل الحجة فقال: "لكن [هل] (2) مدلولها قدم كلام معين بغير قدرته ومشيئته؟ أم مدلولها أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته؟ والأول قول الكلابية، والثاني قول السلف والأئمة وأهل الحديث والسنة، فيقال: مدلولها الثاني لا الأول، لأن إثبات كلام يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته غير معقول ولا معلوم، والحكم على الشيء فرع عن تصوره. فيقال للمحتج بها: لا أنت ولا أحد من العقلاء يتصور كلاما يقوم بذات المتكلم بدون مشيئته وقدرته، فكيف تثبت بالدليل المعقول شيئاً لا يعقل؟ "(3) .

وبهذا تكون هذه الحجة دليل على إثبات صفة الكلام لله وقدم نوعه وأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء خلافا للأشعرية.

3-

أن دعوى أنه "لو لم يتصف بالكلام لا تصف بالخرس والسكوت إنما يعقل في الكلام بالحروف والأصوات، فإن الحي إذا فقدها لم يكن متكلما فإما أن يكون قادرا على الكلام ولم يتكلم، وهو الساكت، وإما أن لا يكون قادرا عليه، وهو الأخرس. وإما ما يدعونه من "الكلام النفساني" فذاك لا يعقل أن من خلا عنه كان ساكتا أو أخرسن فلا يدل بتقدير ثبوته [على] أن الخالي عنه يجب أن يكون ساكتا أو أخرس"(4) ، وإذا كان الكلام النفساني

(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/294) .

(2)

زيادة مني ليستقيم الكلام.

(3)

مجموع الفتاوى (6/294-295) .

(4)

المصدر السابق (6/295) .

ص: 1285

الذي ادعوه غير متصور، فالسكوت والخرس إنما يتصور إذا تصور الكلام، وهؤلاء - في الكلام - يشبهون النصارى في الكلمة (1) .

4-

أن المعتزلة اعترضوا عليهم هنا ولم يستطيعوا أن يجيبوهم بجواب صحيح، وذلك أنهم قالوا للكلابية والأشعرية: القول في الكلام كالقول في الفعل، فإننا إذا كنا - نحن وأنتم - قد اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن فاعلا في الأزل، ثم صار فاعلا، ولم نقل - لا نحن ولا أنتم - إنه كان في الأزل عاجزا أو ساكتا، فإذا كان لا يلزم من عدم فعله في الأزل أن يوصف بضده من العجز والسكوت، فكذلك يقال في صفة الكلام، إذا قيل: لم يكن متكلما - على مذهب المعتزلة - لا يوصف بضد الكلام وهو السكوت أو الخرس.

ومناقشة الأشاعرة للمعتزلة هنا مناقشة ضعيفة ولهذا عدل بعض متأخري الأشعرية كالجويني إلى الحجة الثانية (2) .

أما السلف فلا يلزمهم اعتراض المعتزلة لأنهم يقولون الكلام كالفعل، وإن الله لم يزل خالقا فاعلا كما أنه لم يزل متكلما (3) ، كما سبق بيانه في مسألة حوادث لا أول لها.

ب وأما الحجة الثانية: للأشاعرة وهي إنه لو كان مخلوقا

(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/296) .

(2)

انظر: المصدر السابق (6/297) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (6/298-299) .

ص: 1286

لكان إما خلقه في نفسه أو في غيره أو لا في محل، والأول يلزم منه أن يكون محلا للحوادث وهو باطل، والثاني يلزم منه أن يكون صفة لذلك المحل وهو باطل، والثالث ممتنع لأن الصفة لا تقوم بنفسها - فشيخ الإسلام بين أن هذه الحجة - أيضاً - صحيحة، ولكنها تدل على صحة مذهب السلف وفساد مذهب الكلابية والأشعرية، والمعتزلة.

أما مذهب المعتزلة فواضح فساده من جهة أنه لو خلقه في محل لكان صفة لذلك المحل، وإن كان الأشاعرة متناقضين هنا، لأنهم لم يطردوها وذلك تسلط

ص: 1287

عليهم المعتزلة بأنهم يصفونه بأنه خالق ورازق ومحيي ومميت، وعادل محسن، من غير أن يقوم به شيء من هذه المعاني، بل يقوم بغيره، لأن الاشاعرة - كما سبق في مسألة حلول الحوادث - يقولون الخلق هو المخلوق، فكيف يقولون إن الله يوصف بأنه خالق ورازق من غير أن تقوم بالله صفة، وإنما المقصود ما يخلقه الله من الخلق والرزق - لا يقولون إن الله متكلم، من غير أن تقوم به صفة الكلام والمقصود الكلام الذي خلقه في غيره؟ ولماذا لم يجعلوا هذا مثل هذا. وليس للأشاعرة جواب صحيح على هذا الاعتراض، وهو من التناقضات العديدة التي يزخر بها مذهب الأشاعرة.

أما أهل السنة والسلف فإن الفعل عندهم غير المفعول، ويقولون إن الفعل يقوم به كالكلام. ومن ثم جعلوا هذه القاعدة حجة على الفريقين: المعتزلة والأشاعرة (1) .

أما الاحتمال الأول - وهو أنه لو خلقه في نفسه لكان محلا للحوادث - فأهل السنة والجمهور يمنعون أن يسمى كل حادث مخلوقا، بل كلام الله المحدث كما قال تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (الانبياء: من الآية2) ، لا يقال عنه إنه مخلوق، لأن الله يتكلم إذا شاء متى شاء بكلام بعد كلام، وكذا ما يقوم بذاته بقدرته ومشيئته، فهناك فرق بين هذه الصفات، وبين ما يكون بائنا عنه من المخلوقات، لأنها لا بد لها من خلق، أما صفة الخلق أو الكلام أو غيرهما، القائم بذاته فإنه لا يفتقر إلى خلق، بل هو حصل بمجرد قدرته ومشيئته (2) .

ولذلك يرى شيخ الإسلام أن هذه الحجة لا داعي فيها لهذا الاحتمال - وهو أ، هـ خلقه في نفسه - بل يقال:"لو خلقه لكان إما أن يخلقه في محل فيكون صفة له، أو يخلقه قائما بنفسه وكلاهما ممتنع، ولا يذكر فيها: إما خلقه في نفسه؛ لأن كونه مخلوقا يقتضي أن له خلقا، والخلق القائم به لو كان مخلوقا لكان له خلق، فيلزم أن يكون كل مخلق مخلوقا، فيكون الخلق مخلوقا بلا خلق وهو ممتنع"(3) .

وهذا على أصل السلف والجمهور الذين لا يسمون كل محدث مخلوقا، وأما من يجعل كل حادث مخلوقا، فيمكن أ، يرد هذا الاحتمال - الأول - فيقال: إذا أحدثه فإما أن يحدثه في نفسه أو خارجا عن نفسه، أو لا في محل. والثاني والثالث ممتنعان بإطلاق. ويبقى الأول - وهو احتمال أن يحدثه في نفسه، والأشاعرة يمنعونه لبطلان حلول الحوادث عندهم، وأهل السنة يقولون به لأنهم يجوزون أن تقوم بالله الصفات الاختيارية، وإن سماها هؤلاء أو غيرهم حوادث - ومن ثم يرجع إلى الكلام إلى ما سبق تفصيله في مسألة "حلول الحوادث"(4) .

ولو قالوا - كما سبق مثاله في حججهم على نفي حلول الحوادث، مع مناقشته - لو قالوا هنا: الفرد من أفراد الكلام هل هو نقص أو كمال؟ فإن كان نقصا فهو ممتنع، وإن كان كمالا فهو ناقص قبله - فيقال لهم: "هو كمال وقت وجوده، ونقص قبل وجوده، مثل مناداته لموسى كانت كمالا لما جاء موسى، ولو ناداه قبل ذلك لكان نقصا، والله منزه عنه

" (5) .

وقد اعترف الرازي - أحد أئمة الاشاعرة - بأن حلول الحوادث لازم لجميع الطوائف فقال (6) : "هل يعقل أن يكون محلا للحوادث؟ قالوا: إن هذا قول لم يقل به أحد إلا الكرامية. وأنا أقول: إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب، أما الاشعرية: فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم من وجوه

" (7) ولما جاء إلى صفة الكلام، بين أنه ليس هناك فرق معقول بين الطب والإرادة - وهذا رد على مسألة الكلام النفسي - كما سبق -

(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/317-318)، ونظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (436)، والتسعينية (ص:102-105) ، ومنهاج السنة (2/292) - ط دار العروبة المحققة.

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (6/320) .

(3)

مجموع الفتاوى (6/321) .

(4)

انظر: المصدر السابق (6/326) وما بعدها.

(5)

المصدر نفسه (6/326) .

(6)

سبقت الإشارة إلى هذا عند الكلام على مسألة حلول الحوادث - وإنما نقلت نص كلام الرازي هنا لأنه قد وصل إلى - حال كابة هذه المباحث - كتابه الكبير "المطالب العالمية" مطبوعا في تسعة أجزواء جاءت في خمسة مجلدات.

(7)

المطالب العالية للرازي (2/106) .

ص: 1288

ثم بين أن الذين زعموا أن هذا الكلام - النفسي - قديم - هو قول بعيد، وذكر أدلة كون هذا القول بعيدا - وهي أدلة إلزامية قوية - ثم ذكر أدلة من قال بقدمه ورد عليها (1) .

هذا هو الرازي الذي يعتبرونه أعظم أئمتهم ومحققيهم يقول بما يدل على بطلان مذهب الأشاعرة، وصحة مذهب أهل السنة، في مسألة من أهم المسائل وأعظمها، وبها تميز المذهب الاشعري عن غيره.

وإذا كان الرازي قد يتناقض في هذا الباب - فتارة يوافق الأشاعرة وتارة يرد عليهم - فإن غير الرازي كأبي حامد الاسفرابيني، وأبي محمد الجويني - والد إمام الحرمين - وغيرهما كانوا يخالفون الأشاعرة ويقولون إن مذهب الشافعي والإمام أحمد وسائر علماء الأمصار مخالف لما عليه هؤلاء الأشاعرة في كلام الله (2) .

رابعاً: الرد على الأشاعرة في قولهم: إن كلام الله معنى واحد:

وقولهم: هو الأمر بكل مأمور والخبر عن كل مخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وقولهم إن الأمر والنهي صفات للكلام، لا أنواع له، ولذلك فلا فرق بين القرآن والتوراة، ولا بين آية وآلة أخرى دلت على معنى مختلف.

وهذا من أعجب ما في مذهب الأشاعرة وأشده غرابة، حيث إنه مخالف لبدائه العقول، ولواقع الأمر أيضاً، ولا شك أن أعلام الأشاعرة - وفيهم الأئمة والقضاة والفقهاء - لم يكونوا ليقبلوا الإقرار بمثل هذا لولا أن هناك أصولا عقلية سلموها تسلطت على رؤوسهم ورقابهم لم يستطيعوا منها فكاكا ولا لها دفعا. فأصبحوا يسلمون بمثل هذه الأقوال المخالفة للعقل والنقل والفطر، ويبحثون لها عن تعليلات وتبريرات وتخريجات لا تغني شيئاً.

(1) انظر: المطالب العالية للرازي (3/204-207) .

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (12/557-558) .

ص: 1289

ولذلك اعترف بعض أعلامهم بما في المذهب الأشعري من إشكالات، حتى قال العز بن عبد السلام لما سئل في مسألة القرآن:"كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي وخبر واستخبار؟ فقال أبو محمد: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري"(1) . وسترد أمثلة أخرى إن شاء الله تعالى.

ومناقشة قول الأشاعرة - في زعمهم أن كلام الله معنى واحد - واضحة جدا، ويمن إجمال ردود شيخ الإسلام عليهم في ذلك بما يلي:

1-

أن هذا القول انفردوا به عن سائر الفرق، كما ذكره الرازي (2) ، سواء قالوا - كما هو قول جمهورهم - إنه معنى واحد، أو قالوا إنه خمسة معان، كما هو قول بعضهم.

فالذين قالوا هو معنى واحد قالوا: ذلك المعنى هو معنى كل أمر أمر الله به، سواء كان أمر تكوين، أو أمر تشريع، وسواء أمرا ورد في القرآن أو ورد في التوراة، وكذلك هو معنى كل نهي نهى الله عنه، وهو معنى كل خبر أخبر الله به.

والذين قالوا إنه خمسة معان يقولون الأمر الواحد هو الأمر بالصالة والزكاة، والحج، والسبت - الذي لليهود - وهو الأمر بالناسخ والمنسوخ، وبالأقوال وبالأفعال، وبالعربي والعبراني، كل ذلك أمر واحد، ومثله النهي ومثله الخبر، حيث يقولون: إن ما أخبر الله به في آية الكرسي وسورة الإخلاص، وقصص الأنبياء والكفار، وصفة الجنة والنار، كل ذلك خبر واحد (3) .

يقول شيخ الإسلام معلقا على هذا: "ومن المعلوم أن مجرد تصور تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده، كما اتفق على ذلك سائر العقلاء، فإن أظهر المعارف أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسب ليس هو الأمر بالحج،

(1) انظر: التسعينية (ص:261) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص:175) .

(3)

انظر: المصدر نفسه - نفس الصفحة.

ص: 1290

وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم" (1) ، ولا شك أيضاً أن معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، كما أن معاني {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص:1) ليس هي معاني {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1)(2) .

وكذلك أيضاً فإن "المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق، ونحو ذلك لم ينزلها الله على لسان موسى بن عمران، كما لم ينزل على محمد تحريم السبت، ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كلام الله معنى واحدا"(3) .ومن المعلوم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن، كما أن آية الكرسي ليست معنى آية الدين (4) .وهذا واضح جدا، ويلاحظ أن الأشاعرة يلتزمون هذه اللوازم الفاسدة فيقولون: إن كلام الله معنى واحد، فلا يفرقون بين آية الدين وآية الكرسي، ولا بين القرآن والتوراة، بل كل ذلك معنى واحد لا يتبعض ولا يتجزأ، ولا يتكلم الله بشيء منه دون شيء إلا على معنى خلق إدراك للخلق فقط - كما سبق -.

بل إن شيخ الإسلام يرى أنه يلزم على قولهم أن تكون الحقائق الموجودة كالملائكة والجن، والجنة والنار - شيئاً واحدا، لأن معاني الكلام تتبع الحقائق الخارجة، وهذا لازم لا محيد لهم عنه (5) .

2-

يقال للاشاعرة: موسى لما كلمه الله، أفهم كلامه كله أو بعضه؟ إن قلتم: كله، فقد صار موسى يعلم علم الله، وهذا من أعظم الباطل، وإن قلتم بعضه: فقد تبعض كلام الله وأنتم تقولون: إنه لا يتبعض. وفي هذا إبطال لقولكم (6) . وأيضاً فإن الله فضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم،

(1) التسعينية (ص:175،177) .

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (12/122،267) ، ومنهاج السنة (3/104) - ط بولاق، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/71) .

(3)

منهاج السنة (3/104) ط بولاق.

(4)

انظر: مجموع الفتاوى (12/558) ، والدرء (1/267، 112-113) .

(5)

انظر: مجموع الفتاوى (12/558) ، والدرء (1/267،112-113) .

(6)

انظر: التسعينية (ص:177) .

ص: 1291

كما فرق تعالى بين التكليم والوحي، وهذا يدل على أن الكلام ليس معنى واحدا، لأنه - حينئذ - لا يكون هناك فرق بين التكليم الذي خص به موسى، والوحي العام الذي يكون لغيره. وهذا بين (1) .

وكذلك قولهم إن القرآن، عبارة عن كلام الله، فإن كان عبارة عن كلام الله كله فهو باطل، وإن كان عبارة عن بعضه فهو مبطل لقولكم (2) .

3-

إلزامهم أن يقولوا في الصفات ما قالوه في الكلام، وبالعكس، وذلك أنه إذا جاز أ، يجعلوا الحقائق المتنوعة - كآية الدين، وآية الكرسي، وقصة موسى، وقصة نوح، والأمر بالصلاة، والأمر بالسبت، والنهي عن الزنا وعن الربا، والقرآن، والتوراة، والإنجيل - شيئاً واحدا، فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والحياة والإرادة، صفة واحدة، أو أن يقولوا في الكلام ما يقولونه في الصفات من أن العلم غير القدرة والإرادة غير الحياة، وإن كانت صفات قائمة بالله تعالى.

وقد أسهب شيخ الإسلام في شرح هذا الإلزام وبين أنه لا محيد للاشاعرة عنه، وأن أئمتهم اعترفوا به (3) .

وممن اعترف بذلك الآمدي، حيث قال بعد أ، ذكر هذا الاعتراض - وهو الإلزام بالصفات - وذكر جواب أصحابه الأشاعرة عنه - قال معلقا على جواب شيوخه:"وفيه نظر"(4)، ثم قال: "والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل، وعسى أن يكون عند غيري حله، ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة، وهي الأمر والنهي والخبر

(1) انظر: منهاج السنة (3/105) - ط بولاق، ومجموع الفتاوى (9/283،12/130) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/153-154) .

(2)

انظر: منهاج السنة (3/105) ط بولاق.

(3)

انظر: مجموع الفتاوى (12/122-123) .

(4)

انظر: درء التعارض (4/118) .

ص: 1292

والاستخبار والنداء" (1) .

وقد علق شيخ الإسلام على كلام الآمدي بأن القول بأن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة لتعدد الكلام (2) .

ولشيخ الإسلام مناقشات متنوعة لهذا الإلزام وبيان تناقضهم من وجوه عديدة (3) .وقياسهم لوحدة الكلام بوحدة المتكلم مردود أيضا من وجوه عديدة (4) .

4-

وهناك إلزام آخر لهم، وهو أنه يقال لهم ما يقولون هم لمن قال إن القرآن حروف وأصوات قديمة أزلية، وإن الباء ليست قبل السين، وهكذا، وقد نقل شيخ الإسلام نصا مهما للباقلاني من كتابه - النقض - رد فيه على هؤلاء (5)، ثم قال: "هذا بعينه وارد عليك فيما أثبته من المعاني، وهو المعنى القائم بالذات، فإن الذي نعلمه بالضرورة في الحروف نعلم نظيره بالضرورة في المعاني، فالمتكلم منا إذا تكلم ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو بالضرورة ينطق بالاسم الأول لفظا ومعنى، قبل الثاني، فيقال في هذه المعاني نظير ما قاله في الحروف

" (6) .

ولشيخ الإسلام في درء التعارض مناقشة أخرى مماثلة، فإن من قال باجتماع المعاني يلزمه ما يلزم من قال باجتماع الحروف وعدم تعاقبها (7) .

(1) لدرء التعارض (4/119)، وهو في أبكار الأفكار (1/95-ب-96-أ) . (وقد سبق نقله (ص:713-714) .

(2)

انظر: درء التعارض (4/119) وما بعدها.

(3)

انظر: التسعينية (ص:176-177)(الوجه 33)، (ص:179) (الوجه 38)، و (ص:180-181) (الوجه 43)، و (ص:186) (الوجه 52) ، من أوجه مناقشة الرازي وانظر مجموع الفتاوى (9/283)، والتسعينية أيضا (ص:191) .

(4)

انظر: ألمصدر السابق (ص:181-187)(الأوجه 44-53) من أوجه الرد على الرازي.

(5)

انظر: التسعينية (ص:188) .

(6)

المصدر السابق، نفس الصفحة.

(7)

انظر: درء التعارض (4/111-115) .

ص: 1293

5-

أن النصوص قد وردت بما يدل على تعدد الكلام وبطلان قول من زعم أنه

معنى واحد، ومنها:

أالآيات الواردة بأن لله كلمات، ومنه قوله تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: من الآية115) وقوله: {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} لا (لقمان: من الآية27) وقوله: {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه} (الشورى: من الآية24) وغيرها كثير جداً.

ب كما وردت أحاديث كثيرة، فيها الإستعاذة بكلمات الله التامات (1) .

ت ومنها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} جزءا من القرآن" (2) .

فكيف يقال - مع هذه النصوص - إن كلام الله لا يكون إلا معنى واحدا؟ (3) .

6-

أن الأدلة دلت على أن القرآن بعضه أفضل من بعض وهذا أصح القولين لأهل السنة. وهذا يدل على أن كلام الله ليس معنى واحدا. ولشيخ الإسلام مناقشات مطولة في هذا الموضوع (4) .

7-

ما في كلام هؤلاء من شبه بأقوال النصارى. وهذا يدل على بطلانه (5) .

(1) انظر: مثلا البخاري، كتاب الأنبياء باب رقم 10، ورقم الحديث 3371، الفتح (6/408)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب التعوذ من سوء القضاء ورقمه (2708) .

(2)

روه مسلم، كتاب المسافرين باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ورقمه (811) مكرر.

(3)

انظر: التسعينية (ص:210-217) ، حيث أورد بعض الأشاعرة على الاستدلال بأن الكتاب والسنة نطقا بأن لله كلمات، كما أورد (ص:218) اعتراضا من الأشاعرة على حديث إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء وأجاب عنه.

(4)

انظر: درء التعارض (7/271-273)، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (ص:10-74،147-172) .

(5)

انظر: التسعينية (ص:225، 331) .

ص: 1294

8-

أن أئمة الأشاعرة اعترفوا بفساد قول ابن كلاب والأشعري في كلام الله، ومن هؤلاء: أو حامد الإسفراييني، وأبو محمد الجويني، وأبو الحسن الكرجي، والعز بن عبد السلام وغيرهم (1) ، والإسفراييني كانت له مواقف مشهورة في الإنكار على البلاقلاني وأقواله في كلام الله (2) .

وقد حاول الرازي أن يستدل لمذهب الاشاعرة في كلام الله وأنه بمعنى واحد بصفة العلم وأن علم الله لا نهاية له وهو واحد، ولكن شيخ الإسلام رد عليه من كلامه، وبين بطلان كلامه وتناقضه (3) .

وبما سبق من أوجه الرد والمناقشة والإلزام يتبين فساد مذهب الاشاعرة فيما أدعوه من أن كلام الله معنى واحد.

خامساً: هل كلام الله بحرف وصوت؟

سبق في فقرة - الرد على الاشاعرة في الكلام النفسي - ما يوضح مذهب الأشاعرة في هذا وأنهم لما قالوا إنه معنى قائم بالذات، قالوا إنه ليس بحرف ولا صوت، كما سبق - من خلال المناقشة - بيان أن الكلام هو ما كان مسموعا مفهوماً.

وقد سئل شيخ الإسلام عن القرآن: هل هو حرف وصوت؟ فأجاب بأن إطلاق هذا الجواب- نفيا وإثباتا - من البدع المولدة، الحادثة بعد المئة الثالثة، ثم قال: "والصواب الي عليه سلف الأمة، كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد، وغيره، وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم - اتباع النصوص الثابتة، وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس شيء من ذلك كلاما لغيره

وأن الله يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح

" (4) .

(1) انظر: التسعينية (ص:236-238) .

(2)

انظر: المصدر السابق (ص:238) ، ودرء التعارض (2/95-99) .

(3)

انظر: المصدر نفسه (ص:219-223) .

(4)

مجموع الفتاوى (12/243-244) .

ص: 1295

وهذا من دقة السلف رحمهم الله في مسائل العقيدة، وخاصة ما يتعلق منها بالله وصفاته. حيث إنهم لا يبتدعون كلاما جديدا، بل يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولما لم يرد إطلاق أن القرآن بحرف وصوت لم يطلقوه عليه كما يفعله البعض، وإنما يقولون: القرآن كله حروفه ومعانيه كلام الله، كما يقولون إن الله نادى موسى، والنداء لا يكون إلا بصوت، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الله ينادي بصوت (1) . ومن المعلوم أن الكلام إذا أطلق فإنه يشمل الحروف والمعاني وهذا هو الذي فهمه السلف من صفة الكلام لله تعالى - على ما يليق بجلاله وعظمته -.

ولكن لما وجد - في أهل البدع - من ينكر الحرف والصوت لينكروا كلام الله، بين السلف أن كلام الله شامل للحروف والمعاني، وأنه تعالى يتكلم بصوت، كما يصفونه بما ورد من التكليم والمناداة والمناجاة (2) .

وقد وردت نصوص فيها ذكر الحرف في كلام الله، وهو القرآن، ومن ذلك حديث:"إن الله يأمرك أن تقرأ على أحرف"(3) ، وحديث "أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته"(4) ، وحديث "اقرأني جبريل على حرف

" (5) وحديث: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف (6) وحديث: "من قرأ حرفا من كتاب الله

" (7) وغيرها.

(1) سبق تخريجه (ص:585) .

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (6/518) .

(3)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ورقمه (821) .

(4)

رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب فضل الفاتحة، ورقمه (806) .

(5)

رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب نزل القرآن على سبعة أحرف، ورقمه (4991) الفتح (9/23) .

(6)

رواه البخاري - بعد الحديث السابق مباشرة، ورقمه (4992) .

(7)

رواه الترمذي، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء فيمن قرأ حرفاً من القرآن، ورقمه (2910) - ت إبراهيم عطوة. وهو حديث صحيح.

ص: 1296

وقد احتج شيخ الإسلام بحديث: إن الله ينادي بصوت، على إثبات أن الله يتكلم بصوت، ورد على من قال من الأشاعرة إنه حديث آحاد - من وجوه عديدة (1) . كما احتج بالآيات على ذلك مثل آيات النداء لموسى وغيره (2) .

سادساً: القرآن العربي كلام الله وغير مخلوق؟

مذهب السلف في كلام الله تعالى، وفي القرآن، وأنه كلام الله غير مخلوق، واضح تمام الوضوح، وردودهم على المعتزلة في ذلك مشهورة، أكثر من أن تحصر (3) . كما أنه قد اشتهر عنهم قولهم إن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، ومعناه أن الله هو المتكلم به، فمنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، وإليه يعود في آخر الزمان حين يرفع من المصاحف والصدور (4) .

فلما جاءت الكلابية والأشعرية وابتدعوا في كلام الله ما ابتدعوا، كان مذهبهم الذي تمسكوا به: أن كلام الله إنما هو معنى قائم بذاته وأن حروف القرآن ليست من كلام الله.

ولكن الأئمة من هؤلاء كابن كلاب والأشعري كما يقولون - مع ذلك ومع قولهم إن القرآن حكاية أو عبارة عن كلام الله -: إن القرآن محفوظ بالقلوب

(1) انظر: مجموع الفتاوى (6/513، 530-544) .

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (12/130) .

(3)

انظر: في مذهب السلف في كلام الله وفي القرآن: مجموع الفتاوى (6/153، 166-169، 177-178، 518)، التسعينية (ص:94-95، 131-138) ، شرح الأصفهانية (ص:66) - ت مخلوف، مسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/37-38) ، المسألة المصرية في القرآن، مجموع الفتاوى (12/235-236) ، جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/74-75) ، درء التعارض (7/257-273) .

(4)

انظر: أقولا السلف في ذلك في محنة الإمام أحمد بن حنبل (ص:49) ، والرد على الجهمية رقم (344) - البدر، وشرح السنة اللالكائي رقم (582-584)(2/348)، والنقض على المريسي للدارمي (ص:474) ضمن عقائد السلف، وانظر: العقيدة السلفية في كلام رب البرية تأليف عبد الله بن يوسف الجديع (ص:71-180) .

وأما كلام شيخ الإسلام وشرحه لذلك فانظر: شرح الأصفهانية (ص:5-6) ت مخلوف، ومجموع الفتاوى (6/529، 12/40، 274) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/83) .

ص: 1297

حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة (1) ، ومن ثم كانوا يعترفون بأن هذا القرآن كلام الله، ويحترمونه.

فجاء بعد ذلك أقوام - من أتباعهم - فقالوا - في القرآن إنه "معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء، أو صنفها جبريل، أو محمد، فضموا إلى ذلك، أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه - لما رأوا أن مجرد كونه دليلا لا يوجب الإحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام؛ فإن الموجودات كلها أدلة عليه، ولا يجب احترامها، فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنه من يكتب أسماء الله بالعذرة، اسقاطا لحرمة ما كتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته.

وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله، إهانة له، أنه كافر مباح الدم.

فالبدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ" (2) .

ولا شك أن هذا الغلو والكفر الذي وقع فيه هؤلاء لا يرتضيه جمهور الأشاعرة، ولكن التعصب في بعض الأوقات قد يجر بعض الناس إلى مواقف وأقوال لا تليق، إظهارا لمذهبهم، وإبرازا لقناعتهم به.

والأشعري يطلق على القرآن أنه كلام الله، ولكنه يقول إنه القرآن العربي مخلوق، خلقه الله في الهواء أو الجسم. وأما إطلاق أن هذا القرآن العربي كلام جبري عليه السلام أو محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء من المنتسبين إليه ولم يكن قولا للأشعري (3) .

(1) ومن زعم أن مقصودهم بذلك أن المعنى أن القرآن محفوظ بالقلوب كما أن الله معلوم بالقلوب، ومتلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن، ومكتوب بالمصاحف كما أن الله مكتوب بالمصاحف، فقد غلط عليهم، لأن القرآن عندهم عبارة عنه. انظر: مجموع الفتاوى (8/424) .

(2)

مجموع الفتاوى (8/425) .

(3)

انظر: المصدر السابق (12/557) .

ص: 1298

ثم إن ابن كلاب كان يقول بأن القرآن حكاية عن كلام الله، فلما جاء الأشعري زاد فيه قليلا وقال: لا يجوز أن يقال إنه حكاية، لأن الحكاية قد تكون مطابقة للمحكي، كما يقال: حكى فلان الكلام بلفظه وهذا يناسب قول المعتزلة. والقرآن العربي ليس مطابقا لكلام الله القائم بنفسه، ومن ثم فالأولى عنده - أي عند الأشعري - أن يقال: هو عبارة عن كلام الله، لأن الكلام ليس من جنس العبارة (1) .

ويلاحظ مما سبق تطور أقوال الكلابية والأشعرية في القرآن:

- فالأولون كانوا يحترمونه، ثم خف احترامهم له إلى حد الامتهان، عند بعضهم.

- والأولون كانوا يطلقون أن القرآن كلام الله، وأنه مخلوق خلقه الله في الهواء أو في الجسم، فجاء المتأخرون ليقولوا - صراحة - هو كلام جبريل أو محمد.

- كما أن التطور من التعبير بالحكاية إلى العبارة، فيه ما فيه، وإن كان كل منهما باطلا.

والذي استقر عليه المذهب الأشعري، وقال به جمهورهم أن القرآن العربي مخلوق، وليس هو كلام الله - مع اختلاف فيما بينهم في بعض التفاصيل (2) - وهم قالوا هذا بناء على مذهبهم في الكلام النفسي الذي يقوم بالله ولا ينفصل عنه، بل هو - على زعمهم - لازم له أزلا وأبدا.

والأشاعرة - مع قولهم بالكلام النفسي - وإن كانوا يوافقون أهل السنة في الرد على المعتزلة، إلا أنهم يخالفون مذهب السلف - في مسألة القرآن - في أمرين مهمين:

(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/272)، والتسعينية (ص:87، 237-238، 266) ، ودرء التعارض (2/107) .

(2)

انظر: جواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى - (17/69-70) .

ص: 1299

أحدهما: قولهم إن نصف القرآن من كلام الله، والنصف الآخر ليس كلام الله عندهم، أي أن المعنى كلام الله أما القرآن العربي فليس كلام الله، وإنما خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو أحدثه جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك أنهم في هذا النصف العربي موافقون لمذهب المعتزلة، لكن المعتزلة يقولون هو كلام الله، وهو مخلوق، وهؤلاء يقولون: هو مخلوق وليس كلام الله. وكل منهم وقع في البدعة.

والثاني: قولهم إن القرآن المنزل إلى الأرض ليس هو كلام الله، فما نزل به جبريل من المعنى واللفظ، وما بلغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته من المعنى واللفظ ليس هو كلام الله، لا حروفه ولا معانيه، بل هو مخلوق عندهم، وإنما يقولون: هو عبارة عن كلام الله القائم بالنفس، لأن العبارة لا تشبه المعبر عنه (1) .

هذه خلاصة مذهب الأشاعرة في القرآن، كما عرضها شيخ الإسلام، ولعل تصورها، مع ما سبق من مناقشات لأقوالهم في الكلام النفسي، وفي قولهم إنه معنى واحد - كاف في بيان بطلانها، ومع ذلك فقد رد عليهم شيخ الإسلام، ويمكن بيان مناقشته لهم من خلال ما يلي:

1-

لا شك أن قول الأشاعرة في القرآن قد بنوه على أن الكلام عندهم معنى قائم بالنفس، قديم أزلي، لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، لذلك قالوا في هذا القرآن الذي يتلى إنه مخلوق، خلقه الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ، أو إنه أحدثه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هو كلام الله. ولا شك أن الأساس الذي بنوا عليهم مذهبهم هذا باطل - كما سبق بيانه -:

- فالكلام هو اللفظ والمعنى، ولا يسمى كلاما ما دام قائما بالنفس.

- كما أن النصوص دلت على أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلامه مثل فعله، وهذا ثابت لله وإن سماه هؤلاء حلولا.

(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/272-273، 376-379) .

ص: 1300

وإذا تبين بطلان هذه الأسس التي بنوا عليها مذهبهم، علم أن قولهم في القرآن مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف والأئمة.

2-

أما احتجاجهم على أن القرآن من جبريل أو محمد بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة:40) والرسول في آية الحاقة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي آية التكوير هو جبريل عليه السلام فهو احتجاج غريب، خاصة وأن النصوص الأخرى واضحة الدلالة في أنه منزل من عند الله وأنه كلام الله. وقد رد عليهم شيخ الإسلام في استدلالهم بما يلي:

أ - أنه: "أضافة إلى الرسول من البشر تارة، وإلى الرسول من الملائكة تارة، باسم "الرسول"، ولم يقل: إنه لقول ملك، ولا نبي؛ لأن لفظ الرسول يبين أنه مبلغ عن غيره، لا منشى له من عنده {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} (النور: من الآية54) ، فكان قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} (الحاقة:40) بمنزلة قوله: لتبليغ رسول، أو مبلغ من رسول كريم، أو جاء به رسول كريم، وليس معناه أنه أنشأه أو أحدثه أو أنشأ شيئاً منه وأحدثه رسول كريم، إذ لو كان منشئا لم يكن رسولا فيما أنشأه وابتدأه، وإنما يكون رسولا فيما بلغه وأداه، ومعلوم أن الضمير عائد إلى القرآن مطلقا"(1) .

ب- "وأيضاً فلو كان أحد الرسولين أنشأ حروفه ونظمه امتنع أن يكون الرسول الآخر هو المنشى المؤلف لها، فبطل أن تكون إضافته إلى الرسول لأجل إحداث لفظه ونظمه"(2) .

ولو صح قول هؤلاء لجاز أن يقال إنه قول البشر، وهذا قول الوحيد الذي فضحه الله وأصلاه سقر، ولو قالوا: الوحيد جعل الجميع قول البشر، ونحن جعلنا الكلام العربي قول البشير، وأما معناه فهو كلام الله، فيقال لهم:

(1) مجموع الفتاوى (12/265-266)، وانظر أيضاً: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/377-378) .

(2)

المصدر السابق (12/266)، وانظر: المصدر نفسه (2/50، 12/308) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/377) .

ص: 1301

هذا نصف قول الوحيد، والقرآن الذي يتلى هو الذي كان يفهم منه المشركون أنه كلام الله دون أن يفرقوا بين ألفاظه ومعانيه (1) .

ج- ودلالة الآيتين واضحة، لأنه لما كان المبلغ للقرآن ملكا وليس شيطانا، أخبر تعالى أنه تبليغ ملك كريم، وكذلك الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو المبلغ لهذا القرآن للناس، وأن هذا الرسول ليس شاعرا ولا كاهنا وإنما هو رسول كريم (2) .

وكثيرا ما يركز شيخ الإسلام على بيان أن الكلام كلام لمن اتصف به مبتدئا منشئا لا لمن تكلم به مبلغا مؤديا. وهذا واضح، فإن من قرأ حديثا للرسول صلى الله عليه وسلم، أو قصدة لشاعر، فإنه لا يقول عاقل إن الحديث أو القصيدة هي من إنشاء راويها (3) .

3-

أن هناك أدلة تدل على نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه.

ومن هذه الأدلة قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ * وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: من الآية 98-103) .

فقوله {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (النحل: من الآية102) يدل على نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، كما أن قوله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/266-267، 307) ، ودرء التعارض (1/258) .

(2)

انظر: المصدر السابق (12/270) .

(3)

انظر: الكيلانية مجموع الفتاوى (12/378) ، ودرء التعارض (1/256-257) .

ص: 1302

يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ، وهم كانوا يقولون إنما يعلمه بشر، ولم يكونوا يقصدون أنه يعلمه معانيه فقط، لقوله بعد ذلك:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} والله تعالى أبطل قول الكفار، لأن لسان الذي يضيفون إليه القرآن أعجمي، والقرآن بلسان عربي مبين (1) .

ومن الأدلة - أيضاً - قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: من الآية112) إلى قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (الأنعام:114) والكتاب اسم للقرآن العربي بالضرورة والاتفاق، وهذا يرد على الكلابية والأشعرية، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} يتناول نزول القرآن العربي على كل قول من الأقوال التي تفرق بين كتاب الله وكلام الله، أو بين القرآن (المعنى) ، والقرآن (اللفظ) . لأن الله سمى مجموع اللفظ والمعنى كتابا وقرآنا وكلاما (2) .

والقرآن الكريم يجب أن يعلم فيه أصلان عظيمان:

أحدهما: "أن القرآن له بهذا اللفظ والنظم العربي اختصاص لا يمكن أن يماثله في ذلك شيء أصلا، أعني خاصة في اللفظ، وخاصة فيما دل عليه من المعنى، ولهذا لو فسر القرآن ولو ترجم، فالتفسير والترجمة قد يأتي أصل المعنى أن يقربه، وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا، ولهذا كان أئمة الدين على أنه لا يقرأ بغير العربية، لا مع القدرة عليها، ولا مع العجز عنها

".

الأصل الثاني: أن القرآن إذا ترجم أو قرئ بالترجمة فله معنى يختص به لا يماثله فيه كلام أصلا، ومعناه أشد مباينة لفظه ونظمه لسائر اللفظ والنظم، والإعجاز في معناه أعظم بكثير كثير من الإعجاز في لفظه

" (3) . ومعلوم

(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/123-124) .

(2)

انظر: المصدر السابق (12/124-126) .

(3)

التسعينية (ص:215) .

ص: 1303

أن الإعجاز شامل للفظ والمعنى.

4-

أن قول الأشاعرة في القرآن يقرب كثيرا من قول المعتزلة، وقد اعترف بذلك بعض علمائهم وذكروا أن بالنسبة للقرآن العربي لا فرق فيه بين القولين.

فالأشاعرة يوافقون المعتزلة في إثبات خلق القرآن العربي، ولكنهم يفارقونهم من وجهين:

أحدهما: أن المعتزلة يقولون: المخلوق كلام الله، والأشاعرة يقولون: إنه ليس كلام الله، لكن يسمى كلام الله مجازا، وهذا قول جمهورهم، ومن قال من متأخريهم إنه يطلق على المعنى وعلى القرآن العربي بالاشتراك اللفظي فإنه ينتقض عليهم أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به.

وعند المفاضلة بين قولي المعتزلة والأشاعرة هنا يلحظ أن الأشاعرة لا يقولون عن القرآن العربي هو كلام الله حقيقة، أما المعتزلة فيقولون هو كلام الله حقيقة - مع اتفاقهم على أنه مخلوق، فقول الأشاعرة شر من قول المعتزلة، لأنهم زادوا عليهم بالقول أن القرآن ليس كلام الله.

والثاني: أن الأشاعرة يثبتون لله كلاما هو معنى قائم بذاته، والمعتزلة يقولون: لا يقوم به كلام. ومن هذا الوجه فالأشاعرة خير من المعتزلة. وإن كان جمهور الناس يقولون: إن إثبات الأشاعرة للكلام النفسي، وقولهم إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة - يؤدي في النهاية إلى أن لا يشبتوا لله كلاما حقيقة غير المخلوق (1) .

وبهذا يصبح قول الأشاعرة في القرآن أشد بطلانا وفسادا من أقوال المعتزلة الذين أجمع السلف على تبديعهم والإنكار عليهم، وهذا ما يفسر هجوم أئمة السلف - في كل عصر - على الكلابية والأشعرية فإنهم كانوا يعرفون حقيقة مذهب هؤلاء، وما يؤدي إليه من انحراف.

(1) انظر: مجموع الفتاوى (12/121-123، 132، 15/222)، والتسعينية (ص:235-236) .

ص: 1304

5-

بين اللفظ والأشاعرة:

والمقصود باللفظية الذين يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهذه الفئة نشأت قبل الأشاعرة. وقد كان موقف الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف منهم أنهم جعلوهم جهمية، وجعلوا الجهمية ثلاث طوائف:

- من قال إن القرآن مخلوق.

- واللفظية الذين يقولون تلاوة القرآن، واللفظ بالقرآن مخلوق.

- والواقفة الذين لا يقولون القرآن مخلوق ولا غير مخلوق.

فلما انتشر هذا بين أهل السنة نشأ في مقابل "اللفظية" طائفة مقابلة لهم قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وتلاوتنا له غير مخلوقة، ولكن الإمام أحمد بدع هؤلاء وأمر بهجرهم.

واستقر مذهب السلف على تبديع الطائفتين، وصار من أصول مذهبهم في القرآن أنه كلام الله غير مخلوق، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال غير مخلوق فهو مبتدع، وكذلك من وقف فيه فهو مبتدع.

وموقف السلف مبني على ما في مسألة "اللفظ" و"التلاوة" من الإجمال؛ إذ قد يراد به المقروء والمتلو، وقد يراد به صوت القارئ وفعله. فمنعوا من إطلاق الأمرين لذلك.

فلما جاء الأشعري ومن معه - بما معهم من المذهب في الكلام النفسي وأن القرآن العربي مخلوق - وأرادوا موافقة السلف في الإنكار على الطائفتين من طوائف "اللفظية"، ذكروا قول السلف هذا (1) ، ولكنهم فسروا مقصودهم باللفظ تفسيرا آخر، وهو أنهم قالوا إن قصد السلف باللفظ: النبذ والطرح، ولم يكن قصدهم التلاوة، وهذا تفسير الأشاعري وابن الباقلاني، والقاضي أبي يعلى

(1) انظر: المقالات للأشعري (ص:292) - ت ريتر، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/362) ، ومجموع الفتاوى (6/527) .

ص: 1305

وابن الزاغوني وغيرهم (1) .

والاشاعرة فسروا كلام السلف بهذا التفسير ليسلم لهم مذهبهم في القرآن العربي وأنه مخلوق، لأنهم بهذا موافقون لمن يقول لفظي بالقرآن مخلوق، ويقصد به التلاوة.

ولا شك أن هؤلاء مخطئون فيما ظنوه، والإمام أحمد وغيره لم ينكروا إطلاق اللفظ لأن المقصود به الطرح، وإنما لأن اللفظ يقصد به التلاوة والقراءة، والمسلمون يقولون تلوت القرآن وقرأته.

ثم إن اللفظ وارد في الكلام، فيقال: لفظت الكلام وتلفظت به كما قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ:18)، وأهل السنة ربطوا بين اللفظ والتلاوة فقالوا: من قال لفظي بالقرآن وتلاوتي أن قراءتي مخلوقة فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق فهو مبتدع (2) .

ومسألة اللفظ شرحها شيخ الإسلام وبين ما فيها من اللبس، مع بيان ما جرى بين علماء السنة فيها، وفصل وجه الحق فيها، وبين وجه إنكار السلف على الطائفتين، وما في هذه الألفاظ من الإجمال (3) .

كما عرض شيخ الإسلام لمسألة أخرى متعلقة بذلك وهي مسألة الحروف عموما في كلام الله وكلام غيره - هل يقال إن الحروف مخلوقة لأنها من كلام الآدميين، أو يقال: إنها ليست مخلوقة لأنها من كلام الله، كل قول من هذين قال به طوائف.

(1) انظر: الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/362) ، ودرء التعارض (1/268) .

(2)

انظر: المسألة المصرية في القرآن - مجموع الفتاوى - (12/209-210) .

(3)

انظر: في مسألة "اللفظ" درء التعارض (1/256-271)، والتسعينية (ص:234-235) ، ومجموع الفتاوى (12/306-307، 573-574) ، والمسألة المصرية - مجموع الفتاوى (12/206-210) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى (12/74-75) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى (12/359-364، 374، 408-433) ، وجواب أهل العلم والإيمان - مجموع الفتاوى (17/34-36) .

ص: 1306

والصواب في ذلك أن يقال ما قاله الأئمة كأحمد وغيره: "إن كلام الإنسان كله مخلوق حروفه ومعانيه، والقرآن غير مخلوق حروفه ومعانيه"(1) .

والخلاصة أن مذهب الأشاعرة في القرآن العربي موافق لأقوال اللفظية الذين يقولون ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وهؤلاء عدهم أئمة السنة من الجهمية.

هذه أهم مباحث "كلام الله" عند الأشاعرة، ومن ذلك يتبين أن الأشاعرة وإن أثبتوا صفة الكلام بإجمال، إلا أنهم ضلوا فيه وخالفوا الكتاب والسنة وأقوال السلف - في أمور أهمها:

1-

قولهم بالكلام النفسي، وأنه لازم لذات الله تعالى.

2-

قولهم بأن كلام الله قديم وأن الله لا يتكلم إذا شاء متى شاء، وأن موسى لم يسمع كلام الله - وقت تكليمه - وإنما سمع الكلام الأزلي، أو أن الله خلق له الإدراك.

3-

قولهم بأن كلام الله معنى واحد، لا يتجزأ ولا يتبعض، إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وأن الخبر والأمر والنهي شيء واحد.

4-

قولهم بأن القرآن العربي مخلوق، وما في هذا من موافقة للمعتزلة، واللفظية وغيرهم من الجهمية.

ولا شك أن هذه المسائل المتعلقة بكلام الله عظيمة جدا، ومذهب الأشاعرة فيها كان ضلالاً وانحرافا واضحاً عن مذهب السلف والأئمة.

(1) الكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/450) ، وانظر - مناظرة حول الواسطية - مجموع الفاوى (3/173) ، ومسألة الأحرف - مجموع الفتاوى - (12/37-116) ، والكيلانية - مجموع الفتاوى - (12/413-414، 441-453) ، ومجموع الفتاوى (12/571-573) .

ص: 1307