الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما مسألة أخبار الآحادث فقد سبق مناقشتها في المنهج العام في الرد على الأشاعرة، وبيان الخطأ والضلال والتناقض الذي وقعوا فيه حين قالوا إن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول لا تفيد العلم ولا يحتج بها في العقائد (1) .
أما مسألة المتشابه والتأويل والتفويض، فيمكن مناقشتها من خلال الفروع التالية:
الفرع الأول: معنى المتشابه، وهل الصفات أو بعضها منه
؟:
مما يلاحظ أن أهل الكلام - وفيهم الأشاعرة - مع اهتمامهم بالعقل وأدلته، وتقديمها على أدلة السمع عند التعارض، إلا أنهم يحاولون أن يجدوا لبعض أصولهم العقلية ومنطلقاتهم الكلامية، أدلة من السمع، وقد سبق ذكر مثالين على ذلك:
أحدهما: استدلالهم على دليل حدوث الأجسام - الذي كان سببا في كثير من ضلالات المتكلمين في الصفات - استدلالهم عليه بقصة الخليل وقوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الأنعام: من الآية76) وقد سبق مناقشة هذا الدليل (2) .
والثاني: احتجاجهم على نفي العلو وبعض الصفات بنفي التجسيم، وقد استدلوا على نفيه بقوله تعالى في قصة موسى {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَار} (لأعراف: من الآية148) . وقد سبق قبل قليل مناقشة هذا الاستدلال.
وفي هذه المسألة يرد مثال ثالث على هذا المنهج الذي أرادوا أن يدعموا به مذهبهم في الصفات أو بعضها؛ وذلك أنهم كثيرا ما يحتجون على تأويلهم للصفات، أو تفويضهم لها بأنها من المتشابه، ويستدلون على ذلك بالآية المشهورة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
(1) انظر: (ص:734-751) .
(2)
في الفصل الماضي، المتعلق بتوحيد الربوبية والألوهية.
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران:7) ، ويبنون احتجاجهم بها على أن الصفات من المتشابه، ويقررون ذلك بأمرين:
إما بالإستدلال بها على أن مذهب السلف هو التفويض الكامل، الشامل للمعنى وللكيفية، وذلك عند ردهم على من يثبت الصفات ويحتج بما تواتر من إثبات السلف رحمهم الله لها. فيحتجون بهذه الآية على قراءة الوقف على "إلا الله". وهذا التفويض الذي جعلوه مذهبا للسلف يقصدون منه أنهم - أي السلف - جعلوا هذه الصفات من المتشابه، وأثبتوها ألفاظ مجردة لا تدل على معان ولا يفهم منها شيء. وهدفهم النهائي من ذلك أن يجعلوا تأويلهم للصفات وصرفها عن ظواهرها اللائقة بالله، موافقا ضمنا لما يدعونه من تفويض السلف، إذ على كلا الحالتين لا تدل النصوص على الصفات اللائقة بجلال الله وعظمته.
وإما - وهذا هو الأمر الثاني - أن يستدلوا بالآية على جواز التأويل - الذي هو عند المتأخرين صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح - ويقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابهات - ومنها على زعمهم الصفات - وهذا على قراءة مجاهد وغيره بعطف - (والراسخون في العلم) على ما قبله.
والمحكم والمتشابه من مباحث علوم القرآن المشهورة، وقد تعددت الأقوال ف بتحديد المقصود بالمحكم والمتشابه المذكورين في آية عمران (1) .
أما الإحكام العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} (هود: من الآية1)، والتشابه العام الذي دل عليه مثل قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ
(1) انظر: البرهان (2/68) ، والاتقان (3/3-5) ، ومناهل العرفان (2/168-171)، واللآلي الحسان في علوم القرآن تأليف موسى لاشين (ص: 157-158) ، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/418-424) .
أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِي} (الزمر: من الآية23) . فهو شامل لجميع القرآن، لأن القرآن كله محكم، ويشبه بعضه بعضا في ذلك. وهذان المعنيان لم يخالف فيهما أحد.
ومسألة المحكم والمتشابه اكتسبت أهمية خاصة عند كثير من المتأخرين، لما دخل فيهما من موضوعات مهمة كانت مثار خلاف وجدل بين العلماء.
والملاحظ أن ما كتبه الفخر الرازي في تفسيره (1) ، وفي كتابه أساس التقديس (2) حول المحكم والمتشابه وما يتعلق بهما - أصبح مرجعا أساسا لكثير ممن أتى بعده، وإن كان قد سبق إلى ذلك بعض الأشاعرة (3) والمعتزلة (4) .
وليس المقصود تتبع مباحث المحكم والمتشابه، لأن هذه لها مناسبات أخرى، وإنما المقصود بيان أن أهم الأمور التي ركز عليها الرازي في ذلك أربعة أمور:
1-
أنه لا بد من قانون أصلي لمعرفة المحكم والمتشابه، ثم بين أنه لا يجوز ترك الظاهر الذي دل عليه الآية والخبر إلا بدليل منفصل، ثم ذكر أن هذا الدليل المنفصل إما لفظي وإما عقلي.
أما الدليل اللفظي المنفصل فإذا عارض دليلا آخر فليس ترك أحدهما لإبقاء الآخر أولى من العكس. ثم رد الرازي على زعم أن الدليل اللفظي قد يكون قاطعا فيجب تقديمه لذلك: بأن "الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وعلى عدم الإشتراك، والمجاز، والتخصيص، والإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي. وكل واحد من هذه المقدمات مظنونة، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنونا، فثبت أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يمكن أن يكون قطعياً (5) . كما رد على من قال إن أحد
(1)(7/166) وما بعدها.
(2)
(ص:178-192) - ط الحلبي.
(3)
كالجويني في الشامل (ص:550-553) ، فقد تعرض لذلك عند حديثه عن صفة الاستواء.
(4)
كعبد الجبار الهمذاني المعتزلي في كتبا متشابه القرآن (ص:5) وما بعدها، وقد نص على أنه يجب ا، رتب المحكم والمتشابه جميعا على أدلة العقل. انظر (ص:7) ، وقد أخذ الرازي بقوله هذا.
(5)
أساس التقديس (ص:182) - ط الحلبي، وانظر ما سبق (ص:841-842) .
الظاهرين أقوى فيعول عليه بأنه "على هذا التقدير يصير ترك أحد الظاهرين لتقرير الظاهر الثاني مقدمة ظنية، والظنون لا يجوز التعويل عليها في المسائل العقلية القطعية"(1) .
ولما أبطل التعويل على الدليل اللفظي عول على الدليل العقلي المنفصل فقال: "فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل العقلي القاطع على أن ظاهره محال ممتنع، فإذا حصل هذا المعنى فعند ذلك يجب على المكلف أن يقطع بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما أشعر به ظاهره. ومن لم يجوزه فوض علمه إلى الله تعالى"(2) .
وخلاصة رأي الرازي أن الآية والخبر تصير متشابهة ويجب عدم اعتقاد ظاهرها بتأويل أو تفويض - إذا عارضها الدليل العقلي القاطع.
2-
ومن الأمور التي ركز عليها الرازي إدخاله الصفات في المتشابه، ومعلوم أ، كتابه "أساس التقديس" خصصه لمناقشات نصوص الصفات وتأويلها، وقد ناقش فيه بإسهاب موضوع المحكم والمتشابه ناصرا مذهبه الذي سار عليه.
3-
ومن الأمور التي ذكرها أن الحكمة من إنزال المتشابه مراعاة أحوال العوام في أول أمرهم فيخاطبون بما يدل على التجسيم والتحيز والجهة لأن ذلك يناسب ما تخيلوه وتوهموه. فهذا الذي يخاطبون به من باب المتشابهات، ثم يكشف لهم آخر الأمر استحالة هذه الأمور، الذي هو المحكمات (3) .
4-
أنه قرر مذهب السلف بقوله: "حاصل هذا المذهب أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها" ثم قرر مذهب المتكلمين بقوله: "وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك
(1) أساس التقديس (ص:182) ط الحلبي.
(2)
المصدر السابق، الصفحة نفسها.
(3)
المصدر السابق (ص: 192) ط الحلبي.
المتشابهات" (1) . ثم لما ذكر حجج مذهب السلف من الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: من الآية7) ، وإجماع الصحابة على عدم التأويل، قال عن المتكلمين أن حجتهم: "أن القرآن يجب أن يكون مفهوما، ولا سبيل إليه في الآيات (2) المتشابهة إلا بذكر التأويلات فكان المصير غليه حتما" (3) .
وقد تكلم الرازي في تفسيره (4) بمثل ما في أساس التقديس وزيادة، ومن ثم تأثر به - في هذه الأمور الأربعة وغيرها - من جاء بعده (5) .
ومن المؤسف حقا أن أحد الباحثين أفرد موضوع المتشابه في كتاب مستقل رجح فيه منهج المتكلمين والمعتزلة بشكل خاص، واعتمد في نقوله وأقواله على ما كتبه الغزالي في الجام العوام، وما كتبه الرازي، وعبد الجبار الهمذاني. ولم يحقق القول في مذهب السلف، بل ركز على أن مذهبهم هو التفويض ورد على شيخ الإسلام في ذلك (6) . وقد حوى الكتاب - تقليدا من صاحبه للكوثري -
(1) أساس التقديس (ص: 182-183) .
(2)
في طبعة الحلبي (ص: 187)(روايات) والتصويب من طبعة السقا (ص: 240) .
(3)
أساس التقديس (ص:187) ط الحلبي، و (ص:240) ت السقا.
(4)
(7/167-178) .
(5)
من هؤلاء الزركشي في البرهان في علوم القرآن (2/76-89) ، والسيوطي في الاتقان (3/12-21، 32) ، وفي معترك الأقران في إعجاز القرآن (1/146-155، 160) ، والزرقاني في مناهل العرفان (2/170-171، 179، 182-198)، وصبحي الصالح في مباحث في علوم القرآن (ص: 283-286) طالثامنة. أما مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي فقد بنى كتابه: "أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمتشابهات" على إدخال الصفات في المتشابه، وقدم لكتابه بمقدمة طويلة حول المحكم والمتشابه، نقل فيها أقوال الرازي والسيوطي وغيرهما - انظر (ص: 55، 59، 65-67) ط الأولى 1389هـ، ثم أخذ يسوق الصفات والكلام حولها بقوله ومن المتشابه صفة كذا وكذا، انظر (ص: 70، 77، 80، 81، 116، 120، 149) وغيرها. والمؤلف وإن نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية ورجح ما رجحه، إلا أنه لا يخلو من ملاحظات، انظر مثلا (ص: 97، 162) حين عول على التفويض.
(6)
الكاتب هو عدنان زرززور، واسم كتابه "متشابه القرآن: دراسة موضوعية" انظر من هذا الكتاب (ص: 56) وما بعدها، و (ص: 68) وما بعدها، و (ص: 87-121) ، ومما ينبغي معرفته أن هذا الكتاب - في الأصل - مقدمة لتحقيق المؤلف لكتاب متشابه القرآن لعبد الجبار المعتزلي. وإنما أشرت إلى ذلك لأن هذه الدراسة التي كتبها زوزور وطبعت مستقلة هي أطلو دراسة أطلعت عليها حول موضوع المتشابه، وقد حوت كثير ما من الأخطاء والمغالطات، ولأن مؤلفها اشتهر بعنايته بالدراسات القرآنية والتأليف فيها، ومن ذلك تحقيقه لمقدمة في أصول التفسير لابن تيمية. وقد يظن من لا علم عند أن هذا يدل على سلامة منهجه ورسالة الدكتوراه له كانت عن الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن. والجشمي من أئمة المعتزلة. وزرزور من المعجبين بالمعتزلة ومنهجهم العقلي ومن دعاة وحدة الفكر الإسلامي بإعادة النظر في الفرق والطوائف السابقة لتصحيح النظرة إليها، وهذا منهج خطير جدا. انظر: الحاكم الجشمي ومنهجه في تفسير القرآن: زرزور (ص:6-11) ط الأولى.
كثير من الحقد والسخرية بأئمة أهل السنة وكتبهم، ونال شيخ الإسلام من ذلك حظ وافر (1) .
وقد ناقش شيخ الإسلام موضوع المحكم والمتشابه، ورد على الرازي وغيره ممن غلط في جعل الصفات من المتشابه، أو جعل ما خالف العقل فهو متشابه، أو غير ذلك من الأمور التي خاض فيها أهل الكلام. وما كتبه شيخ الإسلام في ذلك كثير، وأهمه ما ذكره في ثلاثة من كتبه:
أحدها: ما ذكره في نقضه لأساس التقديس للرازي - وقد يسمى كتاب الرازي تأسيس التقديس - وقد أطال شيخ الإسلام في ذلك، وناقش الرازي في كل ما كتبه، على طريقته في استيعاب مناقضة فصول هذا الكتاب، ولكن - للأسف الشديد - انتهت المخطوطة الموجودة قبل إتمام مباحث هذا الموضوع (2) .
(1) انظر: متشابه القرآن: عدنان زرزور (ص: 101-107، 111، 115، 125-127، 155-160) ط الأولى.
ومن الملاحظ أن المؤلف استعان بما كتبه ابن الجوزي نصرة لأهل التعطيل - وهو بذلك يتبع شيخه الكوثري - فلما تكلم ابن الجوزي في شيوخ الاعتزال وأن حقهم الضرب بالسيف أخذ يسخر منه، انظر:(ص:133-134) ، وقريب من ذلك إعجابه واعتماده على ما كتبه الرازي حول المتشابه فملا قرن المعتزلة بالشبهة وجعلهم جميعا منالزائغين الضالين، انتقده ورد عليه. انظر (ص: 139-140) .
وأعجب من ذلك أنه في (ص: 158) هاجم ابن تيميةووصفه بالجحد والتعسف لأنه لم يذكر أن من معاني التأويل: التفسير، بل زعم أنه أنكر ذلك. وهذا خطأ واضح لأن شيخ الإسلام ذكر في عامة كتبه أن من معاني التأويل عند السلف: التفسير، وسيأتي إن شاء الله ذك رالمراجع الكثيرة في ذكر من كتب شيخ الإسلام. والمؤلف تجنى كثيرا على شيخ الإسلام، ونحن نبهنا إلى ذلك بإجمال، ول بصاعه كلنا لجاء الكلام معه بأسولب آخر. والله المستعان.
(2)
انظر: الجزء الثاني من مخطوطة - نقض التأسيس (ص: 199إلى 360) حيث ينقطع الكلام بشكل مفاجئ، وهو رد على الصفحات (173-182) من أساس الرازي. وبقى من (ص:183-192) من أساس الرازي ساقط في مخطوطة نقضه لشيخ الإسلام وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا الجزء من مخطوطة جامعة الملك سعود حقه أن يكون الثالث منها.
الثاني: في تفسير سورة الإخلاص، وقد بلغت مباحث المحكم والمتشابه فيها أكثر من ستين صفحة (1) .
الثالث: في الرسالة التي أفردها في هذا الموضوع بعنوان: الإكليل في المتشابه والتأويل (2) .
وخلاصة منهج شيخ الإسلام وهدفه من هذه المناقشة الدفاع عن عقيدة السلف في الأسماء والصفات وغيرها والرد على المتكلمين الذين جعلوا من مسائل المحكم والمتشابه مدخلا لتأويل نصوص الصفات وتحريفها لتوافق عقائدهم وأصولهم الفاسدة، ويمن تلخيص منهجه من خلال الأمور التالية:
الأمر الأول: تحقيق مسألة: هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه؟:
وهي مسألة مهمة تبني عليها مسألة المتشابه، ولذلك أطال شيخ الإسلام الكلام حولها، خاصة في تعليقه أو مناقشته للرازي، الذي ذكر هذه المسألة في أساسه قبل حديثه عن المتشابه فقال ذاكرا الخلاف فيها:"اعلم أن كثيرا من الفقهاء والمحدثين والصوفية يجوزون ذلك. والمتكلمون ينكرونه"(3) . ثم ذكر حجج المتكلمين الكثيرة، أعقبها بذكر حجج مخالفيهم، ثم قال:"هذا ما عندي من كلام الفريقين في هذا الباب وبالله التوفيق"(4) .
وقد رجح شيخ الإسلام أدلة من يقول إنه لا يجوز أن يكون في القرآن مالا سبيل لنا إلى العلم به، وزاد على الأدلة التي أوردها الرازي أدلة أخرى كثيرة (5) ،
(1) طبع تفسير سورة الإخلاص مستقبلا، وهو ضمن مجموع الفتاوى ج- 17، وبحوث المحكم والمتشابه (ص: 381-443) من هذا الجزء.
(2)
ضمن مجموع الفتاوى (ج- 13 ص: 270-313) . وضمن مجموع الرسائل الكبرى (2/5-36) .
(3)
أساس التقدير للرازي (ص: 173) ط الحلبي.
(4)
المصدر السابق (ص: 177)، وانظر (ص: 173-177) .
(5)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/200-214)، وانظر: أدلة أخرى عديدة في تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/395-414) .
وإن كان قد تعقبه في بعض أدلته - مثل بعض الأدلة العقلية التي أوردها - لأنها لا تتفق مع أصوله الاشعرية (1) . وشيخ الإسلام هنا لا يعارض استدلاله وإنما يبين تناقضه.
يقول شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الحجج - ردا على الرازي -: "هذه الحجج كما أنها دالة على فساد قول من قال: إن في القرآن ما لا سبيل لأحد إلى فهمه، بل معرفة معناه، فهي أيضاً دالة على فساد قول هؤلاء المتكلمين، نفاة الصفات أو بعضها، فهي حجة على فساد قول الطائفتين، وذلك أن هؤلاء النفاة يقولون: إن التوحيد الحق الذي يستحقه الله تعالى ويجب أ، يعرف به ويمتنع وصفه بنقيضه ليس هو في القرآن، ولم يدل عليه القرآن. ودلالة الخطاب المعروفة، وهو كون الرب ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا يشار إليه ولا يقرب من شيء ولا يقرب من شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يحجب العباد عنه شيء، ولا عنده شيء دون شيء، بل جميع الأشياء سواء، ولا يحتجب عنهم بشيء، وأنواع ذلك، فمن المعلوم أن القرآن لم يدل على شيء من ذلك، ولا بينه، بل إنما دل على نقيضهن وهو إثبات الصفات [التي] (2) تدل على أنه يقرب من غيره ويدونه إليه، ويقرب العبد منه ويدنون إليه،، وعلا انه عالى على جميع الأشياء، فوقها، وأنه ينزل منه كلامه، وتنزل الملائكة من عنده وتعرج إليه، وأمثال ذلك، وهم متفقون على أن ظاهر القرآن إنما يدل على الإثبات الذي هو عندهم تجسيم باطل بل كفر. وغيرهم يقول: بل دلالة القرآن على ذلك نصوص صريحة، بل ذلك معلوم بالاضطرار من القرآن والرسول"(3) .
وهؤلاء المتكلمون النفاة أرادوا أن يتوصلوا بقولهم الذي وافقهم عليه شيخ الإسلام - إلى تأويل النصوص إلى معان أخرى باطلة - وقد احتجوا بالآية
(1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/213-214) .
(2)
زيارة مني ليستقيم الكلام.
(3)
نقض التأسيس - مخطوط - (2/215) .
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آل عمران: من الآية7) على قراءة العطف وفسروا التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم بأنه صرف اللفظ من الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح. وهذا خطأ عظيم لأن التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم - على قراءة الوصل - هو التفسير، وهذا قد لا يعلمه بعض الناس لكن الراسخين في العلم يعلمونه، "فمن قال إن القرآن يجوز أن يشتمل على ما لا سبيل لبعض الناس إلى العلم به فقد أصاب، وذلك لعجزه، لا عن نقص في دلالة القرآن، فكثير من الناس لا سبيل له إلى أن يعلم كثيرا من العلوم كالطب والنجوم والتفسير والحديث، وإن كان غيره يعلم ذلك، وإن أراد أنه لا سبيل لأحد إلى معرفة تفسيره فقط غلط. وإن قال: لا سبيل لأحد إلى معرفة حقيقته وكيفيته وهيئته ونحو ذلك فقد أصاب، فينبغي أن يعرف الفصل في هذا الباب حتى يظهر الخطأ من الصواب"(1) .
وقد أوضح شيخ الإسلام قبل ذلك ما في قول القائل: ما لا سبيل لنا إلى العلم به من الإجمال (2) .
بقى الكلام في أدلة الفريق الثاني المجوزين لوجود مالا سبيل لنا إلى العلم به، وقد ساق الرازي أدلتهم، ثم سكت عن الترجيح بين القولين، ولذلك رد عليه شيخ الإسلام قائلاً: "قلت: ذكر القولين ولم يرجح أحدهما، ولم يذكر جواب أحدهما عن حجة الآخرين فبقيت المسألة على الوقف والحيرة والشك. وكذلك لما ذكر بعد هذا تقرير قول من جزم بالتأويل، فإنه هنا ذكر الخلاف في جواز ورود ما أمكن فهم معناه، وهناك ذكر قول من أوجب وقوع ذلك وجزم بالتأويل، وقد ذكر حجة كل قوم، ولم يذكر لهم جواباً عن حجة الآخرين (3) فبقيت المسألة مما تكافأت فيها الأدلة [عنده](4) ، وأما في تفسيره فرجح المنع من التأويل، كما رجح أبو المعالي في آخر قوليه، وكما رجحه أبو حامد
(1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/200) .
(2)
انظر: المصدر السابق (2/199) .
(3)
انظر: حجة الفريقين حول جواز التأويل في أساس التقديس للرازي (ص: 182-187) ، ومن المؤسف أن مخطوطة نقض هذا الفصل انتهت بعد صفحات يسيرة من بداية مناقشتها.
(4)
في المخطوطة (عنه) ، ولعل الصواب ما أثبت.
في آخر قوله" (1) ، ثم نقل كلام الرازي في تفسيره (2) وسبب هذه الحيرة والتوقف عند الرازي - كما يرى شيخ الإسلام - "أن كلا القولين اللذين حكاهما عن المتكلمين والفيذ حكاه عن السلف قول باطل. والذي حكاه عن السلف ليس قولهم ولا قول أحد منهم، ولا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين" (3) .
وبهذا يتبين أن خلاصة رأي شيخ الإسلام أنه لا بدل لكل ما أنزل الله تعالى من معنى يمكنه فهمه، وليس هناك فرق بين آيات الصفات وآيات الأحكام. وكثير من الصحابة والتابعين كانوا يعلمون تفسير القرآن، ولا توجد آية ليس لهم فيها تفسير يوضح معناها. وتفسيرهم وفهمهم للنصوص هو الذي يرجع إليه عند الاختلاف. أما ما يدعيه أصحاب التأويلات المحرفة من تأويلاتهم هي المعاني الصحيحة للآيات التي أولوها، فهذا خطأ منهم (4) .
وفي رسالة الإكليل بين شيخ الإسلام "أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله، ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه، وقال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين: إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم، وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس، وهذا لا ريب فيه"، ثم بين سبب الكلام في هذه المسألة فقال:"وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك، فلقبوها: "هل يجوز أو يشتمل القرآن على مالا يعلم معناه، [وأنا](5) تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم" فجوز ذكر طوائف متمسكين بظاهر الآية، وبأن الله يمتحن عباده بما شاء. ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه.
(1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/221-222) .
(2)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/222) ، وقارن بتفسير الرازي (7/170) .
(3)
نقض التأسيس - مخطوط - (2/222) .
(4)
انظر: المصدر السابق (2/223) .
(5)
في مجموع التاوى (13/285)[وأما] ولذلك جاء في أول السطر، وفي مجموعة الرسائل الكبرى (2/15)[وما] ، ولعل الصواب ما أثبت.
والغالب على كل الطائفتين الخطأ، أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قبل فيه:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ} (البقرة: من الآية78) ، وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه.." (1) .
وهذه مشكلة المتكلمين دائما يظنون أن قول هذه الطائفة - وقد يكون لها وجود - هو مذهب السلف، وهو ما يعبرون عنه بالتفويض وهذا من الأخطاء الكبرى التي انتشرت وارتكب في حق السلف، وهم منها برآء.
بقيت الإشارة إلى أن الرازي لما لم يرجح بين القولين حول مسألة اشتمال القرآن على ما لا سبيل لنا إلى العلم به - انتقده شيخ الإسلام على توقفه وحيرته وشكه ثم رد على أدلة المجوزين التي أوردها الرازي وسكت عنها. وأهم هذه الأدلة:
أقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آل عمران: من الآية7) والوقف لازم.
ب الحروف المقطعة المذكور أوائل السور.
ت خبر: "أن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله
…
" (2) .
وخلاصة ردود شيخ الإسلام عليها كما يلي:
أأما الآية فقد بين أن فيها قراءتين مشهورتين، قال: "ونحن نسلم قراءة من قرأ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ، لكن من أين لهم أن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو المعنى الذي عني به المتكلم، وهو مدلول اللفظ الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه. وهو سبحانه وتعالى لم يقل وما يعلم معناه إلا الله، ولا قال وما يعلم تفسيره إلا الله، ولا قال وما يعلم مدلوله ومفهومه إلا الله، ولا ما دل عليه إلا الله. قال:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ولفظ التأويل له في القرآن معنى، وفي عرف كثير من السلف وأهل التفسير معنى، وفي اصطلاح
(1) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى (13/285-286) .
(2)
انظر: ساس التقديس للرازي (ص: 176) - ط الحلبي. والحديث سبق بيان حاله (ص: 749) .
كثير من المتأخرين له معنى، وبسبب تعدد الإصطلاحات والأوضاع فيه حصل اشتراك غلط بسببه كثير من فهم القرآن وغيره" (1) ، وبعد كلام طويل حول التأويل وأنواعه قال: "وإذا عرف معنى لفظ التأويل ظهر فساد احتجاج هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} فإن التأويل الذي لا يعلمه إلا الله ليس هو أن لا يفهم أحد من اللفظ، بل يفهمونه وإن كان تأويله لا يعلمه إلا الله" (2) ، ثم ذكر عددا من أقوال السلف في الآية تبطل حجة هؤلاء ثم قال: "فابن اسحاق ذكر مثل ابن عباس والضحاك وغيرهم الذين يقولون بالقراءتين. يقولون: له تأويل لا يعلمه إلا الله، وتأويل يعلمه الراسخون، وكذلك عامة أهل العربية الذين قالوا ما يعلم تأويله إلا الله، كالفراء وأبي عبيد وثعلب وابن الأنباري، هم يتكلمون في متشابه القرآن كله وفي تفسيره [و](3) معناه. [و](4) ليس في القرآن آية قالوا لا يعلم أحد تفسيرها ومعناها، فيجب أ، يكون التأويل الذي اختص الله به عندهم غير ما تكلموا فيه من تفسير الآيات المتشابهة.
وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} قد (5) يقال فيه إن المنفي هو عموم السلب لا سلب العموم، أي وما يعلم جميع التأويل إلا الله، وأما بعضه فيعلمه الراسخون كما قال ابن عباس:"وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب"(6) ، فقول الجمهور هو القراءة الصحيحة، وهو أنه لا يعلم غير الله جميع التأويل، كقوله:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (المدثر: من الآية31) أي مجموعهم، وإلا فكثير من الناس يعلم بعض جنود ربنا. وبكل حال تفسيره [و](7) معناه ليس داخلا في التأويل الذي اختص الله به سواء سمي تأويلاً أو لم يسم" (8) .
(1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/223-224) .
(2)
نقض التأسيس - مخطوط - (2/244-245) .
(3)
زيادة مني ليستقيم الكلام.
(4)
زيادة مني ليستقيم الكلام.
(5)
في المخطوطة [وقد] ولعل الواو زائدة.
(6)
أثر مشهور عن ابن عباس وأوله "التفسير على أربعة أوجه
…
" رواه ابن جرير (1/75) ورقمه (71) ، وذكر ابن جرير أنه روى نحوه مرفوعا، لكن بسند فيه نظر، وساقه بعد الأثر السابق، وذكر ابن كثير في آخر مقدمة تفسيره (1/18) - ط الشعب: أن ابن جرير قصد بذلك أن فيه الكلبي وهو ضعيف، وانظر: تعليق شاكر على هذا الحديث في تفسير الطبري (1/76) .
(7)
زيادة مني ليستقيم الكلام.
(8)
نقض التأسيس - مخطوط - (2/247) .
والخلاصة أن قراءة الوقف على (إلا الله) لها وجهان:
- أما أن يكون المقصود بالتأويل الحقيقة التي تؤول إليها الأمور.
- أو يكون المقصود به جميع التأويل الذي هو التفسير، ويدل له قول ابن عباس حيث صرح بأن من التفسير ما لا يعلمه إلا الله، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام، وبهذا - مع الكلام الذي سيأتي عن الحروف المقطعة أوائل السور - يظهر الجواب عما استشكله الشنقيطي في هذا المقام والله أعلم (1) .
ب أما الحروف المقطعة أوائل السبور فقد أجاب شيخ الإسلام عن دعوى أنه من المتشابه بعدة أجوبة:
أحدها: "أن هذه ليست كلاما منظوما فلا يدخل في مسمى الآيات، وعامة أهل مكة والمدينة والبصرة لا يعدون ذلك آية، ولكن الكوفيون يعدونها آية، وبكل حال فهي أسماء حروف ينطق بها غير معربة، مثل ما ينطق بألف، باء، تاء، وبأسماء العدد، واحد، اثنان، ثلاثة
…
" (2) .
الثاني: أن السلف قد تكلموا في معانيها، وكلامهم في ذلك كثير مشهور، وقد ساق شيخ الإسلام بعض أقوالهم (3) .
الثالث: "أن يقال: نحن نسلم أن كثيراً من الناس وأكثرهم لا يعرفون معنى كثير من القرآن، فإذا قيل: إن أكثر الناس لا يعرفون معنى حروف الهجاء
(1) قال الشنقيطي في أضواء البيان (1م227) : "وقال بعض العلماء: والتحقيق في هذا المقام
…
" وذكر الجمع المشهور في آية آل عمران، وأن من قال: الواو عاطفة جعل معنى التأويل التفسير ومن قال هي استئنافية جع التأويل هو حقيقة ما يؤول إليه الأمر، ثم قال الشنقيطي رحمه الله "وهو تفصيل جيد لكن يشكل عليه أمران، الأول قول ابن عباس: التفسير على أربعة أنحاء
…
والثاني الحروف المقطعة". وقارن ما نقله الشنقيطي بما في تفسير ابن كثير. سورة ىل عمران الآية (7) ، (1/347) - ط الحلبي - ومطبعة الاستقامة، 1376هـ.
(2)
نقض التأسيس - مخطوط - (2/248) .
(3)
المصدر السابق (2/248-249) . أما اختيار شيخ الإسلام وترجيحه فقد حكاه عنه ابن كثير في تفسيره - سورة البقرة. آية رقم (1){الم} - انظره في طبعات هذا التفسير كلها - سوى طبعة الشعب المحققة، ذات الثامنية أجزاء - فإن ساقط منها. وهذا من عيوبها التي تجعلها لا يوثق بها.
التي في أوائل السور فهذا صحيح، لا نزاع فيه، وإن قيل: إن أحدا من الناس لا يعرف ذلك وإن الرسول نفسه لم يكن يعرف ذلك، فمن أين لهم هذا؟ فهذا النفي لا بد له من دليل" (1) .
ث أما حديث "إن من العلم كهيئة المكنون
…
" فليس له إسناد يقوم به، وعلى تقدير صحته فهو حجة عليهم لأن فيه أن أهل العلم بالله يعلمونه (2) .
وبهذا يتبين ضعف حجة هؤلاء الذين يجوزون أن يكون في كلام الله مالا سبيل لنا إلى العلم به، ولذلك قال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص ما يعتبر تلخيصاً لما سبق: "والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون، أو كان للتأويل معنيان: يعلمون أحدهما، ولا يعلمون الآخر، وإذا دار الأمر بين القول بأن الرسول كان لا يعلم معنى المتشابه من القرآن، وبين أن يقال: الراسخون في العلم يعلمون، كان هذا الإثبات خيراً من ذلك النفي، فإن معنى الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وأقوال السلف على أن جميع القرآن مما يمكن علمه وفهمه وتدبره، وهذا مما يجب القطع به
…
" (3) وقد قال كثير من السلف إنهم يعلمون تأويل القرآن، وهذا معروف مشهور (4) .
الأمر الثاني: من أمور بيان شيخ الإسلام في مسألة المحكم والمتشابه أنه إذا تبين رجحان قول من قال: إن كلام الله يمكن معرفة تفسيره والعلم به، وإنه ليس هناك في كلام الله ما لا سبيل لنا إلى العلم به - فما المقصود بالمتشابه المذكورة في آية آل عمران؟
(1) نقض التأسيس - مخطوط - (2/249-250) .
(2)
انظر: تفصيل قوله حول هذا الحديث في نقض التأسيس - مخطوط - (2/250-251)، وقارن بما سبق (ص:749) .
(3)
تفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى - (17/390،399) .
(4)
انظر: المصدر السابق (17/390-391) .
يذكر شيخ الإسلام أن في ذلك قولين:
أحدهما: أنها آيات بعينها تتشابه على كل الناس.
والثاني: وهو الصحيح، أن التشابه أمر نسبي، فقد يتشابه عند هذا مالا يتشابه عند غيره، ولكن ثم آيات محكمات لا تشابه فيها على أحد. وتلك المتشابهات إذا عرف معناها صارت غير متشابهة، بل القول كله محكم كما قال:{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: من الآية1)(1) .
وقد أطال شيخ الإسلام في تقرير هذا الذي رجحه وصححه، وذكر له أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، مدللا على وقوعه ووجوده عند بعض الناس (2) ، وهذا التشابه النسبي أو الإضافي ليس له ضابط فهو من جنس الاعتقادات الفاسدة، ولذلك تعددت التأويلات وتفاوتت فالفلاسفة والباطنية لهم تأويلات لنصوص الكتاب، والجهمية والمعتزلة يبطلون تأويلات الفلاسفة والباطنية ويجعلون الآيات التي أولوها تأويلات قرمطية وفلسفية - آيات محكمة، لكنهم يؤولون نصوصا أخرى يقولون إنها متشابهة، والأشاعرة يقولون إن هذه الآيات التي أولها المعتزلة هي آيات محكمة لا يجوز تأويلها، ثم يتأولون آيات أخرى. وهكذا. فكل طائفة تدعي أن المحكم ما وافق قولها والمتشابه ما خالفه (3) .
والإمام أحمد رحمه الله ألف رسالته المشهورة في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله (4) ، ثم إنه لما رد على هؤلاء في استدلالاتهم الباطلة، لم يقل هذه الآيات من المتشابه وسكت عنها، وإنما رد عليهم وبين أحكامها، وفسرها، وذمهم على أنهم تأولوها على غير تأويلها الصحيح (5) .
(1) الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/144) .
(2)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/260-267)، وانظر: الصواعق المرسلة (1/213) ت الدخيل الله.
(3)
انظر: المصدر السابق (2/267-273، 305-307) .
(4)
انظر: الرد على الزنادقة والجهمية - ضمن مجموع عقائد السلف - (ص:52) .
(5)
انظر: الفرقان بين الحق والباطل - مجموع الفتاوى (13/144) ، وتفسير سورة الإخلاص - مجموع الفتاوى (17/280-383) .
وهذا الترجيح الذي رجحه شيخ الإسلام في المتشابه مبنى على الأمر السابق وهو أن القرآن مما يعلم معناه، وأن آياته ليس فيها ما لا سبيل إلى العلم به.
الأمر الثالث: هل ما خالف الدليل العقلي هو المتشابة؟:
سبق في بداية هذه المسألة - مسألة المحكم والمتشابه - ذكر أن من حجج الرازي الذي قصد بها دعم مذهب الأشاعرة، أنه لا يجوز ترك ظاهر النص إلا بدليل، ثم ذكر أن الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها موقوفة على عشرة أمور. ولذلك عول على الدليل العقلي وأن ما خالفه فهو من المتشابه ويجب تأويله بما يوافقه.
ومسألة العقل والنقل سبق الحديث عنها، وتبين أن القول بتعارضهما، أو تقديم العقل عند توهم التعارض بينه وبين الشرع، من أعظم الباطل. وقد رد شيخ الإسلام على كلام الرازي السابق - حول التعويل على الدليل العقلي لتمييز المحكم من المتشابه وأن الأدلة اللفظية ليست قطعية - من وجوه عديدة (1) ، تعقب فيها عبارات الرازي التي أوردها في أساسه وبين فيها خطأه وتناقضه، مبينا أن كلامه هذا يؤدي إلى عدم الاستدلال بالسمع أصلا - وهو ما صرح به في بعض كتبه - لأن الاحتجاج به موقوف عنده على نفي المعارض العقلي (2)، ولذلك يقول شيخ الإسلام في أحد الأوجه: "إنك صرحت هنا وفي غير هذا الموضع أن شيئا من الدلائل اللفظية لا يفيد العلم، وحينئذ فالظاهر سواء عارضه دليل عقلي أو لم يعارضه لا يحصل به علم عندك، فإذا أقر الظاهر فإنما يفيد عندك الظن، [و](3) الظن لا يجوز التمثيل به في الأصول، فكل آية دلت على مسألة أصولية لا يجوز الاحتجاج بها عندك، بل يجب أن يكون من المتشابه، وعلى هذا فليس القرآن في هذا الباب منقسما عندك إلى محكم ومتشابه، ومع هذا أنه (4) مناقض لما تقرره فهو مخالف لصريح القرآن والسنة والإجماع،
(1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/303-357) .
(2)
انظر: المصدر السابق (2/308) .
(3)
في المخطوطة بالفاء، ولعل صوابها بالواو كما أثبت.
(4)
كذا في المخطوطة ولعل صحة العبارة: ومع أن هذا.
وهو باطل عقلاً وشرعاً" (1) .
على أن قول الرازي مناقض لنص آية المتشابه لأن الله سبحانه وتعالى أخبر أن من الكتاب آيات محكمات هن الأصل الذي يبنى ويرد إليه المتشابه، والرازي جعل الأصل الذي يرد إليه: العقل، بل إنه جعل القرآن كله محكمه ومتشابهه يرد إلى هذا الأصل وما خالفه فهو متشابه (2) .
وهذه الأدلة العقلية التي يعول عليها الرازي وأصحابه، والتي أولوا من أجلها نصوص الصفات التي دل عليها القرآن هي "أقوال باطلة لا تفيد عند التحقيق لا علما ولا ظنا، بل جهلا مركباً"(3) .
والقول بأن الدلائل اللفظية لا تفيد القطع هو من أعظم السفسطة، ولذلك لا يعرف هذا القول عن طائفة معينة معروفة من طوائف بني آدم لأنه يؤدي إلى القدح بلغة التخاطب بين الناس التي بها يكلم بعضهم بعضا ويفهم بعضهم عن بعض، وعامة أمور وأحوال بني آدم مبنية على هذا، من بداية تمييز الطفل وفهمه عن والديه، إلى آخر أمور البيع والشراء والنكاح والطلاق وقضاء مختلف الحوائج، ووصف بعضهم لما جرى لبعض
…
الخ"ثم إذا كان هذا البيان والدلالة موجوداً في كلام العامة الذين لا يعدون من أهل العلم، فأهل العلم أولى بأن يبينوا مرادهم، وبأن يفهم مرادهم من خطابهم، وإذا كان هذا في العلماء الذين ليسوا بأنبياء، والأنبياء أولى إذا كلموا الخلق وخاطبوهم أن يبينوا مرادهم، وأن يفهم الناس ما بينوه بكلامهم، ثم رب العالمين أولى أن يكون كلامه أحسن الكلام وأتمه بيانا، وقد قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (ابراهيم: من الآية4)(4) .
(1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/309) ، وانظر في الصفحة نفسها نموذجاً آخر لتناقض الرازي.
(2)
انظر: المصدر السابق (2/309-310) .
(3)
انظر: المصدر نفسه (2/312) .
(4)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط (2/317) .
ودعوى الرازي أن دلائل القرآن موقوفة على عشرة مقدمات ظنية باطل من وجوه (1) ، ولو كان كما زعم لما صار القرآن نورا وهدى وإذا كان بعض الناس قد يحتاج لبعض هذه المقدمات لفهم بعض الآيات - وهذا مما لا ينكر لأنه قد يوجد من هو حديث عهد بالإسلام أن نشأ ببادية بعيدة - إلا أن تعميم ذلك لجميع الناس ولعموم الآيات هو من أظهر البهتان (2) .
وقول الرازي أن المعول عليه في تحديد المتشابه مخالفة دليل العقل أدى به إلى مقالته الأخرى الباطلة حين ذكر من حكم إنزال المتشابه مخاطبة العوام بما يناسبهم مما ظاهره التجسيم والتشبيه، ليناسب ما توهموه أو تخيلوه، وإنه يجب أن يكشف لهم في النهاية عن أحكام هذه الآيات بتأويلها بما يوافق العقول، يقول شيخ الإسلام عن الرازي، إنه "جعل هو المتشابه ما خالف الدليل العقلي، والمحكم ما لم يخالف الدليل العقلي، فجعل الإحكام هو عدم المعارض العقلي، لا صفة في الخطاب، وكونه في نفسه قد أحكم وبين وفصلن مع أنا لم عارض العقلي لا يمكن الجزم بنفيه إذا جوز وقوعه في الجملة، ولهذا استقر أمره على أن جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتج بشيء منها في العمليات، فلم يبق على قوله لنا آيات محكمات وهن أم الكتاب بحيث يرد المتشابه إليها ولكن المردود إليه هو العقلي، فما وافقه أو لم يخالفه فهو المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الالحاد في أسماء الله تعالى وآياته، ولهذا استقر قوله في هذا الكتاب (3) على رأى الملاحدة الذين يقولون إنه أخبر العوام بما يعلم أنه باطل لكون عقولهم لا تقبل الحق، فخاطبهم بالتجسيم (4) مع علمه أنه باطل، وهذا مما احتج به الملاحدة على هؤلاء في المعاد، وقالوا خاطبهم أيضاً بالمعاد كما خاطبهم بالتجسيم، وهؤلاء جعلوا الفرق أن المعاد علم بالاضطرار من دين الرسول"(5) .
(1) انظر: نقض التأسيس - مخطوط (2/321) وما بعدها.
(2)
انظر: المصدر السابق (2/328-329) .
(3)
أي ساس التقديس.
(4)
انظر: أساس التقديس للرازي (ص:192) ، وقد سبق نقل كلامه في بداية هذه المسألة.
(5)
انظر: نقض التأسيس - مخطوط - (2/ 274-275) .
وهذه المسألة الأخيرة هي مسألة تسلط الفلاسفة والقرامطة على المتكلمين وقد سبق توضيحها في المنهج العام (1) .
الأمر الرابع: أن الصفات ليست من المتشابه:
وهذا هو محك الخلاف ونتيجته، ولن أن الكلام في المحكم والمتشابه سلم من إقحام الصفات فيه وطلب تأويلها وتحريف نصوصا تذرعا بأنه من المتشابه، كما فعل أهل البدع والكلام - لبقي الخلاف فيه مثل غيره من مسائل علوم القرآن كأول ما نزل وآخر ما نزل، والمكي منه والمدني، وغيرها - قابلا لتعدد الآراء واختلافها.
ومع أن الكلام في الأمر الأول - المتعلق بمنع قول أن في القرآن ما لا سبيل لنا إلى العلم - شامل لموضوع الصفات، إلا أن شيخ الإسلام ناقش هذه المسألة - التي وقع فيها بعض الحنابلة أيضاً - حيث أدخلوا أسماء الله وصفاته - أو بعض ذلك في المتشابه، وبعضهم أعتقد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله - وقد جاءت مناقشة شيخ الإسلام لمن توهم ذلك من المتكلمين وغيرهم من خلال وجهين:
أحدهما: مناقضة من قال: إن الصفات من المتشابه، وإنه لا يفهم معناه، يقول شيخ الإسلام:"نقول: أما الدليل على بطلان ذلك فإن ما أعلم عن أ؛ د من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفي أن يعلم أحد معناه وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه، وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة، قالوا في أحاديث الصفات: "تمر كما جاءت"، ونهوا عن تأويلات الجهمية - وردوها وأبطلوها - اتلي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه. ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل
(1)(ص:891) وما بعدها.
وغير ذلك، وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت
…
" (1) وسيأتي مزيد إيضاح لكلام الإمام أحمد عن الحديث عن مسألة "التفويض".
والسلف رحمهم الله تواتر عنهم الرد في تأويلات أهل الكلام، التي هي صرف للنصوص عن ظاهرها إلى ما يخالف ظاهرها، ثم إنهم رحمهم الله أثبتوا هذه الصفات ولم يتوقفوا فيها. فكيف يقال إنها عندهم من المتشابه؟ (2) .
ومن أدلة شيخ الإسلام على أن الصفات ليست من المتشابه الذي لا يعلم معناه قوله بعد إيراد عدد كبير من نصوص الأسماء والصفات: "فيقال لمن ادعى هذه أنه متشابه لا يعلم معناه: أتقول هذا في جميع ما سمي الله ووصف به نفسه، أم في البعض؟ فإن قلت: هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهراً وجحداً لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، بل كفر صريح، فإنا نفهم من قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (لأنفال: من الآية75) معنى، ونفهم من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: من الآية20) معنى ليس هو الأول، ونفهم من قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (لأعراف: من الآية156) معنى ونفهم من قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (ابراهيم: من الآية47) معنى، وصبيان المسلمين، بل كل عاقل فيهم يفهم هذا"(3) ، ثم رد على من زعم أن أسماء الله أعلام جامدة كبعض من ابتدع من أهل المغرب، ولعله يقصد ابن حزم (4) . وقد سبقت الإشارة إلى هذا في مبحث الأسماء في الفصل السابق.
والثاني: إنه لو قيل: إن الصفات من المتشابه، أو فيها ما هو من المتشابه، كما نقل عن الإمام أحمد تسمية ما استدل به الجهمية النفاة متشابها - فيقال "الذي في القرآن لأنه لا يعلم تأويله إلا الله، إما المتشابه، وإما الكتاب كله
…
ونفى علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه (5) في القيامة وأمور القيامة،
(1) الأكليل في المتشابه والتأويل - مجموع الفتاوى - (13/294-295) .
(2)
انظر: المصدر السابق (13/296) .
(3)
انظر: المصدر السابق (13/297) .
(4)
انظر: المصدر نفسه (13/297-305) .
(5)
انظر: المصدر نفسه (13/280-281) .