المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الوتر - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٥

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الوتر

بسم الله الرحمن الرحيم

‌ص: باب: الوتر

ش: أي هذا باب في بيان الوتر وأحكامه، والمناسبة بينه وبين الأبواب التي قبله التي فيها أحكام الفرائض هي أن اتصاله بالفرض أقوى من اتصال النفل به، وهو في اللغة خلاف الشفع.

وفي "العباب": الوتْر -بالكسر- الفرد، والوَتر-بالفتح-: الذَّحْل، هذه لغة أهل العالية، فأما لغة أهل الحجاز فبالضد منهم، وأما تميم (1) فبالكسر فيهما، وقرأ الكوفيون -غير عاصم-:"والشفع والوتر" بكسر الواو.

وقال يونس في كتاب "اللغات": وتَرتُ الصلاة مثل أوتَرْتُها، وفي الحديث:"يا أهل القرآن أوْتِروا، فإن الله وتر يحب الوتر"(2)، وكذلك: أوترت القوس ووتّرتُها أيضًا توتيرًا بمعنى إذا جعلتَ عليها الوَتَرَ بالتحريك.

ص: حدثنا ابراهيم بن أبي داود، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا شعبة (ح).

وحدثنا أبو بكرة بكار بن قتيية، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح، قال: سمعت أبا مجلز يُحدّثُ عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام قال:"الوتر آخر الليل".

حدثنا سليمان بن شعيب الكَيْساني، قال: أنا عبد الرحمن بن زياد، قال: أنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أبا مجلز فذكر مثله.

حدثنا سليمان، قال: أنا الخَصِيبُ بن ناصح، قال: أنا همام، عن قتادة، عن أبي مجلز قال: "سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن الوتر، فقال: سمعت رسول الله عليه السلام

(1) طمس في "الأصل، ك"، والمثبت من "لسان العرب"(5/ 274)، و"عمدة القاري"(7/ 2).

(2)

أخرجه أبو داود في "سننه"(2/ 61 رقم 1416)، والنسائي في "المجتبى"(3/ 228 رقم 1675)، وابن ماجه في "سننه"(1/ 370 رقم 1169) كلهم من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 5

يَقُول: الوتر ركعة من آخر الليل. وسألت ابن عمر رضي الله عنهما فقال: قال رسول الله عليه السلام: ركعة من آخر الليل".

ش: هذه أربع طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم البُرلّسي، عن علي بن الجعْد الجوهري أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري وآخرين، عن شعبة، عن أي التَّيَّاح -بفتح التاء المثناة من فوق وتشديد الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة- واسمه يزيد بن حُميد، عن أبي مجلز -بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام وفي آخره زاي معجمة- واسمه لاحق بن حميد، عن ابن عمر.

وأخرجه النسائي (1): أنا محمَّد بن يحيى، قال: ثنا وهبُ بن جرير -ثم ذكر كلمة- قال: ثنا شعبة، عن أبي التَّيَّاح؟ عن أبي مجلز

إلى آخره نحوه.

الثاني: عن أبي بكرة بكّار القاضي، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي التياح

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (2): من حديث شعبة، عن أبي التياح، عن أبي مجلز، عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه السلام: "الوتر ركعة من آخر الليل".

الثالث: عن سليمان بن شعيب بن سليمان الكيْساني صاحب محمَّد بن الحسن الشيباني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن قتادة بن دعامة السدوسي، عن أبي مجلز، عن ابن عمر.

وأخرجه مسلم (3): نا ابن مثنى، نا محمَّد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، قال: سمعت ابن عمر يحدث عن النبي عليه السلام قال: "الوتر ركعة من آخر الليل".

(1)"المجتبى"(3/ 333 رقم 1689).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 23 رقم 4545).

(3)

"صحيح مسلم"(3/ 232 رقم 1689).

ص: 6

الرابع: عن سليمان بن شعيب أيضًا، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة وكسر الصاد- بن ناصح، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن أبي مجلز

إلى آخره.

وأخرجه مُسلم (1): حدثني زهير بن حرب، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا همام قال: ثنا قتادة، عن أبي مجلز قال: "سألت ابن عباس

" إلى آخره نحوه سواء.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا، فقلَّدوه وجعلوه أصلًا.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء ابن أي رباح، وسعيد بن المسيب، ومالكًا، والشافعي، وأحمد، وأبا ثور، وإسحاق، وداود بن علي فإنهم ذهبوا إلى هذا الحديث وجعلوه أصلًا في الإيتار بركعة، إلا أن مالكًا قال: ولابد أن يكون معها شفع -ليُسلّم بينهن- في الحضر والسفر. وعنه: لا بأس أن يوتر المسافر بواحدة، وكذا فعله سحنون في مرضه.

وقال ابن العربي: أقل النفل عند الشافعي ركعة، وحقيقة مذهبه تكبيرة، فإنه عنده لو كبَّر لصلاة، ثم بدا له في تركها فخرج عنها، كتب له ثواب التكبيرة، وليس له أصل، وأما ركعة واحدة فلم تشرع إلا في الوتر، وفعله أبو بكر وعمر، ورُوي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس (2) وأبي موسى وابن الزبير، وعائشة رضي الله عنهم.

وقال أبو عمر: وممن رُوي عنه أجازه الوتر بواحدة ليس قبلها شيء: عثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية، فقد روي عن ابن عباس أنه قيل له: إن معاوية فَعَلَهُ، فقال: أصاب السنة (3).

وقال ابن حزم في "المحلى"(4): وأفضل الوتر من آخر الليل، والليل ينقسم على ثلاثة عشرة وجهًا أيها فعل أجزأه، وأحبها إلينا وأفضلها أن يصلي ثنتي عشرة ركعة،

(1)"صحيح مسلم"(1/ 518 رقم 753).

(2)

"سنن أبي داود"(21/ 2 رقم 2162).

(3)

انظر "الاستذكار"(2/ 120).

(4)

"المحلى"(3/ 42 - 47).

ص: 7

يسلم من كل ركعتين، ثم يصلي ركعة واحدة ويسلم، لما روت عائشة:"أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين".

أخرجه أبو داود.

الثاني: أن يصلي ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين منها، ثم يصلي خمس ركعات متصلات لا يجلس إلا في آخرهن؛ لرواية عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله عليه السلام يصلي من الليل ثلاثة عشرة ركعة يوتر منهن بخمس ركعات لا يجلس في شيء من الخمس إلا في آخرهن، ثم يجلس ويسلم".

أخرجه النسائي (1).

والثالث: أن يصلي عشر ركعات يُسلّم من آخر كل ركعتين، ثم يوتر بواحدة؛ لرواية عائشة رضي الله عنها:"كان رسول الله عليه السلام يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء -وهي التي يدعو الناس العتمة- إلى الفجر إحدى عشرة ركعةً، يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة".

أخرجه مسلم (2).

والرابع: أن يصلي ثمان ركعات، يسلِّم في كل ركعتين، ثم يوتر بواحدة؛ لما روي عن ابن عمر:"أَن رجلًا سأل رسول الله عليه السلام عن صلاة الليل، فقال: مثني مثني، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة".

أخرجه مسلم (3).

والخامس: أن يصلي ثماني ركعات لا يجلس في شيء منهن جلوس تشهد إلا في آخرها، فإذا جلس في آخرهن وتشهد قام دون أن يسلم فأتى بركعة واحدة ثم

(1)"السنن الكبرى للنسائي"(1/ 167 رقم 421).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 508 رقم 736).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 516 رقم 749).

ص: 8

يجلس ويتشهد ويسلم؛ لرواية عائشة رضي الله عنها: "أن النبي عليه السلام كان يوتر بتسع ركعات يقعد في الثامنة، ثم يقوم فيركع ركعة".

أخرجه النسائي (1).

والسادس: أن يصلي ست ركعات، يسلم في آخر كل ركعتين منها، ويوتر بسابعة؛ لقوله عليه السلام:"صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"(2).

والسابع: أن يصلي سبع ركعات لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخر السادسة منهن، ثم يقوم دون أن يسلم فيأتي بالسابعة، ثم يجلس ويتشهد ويسلِّم؛ لرواية عائشة:"أن رسول الله عليه السلام لما كبر وضعف أوتر بسبع ركعات لا يقعد إلا في السادسة، ثم ينهض ولا يُسلّم فيصلي السابعة، ثم يسلم (3) ".

والثامن: أن يصلي سبع ركعات لا يجلس جلوس تشهدٍ إلا في آخرهن، فإذا كان في آخرهن جلس وتشهد وسلَّم؛ لرواية عائشة رضي الله عنها أيضًا قالت:"لما أسنَّ رسول الله عليه السلام وأخذ اللحم؛ صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن ثم يصلي ركعتين بعد أن يسلم".

والتاسع: أن يصلي أربع ركعات يتشهد ويسلِّم من كل ركعتي ثم يوتر بواحدة عليه السلام: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"(1).

العاشر: أن يصلي خمس ركعات متصلات، لا يجلس ولا يتشهد إلا في آخرهن؛ لرواية عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن".

أخرجه النسائي (2)، وبه قال بعض السلف.

(1) أخرجه النسائي في "الكبرى"(1/ 444/ 1415).

(2)

تقدم.

(3)

"المجتبى"(3/ 240 رقم 1717).

ص: 9

والحادي عشر: أن يصلي ثلاث ركعات، يجلس في آخر الثانية منهن ويتشهد ويسلِّم، ثم يأتي بركعة واحدة ويتشهد في آخرها ويسلم في آخرها؛ لقوله عليه السلام:"صلاة الليل مثنى مثنى"، وهذا قول مالك.

الثاني عشر: أن يصلي ثلاث ركعات يجلس في الثانية، ثم يقوم دون أن يسلَّم، ثم يأتي بالثالثة، ثم يجلس ويتشهد ويسلم كصلاة المغرب"، وهو اختيار أبي حنيفة لرواية عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله عليه السلام كان لا يسلم في ركعتي الوتر".

والثالث عشر: أن يركع ركعة واحدة فقط، وهو قول الشافعي وأبي سليمان وغيرهما.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فافرقوا على فرقتين، فقال بعضهم: الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، وقال بعضهم: الوتر ثلاث ركعات، يسلم في الاثنتين منهن، وفي آخرهن.

ش: أي خالف الجماعة المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وعبد الله بن المبارك وعمر بن عبد العزيز وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد في رواية والشافعي في قول، والحسن بن حيّ ومالكًا في الصحيح.

ولكن هؤلاء افترقوا إلى فرقتين أيضًا، فقال بعضهم وهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والثوري وابن المبارك: الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن كصلاة المغرب.

وقال أبو عمر: يُروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبي أمامة وحذيفة وعمر بن عبد العزيز والفقهاء السبعة.

وقال الترمذي: وذهب قوم من أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام وغيرهم إلى أن الوتر ثلاث ركعات.

(قال سفيان: إن شئت أوترت بخمس، وإن شئت أوترت بثلاث،

ص: 10

وإن شئت أوترت بركعة) (1) قال سفيان: والذي أستحب: أن يوتر بثلاث ركعات. وهو قول ابن المبارك وأهل الكوفة. انتهى.

قوله: "وقال بعضهم" وهم: مالك والشافعي في قول وأحمد في رواية وإسحاق: الوتر ثلاث ركعات يسلّم في الاثنتين منهن وفي آخرهن، وأرادوا أنه ثلاث ركعات بتسليمتين.

وعن الشافعي: أنه بالخيار؛ إن شاء أوتر بركعة، وإن شاء أوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة، في الأوقات كلها.

وقال الزهري: في شهر رمضان ثلاث ركعات، وفي غيره ركعة واحدة.

وقال الخطابي: قال سفيان الثوري: الوتر ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة.

وقال مالك: الوتر ثلاث يفصل بينهن، فإن لم يفصل ونسي إلى أن قام في الثالثة سجد سجدتي السهو.

ص: وكان قول رسول الله عليه السلام: "الوتر ركعة من آخر الليل" قد يحتمل عندنا ما قال أهل المقالة الأولى، ويَحتمل أن تكون ركعة مع شفع قد تقدمها، وذلك كله وتر، فتكون تلك الركعة تُوترُ الشفع المتقدم لها.

ش: أراد أن الحديث المذكور لا يصلح للاستدلال؛ لأن له الاحتمالين المذكورين، فإذا تمسك الخصم بأحدهما؛ يتمسك الآخر بالآخر، فلا يتم الاستدلال لإحدى الطائفتين.

ص: وقد بيَّن ذلك ما قد رواه بعضهم عن ابن عمر: حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أَن رجلًا سأل رسول الله عليه السلام عن صلاة الليل، فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فصلِّ ركعة توتر لك صلاتك".

(1) تكررت في "الأصل".

ص: 11

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام نحوه.

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، عن هشيم، عن أبي بشْر، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

أخبرنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن حبيب، عن طاوس، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا خالد، قال: ثنا عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فِطْرٌ، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن بديل بن مَيْسرة وأيوب، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن صالح الوُحَاظِي، قال: ثنا معاوية بن سَلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة ونافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أخبرهما عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم وحميد بن عبد الرحمن، حدثاه عن عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام مثله.

ص: 12

ش: أي وقد بيَّن ما ذكرنا من الاحتمال بَعضُ الرواة من التابعين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

وأخرج ذلك من اثني عشر طريقًا صحيحًا رجالها كلهم ثقات.

الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد أحد أصحاب أبي حنيفة وشيخ البخاري، عن عبد الله بن عون المزني البصري، عن نافع

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هشيم، قال: أنا محمَّد بن سعيد، وابن عون، وغيرهما، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رجلًا سأل النبي عليه السلام عن صلاة الليل، قال: مثني مثنى، فإذا خشيت الصبح فصلِّ لك ركعة توتر لكَ صلاتك".

الثاني: على شرط الصحيحين ورجالها كلهم رجال مسلم.

وأخرجه البخاري (2): ثنا عبد الله بن يوسف، قال: أنا مالك، عن نافع، وعبد الله بن دينار، عن ابن عمر:"أن رجلًا سأل النبي عليه السلام عن صلاة الليل، فقال رسول الله عليه السلام: صلاة الليل مثنى مثني، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدةً توتر له ما قد صلَّى".

الثالث: رجاله رجال الصحيحين ما خلا شيخ الطحاوي.

والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام، يحيى هو ابن سعيد الأنصاري.

وأخرجه البزار: من حديث يحيى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"صلاة الليل مثنى مثني، فإذا خشي أحدكم الصبح؛ صلى ركعةً واحدةً توتر له صلاته".

الرابع: أيضًا رجاله رجال الصحيحين ما خلا نصر بن مرزوق.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 88 رقم 6806).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 337 رقم 946).

ص: 13

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن عبد الله بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: "سمعت رجلًا يسأل النبي عليه السلام وهو على المنبر: كيف يصلي أحدنا بالليل؟ فقال عليه السلام: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ما مضى من صلاتك".

الخامس: [من](1) طريق أبي داود، وأبو بكرة هو بكار القاضي.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث عمرو، عن طاوس، عن ابن عمر:"أن رجلًا سأل النبي عليه السلام عن صلاة الليل، فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بركعة".

السادس: عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشيم بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): نا محمَّد، نا شعبة، عن أبي بشر، سمعت عبد الله بن شقيق يحدث، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أَن رجلًا سأل النبي عليه السلام عن الوتر، قال: فمشيت أنا وذلك الرجل، فقال رسول الله عليه السلام: صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة".

السابع: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد العبدي أحد أصحاب أبي حنيفة، وثقه أبو حاتم، عن جرير بن حازم، عن منصور بن المعتمر، عن حبيب بن أبي ثابت الكوفي، عن طاوس، عن ابن عمر.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(4): عن عبد الرزاق، عن سفيان، عن حبيب بن

(1) في "الأصل، ك": "على".

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 22 رقم 4543).

(3)

"مسند أحمد"(2/ 113/ 5937).

(4)

"مسند أحمد"(2/ 81/ 5537).

ص: 14

أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عمر قال:"سئل النبي عليه السلام عن صلاة الليل فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة".

الثامن: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن خالد بن مهران الحذاء

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا محمَّد بن محمَّد التمار، ثنا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن عبد الله بن شقيق، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة الليل مثنل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فاسجد سجدة".

التاسع: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن فطر بن خليفة القرشي الكوفي الحناط -بالنون- احتج به الأربعة، وروى له البخاري مقرونًا بغيره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا فطر ابن خليفة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس قال: سمعت ابن عمر يحدث، عن النبي عليه السلام قال:"صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة".

العاشر: عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن مسدد شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن بديل بن مَيْسرة وأيوب السختياني كلاهما، عن عبد الله بن شقيق

إلى آخره.

وأخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده"(2) ثنا أبو الربيع، نا حمّاد، نا أيوب وبُديْل، عن عبد الله ابن شقيق، عن ابن عمر:"أن رجلًا سأل النبي عليه السلام كيف صلاة الليل؟ فقال: مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فصلىّ ركعةً، واجعل آخر صلاتك وترًا".

(1)"معجم الطبراني الكبير"(12/ 396 رقم 13461).

(2)

"مسند أبي يعلى"(10/ 147 رقم 4770).

ص: 15

الحادي عشر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوُحَاظِي شيخ البخاري وأحد أصحاب أبي حنيفة، ونسبته إلى وُحاظة -بضم الواو وتخفيف الحاء المهملة وبالظاء المعجمة- ابن سعد بن عوف، وهو يروي عن معاوية بن سلام الحبشي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف المدني.

وأخرجه البزار في "مسنده ": ثنا محمد بن عثمان بن كرامة، نا عبيد الله بن موسى، نا شيبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة ونافع، عن ابن عمر، أن النبي عليه السلام قال:"صلاة الليل ركعتين، فإذا خشيتم الصبح فأوتروا بواحدة".

وأخرجه النسائي (1) أيضًا نحوه.

الثاني عشر: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بَحشَل، عن عمه عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم ابن عبد الله بن عمر وحميد بن عبد الرحمن بن عوف كلاهما، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه البزار: ثنا محمَّد بن معمر، ثنا وهب بن جرير، عن أبيه، عن النعمان، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن وسالم، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فواحدة".

ص: وحدثنا أحمد بن داود بن موسى، قال: ثنا علي بن بحر القطان، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الوضين بن عطاء، قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر:"أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة واحدة".

وأخبر ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام كان يفعل ذلك، فقد أخبر أنه كان يصلي شفعًا ووتْرًا، وذلك في الجملة كله وتر، وقوله "يفصل بتسليمة" يَحتملُ أن تكون تلك التسليمة يُريدُ بها التشهد، ويحتمل أن يكون التسليم الذي يقطع الصلاة، فنظرنا في ذلك، فإذا يونس قد حدثنا، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن

(1)"المجتبى"(3/ 233 رقم 1695).

ص: 16

نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، عن منصور، عن بكر بن عبد الله قال:"صلى ابن عمر ركعتين ثم قال: يا غلام، أرحل لنا، ثم قام فأوتر بركعة".

ففي هذه الآثار أنه كان يوتر بثلاث ولكنه يفصل بين الواحدة والاثنتين، فقد اتفق عنه في الوتر أنه ثلاث.

وقد جاء عنه من رأيه أيضًا ما يدل على أن قول النبي عليه السلام الذي ذكرناه كما وصفنا أنه يحتمل من التأويل.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني بكر ابن مضر، عن جعفر بن ربيعة، عن عقبة بن مسلم قال:"سأَلت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن الوتر، فقال: أتعرف وتر النهار؟ قلت: نعم؛ صلاة المغرب، قال: صدقت -أو أحسنت- ثم قال: بينا نحن في المسجد، قام رجل فسأل رسول الله عليه السلام عن الوتر -أو عن صلاة الليل- فقال رسول الله عليه السلام: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة".

أفلا ترى أن ابن عمر حين سأله عقبة عن الوتر فقال: أتعرف وتر النهار؟ أي: هو كهو، وفي ذلك ما يُنبئك أن الوتر كان عند ابن عمر ثلاثًا كصلاة المغرب، إذ جعل جوابه لسائله عن وتر الليل: أتعرف وتر النهار؟ صلاة المغرب، ثم حدثه بعد ذلك عن النبي عليه السلام بما ذكرنا، فثبت أن قوله:"فأوتر بواحدة" أي مع شيء تقدمها توتر بتلك الواحدة ما صليت قبلها، وكل ذلك وتر.

ش: أشار بهذا الكلام إلى إثبات ما ذكره من احتمال قوله عليه السلام: "الوتر ركعة"، وأن معناه ركعة مع شفع تقدمها، وإلى أن الوتر ثلاث ركعات كالمغرب، بيان ذلك: أنه أخرج عن أحمد بن داود المكي شيخ الطهبراني أيضًا، عن علي بن بحر

ص: 17

القطان البغدادي، وثقه يحيى وأبو حاتم والعجلي والدارقطني والحاكم، عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة، عن الوضين بن عطاء بن كنانة الدمشقي، وعن أحمد: ليس به بأس، كان يرى القدر. وقال الجوزجاني: واهي الحديث. وقال ابن سعد: كان ضعيفًا في الحديث، روى له أبو داود وابن ماجه، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عمر: "أنه كان يفصل بين شفعه ووتره

بتسليمة واحدة". ففيه شيئان:

- أحدهما: أنه أخبر أنه كان يصلي شفعًا ووترًا وهذا كله وتر؛ لأنه ثلاث ركعات.

- والآخر: أنه أخبر أنه كان يفصل بتسليمة واحدة فهذا يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون ذكر التسليم وأراد به التشهد من قبيل ذكر الشيء باسم ما يجاوره.

والآخر: أن يكون المراد به التسليم الحقيقي الذي يقطع الصلاة، فنظرنا في ذلك فوجدنا يونس بن عبد الأعلى المصري قد روى عن عبد الله بن وهب المصري، عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر:"كان يُسلِّم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته".

وأخرجه البخاري (1) معلقًا، وقال: وعن نافع: "أن عبد الله بن عمر كان يسلِّم بين الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته".

وأخرجه البيهقي (2) مسندًا: من طريق الشافعي، عن مالك، عن نافع.

ووجدنا أيضًا صالح بن عبد الرحمن قد روى عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن المعتمر، عن بكر بن عبد الله المزني قال: "صلى ابن عمر

" إلى آخره.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 337 رقم 946).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 25 رقم 4567).

ص: 18

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هشيم، قال: أنا منصور، عن بكر بن عبد الله المزني:"أن ابن عمر صلى ركعتين ثم سلَّم، ثم قال: أدخلوا إليّ ناقتي فلانة، ثم قام فأوتر بركعة".

ففي هذين الأثرين أنه كان يوتر بثلاث ولكنه كان يفصل بين الواحدة والاثنتين بتسليمة، فثبت لنا أحد شقي المدّعئ؛ لأن المدّعى شيئان:

أحدهما: كون الوتر ثلاث ركعات.

والآخر: كونه بتسليمة واحدة.

ففيما ذكرنا ثبت أن الوتر ثلاث ركعات.

وأما ثبوت الشق الآخر فبقول ابن عمر أيضًا حين سأله عقبة بن مسلم عن الوتر فقال: "أتعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، صلاة المغرب. قال: صدقت أو أحسنت".

أخرجه بإسناد مصري صحيح، عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضًا، عن يحيى بن عبد الله بن بكير الدمشقي المصري شيخ البخاري وغيره، عن بكر بن مضر بن محمَّد أبي عبد الملك المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري، عن عقبة بن مسلم التجيبي أبي محمَّد المصري القاضي إمام مسجد الجامع العتيق بمصر، قال العجلي: مصري تابعي ثقة.

وأخرجه الطبراني مقتصرًا على قول النبي عليه السلام وقال: ثنا يحيى بن علي بن صالح ، ثنا إسحاق بن بكر بن مضر ، ثنا أبي ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عقبة بن مسلم قال:"سألت عبد الله بن عمر عن الوتر فقال: بينما نحن في المسجد، قام رجل فسأل رسول الله عليه السلام عن الوتر وعن صلاة الليل فقال: صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أصبحت وخشيت الصبح فأوتر بواحدة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 88/ 6807).

ص: 19

ثم معنى قوله: "أتعرف وتر النهار" أن الوتر كصلاة المغرب، وصلاة المغرب ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، فقوله هذا يدل على أن الوتر عنده ثلاث ركعات بتسليمة واحدة كصلاة المغرب.

ودلَّ هذا أيضًا على أن المراد من قوله عليه السلام: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" أي مع شيء تقدمها ليكون بتلك الواحدة ما صلي قبلها وترًا.

وإنما قلنا: إن قول ابن عمر دلَّ على هذا المعنى؛ لأنه لما قال لعقبة بن مسلم: أتعرف وتر النهار؟ قال عقيب ذلك: قال رسول الله عليه السلام: "صلاة الليل مثني مثني فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة"، فحديثه بذلك عقيب جوابه لُعقبة بما أجاب يدل على ما ذكرنا من المعنى المذكور.

فإن قيل: قد جاء عن ابن عمر أنه كان يَفْصل في وَتره بتسليمةٍ فكيف تستدل على أنه بلا فصل -كالمغرب- بقوله لعقبة: "أتعرف وتر النهار"؟

قلت: ذاك فعله وهذا قوله، والأخذ بالقول أولى؛ لأنه أقوى على ما عرف في موضعه، ومما يقوِّي ذلك: أن الحسن البصري حكى إجماع المسلمين على الثلاث بدون الفصل.

فقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا حفص، حدثنا عمرو، عن الحسن قال:"أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يُسلّم إلا في آخرهن".

وأيضًا فالذي جاء عن ابن عمر مما ذكر طريقه ضعيف؛ لأن فيه الوضين بن عطاء، ضعَّفه جماعة على ما ذكرناه، على أنه قد أنكره الحسن البصري على ما روى البيهقي في "سننه" (2): من حديث يزيد بن زريع، قال: ثنا حبيب المعلم قال: "قيل للحسن: إن ابن عمر كان يُسلّم في الركعتين من الوتر. فقال: كان عمر أفقه منه؛ كان ينهض في الثالثة بالتكبير".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90/ 6834).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 29 رقم 4586).

ص: 20

ص: وقد بيَّن ذلك أيضًا: ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن أبي في إسحاق، عن عامر الشعبي قال:"سألت ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باليل؟ فقالا: ثلاث عشرة ركعة؛ ثمان ويوتر بثلاث، وركعتين بعد الفجر".

ش: أي وقد بيَّن أيضًا ما ذكرنا- من أن المراد من قوله: "فأوتر بواحدة" أي مع شيء تقدمها، وكذا المراد من قوله:"الوتر ركعة" أي ركعة مع شفع تقدمها: ما روي عن عبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.

أخرجه بأسناد صحيح على شرط الشيخين: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن سعيد بن أبي مريم الجمحي شيخ البخاري، عن محمد بن جعفر بن كثير الأنصاري، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عامر بن شراحيل الشعبي.

وأخرجه ابن ماجه (1): نا محمَّد بن عبيد بن ميمون أبو عبيد المديني، نا أبي، عن محمَّد بن جعفر، عن موسى بن عقبة

إلى آخره نحوه سواء، غير أن في لفظه:"منها ثمان بالليل"(2).

قوله: "ثمان" مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: منها ثمان ركعات، كما هو في رواية ابن ماجه.

قوله "ويوتر بثلاث" أي: يوتر النبي عليه السلام بثلاث ركعات.

قوله "وركعتين بعد الفجر" أي: ويصلي ركعتين بعد طلوع الفجر الثاني، وأراد بهما سنة الفجر.

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 433 رقم 1316).

(2)

في المطبوع من "السنن" هو نفس لفظ الطحاوي: "منها ثمان ويوتر بثلاث .. ".

ص: 21

وفيه من الفوئد: أنه عليه السلام كان يؤخر الوتر إلى آخر الليل، فدلّ على استحباب ذلك، وعلى استحباب قيام الليل، وعلى أن الوتر ثلاث ركعات، وهو يُبيِّن أن معنى قوله عليه السلام:"فأوتر بواحدة" أي مع شفع تقدمها، يوتر بتلك الواحدة ما يُصلي قبلها، وكذلك معنى قوله:"الوتر ركعة من آخر الليل" كما ذكرناه.

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا بشر بن بكر، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني المطلب بن عبد الله المخزومي: "أن رجلًا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن الوتر، فأمره أن يفصل. فقال الرجل: إني أخاف أن يقول الناس: هي البتيراء. فقال ابن عمر: تريد سنة الله وسنة رسوله؟ هذه سنة الله وسنة رسوله".

ش: ذكره أيضًا دليلًا على ما قاله من أن المراد من قوله عليه السلام: "فأوتر بواحدة" يعني مع شيء تقدمها، وإن كان لا يدل على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخرها؛ وذلك لأنه لم يقصد من ذكره ها هنا إلا المعنى الذي ذكره.

وأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيْساني، عن بشر بن بكر التِنّيِسي البجلي وثقه أبو زرعة وآخرون وروى له البخاري، عن الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي المدني، وثقه أبو زرعة والدارقطني، وقال محمَّد بن سعد: كان كثير الحديث وليس يحتج بحديثه؛ لأنه يرسل عن النبي عليه السلام كثيرًا وليس له لقيُّ، وعامة أصحابه يدلسون.

قلت: مثل الأوزاعي روى عنه، واحتجت به الأربعة ويكفي هذا في الاحتجاج بحديثه.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1) ثنا أبو شعيب الحراني، ثنا يحيى بن عبد الله البَابُلْتي، ثنا الأوزاعي، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال:"سأل رجل ابن عمر عن الوتر، فقال: أوتر بواحدة. فقال الرجل: إني أخشى أن يقول الناس إنها البتيراء. قال: سنة الله وسنة رسوله تريد؟ هذه سنة الله وسنة رسوله عليه السلام".

(1)"معجم الطبراني الكبير"(12/ 387 رقم 13143).

ص: 22

وأخرجه البيهقي (1): عن أحمد بن عيسى، نا عمرو بن أبي سلمة، عن الأوزاعي، حدثني المطلب بن عبد الله فقال:"أتى ابن عمر رجل فقال: كيف أوتر؟ قال: أوتِرْ بواحدة. قال: إني أخشى أن يقول الناس إنها البتيراء. قال: أسنة الله ورسوله تريد؟ هذه سنة الله ورسوله".

وقال الذهبي: أحمد بن عيسى التنيسي الخشاب تالفٌ. انتهى.

و"البُتَيراء" على وزن فُعَيلاء وهو مصغر بَتْراء مؤنث أبتر من البَتْر وهو القطع، وقد جاء من غير تصغير في حديث زياد أنه قال في خطبته:"البَتْراء".

وإنما قيل هكذا؛ لأنه لم يذكر فيها الله عز وجل، ولا صلى فيها على النبي عليه السلام.

ومعناه الشرعي ما قاله ابن الأثير في "النهاية": البتيراء هو أن يوتر بركعة واحدة، وقيل: هو الذي شرع في ركعتين فأتم الأولى ثم قطع الثانية، ثم قال: ومنه حديث سعد: "أنه أوتر بركعة فأنكر عليه ابن مسعود وقال: ما هذه البُتَيْراء".

قلت: فدل ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن البُتَيْراء هو الإيتار بركعة واحدة، وأما ابن عمر رضي الله عنهما فإنه قد فسر البتيراء نحو القول الأول.

وأخرج البيهقي (2): عن الحاكم، قال: أنا الأصم، نا الصغاني، نا إسحاق بن إبراهيم الرازي، ثنا سلمة الأبرش، نا ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي منصور مولى سعد بن أبي وقاص قال:"سألت ابن عمر عن وتر الليل، فقال: يا بُنَي هل تعرف وتر النهار؟ قلت: نعم، المغرب. قال: صدقت، وتر الليل واحدة؛ بذلك أمر رسول الله عليه السلام. قلت: يا أبا عبد الرحمن، إن الناس يقولون: إن تلك البتيراء. قال: يا بني، ليس تلك البتيراء، إنما البتيراء أن يصلي الرجل الركعة التامة في ركوعها وسجودها وقيامها ثم يقوم في الأخرى ولا يتم لها ركوعًا ولا سجودًا ولا قيامًا، فتلك البتيراء".

فإن قلت: هل ورد النهي عن البتيراء؟

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 62 رقم 4568).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 26 رقم 4569).

ص: 23

قلت: روى أبو عمر في" التمهيد"(1): ثنا عبد الله بن محمَّد بن يوسف، ثنا أحمد بن محمَّد بن إسماعيل بن الفرج، أبنا أبي، ثنا الحسن بن سليمان قبيْطة، ثنا عثمان بن محمَّد بن ربيعة، ثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام نهى عن البتيراء؛ أن يُصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها".

فإن قيل: قال ابن حزم في "المحلى"(2): ولم يصح عن النبي عليه السلام نهيٌ عن البتيراء، ولا في الحديث على سقوطه بيان ما هي البتيراء.

قلت: تعلق ابن حزم بما قالوا: إن في إسناد حديث أبي سعيد الخدري عثمان بن محمَّد بن عثمان بن أبي عبد الرحمن، وهو ضعيف لقول العُقَيلي: الغالب على حديثه الوهم. وهذا تعلّق لا طائل تحته؛ لأن أحدًا غير العُقيلي لم يتكلم فيه بشيء، وكلام العقيلي خفيف، ألا ترى أن الحاكم أخرج لعثمان بن محمَّد هذا في كتابه "المستدرك على الصحيحين"؟ وبقية الرجال ثقات (3).

أما شيخ أبي عمر: فهو عبد الله بن محمَّد بن يوسف، هو ابن الفرضي الإِمام الثقة الحافظ.

وأما الحسن بن سليمان بن سلام الفزاري: فهو أبو علي الحافظ يُعرف بقُبَيْط، قال فيه ابن يونس: كان ثقةً حافظًا.

وأما الدراوردي: فإن الجماعة أخرجوا له، غير أن البخاري أخرج له مقرونًا بغيره.

وأما عمرو بن يحيى بن سعيد أبو أمية المكي: فإن البخاريّ روى له، وأما أبوه

(1)"التمهيد"(13/ 254).

(2)

"المحلى"(3/ 48).

(3)

ذكر الإِمام الذهبي هذا الحديث في ترجمة عثمان بن محمَّد، المذكور في "الميزان"(3/ 53)، ونقل عن ابن القطان أنه قال: هذا حديث شاذٌّ لا يعرج على رواته.

ص: 24

يحيى بن سعيد بن عمرو بن العاص بن أمية القرشي أبو أيوب المدني: فإن مسلمًا روى له.

فحينئذٍ يكون هذا الحديث صحيحًا ولا سيما على شرط الحاكم وقد قال صاحب "الهداية" في باب سجود السهو: لأن الركعة الواحدة لا تجزئه لنهيه عليه السلام عن البتيراء. وأراد به الحديث المذكور.

ص: وقد روي عن عائشة في ذكرها وتر النبي عليه السلام ما يدل على حقيقة ما ذكرنا: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبي عليه السلام -لا يُسلِّم في ركعتي الوتر".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن المنهال، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد

فذكر بإسناده مثله.

فأخبَرت أن الوتر ثلاثٌ، لا يسلم بين شيء منهن.

ش: لما ذكر أن حقيقة معنى قوله عليه السلام: "أوتْرِ بواحدة" وقوله: "الوترُ ركعة واحدة" هو أن يكون بشفع قد تقدمها، وأن الوتر ثلاثٌ بتسليمة واحدة في آخره؛ ذكر حديث عائشة هذا شاهدًا لما ذكره؛ فإنها أخبرت في حديثها هذا أنه عليه السلام كان لا يُسلم في ركعتي الوتر، وهذا صريح على أنه كان يوتر بثلاث ركعات بقعدتين وتسليمة واحدة في آخره.

وأخرجه من طريقين صحيحين على شرط مسلم:

أحدهما: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرّقي، عن شجاع بن الوليد بن قيس، عن سعيد بن أبي عروبة مهران البصري، عن قتادة بن دعامة السَّدُوسي، عن زُرارة بن أوفى أي الحاجب البصري، عن سعد بن هشام بن عامر الأنصاري ابن عم أنس بن مالك.

وهؤلاء كلهم روى لهم الجماعة ما خلا سَعْدًا، فإنه روى له تعليقا البخاري، وما خلا أبا بشر فإنه أيضًا ثقة.

ص: 25

وأخرجه النسائي (1): أنا إسماعيل بن مسعود، نا بشر بن المفضل، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، أن عائشة رضي الله عنها حدثته:"أن رسول الله عليه السلام كان لا يُسلّم في ركعتي الوتر".

والآخر: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن محمَّد بن المنهال التميمي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن يزيد بن زريع القيسي شيخ ابن المديني، عن سعيد بن أبي عروبة

إلى آخره.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا أبو محمَّد بن صاعد، ثنا محمَّد بن عمرو ابن سليمان، ثنا يزيد بن زريع، ثنا سعيد بن أبي عروبة

إلى آخره نحوه.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(3): من حديث أبان، عن قتادة، عن زرارة، عن سَعد بن هشام، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن".

ص: ثم قد رُوِيَ عن عائشة رضي الله عنها بعد هذا أحاديث في الوتر إذا كُشِفَت رَجعَتْ إلى معنى حديث سَعْد بن هشام هذا، فمن ذلك ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هُشَيم، قال: أنا أبو حرة، قال: ثنا الحسين، عن سَعْد بن هشام، عن عائشة قالت:"كان رسولُ الله عليه السلام إذا قامَ من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ثمان ركعات، ثم أوتر".

فأخْبَرتْ ها هنا أنه كان يُصلي ركعتين، ثم ثمانيًا، ثم يوتر، فكان مَعْنى "ثم يوتر" يحتمل: ثم يوتر بثلاث منهن ركعتان من الثمان وركعة بعدها، فيكون جميع ما صلى إحدى عشرة.

ويحتمل: ثم يوتر بثلاثٍ مُتتابعات، فيكون جميع ما صلى ثلاث عشرة ركعةً.

(1)"المجتبى"(3/ 2345 رقم 1698).

(2)

"سنن الدراقطني"(2/ 32 رقم 7).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 28 رقم 4581).

ص: 26

فنظرنا فيما يحتمل من ذلك؛ هل جاء شيء يدل على شيء منه بعينه؟ فإذا إبراهيم ابن مرزوق ومحمد بن سليمان الباغندي قد حدثانا، قالا: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا حُصَيْن بن نافع العَنْبرِي، عن الحسن، عن سَعْد بن هشام قال:"دخلتُ على عائشة رضي الله عنها فقلت: حدثيني عن صلاة رسول الله عليه السلام، قالت: كان النبي عليه السلام يصلي بالليل ثمان ركعات ويُوتر بالتاسعة، فلما بَدّنَ صلى ست ركعات وأوْتر بالسابعة وصلى ركعتين وهو جالس".

ففي هذا الحديث أنه كان يوتر بالتاسعة فذلك يَحْتَمل أن يكون يُوتِرَ بالتاسعة مع اثنتين من الثمان التيم قبلها حتى يتفق هذا الحديث وحديث زرارة ولا يتضادان.

ش: اعلم أنه قد ووي عن عائشة رضي الله عنها أن وتر النبي عليه السلام ثلاث بتسليمة واحدة وهو في رواية سعد بن هشام عنها كما مر آنفًا، وروي عنها أيضًا أحاديث في بعضها ما يناقض هذا، وأحاديث أخرى بينها تضادّ ظاهرًا، ولكن إذا كشفت معانيها تَرْجع كلها إلى معنى واحد وهو المعنى الذي يُفهم من حديث سعد بن هشام من أن الوتر ثلاث ركعات بقعدتين وتسليمة واحدة في آخره، فأشار إلى بيان ذلك بقوله: ثم قد رُوي عن عائشة رضي الله عنها

إلى آخره.

فمن جملة ذلك ما رواه سعد بن هشام عنها: "أَنه عليه السلام كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم صلى ثمان ركعات ثم أوتر".

أخرجه من طريق صحيح على شرط مسلم، عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم ابن بَشِير، عن أبي حُرّة -بضم الحاء المهملة- واصل بن عبد الرحمن البصري، روى له مسلم والنسائي، عن الحسن البصري، عن سعد بن هشام.

وأخرجه مسلم (1) والنسائي (2) مقتصرا على قوله: "بركعتين خفيفتين" بهذا

(1)"صحيح مسلم"(1/ 532 رقم 767).

(2)

لم يعزه المزي في "الأطراف"(11/ 404/ 1609 رقم 16097) إلا لمسلم فقط.

ص: 27

الإسناد بعينه، فأخبرت عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث أنه عليه السلام كان يصلي ركعتين، ثم يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر فقولها:"ثم يوتر" يحتمل وجهين:

الأول: ثم يوتر بثلاث ركعات منهن ركعتان من الثمان وركعة بعدها، فيكون حينئذٍ جميع ما صلى إحدى عشرة ركعة؛ ثمان ركعات تطوع، وثلاث وتر.

الثاني: ثم يوتر بثلاث ركعات متتابعات، فيكون جميع ما صلى ثلاث عشرة ركعة؛ عشر ركعات تطوع، وثلاث وتر، فبهذا الاحتمال لا يحكم بشيء بعينه إلا إذا دلّ دليل على شيء من ذلك بعينه.

فنظرنا في ذلك، فوجدنا سَعْد بن هشام أيضًا روى عن عائشة:"أنه عليه السلام كان يُصلي بالليل ثمان ركعات ويوتر بالتاسعة"، فهذا صريح على أنه كان يوتر بالتاسعة مع الركعتين من ثمان ركعات التي قبلها، فدلّ ذلك على أن المراد في الحديث الأول هو الاحتمال الأول؛ لأن الحديثين كليهما من رواية الحسن البصري، عن سَعْد بن هشام، وقد بيَّن أحدهما معنى الآخر.

وإنما قلنا هكذا؛ ليقع الاتفاق بين روايتي سَعْد بن هشام عن عائشة، اللتين بينهما تضاد ظاهرًا، بيانه: أن زرارة بن أوفى روى عن سَعْد بن هشام، عن عائشة، عن النبي عليه السلام:"أنه كان لا يسلم في ركعتي الوتر"، وأن الحسن البصريّ روى عن سعد في الروايتين المذكورتين أنه كان يصلي ثمان ركعات في إحديهما:"ثم أوتر"، وفي الأخرى:"ثم يوتر بالتاسعة" فبين قوله: "لا يسلم في ركعتي الوتر" وقوله:"ثم أوتر" تضادّ ظاهرًا؛ لأن الأول يدل على أن الثلاث متتابعات، والثاني يدل على أن الثالثة مفصولة من الركعتين، فإذا حملنا معنى قوله:"ثم أوتر" على معنى أنه أوتر بالتاسعة مع اثنتين من الثمان التي قبلها؛ يقع الاتفاق ويرتفع التضاد.

ثم إسناد حديث ابن مرزوق صحيح أيضًا، ورجاله ثقات.

ومحمد بن سليمان بن الحارث الباغندي قال الدارقطني: لا بأس به. وقال الخطيب: رواياته كلها مستقيمة. ونسبته إلى باغند قرية من قرى واسط.

ص: 28

وأبو الوليد هو هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، وحصين بن نافع الفهري التميمي الوراق البصري، وثقه ابن حبان، وروى له النسائي.

وأخرجه النسائي بهذا الإسناد (1): أنا محمَّد بن عبد الله الخلنجي، قال: ثنا أبو سعيد -يعني مولى بني هشام- قال: ثنا حصين بن نافع، قال: ثنا الحسن، عن سعد بن هشام:"أنه وقد على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فسألها عن صلاة رسول الله عليه السلام، فقالت: كان يصلي من الليل ثمان ركعات ويوتر بالتاسعة ويصلي ركعتين وهو جالس".

وأخرجه (2) من طريق آخر: أخبرنا زكرياء بن يحيى، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبد الرزاق قال: أبنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أخبرني سعد بن هشام، عن عائشة أنه سمعها تقول:"أن رسول الله عليه السلام كان يوتر بتسع ركعات ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فلما ضَعُف أوتر بسبع ركعات ثم يصلي ركعتين وهو جالس".

وأخرجه من خمس طرق أخرى مطولة ومختصرة (3).

وأخرجه مسلم (4) مطولًا جدًّا.

وكذا أخرجه أبو داود (5) بطرق مختلفة مطولة ومختصرة.

وقوله: "ويوتر بالتاسعة" أي بالركعة التاسعة، والمعنى يجعل التاسعة وترًا بركعتين قبلها والكل ثلاث وتر.

(1)"المجتبى"(3/ 242 رقم 1724).

(2)

"المجتبى"(3/ 242 رقم 1722).

(3)

"المجتبى"(3/ 241 - 243 رقم 1718 - 1725).

(4)

"صحيح مسلم"(1/ 513 رقم 746).

(5)

"سنن أبي داود"(2/ 40 رقم 1342).

ص: 29

قوله: "فلما بَدَّن" بتشديد الدال مَعْناه كَبُر وأسنَّ، وأما بَدُنَ -بتخفيف الدال وضمها- فمعناه كثر لحمه وسمن، ولم يكن سمينًا. كذا قاله أبو عبيدة.

قلت: يَردُّ عليه ما جاء من حديث ابن أبي فضالة في صفته عليه السلام: "بادن متماسك" من البدانة وهي كثرة اللحم.

قوله: "وأوتر بالسابعة" أي بالركعة السابعة، ومعناه: بركعتين قبلها كما ذكرناه.

قوله: "وهو جالس" كلمة وقعت حالًا.

وقد أخذ الأوزاعي وأحمد بظاهر الحديث، فأباحا ركعتين بعد الوتر جالسًا، وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنع من فعله. قال النووي: وأنكره مالك.

قلت: الصواب أن النبي عليه السلام فعل هاتين الركعتين بعد الوتر جالسًا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وبيان جواز الفعل جالسًا، ولم يواظب على ذلك، بل فعله مرةً أو مرتين أو مرات قليلة.

فإن قيل: قد أخبرت عائشة رضي الله عنها بقولها: "كان يصلي" وهذه لفظة تدل على الاستمرار والثبات.

قلت: المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين أنّ "كان" لا يلزم منها الدوام ولا التكرار، وإنما هي فعل ماضي يدل على وقوعه مرة، فإن دل دليل على التكرار عُمِل به وإلا فلا تقتضيه بوضعها. وفيه نظر؛ لأن أهل اللغة والعربية ذكروا أن "كان" تدل على الثبات والاستمرار، وفرَّقوا بينها وبين "صار"، وقالوا: إن "صار" تدل على الحدوث والتجدد، واستشهدوا عليه بجواز القول:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وبعدم جواز "صار الله"، فافهم.

والتحقيق فيه: أنه عليه السلام كان يفعل ذلك مستمرًّا بعد أن بدَّن، فتكون مداومته على ذلك للعجز؛ ولأن باب النفل أوسع، والله أعلم.

ص: 30

واستدل به الشافعي في أحد أقواله: أن الوتر سبع ركعات، ونحن نقول أن الوتر منها ثلاث ركعات ليس إلا، والأربع قبله نفل، والحديث لا يدل على أن الوتر سبع ركعات، وإنما قال:"ويوتر بالسابعة" أي بالركعة السابعة مع شفع تقدمها.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد بن هشام الأنصاري:"أنه سأل عائشة رضي الله عنها، عن صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فقالت: كان يُصلي العشاء، ثم يتجوز بركعتين وقد أعد سواكه وطَهُورَه فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويتوضأ، ثم يصلي ركعتين، ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يُسوِّي بينهن في القراءة، ويوتر بالتاسعة، فلما أسنَّ رسول الله عليه السلام وأخذه اللحم جعَل تلك الثماني ستًّا ثم يوتر بالسابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} ".

ففي هذا أنه كان يُصلّي قبل الثمان التي يوتر بتاسعتهن أربعًا، فجميع ذلك ثلاث عشرة ركعة منها الوتر اللي فسرة زرارة، عن سعد، عن عائشة رضي الله عنها وهو ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن. فقد صحت رواية سعد عن عائشة رضي الله عنها وباتت على ما ذكرنا.

ش: ذكر هذه الرواية شاهدة لما قاله من أن المراد من قول عائشة رضي الله عنها في الحديث الذي رواه عنها سعد بن هشام أيضًا "أن رسول الله عليه السلام كان إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين، ثم صلى ثمان ركعات، ثم أوتر" أنه يوتر بالتاسعة مع اثنتين من الثمان التي قبلها، وأنه يدل على أن الوتر ثلاث ركعات من غير فصل بينها بتسليمة؛ لأنه ذكر في هذا الحديث أنه عليه السلام كان يصلي قبل ثمان ركعات التي يوتر بتاسعتهن أربعًا، فيكون جميع ذلك ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وهو ثلاث ركعات على ما فسره زرارة بن أوفى في روايته عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام لا يُسلِّم في ركعتي الوتر".

ص: 31

ثم إنه أخرج الحديث المذكور بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي حرة واصل بن عبد الرحمن، عن الحسن البصري

إلى آخره.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1): أنا محمَّد بن إسحاق بن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن سعد بن هشام الأنصاري:"أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن صلاة النبي عليه السلام بالليل، فقالت: كان رسول الله عليه السلام إذا صلى العشاء تجوّز بركعتين، ثم ينام وعند رأسه طَهوُره وسواكه، فيقوم فيتسوَّك ويتوضأ، ويصلي ويتجوَّز بركعتين، ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات يسوِّي بينهن في القراءة، ثم يوتر بالتاسعة، ويصلي ركعتين وهو جالس، فلما أسنَّ رسول الله عليه السلام وأخذ اللحم، جعل الثمان ستًّا ويوتر بالسابعة، ويصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {إِذَا زُلْزِلَتِ} ".

قوله: "ثم يتجوز بالركعتين" أي يخففهما ويُسْرع بهما، وقيل: هو من التجاوز وهو القطع والسير.

قوله: "طَهُوره" بفتح الطاء: اسم لما يتطهر به.

قوله: "ويوتر بالتاسعة" أي بالركعة التاسعة مع شفع تقدمها، وكذا معنى قوله:"ثم يوتر بالسابعة".

ويستفاد منه أحكام:

استحباب التأهب بأسباب العبادات قبل وقتها والاعتناء بها، واستحباب السواك عند القيام من النوم، وجواز النفل قاعدًا مع القدرة على القيام، وعدم الكراهة في القراء في الركعة الثانية بسورة وهي فوق السورة التي قرأها في الركعة الأولى، فافهم.

(1)"صحيح ابن حبان"(6/ 367 رقم 2640).

ص: 32

ص: وقد روي عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة رضي الله عنها في ذلك ما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا هُشَيم بن بشير، قال: أنا خالد الحذاء، قال: أنا عبد الله بن شقيق قال: "سألت عائشة رضي الله عنها عن تطوع رسول الله عليه السلام بالليل، فقالت: كان إذا صلى بالناس العشاء يدخل فيصلي ركعتين، قالت: وكان يصلي من الليل تِسْع ركعات فيهن الوتر، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين في بَيْتي ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر".

ففي هذا الحديث أنه كان يُصلّي إذا دخل بَيْته بعد العشاء ركعتين، ومن الليل تسعًا فيهن الوتر، فذلك عندنا على تسعٍ غير الركعتين اللتين كان يخففهما على ما قال سعد عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام كان يفتتح صلاته من الليل بركعتين خفيفتين"، وإنما حملنا معنى حديث عبد الله بن شقيق على هذا المعنى ليتفق هو وحديث سَعْد بن هشام ولا يتضادان.

ش: لما كان حديث عبد الله بن شقيق يخالف ظاهر حديث سَعْد بن هشام، وكلاهما يَرْويان عن عائشة رضي الله عنها؛ ذكره عقيب حديث سعد ليوفِّق بينهما دفعًا للتضاد، أما بيان التضاد: فإن الذي ذكره سعد في حديثه: أن جميع ما كان يصليه عليه السلام ثلاث عشرة ركعة؛ لأنه كان يصلي ركعتين بعد العشاء ويتجوز بهما، ثم يصلي ركعتين أخراوين بعد قيامه من النوم، ثم يصلي ثمان ركعات ويوتر بالتاسعة، فالجملة ثلاث عشرة ركعة منها الوتر ثلاث ركعات.

والذي ذكره عبد الله بن شقيق: أنه كان إذا صلى بالناس العشاء يدخل فيصلي ركعتين، ثم كان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، فالجملة إحدى عشرة.

وأما بيان وجه التوفيق بينهما: أن حديث عبد الله بن شقيق محمول على معنى حديث سَعْد وهو أن المراد من الركعتين اللتين كان يصليهما إذا دخل، والتسع التي كان يصليها بعدهما التي فيهن الوتر غير الركعتين الخفيفتين اللتن قد ذكرتا في حديث سعد بن هشام عن عائشة المذكور فيما مضى، فحينئذٍ يكون الجميع هنا أيضًا ثلاث عشرة ركعة؛ فتتفق الروايتان ولا تختلفان.

ص: 33

ثم إسنادُ حديث عبد الله بن شقيق صحيح؛ لأن رجاله كلهم ثقات قد فذكروا غير مرة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1) بأتم منه: ثنا هُشَيم، ثنا خالد، عن عبد الله بن شقيق قال:"سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله عليه السلام من التطوع، فقالت: كان يصلي قبل الظهر أربعًا في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا جالسًا، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين، ثم يخرج ليصلي بالناس صلاة الفجر" انتهى.

من فوائده: أن الوتر ثلاث ركعات؛ لأن قوها: "فيهن الوتر" أي في التسع الوتر وهو ثلاث، وأن صلاة السنن في المنازل أفضل، وفيه ترغيب لقيام الليل ولو جزءًا يسيرًا.

ص: وقد روى أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها في ذلك:[ما قد](2) حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: حدثني أبان بن يزيد، قال: حدثني ابن أبي كثير، قال: ثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة:"أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة؛ يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر بركعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، وصلى بين أذان الفجر والإقامة ركعتين".

فيحتمل أن تكون الثمان ركعات التي أوتر بتاسعتهن في هذا الحديث هي الثمان التي ذكر سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله عليه السلام كان يصلي قبلهن أربع

(1)"مسند أحمد"(6/ 30/ 2406).

(2)

ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 34

ركعات" ليتفق هذا الحديث وحديث سعد، ويكون هذا الحديث قد زاد على حديث سعد وحديث عبد الله بن شقيق تطوع رسول الله عليه السلام بعد الوتر.

ويحتمل أيضًا أن تكون هذه التسع هي التسع التي ذكرها سعد بن هشام في حديثه عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله عليه السلام كان يصليهما لما بدّن؛ فيكون ذلك تسع ركعات مع الركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح بهما صلاته، ثم كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالسًا بدلًا مما كان يصليه قبل أن يُبدّن قائمًا وهو ركعتان، فقد عاد ذلك أيضًا إلى ثلاث عشرة ركعة.

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز قال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة قال:"سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يُصلي ركعتين وهو جالس، وإذا أراد أن يركع قام فركع قائمًا ثم سجد، وكان يصلي ركعتين بين الأذان والإقامة من صلاة الصبح".

فهذا الحديث معناه معنى حديث أحمد بن داود، عن سهل بن بكار غير أنه ترك ذلك الوتر.

وحدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن محمَّد ابن عمرو، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة منها ركعتان وهو جالس، ويصلي ركعتين قبل الصبح".

فتلك ثلاث عشرة ركعة، فقد وافق هذا الحديث أيضًا حديث أحمد بن داود.

وقولها: "يصلى ركعتين قبل الصبح" يعني قبل صلاة الصبح، وهما الركعتان اللتان ذكرهما أحمد بن داود في حديثه أنه كان يصليهما بين الأذان والإقامة.

وحدثنا أحمد بن أبي عمران، قال: ثنا القواريري (ح).

وحدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا حامد بن يحيى، قالا: ثنا سفيان، قال: ثنا ابن أبي لبيد، قال: سمعت أبا سلمة يقول: "دخلت على عائشة رضي الله عنها، فسألتها عن

ص: 35

صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فقالت: كانت صلاته في رمضان وغيره سواء؛ ثلاث عشرة ركعة، منها ركعتا الفجر".

فقد وافق هذا الحديث أيضًا ما رويناه قبله من حديث أبي سلمة.

وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره:"أنه سأل عائشة: كيف كانت صلاة رسول الله عليه السلام في رمضان؟ فقالت: ما كان النبي عليه السلام يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة؛ يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا. قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: يا رسول الله، أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيناي تنامان ولا ينام قلبى".

فيحتمل هذا الحديث أن يكون قولها "ثلاثا" تريد [يوتر](1) بإحداهن مع اثنتين من الثمان، ثم يصلي الركعتين الباقيتين، وهما الركعتان اللتان ذكرهما أبو سلمة فيما تقدم مما روينا عنه أنه كان يصليهما وهو جالس؛ حتى يتفق هذا الحديث وما تقدمه من أحاديثه، ويحتمل أن تكون الثلاث كلها وترًا، وهو أغلب المعنيين؛ لأخها قد فَصَّلت صلاته فقالت: فكان يصلي أربعًا، ثم أربعًا، ووصفت ذلك كله بالحسن والطول، ثم قالت:"ثم يصلي ثلاثًا" ولم تصف ذلك بطول، وجمعت الثلاث بالذكر، فذلك عندنا على الوتر، فيكون جميع ما كان يصليه إحدى عشرة ركعة مع الركعتين الخفيفتين اللتين في حديث سعد بن هشام، أو مع الركعتين اللتين كان يصليهما وهو جالس بعد الوتر وهذا أشبه بروايات أبي سلمة؛ لأن جميعها تُخبرُ عن صلاته بعد ما بدّن، وحديث سعد بن هشام يخبز عن صلاته بعد ما بدَّن وعن صلاته قبل ذلك.

ش: لما ذكر فيما مضى أنه قد روي عن عائشة أحاديث في الوتر إذا كشفت رجعت إلى معنى حديث سعد بن هشام الذي رواه عنه زرارة بن أوفى وهو: "أنه عليه السلام كان

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 36

لا يُسلّم في ركعتي الوتر"، ثم وفق بين ما وقع في روايات سعد بن هشام من التخالف ظاهرًا، وكذا ما وقع بين روايته وبين رواية عبد الله بن شقيق؛ شرع ها هنا بذكر ما رواه أبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن، عن عائشة؛ ليوفق بينه وبين ما روي من غيره عن عائشة في هذا الباب، فأخرج حديثه من ستة طرق:

الأول: عن أحمد بن داود المكي، عن سهل بن بكار بن بشر الدارمي البصري المكفوف شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار البصري، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن مثنى، قال: نا ابن أبي عدي، نا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة قال:"سألت عائشة عن صلاة رسول الله عليه السلام، فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، وإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح".

وأخرجه أبو داود (2): ثنا موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم، قالا: نا أبان، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن عائشة:"أن نبي الله عليه السلام كان يصلي من الليل ثلاث عشرة؛ كان يصلي ثمان ركعات، ويوتر بركعة ثم يصلي -قال مسلم: بعد الوتر- ركعتين وهو قاعد، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ويصلي بين أذان الفجر والإقامة ركعتين".

وأخرجه النسائي (3): أنا عبد الله بن فضالة بن إبراهيم، قال: ثنا محمَّد -يعني ابن المبارك- الصوري، قال: ثنا معاوية -يعني ابن سلام- عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: "أنه سأل عائشة عن صلاة رسول الله عليه السلام

(1)"سنن أبي داود"(2 - 39 رقم 1339).

(2)

"سنن أبي داود"(2 - 39 رقم 1339).

(3)

"المجتبى"(3/ 251 رقم 1756).

ص: 37

من الليل، فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة؛ تسع ركعات قائمًا يوتر فيها، وركعتين جالسًا، فإذا أراد أن يركع قام فركع، وسجد، ويفعل ذلك بعد الوتر، فإذا سمع نداء الصبح، قام فركع ركعتين خفيفتين".

قوله: "فيحتمل أن يكون

" إلى آخره، بيان وجه التوفيق بين هذا الحديث الذي رواه أبو سلمة عن عائشة، وبين الحديث الذي رواه سعد بن هشام وعبد الله بن شقيق عنها، ملخصه أن يقال: يحتمل أن يكون المراد من قولها: "يصلي ثمان ركعات ثم يوتر بركعة" في حديث أبي سلمة هو الثمان ركعات التي ذكرت في حديث سعد بن هشام عن عائشة، وهو قولها: "فيتسوَّك ويتوضأ، ثم يصلي ركعتي، ثم يقوم فيصلي ثمان ركعات

" الحديث، فحينئذٍ يتفق الحديثان.

ولكن يكون في حديث أبي سلمة زيادة على حديث سعد بن هشام، وعبد الله بن شقيق، وهي تطوع رسول الله عليه السلام بعد الوتر؛ لأن هذا التطوع -وهو الركعتان بعد الوتر- لم يذكر في حديثهما، والمذكور في حديث عبد الله بن شقيق من الركعتين بعد الوتر هو ركعتا الفجر، وهما سنة غير تطوع، ويحتمل أيضًا أن يكون المراد من هذه التسع أعني تسع ركعات التي ذكرها أبو سلمة في حديثه -وهو قول عائشة:"يصلي ثمان ركعات ثم يوتر بركعة" وهي تسع ركعات- هي التسع الركعات التي ذكرها سَعْد بن هشام في حديثه عن عائشة أن رسول الله عليه السلام كان يصليها لما بدّن؛ وذلك لأنه لما بدَّن كان يصلي ست ركعات، ثم يوتر بالسابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فهذه تسع ركعات، فتكون ثلاث عشرة ركعة مع الركعتين الخفيفتن اللتين كان عليه السلام يفتتح بهما صلاته، فحينئذٍ يتفق الحديثان أيضًا.

وقد قيل: وجه هذا الاختلاف عن عائشة في أعداد الركعات في صلاته عليه السلام في الليل؛ إما من الرُواة عنها، وإما منها باعتبار أنها أخبرت عن حالات منها ما هو الأغلب عن فعله عليه السلام، ومنها ما هو نادر، ومنها ما هو بحسب اتساع الوقت وضيقه.

ص: 38

الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز -المعجمات- البصري، روى له الجماعة سوى أبي داود، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، روى له الجماعة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): أنا إسماعيل بن مسعود، قال: ثنا خالد، قال: ثنا هشام، قال: ثنا يحيى، عن أبي سلمة:"أنه سأل عائشة عن صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، قالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعة؛ يصلي ثمان ركعات، ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ويصلي ركعتين بين الأذان والإقامة في صلاة الصبح".

قوله: "فهذا الحديث" أي الحديث [الذي](2) رواه علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة، معناه معنى حديث أحمد بن داود المكي، عن سهل بن بكار، عن أبان بن يزيد، عن ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، وهو الحديث الأول، غير أن إبراهيم بن مرزوق في روايته عن هارون بن إسماعيل، عن علي بن المبارك، عن يحيى، عن أبي سلمة ترك ذكر الوتر، حيث لم يقل بعد قوله:"يصلي ثمان ركعات": "ثم يوتر" كما ذكره أحمد بن داود، عن سهل، عن أبان، عن يحيى، عن أبي سلمة:"يصلي ثمان ركعات ثم يوتر بركعة"، وكما وقع ذكره في رواية النسائي كما ذكرنا، ولكنه مراد ها هنا أيضًا، ولا يلزم أن يكون جميع ما صلى اثنتي عشرة ركعة، وليس كذلك، بل الروايات على أنها كانت ثلاث عشرة ركعة.

الطريق الثالث: عن فهد بن سليمان، عن علي بن مَعْبد بن شداد العبدي، عن إسماعيل بن أبي كثير الأنصاري المدني قارئ أهل المدينة، عن محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، عن أبي سلمة

إلى آخره.

(1)"المجتبى"(3/ 256 رقم 1781).

(2)

غير موجودة في "الأصل، ك" والسياق يقتضيها.

ص: 39

وأخرجه أبو داود (1) من حديث محمَّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة

إلى آخره نحوه.

قوله: "فقد وافق هذا الحديث أيضًا حديث أحمد بن داود" أراد به الحديث الأول الذي رواه عن أحمد بن داود المكي، عن سهل بن بكار، عن أبان، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة؛ لأن في كل منهما: ثلاث عشرة ركعة، والموافقة بينهما في هذا، وفي قولهما:"يصلي ركعتين قبل الصبح"؛ لأن المراد من هذا هو ما ذكره أحمد بن داود في حديثه أنه كان يصليهما بين الأذان والإقامة، أي بين أذان الصبح وإقامته، فافهم.

الطريق الرابع: عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود، عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي لبيد الثقفي المدني، عن أبي سلمة.

وأخرجه مسلم (2): ثنا عمرو الناقد، قال: نا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي لبيد، أنه سمع أبا سلمة قال:"أتيت عائشة رضي الله عنها، فقلت: أيْ أُمَّه أخبريني عن صلاة رسول الله عليه السلام، فقالت: كانت صلاته في شهر رمضان وغيره ثلاث عشرة ركعة بالليل، منها ركعتا الفجر".

الطريق الخامس: عن روح بن الفرج القطان، عن حامد بن يحيى بن هانئ البلخي نزيل طرسوس شيخ أبي داود، عن سفيان

إلي آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه الكبير"(3): من حديث سفيان، عن ابن لبيد نحوه.

قوله: "فقد وافق هذا الحديث أيضًا ما رويناه قبله من حديث أبي سلمة" يعني من التنصيص على ثلاث عشرة ركعة.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 43/ 1350).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 510 رقم 738).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 6 رقم 4450).

ص: 40

وقال البيهقي: ثم إن عائشة رضي الله عنها أخبرت ها هنا أنه عليه السلام ما كان يزيد على إحدى عشرة في رمضان وغيره، وهذا هو الأغلب في رواياته، وما روي عنها من خمس عشرة فذاك في الكثير، وما روي عنها من السبع فذاك في القليل.

الطريق السادس: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن سعيد المقبري، عن أبي سلمة، والكل رجال مسلم.

والحديث أخرجه الجماعة غير ابن ماجه:

فالبخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك

إلي آخره نحوه سواء.

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك

إلى آخره نحوه.

وأبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك.

والترمذي (4): عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن، عن مالك.

والنسائي (5): عن محمَّد بن سلمة والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك

إلى آخره.

قوله: "فلا تسأل عن حسنهن" معناه أنهن في غاية من كمال الحسن والطول، مستغنيات بظهور حسنهن وطولهن عن السؤال عنه والوصف.

قوله: "أتنام" الهمزة فيه للاستفهام.

قوله: "إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي" هذا من خصائص الأنبياء عليهم السلام، وقد تأوله بعضهم على أن ذلك كان غالب أمره وقد ينام نادرًا؛ لحديث الوادي "فلم يعلم بفوات الصبح حتى طلعت الشمس"، ومنهم من قال: لا يستغرقه النوم حتى

(1)"صحيح البخاري"(1/ 385 رقم 1096).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 509 رقم 738).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 40 رقم 1341).

(4)

"سنن الترمذي"(2/ 302/ 439).

(5)

"المجتبى"(3/ 234/ 1697).

ص: 41

يكون منه الحدث، ومنهم من قال: يوم الوادي إنما نامت عيناه فلم يرَ طلوع الشمس، وطلوعها إنما يدرك بالعين لا بالقلب، وقيل: لا ينام قلبه من أجل أنه يوحى إليه. والصواب الأول.

قوله: "فيحتمل هذا الحديث

" إلى آخره، إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين حديث أبي سلمة عن عائشة هذا، وبين أحاديثه التي تقدمت؛ لأن بينها تضادًّا ظاهرًا؛ لأنه في الأحاديث المذكورة: "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة". وفي هذا الحديث: "ما كان النبي عليه السلام يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة". بيان ذلك من وجهين:

أحدهما: أن قولها: "يصلي ثلاثًا" يحتمل أن يكون عليه السلام كان يوتر بإحدى ركعتين من الثمان ركعات، ثم يصلي الركعتين الباقيتين من الثلاث وهما الركعتان اللتان ذكرهما أبو سلمة في حديثه السابق أنه كان يصليهما وهو جالس وفي ذلك أن الركعة الواحدة من الثلاث التي في قولها:"ثم يصلي ثلاثًا" تضاف إلى الركعتين من الثمان ركعات التي صلاها عليه السلام أربعًا أربعًا، فتصير هذه الركعة مع الثنتين منها وترًا، ثم تُجعل الركعتان اللتان بقيتا من الثلاث عوض الركعتين اللتين ذكرهما أبو سلمة في حديثه الآخر أنه عليه السلام كان يصليهما وهو جالس، فالجملة إحدى عشرة ركعةً، وتضاف إليها ركعتا الفجر فصارت ثلاث عشرة ركعةً، فاتفق هذا الحديث والأحاديث التي قبله.

قوله: "اثنتين" مفعول لقوله: "يوتر بإحداهن".

قوله: "من الثمان" في محل النصب؛ لأنه صفة لقوله: "اثنتين" والتقدير: يجعل إحداهن وترًا مع الاثنتين الكائنتن من الثمان، فافهم.

والوجه الثاني: وهو الأوجه والأصوب: أن قولها: "ثم يصلي ثلاثًا" تكون كلها وترًا؛ وذلك لأنها قد فصَّلت بكلامها صلاته عليه السلام حيث قالت: "فكان يصلي أربعًا ثم يصلي أربعًا" ثم وصفت كل ذلك بالحسن والطول، ثم قالت:"ثم يصلي ثلاثا"

ص: 42

ولم تصف هذه الثلاث بشيء من ذلك وإنما جمعتها بالذكر، فدلَّ ذلك على أنهما الوتر، فيكون جميع ما صلاه: إحدى عشرة ركعةً وتضاف إليها الركعتان الخفيفتان اللتان ذكرهما سعد بن هشام في حديثه عن عائشة قالت: "كان رسول الله عليه السلام إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين ثم صلى

"، فحينئذٍ تكون الجملة ثلاث عشرة ركعة، فتتفق الأحاديث كلها ويرتفع الخلاف، وتضاف إليها الركعتان اللتان كان عليه السلام يصليهما وهو جالس بعد ما بدَّن، فحينئذٍ أيضًا تكون الجملة ثلاث عشرة ركعة، وهذا أشبه بروايات أبي سلمة؛ لأن جميع رواياته تُخبر عن صلاة النبي عليه السلام بعد ما بدَّن وأسنَّ فحينئذٍ إضافة هاتين الركعتين اللتين كان يصليهما وهو جالس إلى تلك الإحدى عشرة يكون أنسب وأشبه من إضافة تلكما الركعتين الخفيفتين اللتين كان يصليهما إذا قام من الليل.

وهذا الذي ذكره الطحاوي أجود وأحسن من الذي ذكره بعض المحدثين والفقهاء أن هذا الاضطراب عن عائشة باعتبار الغالب والنادر، وباعتبار اتساع الوقت وضيقه، ومن قول بعضهم أيضًا: إن هذا الاختلاف من الرواة، وكل ذلك ليس بشيء، بل القول ما قاله:

إذا قالت حذام فصدقوها

فإن القول ما قالت حذام

وفي هذا الحديث من الأحكام:

أن فيه دليلًا للجمهور في أن تطويل القيام أفضل من تكثير الركوع والسجود، ويؤيده أيضًا ما رواه عبد الله الحُبْشي الخثعمي:"أن رسول الله عليه السلام سُئل أي الأعمال أفضل؟ قال: طول القيام".

أخرجه أبو داود (1).

وروى جابر بن عبد الله، عن النبي عليه السلام أنه قال:"أفضل الصلاة طول القنوت".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 36 رقم 1325).

ص: 43

وأخرجه مسلم (1).

أراد به طول القيام.

وفيه حجة لأبي حنيفة أن التنفل بالليل أربع ركعات بتسليمة واحدة.

وفيه دليل على أن الوتر ثلاث ركعات، وهو حجة لأصحابه.

ص: وقد روي عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنهم ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام كان يُصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، ويوتر منها بواحدة، فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن، فيصلي ركعتين خفيفتين".

فهذا يحتمل أن يكون على صلاته قبل أن يبدِّن فيكون ذلك هو جميع ما كان يصليه مع الركعتين الخفيفتين اللتين كان يفتتح بهما صلاته، ويحتمل أن يكون على صلاته بعد ما بدَّن فيكون ذلك على إحدى عشرة ركعة منها تسع فيها الوتر وركعتان بعدهما وهو جالس على ما في حديث أبي سلمة، وعلى ما في حديث سعد بن هشام وعبد الله بن شقيق، غير أن مالكًا رحمه الله روى هذا الحديث فزاد فيه شيئًا.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث وابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، أخبرهم عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، ويسجد بسجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج معه". بعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 520 رقم 756).

ص: 44

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري

فذكر مثله بإسناده.

قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث أن جميع ما كان يصليه بعد العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، فقد عاد ذلك إلى حديث أبي سلمة، وعلمنا به أن تلك الصلاة هي صلاته بعد ما بدّن، وأما قولها رضي الله عنهما:"يُسلّم بين كل ركعتين" فإن ذلك يحتمل أن يكون كان يسلم بين كل ركعتين في الوتر وغيره، فثبت بذلك ما يَذهَبُ إليه أهل المدينة من التسليم بين الشفع والوتر، ويَحْتملُ أن يكون كان يُسَلم بين كل ركعتين من ذلك غير الوتر ليتفق ذلك وحديث سعد بن هشام ولا يتضادّان، مع أنه قد روي عن عروة في هذا خلاف ما رواه الزهري عنه، فمن ذلك:

ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله عليه السلام كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يُصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين".

فهذا خلاف ما في حديث ابن أبي ذئب وعمرو بن الحارث ويونس، عن الزهري، عن عروة، فذلك يحتمل أن تكون الركعتان الزائدتان في هذا الحديث هما الركعتان الخفيفتان اللتان ذكرهما سعد بن هشام في حديثه، وليس في ذلك دليل على وتره كيف كان.

فنظرنا في ذلك؛ فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بخمس وبسبع".

حدثنا روحُ بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن هشام بن عروة، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام كان يوتر بخمس سجدات، ولا يجلس بينها حتى يجلس في الخامسة، ثم يسلم".

ص: 45

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بكير، قال: أنا محمَّد بن إسحاق، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت:"كان النبي عليه السلام يوتر بخمسٍ لا يجلس إلا في آخرهن".

فقد خالف ما رواه هشام ومحمد بن جعفر، عن عروة؛ ما روى الزهريّ من قوله:"كان يصلي إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة ويسلم في كل ركعتين".

شَ: ذكر ما رواه عروة أيضًا عن عائشة في هذا الباب على اختلاف أحكامه، ويوفق بينه وبين ما روى غيره عن عائشة رضي الله عنهما.

فأخرج حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها من سبع طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمَّد ابن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1)، وأخرجه الجماعة (2) أيضًا.

قوله: "فهذا يحتمل أن يكون

" إلى آخره، إشارة إلى بيان وجه التوفيق بينه وبين الروايات السابقة.

بيان ذلك: أن حديث عروة هذا يحتمل وجهين:

الأول: أن يكون هذا محمولًا على صلاته عليه السلام قبل أن يبدِّن ويُسِنَّ، فيكون ذلك مع الركعتين اللتين كان يفتتح بهما صلاته إذا قام من الليل ثلاث عشرة ركعة.

الثاني: أن يكون محمولًا على صلاته بعد ما بدَّن وأسنّ، فيكون ذلك على إحدى عشرة ركعة منها تسع ركعات، فيها الوتر ثلاث ركعات، وركعتان

(1)"موطأ مالك"(1/ 120 رقم 262).

(2)

البخاري (5/ 2325 رقم 5951)، ومسلم (1/ 508 رقم 736)، وأبو داود (2/ 39 رقم 1336)، والترمذي (2/ 303 رقم 440)، والنسائي (3/ 234 رقم 1696)، وابن ماجه (1/ 432 رقم 1358).

ص: 46

بعدهما، وهما اللتان كان يصليهما وهو جالس، فتكون الجملة إحدى عشرة ركعةً، ويُضاف إليها الركعتان اللتان كان يفتتح بهما صلاته إذا قام من الليل، فتكون الجملة ثلاث عشرة ركعة.

قوله: "غير أن مالكًا روى هلما الحديث فزاد فيه شيئًا" وهو قوله: "فإذا فرغ منها

" إلى آخره.

وفيه من الفوائد:

أن فيه دليلًا على استحباب الاضطجاع والنوم على الشق الأيمن، قالت الحكماء: وحكمته أنه لا يستغرق في النوم؛ لأن القلب في جهة اليسار فيعلق حينئذٍ فلا يستغرق، وإذا نام على اليسار كان في دعة واستراحة فيستغرق.

وفيه استحباب صلاة ركعتي الفجر في بيته، وكذا سائر السنن والنوافل.

الطريق الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب أيضًا، عن يونس بن يزيد الأيلي، وعمرو بن الحارث بن يعقوب المصري، ومحمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب المدني، ثلاثتهم عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة أخبرته:"أن رسول الله عليه السلام كان يصلي إحدى عشرة ركعة كانت تلك صلاته -تعني بالليل- يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر، ثم يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للصلاة".

وأخرجه مسلم (2): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب

إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن فيه زيادة وهي قوله:"من صلاة العشاء -وهي التي يدعو الناس العتمة- إلى الفجر".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 378 رقم 1071).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 508 رقم 736).

ص: 47

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، ونصر بن عاصم -وهذا لفظه- قالا: نا الوليد، ثنا الأوزاعي -وقال نصر: عن ابن أبي ذئب والأوزاعي- عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن يتصدع الفجر إحدى عشرة ركعةً، يُسلِّم من كل ثِنتين، ويوتر بواحدة، ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن بالأصلى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن".

حدثنا (2) سليمان بن داود المهْري، نا ابن وهب، أخبرني ابن أبي ذئب وعمرو ابن الحارث ويونس بن يزيد، أن ابن شهاب أخبرهم -بإسناده ومعناه- قال:"ويوتر بواحدة ويسجد سجدة قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبيَّن له الفجر -وساق معناه وقال-: بعضهم يزيد على بعض". انتهي.

أي بعض الرواة في هذا الحديث يزيد في قصة الحديث على بعض، وهو معنى قول الطحاوي أيضًا: بعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث.

الطريق الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن محمَّد بن مسلم الزهري

إلى آخره.

وأخرجه ابن ماجه (3): نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا شبابة، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 39 رقم 1336).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 39 رقم 1337).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 432 رقم 1358).

ص: 48

ونا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، ثنا الوليد، ثنا الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة -وهذا حديث أبي بكر- قالت:"كان النبي عليه السلام يصلّي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلّم في كل اثنتين ويوتر بواحدة، ويسجد فيهن سجدةً بقدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن بين الأذان الأول من صلاة الصبح قام فركع ركعتين خفيفتين".

وأخرجه البزار في "مسنده": عن محمَّد بن المثنى، عن أبي عامر العقدي

إلى آخره نحو رواية الطحاوي سندًا، ومتنه:"كان رسول الله عليه السلام يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، يسلم في كل سجدتين، ويوتر بواحدة".

قوله: "ففي هذا الحديث

" إلى آخره، [شارة](1) إلى بيان التوفيق بين حديث عروة عن عائشة، وحديث أبي سلمة عن عائشة، وهو ظاهر.

قوله: "وأما قولها: يُسلّم بين كل ركعتين

" آخره، جوابٌ عما يقال: إن هذا الحديث صريح أنه كان يوتر بركعة واحدة؛ لأنه كان يسلم بين كل ركعتين، فيكون حجة على من يقول: الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة.

تقرير الجواب: أن قولها: "يُسلّم بين كل ركعتين" يحتمل مَعْنَييْن:

الأول: مثل ما نقول لهم، وهو أن يكون كان يُسلّم بين كل ركعتين في الوتر وغيره من النفل الذي هو قبل الوتر، فيكون هذا دليلًا لما يذهب إليه أهل المدينة من التسليم بين الشفع والوتر وهم مثل مالك، وسعيد بن المسيب، والزهري، وغيرهم؛ فإن عندهم الوتر ثلاث ركعات ولكن بتسليمين كما بيّنا ذلك فيما مضى.

الثاني: يحتمل أن يكون المراد من قولها: "يُسلّم بين كل ركعتين" غير الوتر وهذا الوجه أرجح؛ لأنا لو لم نحمله على هذا المعنى يقع بينه وبين حديث سَعْد بن هشام المذكور فيما مضى تضادٌّ؛ لأنه روي عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله عليه السلام كان

(1) ليست "بالأصل، ك"، والسياق يقتضيها.

ص: 49

لا يُسلّم في ركعتي الوتر"، والحمل على معنىً يوجب الاتفاق بين الأحاديث أولى وأجدر من الحمل على معنى يوجب التضاد والتناقض، فافهم.

وقوله: "مع أنه روي عن عروة في هذا

" إلى آخره جواب آخر عما قيل؛ تقريره: أن الزهري وإن كان قد روى عن عروة، عن عائشة: "أنه كان يُسلّم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة"، فقد روى غيرُ الزهري، عن عروة، عن عائشة خلاف ما روى الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ فإن هشام بن عروة روى عن أبيه عروة، عن عائشة: "أنه عليه السلام كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين".

أخرجه بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.

وأخرجه أبو داود (1): عن القعنبي، عن مالك

إلى آخره نحوه.

وهذا هو الطريق الرابع.

قوله: "فهذا خلاف ما في حديث ابن أبي ذئب" أي هذا الحديث الذي رواه مالك، عن هشام، عن عروة، عن عائشة خلاف ما في حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب وعمرو بن الحارث المصري، ويونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عروة، عن عائشة.

ووجه الخلاف: أن حديث عروة عن عائشة هذا يدل على أن جميع صلاته كانت خمس عشرة ركعة على ما لا يخفى، وأحاديث هؤلاء تدل على أن جميعها ثلاث عشرة ركعة.

ثم أشار إلى وجه التوفيق بقوله: فذلك يحتمل أن تكون الركعتان الزائدتان في هذا الحديث -يعني حديث عروة عن عائشة- هما الركعتان الخفيفتان اللتان ذكرهما سعد بن هشام في حديثه، فحينئذٍ تكون هاتان الركعتان داخلتين في جملة ثلاث

(1)"سنن أبي داود"(2/ 39 رقم 1339).

ص: 50

عشرة ركعة، ولكن ليس في حديث عروة، عن عائشة هذا دليل على كيفية وتره عليه السلام لأنه لم يبيِّن فيه شيئًا.

فنظرنا في ذلك فوجدنا هشام بن عروة قد روى عن أبيه عروة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بخمس، وبسبع".

أخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن هشام.

وأخرجه مسلم (1) أيضًا: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة نحوه.

وهذا هو الطريق الخامس.

والطريق السادس: عن روح بن الفرج القطان، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا يونس، ثنا ليث، عن هشام، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله عليه السلام كان يوتر بخمس سجدات لا يجلس بينهن حتى يجلس في الخامسة، ثم يسلِّم".

وأخرجه أبو داود (3): ثنا موسى بن إسماعيل، نا وُهَيب، نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يُوتر منها بخمس لا يجلس في شيء من الخمس حتى يجلس في الآخرة فيُسلِّم".

الطريق السابع: إسناده صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن يونس بن بكير الكوفي الجمال عن محمَّد بن إسحاق المدني، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير بن العوام، عن عروة، عن عائشة.

(1)"صحيح مسلم"(1/ 508 رقم 737).

(2)

"مسند أحمد"(6/ 64 رقم 1338).

(3)

سنن أبي داود (2/ 39 رقم 1338).

ص: 51

وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني، حدثني محمَّد بن سلمة، عن محمَّد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يُصلِّي ثلاث عشرة ركعةَ بركعتَيْه قبل الصبح، يصلي ستًّا مثنى مثنى، ويوتر بخمسٍ لا يقعد بينهن إلا في آخرهن".

وأخرجه النسائي (2): عن إسحاق بن منصور، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن".

قوله: "فقد خالف ما رواه هشام ومحمد بن جعفر، عن عروة ما روى الزهري"، أي خالف ما رواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، وما رواه محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة؛ ما رواه محمَّد بن مسلم الزهري؛ لأن في رواية الزهري:"كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة ويُسلّم بين كل ركعتين" وفي رواية هؤلاء: "لا يجلس إلا في الخامسة"، و"أنه يوتر بخمس وبسبع"، وهذه مخالفة ظاهرة؛ فحينئذٍ حصل الاضطراب فيما روي عن عروة، عن عائشة في صفة وتر النبي عليه السلام، فإذا كان كذلك يرجع في ذلك إلى ما روى غير عروة عن عائشة، أشار إلى ذلك بقوله:

ص: فلما اضطرب ما روي عن عروة في هذا عن عائشة من صفة وتر النبي- عليه السلام لم يكن فيما رَوَى عنها في ذلك حجة، فرجعنا إلى ما رَوَى عنها غيرُه، فنظرنا في ذلك فإذا علي بن عبد الرحمن قد حدثنا، قال: ثنا عبد الغفار بن داود، قال: ثنا موسى ابن أعين، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة: "أن النبي عليه السلام

(1)"سنن أبي داود"(2/ 45 رقم 1359).

(2)

"المجتبى"(3/ 240 رقم 1717).

ص: 52

كان يوتر بتسع ركعات" (1).

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بتسْع، فلما بلغ سنًّا وثقل؛ أوتر بسبع".

حدثنا أبو أيوب عبد الله بن عبيد بن عمران بن خلف الطبراني، قال: ثنا محمَّد ابن عبد الله بن نمير، قال: ثنا ابن فُضَيل، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة رضي الله عنها، مثله.

ففي هذا الحديث كان وتره تسعًا؛ إلا أن فهدًا قد حدثنا، قال: ثنا الحسن بن الربيع، قال: ثنا أبو الأحوص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يُصلي من الليل تسع ركعات".

ففي هذا الحديث أن تلك التسع هي صلاته التي كان يصليها في الليل، فخالف هذا ما قبله من حديث الأسود، واحتمل أن يكون جميع ما قد سمّاه وترًا هو جميع صلاته التي فيها الوتر؛ والدليل على ذلك ما في حديث يحيى بن الجزار:"أنه كان يُصلي قبل أن يضعف تسعًا؛ فلما بلغ سنًّا صلى سبعًا".

فوافق ذلك ما رواه سعد بن هشام في حديثه من الثمان التي كان يصليهن أولًا، ويوتر بواحدة، فلما بدّن جعل تلك الثمان ستًّا وأوتر بالسابعة، فدلّ هذا على أنه سمّى جميع صلاته في الليل -التي كان فيها الوتر- وترًا؛ حتى تتفق هذه الآثار ولا تتضادّ.

ش: أي لما وقع الاضطراب في رواية عروة عن عائشة في صفة وتر النبي عليه السلام لم يكن فيما روى عروة عنها حجة لأحد، فوجب الرجوع في ذلك إلى ما رواه غير عروة

(1) وقعت هنا رواية في "شرح معاني الآثار" ليست في "الأصل، ك" ونصها:

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا موسى بن أعين، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بتسع ركعات".

ص: 53

عن عائشة، فنظرنا في ذلك؛ فوجدنا الأسود بن يزيد النخعى قد روى عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بتسع ركعات".

أخرجه بإسناد صحيح: عن علي بن عبد الرحمن بن المغيرة الكوفي المصري، المشهور بعلان، قال ابن أبي حاتم: صدوق. عن عبد الغفار بن داود بن مَهران الحراني شيخ البخاري، عن موسى بن أعين الجزري أبي سعيد الحراني، روى له الجماعة سوى الترمذي، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود، عن عائشة.

وأخرجه النسائي نحوه (1).

ووجدنا مسروق بن الأجدع ويحيى بن الجزار كلاهما قد رويا عن عائشة نحوه.

أخرج حديث مسروق بإسناد صحيح، عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني، عن سهل بن بكار بن بشر الدارمي شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن أبي الضحى مسلم بن صُبَيح -بضم الصاد- الهمداني الكوفي، عن مسروق، عن عائشة.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمَّد بن معمر، نا يحيى بن حماد، نا أبو عوانة، عن سُلَيمان، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة:"أن رسول الله عليه السلام كان يوتر بتسع".

وأخرج حديث يحيى أيضًا بإسناد صحيح: عن عبد الله بن عبيد الطبراني، عن محمد بن عبد الله بن نمير الكوفي الحافظ شيخ البخاري وغيره، عن محمد بن فصل بن غزوان الضبي شيخ أحمد، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير التيمي الكوفي، عن يحيى بن الجزار -بالجيم بعدها الزاي المعجمة وفي آخرها راء مهملة- العُرني الكوفي، عن عائشة.

(1)"المجتبى"(3/ 242/ 1725).

ص: 54

وأخرجه النسائي (1): أنا أحمد بن سليمان، قال: نا حسين، عن زائدة، عن سليمان، عن عمارة بن عمير، عن يحيى بن الجزار، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصلي من الليل تسعًا، فلما أسنّ وثقل صلى سبعًا".

قوله: "ففي هذا الحديث وتره كان تسعًا" أشار به إلى حديث عائشة الذي رواه عنها الأسود ومسروق ويحيى بن الجزار، وهذا يخالف ما رواه عروة عن عائشة:"أنه كان يوتر بخمس، وبسبع"، ويخالف أيضًا حديث الأسود الذي رواه علي بن عبد الرحمن عن عبد الغفار، عن موسىل بن أعين، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، وحديث الأسود أيضًا الذي رواه فهد، عن الحسن بن الربيع بن سليمان القسري الكوفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي روى له الجماعة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود.

وأخرجه النسائي أيضًا (2): أنا هناد بن السري، عن أبي الأحوص، عن الأعمش أراه عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصلي من الليل تسع ركعات".

بيان الخلاف: أن في رواية علي بن عبد الرحمن: "كان يوتر بسبع ركعات"، وفي رواية فهد:"كان يصلي من الليل تسع ركعات"، ثم وفق الطحاوي بينهما بقوله: واحتمل أن يكون جميع ما قد سماه وترًا هو جميع صلاته التي فيها الوتر؛ من باب إطلاق اسم الجزء على الكل؛ لأن الوتر هو ثلاث ركعات من التسع، والباقي وهو الست نفلٌ، ثم قال: والدليل على ذلك: أن على هذا الإطلاق ما في حديث يحيى بن الجزار، والباقي ظاهر.

(1)"المجتبى"(3/ 238 رقم 1709).

(2)

"المجتبى"(3/ 242 رقم 1725).

ص: 55

وقال النووي: دلَّت الروايات على أن الوتر ليس مخصوصًا بركعة واحدة ولا بإحدى عشرة، ولا بثلاث عشرة، بل يجوز ذلك وما بينه، وأنه يجوز جمع ركعات بتسليمة واحدة، وهذا لبيان الجواز وإلا فالأفضل التسليم من كل ركعتين.

قلت: قد مرَّ أن بين بعض الروايات مخالفة، وفي بعضها اضطراب، ورواية العامة:"كان يوتر بثلاث"، والأخذ بها أولى؛ على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى.

ص: غير أنَّا لم نقف بَعدُ على حقيقة الوتر إلا في حديث زرارة بن أوفى، عن سَعْد بن هشام خاصةً، فنظرنا هل في غير ذلك دليل على كيفية الوتر أيضًا كيف هي؟

فإذا حُسَيْن بن نصر قد حدثنا، قال: ثنا سعيدُبن عُفَيْر، قال: أنا يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها:"أن رسول الله عليه السلام كان يقرأ في الركعتين اللتين كان يوتر بعدهما بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) ويقرأ في التي في الوتر {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (4) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (5) ".

وحدثنا بكر بن سهل الدمياطي، قال: ثنا شعيب بن يحيى، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بثلاث؛ يقرأ في أول ركعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) والمعوذتين (6) ".

(1) سورة الأعلى.

(2)

سورة الكافرون.

(3)

سورة الإخلاص.

(4)

سورة الفلق.

(5)

سورة الناس.

(6)

سورة الفلق، والناس.

ص: 56

فأخبرت عمرة عن عائشة في هذا الحديث بكيفية الوتر كيف كانت، ووافقت على ذلك سعد بن هشام، وزاد عليها سَعدٌ:"أنه كان لا يسلم إلا في آخرهن".

حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي، قال: ثنا صفوان بن صالح، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن إسماعيل بن عياش، عن محمَّد بن يزيد الرحبي، عن أبي إدريس، عن أبي موسى، عن عائشة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يقرأ في وتره في ثلاث ركعات {قُل هُوَ اللهُ أحَد} والمعوذتين".

فقد وافق هذا الحديث أيضًا ما روى سعد وعمرة.

ش: أراد بذلك أن الأحاديث التي رُويت عن عائشة فيما مضى في باب الوتر ليس فيها ما يوقف به على حقيقة الوتر إلا في حديث زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبي عليه السلام لا يُسلِّم في ركعتي الوتر"؛ فإنه صريح على أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة وقعدتين، فوجدنا أيضًا قد روي عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية، وأبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس، كلاهما رويا عن عائشة ما يوافق حديث زرارة عن سعد، عن عائشة.

أما حديث عمرة فقد أخرجه من طريقين:

الأول: إسناده صحيح، عن حسين بن نصر بن المعارك البغدادي، قال ابن يونس: كان ثقة ثبتًا.

عن سعيد بن كثير بن عفير بن مسلم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري روى له الجماعة، عن يحيى بن سعيد الأنصاري المدني روى له المجاعة، عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية المدنية روى لها الجماعة، عن عائشة رضي الله عنها.

وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا الحسين بن إسماعيل، ثنا أبو حاتم الرازي، نا سعيد بن عفير، ثنا يحيى بن أبيوب، عن يحيى بن سعد، عن عمرة

إلى آخره نحوه.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 24 رقم 10).

ص: 57

أخرجه البيهقي أيضًا في "سننه"(1)، وأخرجه الترمذي (2) معلقًا.

الثاني: عن بكر بن سهل بن إسماعيل بن نافع الدمياطي شيخ الطبراني، وفي "الميزان" (3): حمل الناس عنه وهو مقارب الحال.

عن شعيب بن يحيى بن السائب التجيبي العبادي -والعباد بطن من السكون- أبي يحيى المصري، قال أبو حاتم: شيخ ليس بالمعروف. وروى له النسائي.

عن يحيى بن أيوب الغافقي

إلى آخره

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا عبد الله بن أحمد بن شبُّوية المروزي، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام كان يقرأ في الوتر في الركعة الأول بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (4) وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (5) ، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6) ".

وأما حديث أبي موسى فأخرجه عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي الحافظ شيخ الشام في وقته وشيخ أبي داود والطبراني أيضًا، عن صفوان بن صالح بن صفوان الثقفي مؤذن المسجد الجامع بدمشق شيخ أبي داود، وقال: هو حجة. وروى له بقية الأربعة ابن ماجه في "التفسير".

عن الوليد بن مسلم الدمشقي روى له الجماعة، عن إسماعيل بن عياش بن سليم الشامي الحمصي، قال الفسوي: تكلم فيه قوم، وهو ثقة عدل أعلم الناس بحديث أهل الشام. وقال دُحَيم: هو في الشاميين غاية، وخلط عن الحجازيين. وروى له الأربعة.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 37 رقم 4630).

(2)

"جامع الترمذي"(2/ 326) معلقًا تحت الحديث رقم (463).

(3)

"ميزان الاعتدال"(2/ 62).

(4)

سورة الأعلى.

(5)

سورة الكافرون.

(6)

سورة الإخلاص.

ص: 58

عن محمَّد بن يزيد الرحبي الدمشقي، قال الذهبي: لم أر لهم فيه كلامًا.

عن أبي إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني العَوْذي روى له الجماعة، عن أبي موسى الأشعري، عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه (1).

ص: وحدثنا بحر بن نصر، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال:"قلت لعائشة رضي الله عنها: بكم كان النبي عليه السلام يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة".

ففي هذا الحديث ذكرُها لما كان يصليه في الليل من التطوع وتسميتها إياه وترًا، إلا أنها قد فصَّلت بين الثلاث وبين ما ذكرت معها، وليس ذلك إلا لأن الثلاث كان لها معنى بائن من معنى ما كان قبلها، فدل ذلك على معنى حديث الأسود ومسروق يحيى بن الجزار، عن عائشة رضي الله عنها أنه كذلك.

والدليل على ذلك أيضًا ما روي عنها من قولها:

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان، عن عبد الحميد ابن جبير بن شيبه، عن سعيد بن المسيب، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"الوتر سبع أو خمس، والثلاث بتراء".

فكرهت أن يجعل الوتر ثلاثًا لم يتقدمهن شيء حتى يكون قبلهن غيرهن، فلما كان الوتر عندها أحسن ما يكون هو أن يتقدمه تطوع إما أربع واما اثنتان، جمعت بذلك تطوع النبي عليه السلام في الليل الذي صلح به الوتر الذي بعدها أوْتر فسمت ذلك وترًا، إلا أنه قد ثبت في جملة ذلك عندنا أن الوتر ثلاث، فثبت من روايتها عن النبي عليه السلام ما رواه عنها سعد بن هشام لموافقة قولها من رأيها إياه، فثبت بذلك أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن، غير أن ما رواه هشام بن عروة، عن

(1) بيّض له المؤلف رحمه الله، والحديث أخرجه الطبراني في "الأوسط"(7/ 52 رقم 6825) من طريق صفوان بن صالح به.

ص: 59

أبيه في ذلك: "أن النبي عليه السلام كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن" لم نجد له معنى، وقد نقلت العامة عن أبيه، وعن غيره، عن عائشة بخلاف ذلك؛ فما روته العامة أولى مما رواه هو وحده وانفرد به.

ش: ذكر هذا الحديث أيضًا لبيان حقيقة الوتر، وأنه ثلاث ركعات، بيان ذلك: أن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي عليه السلام يوتر بأربع وثلاث، ثمان وثلاث، وعشر وثلاث" فقد ذكرت فيه ما كان يصليه عليه السلام في الليل من التطوع، وسمَّت الجميع وترًا على إطلاق اسم الجزء على الكل؛ لأن الكل ليس بوتر وإنما الوتر منه ثلاث ركعات؛ ولهذا فصلت بين الثلاث والأربع، والثلاث والثمان، والثلاث والعشر، ولو لم يكن معنى الثلاث مباينًا لمعنى ما كان قبله لما فصلت بهذا التفصيل، فثبت بذلك أن الوتر هو الثلاث.

ودلَّ ذلك أيضًا على أن معنى حديث الأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، يحيى بن الجزار كذلك، وقد مرَّ فيما مضى أحاديثهم أن النبي عليه السلام كان يوتر بتسع، فيكون معناه على معنى الحديث المذكور:"كان يوتر بستٍّ وثلاث" فتكون الثلاث وترًا، وما قبله من الستّ نفلًا.

ثم الذي يفهم من حديث عائشة رضي الله عنها شيئان:

الأول: أن الثلاث الذي هو وتر يمتاز عما ذكر قبله من الأربع والثمان والعشر.

والثاثى: أنها أطلقت على الكل وترًا؛ لأنها كانت تكره أن تجعل الوتر ثلاثًا من غير أن يتقدمهن شيء، فلهذا قالت من قولها:"الوتر سبع أو خمس، والثلاث بتراء" أي الوتر سبع ركعات، أو خمس ركعات، ولكن المراد أن الثلاث منه هو الوتر وما قبله -من الأربع في السبع، ومن الركعتين في الخمس- نفل وتطوع، وكان الأحسن عندها في الوتر أن يكون قد تقدمه شيء من التطوع، فلذلك قالت:"الثلاث بتراء" أي الثلاث ركعات التي لا يتقدمهن شيء من التطوع بتراء وإن كانت هي وترًا، ولذلك المعنى أيضًا جمعت تطوع النبي عليه السلام مع وتره وأطلقت على الكل وترًا حيث قالت:

ص: 60

"كان يوتر بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث"، ولكن ثبت في ضمن هذا الكلام أن الوتر ثلاث ركعات؛ فحينئذٍ ثبت ما رواه سعد بن هشام عنها عن النبي عليه السلام "أنه كان لا يسلم في ركعتي الوتر"؛ وذلك لأن قولها من رأيها:"والثلاث بتراء" يدل على أنه يوافق ما رواه سعد عنها عن النبي عليه السلام.

فثبت بمجموع ذلك أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخرها.

فإن قيل: يعارض ما ذكرتم ما رواه هشام بن عروة، عن أبيه في ذلك:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بخمس لا يجلس إلا في آخرهن".

قلت: أجاب عنه الطحاوي بقوله: غير أن مما رواه ابن عروة، عن أبيه

إلى آخره، وهو ظاهره.

ثم إسناد حديث بحر بن نصر صحيح، وبحر بن نصر بن سابق الخولاني أبو عبد الله المصري شيخ أبي عوانة الإسفراييني، وثقه يونس بن عبد الأعلى.

وعبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، ومعاوية بن صالح بن حدير المزني الكوفي روى له الجماعة، وعبد الله بن أبي قيس -ويقال: ابن قيس، والأول أصح- أبو الأسود النصري -بالنون- الشامي الحمصي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".

والحديث أخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الرحمن بن معاوية، عن عبد الله ابن أبي قيس، قال:"سألت عائشة رضي الله عنها: بكم كان رسول الله عليه السلام يوتر؟ قالت: بأربع وثلاث، وثمان وثلاث، وعشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأكثر من ثلاث عشرة ولا أنقص من سبع، وكان لا يدع ركعتين".

قوله: "كان يوتر بأربع وثلاث" أي بأربع ركعات وثلاث ركعات، والمعنى كان يتطوع بأربع ركعات ثم يوتر بثلاث ركعات، ولكنها أطلقت على الكل وترًا لما

(1) مسند أحمد (6/ 149 رقم 25200).

ص: 61

ذكرنا من المعنى، وكذا معنى قولها:"وثمان وثلاث" أي ثمان ركعات تطوع وثلاث ركعات وتر، فالجملة إحدى عشرة، وقولها:"وعشر وثلاث" أي وعشر ركعات تطوع وثلاث ركعات وتر.

فإن قيل: إذا كان المراد من هذا تطوعه عليه السلام مع الوتر، وقد كان تطوعه عليه السلام في الليل -فيما ذكر في الأحاديث السابقة- ثلاث عشرة ركعةً، فكيف يكون التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث؛ لأن المذكور في هذا الحديث سبع ركعات وإحدى عشرة ركعة؟

قلت: يمكن أن يقال في قولها: "بأربع وثلاث" أن يكون هذا خلاف ما كان عليه السلام يصليه من ركعتن خفيفتين إذا افتتح صلاته حين يقوم من الليل، وخلاف الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس، فيصير الجملة إحدى عشرة ركعة، ويضاف إليها ركعتا الفجر فتصير ثلاث عشرة ركعة، وقد جاء إضافة ركعتي الفجر إلى تطوعه ووتره بالليل كما في حديث أبي سلمة، عن عائشة:"كانت صلاته في رمضان وغيره سواء ثلاث عشرة ركعة منها ركعتا الفجر"، وقد مر في هذا الباب، وكما في حديث القاسم بن محمَّد، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة ويسجد سجدتي الفجر؛ فذلك ثلاث عشرة ركعة".

أخرجه أبو داود (1).

وفي رواية له (2): "كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر".

وأما في قولها: "وثمان وثلاث" أن يكون هذا خلاف الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الوتر، فتكون الجملة ثلاث عشرة ركعةً.

وأما في قولها: "وعشر وثلاثٍ" أي عشر ركعات تطوع وثلاث وتر، فالجملة ثلاث عشرة ركعة.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 38 رقم 1334).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 46 رقم 1360).

ص: 62

ثم إسناد حديث أحمد بن داود المكي صحيح أيضًا على شرط مسلم.

وابن أبي عمر هو محمَّد بن يحيى بن أبي عمر العدني، نزيل مكة، شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه.

وسفيان هو الثوري.

وعبد الحميد بن جبير بن شيبة بن عثمان المكي روى له الجماعة.

قوله: "بتراء" فعلاء تأنيث أبتر من البتر، وهو القطع، وإنما قالت:"والثلاث بتراء" لما ذكرنا أن أحسن ما يكون من الوتر عندها أن يكون قد تقدمه شيء من النفل إما أربع أو ركعتان.

وقال ابن أبي شيبة في مصنفه (1): حدثنا عباد بن العوام، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه، عن عائشة قالت:"لا توتر بثلاث بتراء، صلِّ قبلها ركعتين أو أربعًا".

فعلم من هذا أن معنى قولها: "والثلاث بتراء" أي مقطوعة، وهو إنما يكون إذا لم يتقدمها شيء، لا لكون أن الإيتار بالثلاث مكروه لكونه بتراء، فافهم فإنه موضع خفيّ معناه، قد صَعُب على كثير من الأغبياء الذين تسلقوا به إلى القول بكراهة الإيتار بثلاث ركعات، وآفة سُقْم الأذهان تلجئ الأغبياء إلى أكثر من ذلك.

ص: وقد رويت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك آثار يعود معناها أيضًا إلى المعنى الذي عاد إليه معنى حديث عائشة رضي الله عنها، فمن ذلك:

ما حدثنا ابن مرزوق وأبو بكرة، قالا: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس قال:"كان النبي عليه السلام يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعةً".

حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس: "أنه بات عند خالته

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6828).

ص: 63

ميمونة رضي الله عنهما، فقام النبي عليه السلام يصلي من الليل، فقمتُ، فتوضأت، ثم قمتُ عن يساره، فجذبني فأدارني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة؛ قيامه فيهن سواء".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن سلمة بن كُهَيل، قال: سمعت كُرَيبًا يحدث عن ابن عباس فذكر مثله، وقال:"فتكاملت صلاة النبي عليه السلام ثلاث عشرة ركعة".

فقد اتفق هذا الحديث وحديث عائشة في جملة صلاته أنها كانت ثلاث عشرة ركعةً، إلا أنه لا تفصيل في حديث ابن عباس، فأردنا أن ننظر؛ هل رُوي عن ابن عباس في تفصيل ذلك شيء؟

فنظرنا في ذلك، فإذا علي بن معبد قد حدثنا، قال:(1) ثنا شبابة بن سوار، قال: ثنا يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال:"أمرني العباس أن أبيت بآل النبي عليه السلام وتقدم إليّ: أن لا تنام حتى تحفظ لي صلاة رسول الله عليه السلام قال: فصليت مع النبي عليه السلام العشاء، ثم نام، ثم قام فبال، ثم توضأ، ثم صلى ركعتين ليستا بطويلتين ولا بقصيرتين، ثم عاد إلى فراشه، ثم نام حتى سمعت غطيطه أو خطيطه، ثم استوى، وفعل مثل ذلك حتى صلَّى ستّ ركعات، وأوتر بثلاث".

حدثنا أحمدُ بن داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن حصين، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، قال: ثنا أبي، عن ابن عباس مثله.

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرني حُصَين، عن حبيب بن أبي ثابت، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه السلام مثله، غير أنه قال:"ثم أوتر"، ولم يقل:"بثلاثٍ".

(1) زاد في "شرح المعاني": ثنا شعبة. ولم يتعرض له المؤلف في الشرح.

ص: 64

فأخبر علي بن عبد الله بن عباس بوتر النبي عليه السلام كيف كان في صلاته تلك وأنه ثلاثٌ، وخالف أبا جمرة وعكرمة بن خالد وكريبًا في عدد التطوع.

ش: أشار بهذا إلى أنه رويت أحاديث عن عبد الله بن عباس في صلاته عليه السلام من الليل، إذا كشفت يكون معناها كمعنى أحاديث عائشة المذكورة فيما مضى.

ثم أخرج عن أبي جمرة، وعكرمة بن خالد، وكريب، عن ابن عباس:"أنه عليه السلام كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة".

أما حديث أبي جمرة فأخرجه بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، وأبي بكرة بكار القاضي، كلاهما عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم والراء المهملة- اسمه نصر بن عمران الضُّبَعي البصري، عن ابن عباس.

وأخرجه البخاري (1): ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى، عن شعبة، قال: حدثني أبو جمرة، عن ابن عباس قال:"كان صلاة النبي عليه السلام ثلاث عشرة ركعة، يعني بالليل".

وأخرجه مسلم (2) أيضًا.

وأما حديث عكرمة: فأخرجه عن محمَّد بن خزيمة، عن معلى بن أسد العمّي البصري شيخ البخاري، عن وُهَيب بن خالد البصري روى له الجماعة، عن عبد الله بن طاوس روى له الجماعة، عن عكرمة بن خالد بن العاص المكي، روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن عبد الله بن عباس.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): ثنا عفان، ثنا وهيب، ثنا عبد الله ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام قام من الليل يصلي، فقمت فتوضأت، فقمت عن يساره فجرني فأقامني عن يمينه، فصلى ثلاث عشرة ركعة قيامه فيهن سواء".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 382 رقم 1087).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 531 رقم 764).

(3)

"مسند أحمد"(1/ 252 رقم 2276).

ص: 65

وأخرجه أبو داود (1) والنسائي (2) أيضًا.

ويستفاد منه أحكام:

فضيلة قيام الليل، والإمام إذا كان معه واحد يقيمه عن يمينه، والمستحب تسوية القراءة في ركعات النفل، وجواز إقامة النفل مع الجماعة، واستحباب ذلك في البيوت والمنازل.

وأما حديث كريب فأخرجه بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن كريب

إلى آخره.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(3): ثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت كريبًا بن أبي مسلم يحدث، عن ابن عباس قال:"بتُّ في بيت خالتي ميمونة، فرقَبتُ رسول الله عليه السلام، قال: فنام ثم استيقظ فغسل وجهه وكفيه ثم نام، ثم استيقظ فقام إلى قربة فحل شناقها -يعني رباطها- ثم صب في جفنة -أو قصعة- فغسل كفيه ووجهه وتوضأ وضوءًا حسنًا بين الوضوءين، ثم قام يصلي، فقمت عن يساره فأقامني عن يمينه، "فتكاملت صلاة رسول الله عليه السلام ثلاث عشرة ركعة، وكان يقول في سجوده -أو قال في صلاته، شك شعبة-: اللهم اجعل في سمعي نورًا، وفي قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، ومن فوقي نورًا، ومن خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا، واجعلني نورًا- أو اجعل لي نورًا، شك شعبة- ثم نام حتى نفخ، وكنا نعرف نومه بنفخه، ثم خرج إلى الصلاة".

(1)"سنن أبي داود"(2/ 47 رقم 1365).

(2)

"السنن الكبرى"(1/ 447 رقم 1425).

(3)

"مسند الطيالسي"(1/ 353 رقم 2706).

ص: 66

وحديث ابن عباس أخرجه الجماعة (1) مطولًا ومختصرًا.

قوله: "فقد اتفق هذا الحديث" أي حديث ابن عباس الذي رواه عنه أولئك الثلاثة، وحديث عائشة رضي الله عنها المذكور فيما مضى؛ في جملة صلاته أنها كانت ثلاث عشرة ركعة، غير أنه لا تفصيل في حديث ابن عباس هذا كما جاء التفصيل في حديث عائشة، فنظرنا فيه هل نجد عنه حديثًا فيه تفصيل كما في حديث عائشة؟ فوجدنا علي بن عبد الله بن عباس قد روى عن أبيه عبد الله بن عباس حديثًا فيه تفصيل كما في حديث عائشة.

أخرج ذلك من ثلاث طرق صحاح.

الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري شيخ النسائي أيضًا، عن شبابة بن سوار الفزاري أبي عمرو المدائني، عن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي، عن المنهال بن عمرو الأسدي الكوفي، عن علي بن عبد الله بن عباس روى له الجماعة، البخاري في غير الصحيح.

وأخرجه الطبراني في الكبير (2): ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا يونس بن أبي إسحاق، ثنا المنهال بن عمرو، ثنا علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: "أمرني العباس بن عبد الملطلب قال: بِتْ إلى رسول الله عليه السلام، فانطلقت إلى المسجد، فصلى رسول الله عليه السلام بالناس صلاة العشاء الآخرة، ثم صلى بعدها حتى لم يبق في المسجد أحدٌ غيري، قال: ثم مرَّ بي فقال: من هذا؟ قلت: عبد الله. قال: فمَهْ؟ قلت: أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة، قال: فالْحَقْ. قال: فلما انصرف دخل فقال: أفرشوا عبد الله، فأُتيتُ بوسادة من منسوج، قال: وتقدم إليّ العباس: لا تنام حتى تحفظ صلاته. قال: فتقدم رسول الله عليه السلام فنام حتى سمعت غطيطه،

(1) انظر: "صحيح البخاري"(5/ 2327 رقم 5957)، و"صحيح مسلم"(2/ 528 رقم 763)، و"سنن أبي داود"(2/ 46 رقم 1364)، و"سنن الترمذي"(1/ 451 رقم 232)، و"المجتبى"(2/ 218 رقم 1121)، و"سنن ابن ماجه"(1/ 47 رقم 423).

(2)

"معجم الطبراني الكبير"(10/ 275 رقم 10648).

ص: 67

فاستوى على فراشه، فرفع رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآية من آخر سورة آل عمران حتى ختمها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) ثم قام ثم استن بسواكه وتوضأ، ثم دخل في مصلاه فصلى ركعتين ليستا بقصيرتين ولا طويلتين، ثم عاد إلى فراشه فنام حتى سمعت غطيطه، ثم استوى على فراشه ففعل كما فعل في المرة الأولى، ثم استن بسواكه، ثم توضأ، ثم في خل مصلاه فصلى ركعتين ليستا بطويلتن ولا قصيرتين، ثم عاد إلى فراشه فنام حترل سمعت غطيطه، ثم استو ى على فراشه ففعل كما فعل، ثم صلي ثم أوتر، فلما قضى صلاته سمعته يقول: اللهم اجعل في بصري نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في لساني نورًا، واجعل في قلبي نورًا، واجعل عن يميني نورًا، واجعل عن شمالي نورًا، واجعل لي من أمامي نورًا، واجعل من خلفي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، واجعل من أسفلي نورًا، واجعل لي يوم القيامة نورًا، وأعظم لي نورا".

قوله: "أن أبيت بآل النبي عليه السلام" أي بأهله، أراد به أن يبيت في بيت النبي عليه السلام؛ ليحفظ صلاته، كيف يصلي؟

قوله: "غطيطه" وهو صوت يخرجه النائم مع نفسه، والخطيط -بالخاء المعجمة- قريب من الغطيط، والغين والخاء المعجمتان متقاربتان في المخرج، يقال: خط في نومه يخط: بمنزلة غط، وقال بعضهم: الخطيط -بالخاء- لا يعرف.

فإن قيل: كيف يتفق هذا الحديث مع حديث عائشة في كون صلاته عليه السلام ثلاث عشرة ركعة؟

قلت: يتفق معه لأن فيه ركعتين أولًا، ثم ست ركعات، ثم الوتر ثلاث ركعات، فالجملة إحدى عشرة ركعة، ويضاف إليها ركعتا الفجر فصارت الجملة ثلاث عشرة ركعة.

(1) سورة آل عمران، آية:[190].

ص: 68

الطريق الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن حصين بن عبد الرحمن السُّلَمي، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي، عن محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه علي بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس.

ورجاله كلهم ثقات.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا هشام بن عبد الملك، نا أبو عوانة، عن حصين، عن حبيب بن أبي ثابت، أنه حدثه محمَّد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، قال: حدثني ابن عباس: "أنه بات عند النبي عليه السلام ، فاستيقظ من الليل فأخذ سواكه فاستاك به، ثم توضأ وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) حتى قرأ هذه الآيات، وانتهى عند آخر السورة، ثم صلى ركعتين فأطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف حتى سمعت نفخة النوم، حتى استيقظ فاستاك وتوضأ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوتر بثلاث، فأتى بلال المؤذن، فخرج إلى الصلاة وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في بصري نورًا، واجعل في قلبي نورًا، واجعل أمامي نورًا، وخلفي نورًا، واجعل عن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، اللهم عظِّم لي نورًا".

الطريق الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن حصين بن عبد الرحمن السُّلَمِي، عن حبيب بن أبي ثابت

إلى آخره. فذكر الحديث مثل المذكور غير أنه لم يقل: "ثم أوتر بثلاث"، بل قال:"ثم أوتر" فقط، فأخبر علي بن عبد الله بن عباس بوتر النبي عليه السلام كيف كان في صلاته وعيّن أنه ثلاث، والرواية التي ليس فيها ذكر الثلاث محمولة على الرواية التي فيها ذكر الثلاث، فافهم.

(1)"مسند أحمد"(1/ 373 رقم 3541).

(2)

سورة آل عمران، آية:[190].

ص: 69

قوله: "وخالف أبا جمرة" أي خالف علي بن عبد الله في روايته عن أبيه؛ أبا جمرة نصر بن عمران وعكرمة بن خالد وكريبًا مولى ابن عباس، في عدد تطوعه عليه السلام بالليل، وذلك لأن في رواية هؤلاء:"كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة"، وفي رواية علي بن عبد الله:"إحدى عشرة ركعة"، وقد ذكرنا أنَّا إذا أضفنا إلى هذه ركعتي الفجر تكون الجملة ثلاث عشرة ركعة، والله أعلم.

ص: وأما سعيد بن جبير فروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: عن ابن عباس (ح).

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر (ح).

وحدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"بتّ في بيت خالتي ميمونة رضي الله عنها، فصلى رسول الله عليه السلام العشاء ثم جاء فصلى أربعًا، ثم قام قصلى خمس ركعات، ثم صلى ركعتين، ثم نام حتى سمعمت غَطِيطَه -أو خطيطه- ثم خرج إلى الصلاة".

ففي هذا الحديث أنه صلى إحدى عشرة ركعة، منها ركعتان بعد الوتر، فقد وافق علي بن عبد الله في التسع التي منها الوتر، وزاد عليه ركعتين بعد الوتر.

ش: لمَّا روى أحاديث عن ابن عباس يرجع معناها إلى معنى أحاديث عائشة المذكورة في هذا الباب، وكان الرواة فيها عن ابن عباس أبا جمرة، وعكرمة بن خالد، وكريبًا أخرج أيضًا أحاديث عن ابن عباس من رواية سعيد بن جبير رضي الله عنه موافقة لرواية علي بن عبد الله في أنه صلى التسع منها وتره، ولكنه زاد عليه في روايته ركعتين بعد الوتر.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح.

الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

ص: 70

وأخرجه البخاري (1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"بتّ في بيت خالتي ميمونة، فصلّى رسول الله عليه السلام العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام فجئت فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه، فصل خمس ركعات، ثم صلي ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه -أو قال: خطيطه- ثم خرج إلى الصلاة".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عَمرو العقدي، عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا ابن المثنى، نا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"بت في بيت خالتي ميمونة بنت الحارث، فصلى رسول الله عليه السلام العشاء، ثم جاء فصل أربعًا، ثم نام، ثم قام يصلي، فقمت عن يساره فأدارني فأقامني عن يمينه، فصلى خمسًا ثم نام حتى سمعت غطيطه -أو خطيطه- ثم قام فصلى ركعتين، ثم خرج فصلى الغداة".

الثالث: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن شعبة، عن الحكم

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في الكبير (3): ثنا يوسف القاضي، ثنا سليمان بن حرب (ح).

وثنا أبو خليفة، ثنا أبو الوليد الطيالسي، قالا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"بتُّ عند خالتي ميمونة، فصلى النبي عليه السلام العشاء، ثم جاء فصل أربع ركعات، ثم نام، ثم قام فقال: أستيقظ الغلام؟ أقام الغليّم؟ فجئت فقمت عن يساره فحولني عن يمينه، فصلى خمس ركعات، ثم صلي ركعتين، ثم نام حتى سمعت غطيطه -أو قال: خطيطه- ثم خرج إلى الصلاة".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 247 رقم 665).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 45 رقم 1357).

(3)

"معجم الطبراني الكبير"(12/ 25 رقم 12365).

ص: 71

ص: وقد روي عن سعيد بن جبير، ويحيى بن الجزار، عن ابن عباس رضي الله عنهما في وتر النبي عليه السلام مفردًا ما يدل على أنه ثلاث؛ فمن ذلك: ما قد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى الجزار، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بثلاث ركعات".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا لوين، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام فذكر مثله.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا لُوَيْن، قال: ثنا شريك، عن مخوَّل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن حبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث، يقرأ في الأولي بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام ثم ذكر مثله.

فهذا فيه تحقيق ما رواه علي بن عبد الله عن أبيه من وتر رسول الله عليه السلام أنه كان ثلاثًا.

ش: لمَّا أخرج فيما مضى من حديث علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه من وتر رسول الله عليه السلام أنه كان ثلاثًا حيث قال في روايته:"حتى صلَّى ستّ ركعات وأوتر بثلاث" أكد ذلك برواية سعيد بن جبير ويحيى بن الجزار عن ابن عباس في وتر النبي عليه السلام مفردًا من دون ذكر تطوعه أنه ثلاث ركعات، فروايتهما عن ابن عباس أنه عليه السلام كان يوتر بثلاث ركعات بدون أن يُذكر معه نفل من صلاة الليل تدل على أنه عليه السلام كان يوتر بثلاث ركعات أيضًا -في رواية علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه- مع نفله وتطوعه من صلاة الليل.

فأخرج ذلك من أربع طرق صحاح:

الأول: على شرط مسلم، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي شيخ أحمد، عن أبي بكر النهشلي الكوفي قيل: اسمه عبد الله بن

ص: 72

قطاف، وقيل: عبد الله بن معاوية، وقيل: وهب بن قطاف، وقيل: معاوية بن قطاف، عن حبيب بن أبي ثابت قيس الكوفي، عن يحيى بن الجزار العرني الكوفي، عن ابن عباس.

وأخرجه النسائي (1): ثنا هارون بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا أبو بكر النهشلي، عن حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن الجزار، عن ابن عباس قال:"كان رسول عليه السلام يصلي من الليل ثمان ركعات، ويوتر بثلاث، ويصلي ركعتين قبل صلاة الفجر".

الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن محمَّد بن سليمان بن حبيب المصيصي الملقب بلُوَيْن -بضم اللام وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون- عن شريك النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثله.

وأخرجه النسائي (2) أيضًا: أنا الحسين بن عيسى، قال: ثنا أبو أسامة، قال: حدثني زكرياء بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بثلاث، يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) وفي الثانية بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

الثالث: مثل الثاني، غير أنه ذكر فيه في موضع أبي إسحاق: مخوَّل بن راشد النهدي الكوفي من رجال الجماعة، وزاد فيه: مسلمًا البطين وهو مسلم بن عمران أبو عبد الله الكوفي، روى له الجماعة إلا النسائي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): نا شريك عن مخوَّل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي عليه السلام مثله.

(1)"المجتبى"(3/ 237 رقم 1707).

(2)

"المجتبى"(3/ 236 رقم 1702).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 94 رقم 6879).

ص: 73

الرابع: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن سعيد بن جبير.

وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه"(1): ثنا شبابة، ثنا يونس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بثلاث، يقرأ فيهن بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

ص: وأما كريبٌ فروى عن ابن عباس في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوحاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: ثنا شريك بن أبي نمر، أن كريبًا أخبره، أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول:"بتُّ ليلةً عند رسول الله عليه السلام فلما انصرف من العشاء الآخرة انصرفت معه، فلما دخل البيت ركع ركعتين خفيفتين ركوعهما مثل سجودهما وسجودهما مثل قيامهما، ثم اضطجع مكانه في مصلاه حتى سمعت غطيطه، ثم تعارّ ثم توضأ فصلى ركعتين كذلك، ثم اضطجع مكانه فرقد حتى سمعتُ غطيطه، ثم فعل ذلك خمس مرات، فصلى عشر ركعات، ثم أوتر بواحدة، وأتاه بلال رضي الله عنه فآذنه بالصبح، فصلى ركعتين، ثم خرج إلى الصلاة".

فقد أخبر في هذا الحديث أنه صلى عشر ركعات ثم أوتر بواحدة، فقد يحتمل أن يكون أوتر بواحدةٍ مع اثنتين قد تقدمتاها فتكونان مع هذه الواحدة ثلاثًا ليستوى معنى هذا الحديث ومعنى حديث على بن عبد الله، وسعيد بن جبير، يحيى بن الجزار.

ثم نظرنا هل روي عنه ما يُبيّن ذلك؟ فإذا إبراهيم بن منقد العصفري قد حدثنا، قال: ثنا المقرى، عن سعيد بن أبي أيوب، قال: ثنا عبد ربه بن سعيد، عن قيس بن سليمان، عن كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما، أن عبد الله بن عباس حدّثه قال:"فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين بعد العشاء، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر بثلاث".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 319 رقم 36469).

ص: 74

فاتفق هذا الحديث وحديث ابن أبي داود على أن جميع ما صلى إحدى عشرة ركعةً، وبيّن هذا أن الوتر فيها ثلاث.

فثبت بذلك أن معنى حديث ابن أبي داود: "ثم أوتر بواحدة" أي مع الثنتين قد تقدمتاها، هما معها وتر.

وقد حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، أن عبد الله بن عباس حدثه:"أنه بات عند ميمونة -وهي خالته- فصلّى رسول الله عليه السلام ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاء المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبح".

فقد زاد في هذا الحديث ركعتين، ولم يخالفه في الوتر، وكان ما روينا عن ابن عباس -لما جُمعَتْ معانيه- يَدُل على أن النبي عليه السلام كان يوتر بثلاث.

ش: "كان بَيْن رواية سعيد بن جبير يحيى بن الجزار عن ابن عباس، وبين رواية كريب عن ابن عباس أيضًا تضادٌّ ظاهرًا؛ لأن حديثهما عن ابن عباس يصرّح بأنه كان يوتر بثلاث، وحديث كريب عنه يصرِّح بأنه كان يوتر بواحدة، فبينهما تضاد وخلاف، أراد أن يوفق بينهما؛ فذكر وجه التوفيق: أن معنى حديث كريب: "ثم أوتر بواحدة" أي مع اثنتين، أي ركعتين قد تقدمتا تلك الركعة الواحدة التي أوتر بها، فتكون هذه مع تلكما الركعتين ثلاث ركعات؛ فحينئذٍ يتفق الحديثان (1).

ثم أخرج بإسناد صحيح ما يبيِّن صحة هذا التوفيق: عن إبراهيم بن منقذ بن إبراهيم العصفري وثقه ابن يونس، عن عبد الله بن يزيد القرشي أبي عبد الرحمن المقرئ روى له الجماعة، عن سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري روى له الجماعة، عن عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري أخي يحيى بن سعيد روى له

(1) طمس في "الأصل، ك".

ص: 75

الجماعة، عن قيس بن سليمان العنبري التميمي وثقه ابن حبان، عن كريب، أن ابن عباس حدثه:"أنه عليه السلام أوتر بثلاث".

فهذه الرواية عن كريب تدل على أن معنى روايته الأول هو المعنى الذي ذكره الطحاوي؛ إذ التوفيق بين الروايتين المتعارضتين هو الأصل؛ لأن فيه الإعمال بالدليلين وإن لم يوفّق فأقل المرتبة يَسقط العمل بإحدى الروايتين، وهو خلاف الأصل.

وأما إسناد حديث كريب في روايته الأولى فصحيح أيضًا؛ لأن رجاله ثقات، فيحيى بن صالح الوُحاظي أبو صالح الشامي شيخ البخاري وقد تكرر ذكره، وسليمان بن بلال القرشي أبو محمَّد المدني روى له الجماعة، وشريك بن أبي نمر هو شريك بن عبد الله ابن أبي نمر القرشي أبو عبد الله المدني روى له الجماعة الترمذي في "الشمائل".

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا يحيى بن أيوب العلاف، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا محمَّد بن جعفر، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن ابن عباس قال:"رقدتُ في بيت خالتي ميمونة زوج النبي عليه السلام وكان النبي عليه السلام عندها؛ لأنظر كيف صلاة النبي عليه السلام من الليل؟ فتحدث النبي عليه السلام مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر أو نصفه قام فنظر إلى السماء فقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) هذه الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذَّن بلال بالصلاة، فصل ركعتين، ثم خرج فصلى بالناس الصبح".

وأخرج أبو داود (3) مثل هذا: عن الفضل بن عباس، قال: حدثنا محمَّد بن بشار، نا أبو عاصم، نا زهير بن محمَّد، عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن كريب، عن

(1)"معجم الطبراني الكبير"(11/ 476 رقم 12184).

(2)

سورة آل عمران، آية:[190].

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 44 رقم 1355).

ص: 76

الفضل بن عباس قال: "بتُّ ليلة عند النبي عليه السلام لأنظر كيف يصلي؟ فقام فتوضأ وصلى ركعتين؛ قيامه مثل ركوعه، وركوعه مثل سجوده، ثم نام، ثم استيقظ فتوضأ واستنثر، ثم قرأ الخمس آيات من آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2)، فلم يزل يفعل هذا حتى صلى عشر ركعات، ثم قام فصلى سجدة واحدةً فأوتر بها، ونادى المنادي عند ذلك، فقام رسول الله عليه السلام بعدما سكت المؤذن فصلى سجدتين خفيفتين، ثم جلس حتى صلى الصبح".

قوله: "ثم تعارّ" بتشديد الراء، أي استيقظ، ولا يكون إلا يقظةً مع كلام، وقيل: معناه تمطى، وقال الجوهري: تعارّ الرجل إذا هبّ من نومه مع صوت.

قوله: "فآذنه" أي أعلمه بصلاة الصبح.

وأما حديث يونس بن عبد الأعلى فقد أخرجه أيضًا بإسناد صحيح؛ إيذانًا بأن معنى هذه الرواية معنى الرواية السابقة وليس بينهما اختلاف، ولكنه زافى في هذه الرواية ركعتين، وهما ركعتا الصبح.

وأخرجه البخاري (1): عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.

ومسلم (2): عن يحيى، عن مالك.

وأبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك.

والنسائي (4): عن محمَّد بن سلمة، عن ابن القاسم، عن مالك.

وابن ماجه (5): عن أبي بكر بن خلاّد الباهلي، عن معن بن عيسى، عن مالك.

وأحمد (6): عن عبد الرحمن، عن مالك.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 401 رقم 1140).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 526 رقم 763).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 47 رقم 1367).

(4)

"المجتبى"(3/ 210 رقم 1620).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 433 رقم 1363).

(6)

"مسند أحمد"(1/ 242 رقم 2164).

ص: 77

ولفظ البخاري: عن كريب مولى ابن عباس، أنه أخبره عن عبد الله بن عباس:"أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي خالته، قال: فاضطجعت على عرض الوسادة واضطجع رسول الله عليه السلام وأهله في طولها، فنام رسول الله عليه السلام حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ رسول الله عليه السلام فجلس يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران، ثم قام إلى شنٍّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي، قال عبد الله بن عباس: فقمتُ فصندت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله عليه السلام يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمين يفتلها بيده، فصلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصُبح".

ويستفاد من هذا الحديث أربعة عشر حكمًا:

- جواز نوم الرجل مع امرأته من غير مواقعه بحضور بعض محارمها وإن كان مميزًا.

- واستحباب قيام الليل.

- وجواز القراءة للمحدث.

- واستحباب قراءة الآيات المذكورة عند القيام من النوم.

- وجواز قول: "سورة آل عمران" و"سورة البقرة" ونحوهما.

- وإحسان الوضوء، وهو إسباغه وتكميله.

- واستحباب تأخير الوتر إلى آخر الليل لمن يثق بالانتباه.

- واستحباب الاضطجاع بعد الوتر.

- واستحباب اتخاذ المؤذن لإعلام مواقيت الصلوات.

- وجواز إتيان المؤذن إلى الإِمام ليخرج إلى الصلاة.

ص: 78

- وصلاة ركعتي الفجر.

- والتخفيف فيهما.

- والتنفل بالليل ركعتين ركعتين.

- والرابع عشر: أن الوتر ثلاث ركعات، أشار إليه بقوله:"وكان ما روينا عن ابن عباس لما جُمِعت معانيه يدل على أن وتره عليه السلام كان ثلاث ركعات، فافهم".

ص: وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله في ذلك شيء.

حدثنا محمد بن الحجاج، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا يزيد بن عطاء، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"إني لأكره تكون بتراء ثلاثًا، ولكن سبعًا أو خمسًا".

وحدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن الأعمش، فذكر بإسناد مثله.

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: أنا شعبة، عن الأعمش، فذكر بإسناده مثله.

فهذا عندنا على أنه كره أن يوتر وترًا لم يتقدمه تطوع، وأحب أن يكون قبله تطوع إما ركعتان وإما أربع.

ش: أي قد رُوِي عن عبد الله بن عباس من قول نفسه ورأيه في أن الوتر ثلاث، ولكنه كره أن يوتر أحد وترًا لم يتقدمه تطوع، لا أنه قال من رأيه أن الإيتار بثلاث ركعات بتراء وإنما أحب ذلك لأنه لما نظر في أفعال النبي عليه السلام في صلاة الليل فوجد وتره فيها مسبوقًا بتطوع، فلذلك أحب أن يكون قبل الوتر تطوع إما ركعتان وإما أربع.

ثم إنه أخرج ذلك عن ابن عباس من ثلاث طرق:

الأول: عن محمَّد بن الحجاج الحضرمي الرجل الصالح، عن الخصيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، عن يزيد بن عطاء بن يزيد الواسطي البزاز،

ص: 79

فيه مقال، فعن يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشىء. وعنه: ساقط. وعن ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به.

وهو يروي عن سليمان الأعمش، عن سعيد بن جبير.

الثاني: وهو طريق صحيح، عن عيسى بن إبراهيم بن عيسى الغافقي المصري شيخ أبي داود والنسائي، عن سفيان بن عيينة، عن الأعمش

إلى آخره.

الثالث: وهو أيضًا صحيح، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن عبد الله رجاء، عن سفيان، عن الأعمش

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال:"قلت لسعيد بن جبير: قول عبد الله: الوتر بسبعٍ أو بخمسٍ ولا أقل من ثلاث؟ فقال سعيد: قال ابن عباس رضي الله عنهما: إِني لأكره أن يكون ثلاثًا بتراء ولكن سبعًا أو خمسًا".

ص: فإن قال قائل: فقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذا، فذكر ما حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء قال: قال رجل لابن عباس: هل لك في معاوية أوتر بواحدة -وهو يُريد أن يَعيبَ معاوية- فقال ابن عباس: أصاب معاوية".

قيل له: فقد رُوي عن ابن عباس في فعل مُعاوية هذا ما يدل على إنكاره عليه إياه؛ وذلك أن أبا غسان مالك بن يحيى الهمداني حدثنا، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا عمران بن حدير، عن عكرمة قال:"كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هَزِيعٌ من الليل، فقام معاوية فركع ركعةً واحدةً. فقال ابن عباس: من أين تُرَى أخذها الحمارٌ؟! ".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا عمران فذكر بإسناده مثله، إلا أنه لم يقل:"الحمار"، ولا يجوز عليه أن يكون ما خالف فعل رسول الله عليه السلام

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 89 رقم 6821).

ص: 80

الذي قد علمه عنده صوابًا، وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس رضي الله عنهما:"أصاب معاوية" على التقية منه له يعني أصاب في شيء آخر؛ لأنه كان في زمنه.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قلتم إن الوتر عند ابن عباس ثلاث؛ لأن أحاديثه إذا جمعت تدل على أنه عليه السلام كان يوتر بثلاث ركعات، ولكن ابن عباس كان يكره أن يوتر أحد وترًا لم يتقدمه تطوع، فهذا ابن عباس قد روى عنه أنه اسْتَصْوبَ فعل معاوية حين أوتر بركعة واحدة لم يتقدمها شيء حيث قال:"أصاب معاوية".

أخرج ذلك عن محمَّد بن عبد الله بن ميمون الإسكندراني شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن عطاء ابن أبي رباح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1): ثنا هشيم، قال: أنا الحجاج، عن عطاء:"أن معاوية أوتر بركعة فأنكر ذلك عليه، فسئل ابن عباس فقال: أصاب السنة".

وأخرجه البخاري في كتاب مناقب الصحابة في باب "ذكر معاوية"(2): ثنا ابن أبي مريم، ثنا نافع بن عمر، حدثني ابن أبي مليكة:"قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ قال: فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: أصاب؛ إنه فقيه".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(3) في باب "الوتر بركعة" من هذا الطريق.

وتقرير الجواب أن يقال: إنه قد روي أيضًا عن ابن عباس ما يدل على أنه أنكر على معاوية في إيتاره بركعة واحدة.

أخرج ذلك من طريقين صحيحين على شرط مسلم:

أحدهما: عن أبي غسان مالك بن يحيى الهمداني، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، عن عمران بن حُدَير السَّدوسيّ أبي عبيدة البصري، عن عكرمة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 313 رقم 36406).

(2)

"صحيح البخاري"(3/ 1373 رقم 3554).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 27 رقم 4576).

ص: 81

والآخر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري، عن عمران بن حُدَير

إلى آخره.

ولقد أنكر ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية في إيتاره بركعة من غير أن يسبقه تطوع، ولو لم يكن ذلك مخالفًا للسنة لما ساغ له الإنكار عليه، ولا يجوز على ابن عباس أن يكون ما خالف فعل الرسول عليه السلام الذي قد تحقق عنده صوابًا.

قوله: "هَزيع من الليل" بفتح الهاء وكسر الزاي المعجمة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة وفي آخره عين مهملة، ومعناه: طائفة من الليل، ربعه أو ثلثه.

قوله: "من أين تُرَى أخذها الحمار" فقوله "تُرَى" جملة معترضة بين كلمة الاستفهام والذي دخلت عليه.

وقوله: "الحمار" إشارة إلى شدة إنكاره عليه في إيتاره بركعة واحدة.

قوله: "وقد يجوز

" إلى آخره، إشارة إلى جواب آخر، تقريره أن يقال: يجوز أن يكون معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أصاب معاوية" على التقية منه له أي على منه لأجل معاوية، يعني دفعًا عنه ما يعيب به ذلك الرجل عليه حتى يمتنع من أن يعيب عليه، فقال: "أصاب" يعني أصاب في شيء آخر غير إيتاره بركعة واحدة، وهذا من باب الإيهام والتورية، وهو باب شائع ذائع.

وجواب آخر عندي وهو أن قوله: "أوتر بواحدة" لا يستلزم نفي كون ركعتين قد تقدمنا عليها، فيجوز أن يكون معاوية قد صلَّى ركعتين ثم أوتر بركعة أخرى ولم يقف المنكر عليه إلا على ما قد شاهد من إيتاره بالركعة الواحدة، ولم يحط علمه بما قد صلى قبلها، فيكون قول ابن عباس:"أصاب السنة" في كونه أوتر بركعة مع ركعتين قبلها، فافهم.

ص: وقد روي عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث.

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد الفهمي، قال: أنا ابن لهيعة، عن عبد العزيز بن صالح، عن أبي منصور قال:"سألت عبد الله بن عباس عن الوتر، فقال: ثلاث".

ص: 82

وقال ابن لهيعة: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد بن عبَدة، عن أبي منصور بذلك.

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن أبي يحيى قال:"سمر المسور بن مخرمة وابن عباس حتى طلعت الحمراء، ثم نام ابن عباس فلم يستيقظ إلا لأصوات أهل الزوراء، فقال لأصحابه: أتروني أدرك أُصلي ثلاثًا -يريد الوتر- وركعتي الفجر وصلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس؟ فقالوا: نعم، فصلَّى".

وهذا في آخر وقت الفجر، فمحال أن يكون الوتر عنده يجزئ فيه أقل من ثلاث ثم يصليه حينئدٍ ثلاثًا مع ما يخاف من فوات الفجر، فدل ذلك على صحة ما صَرفْنا إليه معاني أحاديثه في الوتر أنه ثلاث.

ش: أي قد روي عن ابن عباس من قوله ورأيه أن الوتر ثلاث ركعات، وذكر هذا تأكيدًا لما قاله، وكان ما روينا عن ابن عباس -لما جمعت معانيه- يدل على أن النبي عليه السلام كان يوتر بثلاث؛ لأن قول ابن عباس:"الوتر ثلاث" يدل على أن كل ما روِي عنه عن النبي عليه السلام من وتره ثلاث؛ لأنه لم يقل هو: إنه ثلاث. إلا وقد ثبت عنده أن وتره عليه السلام ثلاث.

وأخرج ما روي عن ابن عباس من قوله: "إن الوتر ثلاث" من طريقين:

الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري شيخ الطبراني أيضًا، عن عبد الله بن محمَّد الفهمي- يُعرف بالبيطاري، وثقه أحمد بن صالح. قاله ابن أبي حاتم.

وهو يروي عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن عبد العزيز بن صالح مولى بني أمية، ذكره ابن يونس في علماء مصر في باب "الكنى" وقال: ومن أهل المغرب: أبو منصور مولى ابن عباس، كان بأفريقية. وذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه.

وقوله: "قال ابن لهيعة: وحدثنيم يزيد بن أبي حبيب

" إلى آخره، إشارة إلى أن عبد الله بن لهيعة رَوَى هذا الأثر عن يزيد بن أبي حبيب المصري أيضًا، عن عمرو بن الوليد بن عبدة مولى بني سهم، عن أبي منصور بذلك.

ص: 83

وعمرو بن الوليد هذا ذكره ابن يونس في علماء مصر وقال: يروي عن عبد الله بن عمرو، وقيس بن سعد، روى عنه يزيد بن أبي حبيب، وذكره ابن ماكولا في باب "عَبْدة وعَبَدة"، فقال: وأما عَبَدة -بفتح العين والباء- في الآباء عمرو بن الوليد بن عَبَدَة مولى عمرو بن العاص، يَرْوي عن أبي عمرو، روى عنه يزيد بن أبي حبيب، حديثه في المصريين، وحضر أبوه الوليد فتح مصر. قاله ابن عفير. تُوفي عمرو سنة ثلاث ومائة وكان فقيها فاضلًا، وتُوفي أبوه الوليد بن عَبَدَة سنة مائة.

فإن قيل: أعلّ البيهقي طريق الطحاوي بابن لهيعة، وهو ضعيف.

قلت: قد تقرر عند أهل الجرح والتعديل أن ابن لهيعة وثقه قوم منهم أحمد بن حنبل وكفى به مُعَدِّلًا، والطحاوي أيضًا يعدله على أنه يمكن (1) لا احتجاج، فافهم.

الطريق الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن أبي يحيى الأعرج المعرقب واسمه مصدع مولى معاذ بن عفراء الأنصاري، ويقال: مولى عبد الله بن عمرو بن العاص، عن المسور بن مخرمة ابن نوفل الزهري الصحابي، له ولأبيه صحبة.

و"السمر": هو الحديث بالليل.

و"الحمراء": هي النجمة الحمراء التي تطلع قبل الفجر وهي نجمة مضيئة.

و"الزوراء": بفتح الزاي المعجمة وسكون الواو وبالمد؛ موضع عند سوق المدينة قرب المسجد النبوي مرتفع كالمنارة.

قوله: "وهذا في آخر وقت الفجر" أي قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أتروني أدرك أصلي

" إلى آخره، إنما كان في آخر وقت الفجر، والباقي ظاهر.

ومما يدل لهذا: أن الوتر لا يسقط بخروج وقته كسائر السنن المؤكدة، وهذا آية وجوبه؛ ولهذا قال أبو حنيفة: الوتر فرض. أي عملًا، واجب علمًا، سنة سببًا إنه إذا ذكره في الفجر يفسد، وإذا أعاد صلاة العشاء لفسادها لا يُعيد وتره.

(1) طمس في "الأصل، ك".

ص: 84

ص: وقد روي عن علي رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في الوتر أيضًا أنه ثلاث.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال:"كان النبي عليه السلام يوتر بتسع سور من المفصل، في الركعة الأولى {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} و {إِذَا زُلْزِلَتِ}، وفي الثانية {وَالْعَصْرِ} و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} و {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} وفي الثالثة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {تَبَّتْ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

ش: ذكر هذا أيضًا تأكيدًا لما ذكره من أن الوتر ثلاث.

أخرج ذلك بإسناد صحيح عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي الكوفي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الحارث بن عبد الله الأعور الكوفي، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا هناد، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال:"كان النبي عليه السلام يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل، يقرأ في كل ركعة ثلاث سور، آخرهن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

ص: وقد رُوي عن عمران بن حصين، عن النبي عليه السلام مثل ذلك.

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن عمران بن حصين:"أن النبي عليه السلام كان يقرأ في الوتر في الركعة الأولى بـ {سبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

ش: أي قد روي عن عمران بن حصين، عن النبي عليه السلام:"أنه أوتر بثلاث" كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(1)"جامع الترمذي"(2/ 323 رقم 460).

ص: 85

أخرجه بإسناد حسن عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الحميد الحمّاني الكوفي وثقه يحيى بن معين، عن عبّاد بن العوّام بن عمر الواسطي، روى له الجماعة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي الكوفي، روى له الأربعة ومسلم مقرونًا بغيره، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى أبي حاجب البصري، عن عمران بن حصين رضي الله عنه.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا بشر بن خالد، ثنا شبابة، عن شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن عمران بن حصين:"أن النبي عليه السلام كان يوتر بـ {سبح اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ".

ص: وقد روي عن زبد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في ذلك ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب أن مالكًا حدثه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، أن عبد الله بن قيس بن مخرمة أخبره، عن زيد بن خالد الجهني أنه قال:"لأرمقن صلاة رسول الله عليه السلام قال: فتوسدت عتبته أو فسطاطه، فصلى رسول الله عليه السلام ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين هما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين هما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة".

فالكلام في هذا مثل الكلام فيما تقدمه.

ش: روي مسند إلى قوله: ما حدثنا، وإسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه أبو داود (2): عن القعنبي، عن مالك.

وابن ماجه (3): عن عبد السلام بن عاصم، عن عبد الله بن نافع، عن ثابت الزبيري، عن مالك.

(1)"مسند البزار"(9/ 75 رقم 3604).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 47 رقم 1366).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 433 رقم 1362).

ص: 86

وأخرجه مسلم (1): وليس في لفظه: "فتوسدت عتبته أو فسطاطه".

قوله: "لأرمقن" بفتح اللام؛ لأنها للتأكيد أي: لأنظرن، مِن رمَق يرمُق.

و"العتبة": أسكفة الباب.

و"الفسطاط": بضم الفاء قال الزمخشري: ما ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق وبه سميت المدينة، ويقال لمصر وبصرة: الفسطاط.

قوله: "طويلتين" ثلاث مرات في رواية الطحاوي وابن ماجه، ومرتين في رواية مسلم وأبي داود (2) الركعتين والتكرار للتأكيد والمبالغة.

قوله: "ثم أوتر" أي بعد أن صلى عشر ركعات ركعتين ركعتين أنه أوتر بثلاث ركعات؛ لأنه قال: "فذلك ثلاث عشرة ركعة"، والإشارة إلى ما صلى، فلو لم يكن المجموع ثلاثًا لم يكن المجموع ثلاث عشرة ركعة؛ لأن المذكور قبل الوتر ركعتين ركعتين خمس مرات فالمجموع عشر ركعات.

قوله: "فالكلام في هذا" أي في حديث زيد بن خالد مثل الكلام فيما تقدمه من أحاديث ابن عباس وغيره رضي الله عنهم.

ص: وقد رُوي عن أبي أمامة، عن النبي عليه السلام في ذلك ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخصيب بن ناصح، قال: ثنا عُمارة بن زاذان، عن أبي غالب، عن أبي أُمامَة:"أن النبي عليه السلام كان يُوتِرُ بتِسْعٍ، فلما بَدّنَ وكثر لحمه أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالسٌ يقرأ فيهما بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ".

فقد يجوز أن يكون ذكر شفعه -وهو التطوع- ووتره فجعل ذلك كله وترًا كما ذكرنا في بعض ما تقدم ذِكْرنا له، فقد روينا عن أبي أمامة من فعله ما يدل على هذا.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن سليمان بن حيان، عن أبي غالب:"أن أبا أمامة كان يوتر بثلاث".

(1)"صحيح مسلم"(1/ 531 رقم 765).

(2)

طمس في "الأصل، ك" بمقدار كلمتين.

ص: 87

فثبت بذلك أن الوتر عند أبي أمامة هو ما ذكرنا، ومحال أن يكون ذلك عنده كذلك وقد علم من فعل النبي عليه السلام خلافه ولكن ما علمه من فعل النبي عليه السلام معناه ما صرفنا إليه.

ش: إنما ذكر حديث أبي أمامة هذا ليجيب عنه؛ لأن ظاهره كالحجة على أصحابنا في قولهم: إن الوتر ثلاث، وكالاعتراض أيضًا على ما قرره من أن معنى الأحاديث التي رُوِيَت في هذا الباب إذا كشف؛ يَرْجع حاصله إلى أن الوتر ثلاث.

وتقرير الجواب: أن أبا أمامة رضي الله عنه أطلق في حديثه على تطوع النبي عليه السلام مع وتره وترًا من قبيل (إطلاق)(1) اسم الجزء على الكل، وهذا سائغ شائع في الكلام، فيكون مراده من قوله:"كان يوتر بتسع" أنه كان يتطوع بست ركعات ثم يوتر بثلاث، وكذا قوله:"أوتر بسبع" أنه تطوع بأربع ركعات ثم أوتر بثلاث، كما قد أول بهذا التأويل فيما مضى من أحاديث عائشة رضي الله عنها، ثم ذكرنا ما يؤيد صحة هذا التأويل بقوله:"وقد روينا عن أبي أمامة من قوله ما يدل على هذا" أي على ما ذكرنا من التأويل.

وأخرجه بطريق صحيح عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن سليمان بن حيان -بالياء آخر الحروف المشددة- أبي خالد الأحمر الكوفي الجعفري روى له الجماعة، عن أبي غالب البصري -ويقال: الأصبهاني- صاحب أبي أمامة واختلف في اسمه فقيل: حزور، وقيل سعيد بن الحزور، وقيل: نافع. واختلف فيه أيضًا؛ فقال ابن سعد: منكر الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: ثقة. وقال الترمذي في بعض أحاديثه: هذا حديث حسن. وفي بعضها: هذا حديث صحيح.

وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

(1) تكررت في "الأصل".

ص: 88

والأثر أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سليمان بن حيان، عن أبي غالب قال:"كان أبو أمامة يوتر بثلاث ركعات".

وإنما قلنا: إنه يؤيد صحة هذا التأويل؛ لأنه لو لم يكن معنى ما رواه عن النبي عليه السلام نحو ما ذكرنا لما جاز له أن يوتر بثلاث؛ لأنه يستحيل في حقه أن يعمل شيئًا وقد علم من رسول الله عليه السلام أنه فعل خلافه، ولكن الذي فعله هو الذي علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم الحديث المرفوع أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخصيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر وثقه ابن حبان، عن عُمارة -بضم العين- بن زاذان -بالمعجمتين- الصيدلاني البصري، مختلف فيه، فقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال أبو زرعة: ثقة لا بأس به. وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.

وهو يَرْوي عن أبي غالب، وقد ذكرناه آنفا.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، نا خالد بن خداش (ح).

وثنا عمر بن حفص السدوسي، ثنا عاصم بن علي (ح).

وثنا أبو خليفة الفضل بن حباب الجمحي، نا أبو الوليد الطيالسي، قالوا: ثنا عمارة بن زاذان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة:"أن رسول الله عليه السلام كان يوتر بتسع ركعات، فلما بدّن وكثر عليه اللحم أوتر بسبع ركعات، وصلى ركعتين وسجدتين وهو جالس يقرأ فيهما بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6826).

(2)

"معجم الطبراني الكبير"(8/ 227 رقم 8064).

ص: 89

ص: وقد روي في ذلك عن أم الدرداء، عن النبي عليه السلام ما قد حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن يحيى بن الجزار، عن أم الدرداء قالت:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما كَبُر وضَعُف أوتر بسبع".

فالكلام في هذا مثل الكلام في حديث أبي أمامة أيضًا.

ش: الكلام في حديث أم الدرداء كالكلام في حديث أبي أمامة في الإيراد والجواب.

وأخرجه بإسناد صحيح: عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن نعيم بن حماد المروزي الفارض الأعور شيخ البخاري، عن أبي [معاوية](1) محمَّد بن خازم، عن سليمان الأعمش الكوفي، عن عمرو بن مرة أي عبد الله الكوفي الأعمى، عن يحيى بن الجزار، عن أم الدرداء واسمها خيرة بنت حدرد وقيل اسمها هُجَيْمَة.

وأخرجه الترمذي (2): بعين هذا المتن وبهذا الإسناد، ولكن في روايته: عن أم سلمة موضع أم الدرداء، وقال: ثنا هنّاد، ثنا أبو معاوية

إلى آخره نحوه.

ص: وقد روي في ذلك عن أم سلمة، عن النبي عليه السلام: ما حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا جرير بن الحميد، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا بكلام".

فقد يجوز أن يكون هذا قبل أن يحكم الوتر فكان من شاء أوتر بخمس ومَنْ شاء أوتر بسبع، وكان إنما يراد منهم أن يصلوا وترًا لا عدد له معلومًا.

ش: لما كان هذا الحديث واردًا على ما قرره من أن المعنى من الأحاديث المذكورة يرجع إلى أنه عليه السلام كان يوتر بثلاث، وإن كان قد أطلق فيها الوتر على تطوعه مع وتره جميعًا ذكره هنا ليجيب عنه.

(1) في "الأصل، ك": "نعيم"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله فمحمد بن خازم يكنى أبا معاوية الضرير، وقد وقع في المتن على الصواب.

(2)

"سنن الترمذي"(2/ 319 رقم 457).

ص: 90

وتقرير الجواب: أنه قد يجوز أن يكون حديث أم سلمة هذا قبل إحكام أمر الوتر؛ وذلك لأنهم كانوا أولًا مخيرين في أن يوتروا إن شاءوا بسبع وإن شاءوا بخمس وإن شاءوا بثلاث، وإن شاءوا بواحدة وكأن المراد منهم أن يوتروا وترًا بلا عدد معين، ألا ترى إلى ما قال في حديث أبي أيوب الأنصاري (1):"أوتر بخمس، فإن لم تستطع فبثلاث، فإن لم تستطع فبواحدة، فإن لم تستطع فأوْمِ إيماءً".

ثم إن الأمة قد أجمعوا بعد النبي عليه السلام على وتر لا يجوز لكل مَن أوتر به أن يتجاوزه إلى غيره، فصار إجماعهم ناسخًا لما قد تقدمه من التخيير الذي كان في عدد الوتر، هذا ما ذكره الطحاوي.

فإن قيل: كيف يجوز النسخ بالإجماع وأوان النسخ حال حياة النبي عليه السلام؛ للاتفاق على أنه لا نسخ بعده، وفي حال حياته ما كان ينعقد الإجماع بدون رأيه؟

قلت: ليس المراد من قولنا: صار إجماعهم ناسخًا لما قد تقدمه من التخيير، أن النسخ وقع بعد النبي عليه السلام بالإجماع، وإنما المراد أن النسخ كان في حياة النبي عليه السلام، وأن الإجماع وقع على كون هذا النسخ في حياته، فصار استناد الإجماع إلى زمن الرسول عليه السلام.

فإن قيل: كيف حقيقة النسخ بالإجماع؟

قلت: حقيقة ذلك أن النسخ بدليل الإجماع لا يجوز؛ لأن أوان النسخ حال حياته عليه السلام كما ذكرنا ولا نسخ بعده، وإنما يكون الإجماع موجبًا للعلم بعده ولا نسخ بعده، ولكن جوزه بعض المشايخ بطريق أن الإجماع يوجب علم اليقين كالنص، فيجوز أن يثبت النسخ به، وقالوا: الإجماع في كونه حجة أقوى الخبر المشهور، فإذا كان يجوز النسخ بالخبر المشهور فبالإجماع أولى، والجواب عنه ما ذكرناه.

ثم إسناد حديث أم سلمة صحيح، أخرجه عن فهد بن سليمان، عن علي بن مَعْبد بن شدّاد صاحب محمَّد بن الحسن، وثقه أبو حاتم.

(1) سيأتي الآن.

ص: 91

عن جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي القاضي أحد أصحاب أبي حنيفة، روى له الجماعة.

عن منصور بن المعتمر روى له الجماعة، عن الحكم بن عتيبة روى له الجماعة، عن مُقْسِم بن بَجَرَة -بباء موحدة وجيم وراء مفتوحات- روى له الجماعة سوى مسلم، عن أم المؤمنين أم سلمة واسمها: هند بنت أبي أمية.

وأخرجه النسائي (1) أنا القاسم بن زكرياء بن دينار، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن أم سلمة قالت:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بسَبعٍ أو بخمسٍ لا يفصل بينهن بسلام".

وأخرجه ابن ماجه (2) نحو رواية الطحاوي.

ص: وقد روي عن أبي أيوب ما يدل على أن ذلك قد كان كذلك:

حدثنا أبو غسّان، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوتر بَخْمسٍ، فإن لم تَسْتَطِعْ فبثلاث، فإن لم تَسْتَطِعْ فبواحدة، فإن لم تَسْتَطِعْ فأَوْمِ إيماء".

أخبرنا أحمد بن داود، قال: ثنا سهل بن بكار، قال: ثنا وُهَيب بن خالد، قال: ثنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب، عن النبي عليه السلام قال:"الوتر حق، فمن أوتر بخَمْسٍ فهو حسن، ومن أوتر بثلاث فقد أحسن، ومن أوتر بواحدة فهو حسن، ومن لم يَستَطِعْ فليومِ إيماء".

حدثنا فهد، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن الضحاك، قال: أنا الأوزاعي، قال: ثنا الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب، أن النبي عليه السلام قال:"الوتر حق، فمن شاء أوتر بخَمْسٍ، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة".

(1)"المجتبى"(3/ 239 رقم 1715)، و"سنن النسائي الكبير"(1/ 441 رقم 1404).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 376 رقم 1192).

ص: 92

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب -قال: ولم يذكر النبي عليه السلام قال: "الوتر حق -أو واجب- فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء بخمس، ومن شاء بثلاث، ومن شاء بواحدةٍ، ومَنْ غُلب إلى أن يُوم فليومِ".

فأخبر في هذا الحديث أنهم كانوا مخيرين في أن يوتروا بما أحبوا لا وقت في ذلك ولا عدد بعد أن يكون ما صلّوا وترًا، وقد أجمعت الأمة بعد رسول الله عليه السلام على خلاف ذلك وأَوْتروا وترًا لا يجوز لكل مَنْ أوتر عنده ترك شيء منه، فدلَّ إجماعهم على نسخ ما قد تقدمه من قول رسول الله؛ لأن الله تعالى لم يكن ليجْمَعَهُم على ضلال.

ش: لما أجاب عن حديث أم سلمة المذكور آنفا بأنه يجوز أن يكون هذا قبل أن يحكم بالوتر

إلى آخره شرع يبُين ذلك، أي: قد روي عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري ما يَدُلّ على أن الوتر كان بلا عدد معلوم قبل إحكام أمره، وأنهم كانوا مخيرّين في عدده كما ذكرناه، أشار إليه بقوله:"فأخبر في هذا الحديث" أي حديث أبي أيوب الأنصاري "أنهم" أي الصحابة رضي الله عنهم "كانوا مخيرين في أن يوتروا بما أحبوا" من سبع أو خمس أو ثلاث "لا وقت في ذلك" أي لا تعيين فيه "ولا عدد" معلومًا غير أن لا بد أن يكون وترًا، "وقد أجمعت الأمة بعد النبي عليه السلام على خلاف ذلك" أي على خلاف الخيار المذكور، وإنما عَيّن كل منهم وترًا لا يجوز العدول عنه إلى وتر غيره، مثلًا من اختار الوتر بثلاث لم يجوزه بواحدة، ومن اختار الوتر بواحدة لم يجوز الثلاث بتسليمة وقعدتين، ومن اختار الخمس لم يجوز السبع، ومن اختار السبع لم يجوز الخمس، وعلى هذا، غير أنهم كلهم اتفقوا على ترك الخيار وأجمعوا على انتساخ ما كان من قوله عليه السلام:"من شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة"، وإجماع الأمة من أقوى الحجج؛ لأن أمته لا تجتمع على الضلالة، وقد ذكرنا ما فيه من السؤال والجواب عن قريب؛ فليعاود إليه.

ص: 93

ثم إنه أخرج حديث أبي أيوب من أربع طرق، أحدها موقوف كما نذكره.

الأول: عن أبي غسان مالك بن يحيى بن مالك الهمداني المعروف بالسوسي، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد روى له الجماعة، عن سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي، روى له الجماعة؛ البخاري مستشهدًا، ومسلم في مقدمة كتابه.

عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي روى له الجماعة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين

إلى آخره نحوه، غير أن في لفظه: قال: "قال لي رسول الله عليه السلام".

وأخرجه النسائي (2) ولفظه: "من شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أومى إيماءً".

الثاني: عن أحمد بن داود المكي، عن سَهْل بن بكار

إلى آخره.

وكلهم ثقات.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا عبد الرحمن بن المبارك، نا قريش بن حيان العجلي، نا بكر بن وائل، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله عليه السلام: "الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل".

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الله بن الضحاك بن بابلت البابلتي، قال يحيى معين: يحيى بن عبد الله بن الضحاك لم يَسْمَع والله من الأوزاعي شيئًا. وقال ابن حبان: يأتي عن الثقات بأشياء معضلات يَهِم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به، وهو يروي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن محمَّد بن مسلم الزهري

إلى آخره.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 92 رقم 6859).

(2)

"سنن النسائي الكبير"(1/ 441 رقم 1402).

ص: 94

وأخرجه ابن ماجه (1) بسند جيد، وقال: ثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، نا الفريابي، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله عليه السلام قال:"الوتر حق؛ فمن شاء فليوتر بخمس، ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة".

وأخرجه النسائي (2) أيضًا بسند جيد، وقال: أنا العباس بن الوليد بن مزيد، قال: أخبرني أبي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: حدثني الزهري، قال: ثنا عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب، أن رسول الله عليه السلام قال:"الوتر حق؛ فمن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة".

الرابع: وهو موقوف، عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عطاء، عن أبي أيوب، ولم يذكر النبي عليه السلام

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (3): أنا الربيع بن سليمان بن داود، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: نا الهيثم بن حُمَيد، قال: حدثني أبو مُعَيْد، عن الزهري، قال: حدثني عطاء بن يزيد، أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول:"الوتر حق؛ فمن أحبّ أن يوتر بخمس ركعات فليفعل، ومن أحبّ أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل".

قال الحارث بن مسكين قراءةً عليه وأنا أسمع (2): عن سفيان، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن أبي أيوب قال:"من شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أومى إيماءً".

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 376 رقم 1190).

(2)

"سنن النسائي الكبرى"(1/ 440 رقم 1400).

(3)

"سنن النسائي الكبرى"(1/ 441 رقم 1402).

ص: 95

ورواه عبد الرزاق أيضًا (1) عن معمر موقوفًا.

قوله: "الوتر حق" صريح في إيجاب الوتر؛ لأن الحق ها هنا بمعنى الثابت ولا سيما وقد ذكر في رواية أبي داود بلفظ: "على" التي للإيجاب كما قد ذكرناه آنفًا.

ص: وقد روي عن عبد الرحمن بن أبزى، عن النبي عليه السلام في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو المطرف بن أبي الوزير، قال: ثنا محمَّد بن طلحة، عن زُبَيْد، عن ذرٍّ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه:"أنه صلى مع النبي عليه السلام الوتر، فقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، فلما فرغ قال: سبحان الملك القدوس ثلاثًا يمد صوته بالثالثة".

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن زُبَيْد

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا محمَّد بن طلحة، عن زُبَيْد

فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"وفي الثانية {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، وفي الثالثة الله الواحد الصمد".

فهذا يدل على أنه كان يوتر بثلاث.

ش: ذكر حديث عبد الرحمن بن أبزى الصحابي رضي الله عنه تأكيدًا لما بيَّنه في الأحاديث السابقة أن الوتر ثلاث ركعات؛ لأن حديثه يدل على ذلك على ما لا يخفى.

وأخرجه من ثلاث طرق حسان جياد:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي المطرف بن أبي الوزير- واسمه محمَّد بن عمر بن مطرف القرشي الهاشمي البصري، قال أبو حاتم: ليس به بأس.

وذكره ابن حبان في "الثقات".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(3/ 19 رقم 4633).

ص: 96

عن محمَّد بن طلحة بن مصرف اليامي روى له الجماعة، عن زُبَيد -بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف- بن الحارث بن عبد الكريم اليامي -ويقال: الأيامي أيضًا- أبي عبد الله الكوفي روى له الجماعة.

عن ذرّ -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- بن عبد الله الهمداني أبي عمر الكوفي روى له الجماعة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي روى له إلجماعة، عن أبيه عبد الرحمن بن أبزى الصحابي عند الجمهور.

وأخرجه النسائي (1): أنا عمرو بن يزيد، قال: ثنا بهز، قال: ثنا شعبة، عن سلمة وزبيد، عن ذر، عن أبي عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام كان يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، وكان يقول إذا سلَّم: سبحان الملك القدوس ثلاثًا ويرفع صوته بالثالثة".

الثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن زبيد

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(2): ثنا يوسف القاضي، ثنا حفص بن عمر الحوضي.

وثنا محمَّد بن عبدوس ومحمد بن عبد الله الحضرمي، قالا: ثنا علي بن الجعد، قالا: ثنا شعبة، عن زبيد وسلمة بن كهيل، عن ذر، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن النبي عليه السلام:"أنه كان يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} ، ويقول إذا سلَّم: سبحان الملك القدوس ثلاثًا يرفع صوته في الثالثة".

(1)"السنن الكبرى"(1/ 449 رقم 1435).

(2)

وأخرجه في "المعجم الأوسط"(8/ 108 رقم 8115) من طريق قتادة عن سعيد بن عبد الرحمن به.

ص: 97

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن محمَّد بن طلحة بن مصرف اليامي، عن زبيد

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (1): بطرق متعددة بعضها مرسلة.

وأخرجه أيضًا (2): عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبي كعب رضي الله عنهما.

قوله: " {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} " أراد به {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وأراد بقوله:{اللَّهُ الصَّمَدُ} {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} إلى آخره.

ص: وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام في ذلك: ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني سليمان بن بلال، عن صالح بن كيسان، عن عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام قال:"لا توتروا بثلاث، وأوتروا بخمس أو بسبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب".

حدثنا فهد، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة، حدثه عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة -ولم يرفعه- قال:"لا توتروا بثلاث ركعات فتشبِّهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة".

فقد يحتمل أن يكون كره إفراد الوتر حتى يكون معه شفع على ما قد روينا قبل هذا عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم فيكون ذلك تطوعًا قبل الوتر، وفي ذلك نفي الواحدة أن تكون وترًا، ويحتمل أيضًا أن يكون على ما ذكرنا في حديث أبي أيوب في التخيير، إلا أنه ليس فيه إباحة الوتر بالواحدة؛ فقد ثبت بهذه الآثار التي رويناها عن النبي عليه السلام أن الوتر أكثر من ركعة واحدة، ولم يُرو في الركعة شيء إلا وتأويله يحتمل ما شرحناه وبيَّناه في موضعه من هذا الباب.

(1)"سنن النسائي الكبرى"(3/ 247 رقم 1741).

(2)

"المجتبى"(3/ 244 رقم 1729).

ص: 98

ش: لما كان الخصم احتجوا على أصحابنا بحديث أبي هريرة هذا؛ ذكره ليجيب عنه، وتقرير الجواب عنه من وجهين:

الأول: أن قوله: "لا توتروا بثلاث" يحتمل كراهة الوتر من غير تطوع قبله من الشفع، ويكون المعنى: لا توتروا بثلاث ركعات وحدها من غير أن يتقدمها شيء من التطوع الشفع، بل أوتروا هذه الثلاث مع شفع قبلها ليكون خمسًا، وإليه أشار بقوله:"وأوتروا بخمس" أو أوتروا هذه الثلاث مع شفعين قبلها لتكون سبعًا، وإليه أشار بقوله:"أو بسبع" أي: أو أوتروا بسبع ركعات أربع تطوع وثلاث، وتر ولا تفردوا هذه الثلاث كصلاة المغرب ليس قبلها شيء، وإليه أشار بقوله:"ولا تشبهوا بصلاة المغرب" ومعناه: ولا تشبهوه بالمغرب في كونها منفردة عن تطوع قبلها ،وليس معناه لا تشبهوا بصلاة المغرب في كونها ثلاث ركعات والنهي ليس بوارد على تشبيه الذات بالذات، وإنما هو واردٌ على تشبيه الصفة بالصفة، فافهم.

ومع هذا فما ذكره نفي أن تكون الركعة الواحدة وترًا؛ لأنه أمر بالإيتار بخمس أو بسبع، ليس إلا.

الوجه الثاني: أن يكون معناه ما ذكره في حديث أبي أيوب في التخيير، وما ذكره هناك من الجواب فهو جواب ها هنا، هذا حاصل ما ذكره الطحاوي رحمه الله.

وجواب آخر: أن هذا مُعَارَض بما رواه الطحاوي والترمذي أيضًا من حديث الحارث، عن علي رضي الله عنه:"كان النبي عليه السلام يوتر بثلاث".

وبما أخرجه الحاكم في "مستدركه"(1) بإسناده إلى عائشة، قالت:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بثلاث لا يسلِّم إلا في آخرهن". وقال: إنه صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 447 رقم 1140).

ص: 99

وبما أخرجه الدارقطني (1) ثم البيهقي (2): عن يحيى بن زكرياء، ثنا الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله عليه السلام: "وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب" قال الدارقطني: لم يَرْوِه عن الأعمش مرفوعًا غير يحيى بن زكرياء وهو ضعيف، ورواه الثوري وعبد الله بن نمير وغيرهما عن الأعمش فوقفوه انتهى.

قلت: أخرجه النسائي (3): من حديث ابن عمر، قال: ثنا قتيبة، عن الفضيل ابن عياض، عن هشام بن حسان، عن محمَّد بن سيرين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلاة المغرب وتر صلاة النهار، فأوتروا صلاة الليل".

وهذا السند على شرط الشيخين.

ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين:

الأول: مرفوع، عن أحمد بن عبد الرحمن بن وَهْب المصري بَحْشل، ابن أخي عبد الله بن وهب شيخ مسلم.

عن عمه عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال القرشي المدني، عن صالح بن كيسان المدني، عن عبد الله بن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.

والكل رجال الصحيح.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(4): من حديث عبد الله بن وهب، عن سليمان بن بلال

إلى آخره نحوه.

(1)"سنن الدارقطني"(2/ 27 رقم 1).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 30 رقم 4590).

(3)

"سنن النسائي الكبرى"(1/ 435 رقم 1382).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 31 رقم 4593).

ص: 100

الثاني: موقوف، عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمَّد أبي عبد الملك المصري، عن جعفر بن ربيعة ابن شرحبيل بن حسَنَة الكِنْدي المصري، عن عراك بن مالك الغفاري الكناني، عن أبي هريرة.

وهؤلاء أيضًا رجال الصحيح غير فهد.

وأخرجه البيهقي (1) أيضًا موقوفًا، وأخرجه مرفوعًا أيضًا كما قلناه (2).

قوله: "فتشبَّهوا بالمغرب" جواب النهي؛ فلذلك جاء بالفاء منصوبًا، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (3) والمعنى: لا يكن إيتار بثلاث وتشبيه بالمغرب، ثم استدرك بقوله: "ولكن أوتروا

" إلى آخره، وليس فيه أيضًا ما يدل على اعتداد الوتر بركعة واحدة، فافهم.

ص: ثم أردنا أن نلتمس ذلك من طريق النظر، فوجدنا الوتر لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون فرضًا، وإما أن يكون سنةً، فإن كان فرضًا فإنَّا لم نر شيئًا من الفرض إلا على ثلاثة أوجه؛ فمنه ما هو ركعتان، ومنه ما هو أربع، ومنه ما هو ثلاث، وكلٌّ قد أجمع أن الوتر لا يكون اثنتين ولا أربعًا، فثبت بذلك أنه ثلاث، هذا إن كان فرضًا.

وأما إن كان سنةً فإنا لم نجد شيئًا من السنن إلا وله مثل في الفرض من ذلك الصلاة منها تطوع ومنها فرض، ومن ذلك الصدقات فإن لها أصلًا في الفرض وهو الزكاة، ومن ذلك الصيام وله أصل في الفرض وهو صيام شهر رمضان، وما أوجب الله عز وجل في الكفارات، ومن ذلك الحج يتطوع به وله أصل في الفرض وهو حجة الإسلام، ومن ذلك العمرة يتطوع بها ووجوبها فيه اختلاف وسنبينه في

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 31 رقم 4594).

(2)

تقدم.

(3)

سورة طه، آية:[81]

ص: 101

موضعه إن شاء الله تعالى. ومن ذلك العتاق له أصل في الفرض وهو ما فرض الله عز وجل في الكتاب من الكفارات والقضاء، فكانت هذه الأشياء متطوَّع بها ولها أصل في الفرض، فلم نر شيئًا يُتطوع به، إلا وله أصل في الفرض، فقد رأينا أشياء هي فرض ولا يجوز أن يتطوَّع بها، مثل الصلاة على الجنازة هي فرض ولا يجوز أن يتطوع بها، ولا يجوز لأحد أن يصلي على ميِّت مرتين يتطوع بالآخرة منهما، فكأن الفرض قد يكون في شيء ولا يجوز أن يتطوع بمثله، ولم نر شيئًا يُتطوع به إلا وله مثل في الفرض منه أُخذ، وكان الوتر مُتطوَّع به فلم يجز أن يكون كذلك إلا وله مثل في الفرض، والفرض لم نجد فيه وترًا إلا ثلاثًا؛ فثبت بذلك أن الوتر ثلاث. هذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ش: ملخصه أنه بنى ذلك على مقدمة مانعة الخلوّ، وهي: أن الوتر إما فرض وإما سنة، فإن كان فرضًا فلابد أن يكون مثل فرض من الصلوات، وهي إما ركعتان كالصبح أو أربع كالظهر والعصر والعشاء، أو ثلاث كالمغرب، وكلهم أجمعوا على أن الوتر لا يكون ركعتين ولا أربعًا؛ فثبت بذلك أن يكون ثلاثًا كالمغرب، وإن كان سنة فليس شيء في السنن إلا وله مثل في الفرض، والفرض قد يكون في شيء لا يجوز أن يتطوع بمثله، وليس شيء يتطوع به إلا وله مثل في الفرض، فالوتر يُتطوع به فلا يجوز أن يكون إلا وله مثل في الفرض، والفرض ليس فيه وتر إلا ثلاث؛ فيجب أن يكون الوتر ثلاثًا. فافهم، والباقي غني عن الشرح.

قوله: "ولا يجوز لأحد أن يصلي على ميِّت مرتين

" إلى آخره، أراد به إذا تطوع بالصلاة الثانية، أما إذا صلى ثانية على أنها فرض كما هو عند قوم، فإن ذلك يجوز؛ لأن تكرار الصلاة على الجنازة مشروع عندهم.

ص: وقد روي في ذلك عن أصحاب النبي عليه السلام ما قد حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه (ح).

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحُ بن عُبَادة، قال: ثنا مالك، عن محمَّد بن يوسف، عن السائب بن يزيد قال: "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب

ص: 102

وتميمًا الداريَّ أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعةً. قال: فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى يَعتمد على العصا من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر".

وهذا يدل على أنهم كانوا يوترون بثلاث؛ لأنه لا يجوز أن يكونوا كانوا يصلون شفعًا واحدًا ثم ينصرفون عليه حتى يَصلوه بشفع آخر.

ش: أي قد روي في الإيتار بالثلاث عن الصحابة رضي الله عنهم آثار أخرج عن جماعة منهم في ذلك، منها:

ما أخرجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريقين صحيحين:

أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن يوسف ابن بنت السائب بن يزيد، عن السائب بن يزيد بن سعيد الكندي، له ولأبيه صحبة.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1).

والآخر: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة بن العلاء البصري، عن مالك

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2) من حديث مالك.

قوله: "يقرأ بالمئين" وهو جمع مائة، وأراد إما بالآيات المئين، أو سور طويلة التي تشتمل على أكثر من مائة آية.

قوله: "في فروع الفجر" أراد به أعاليها، وفرع كل شيء أعلاه.

قوله: "وهذا يدل

" إلى آخره، بيان ذلك: أن هذه كانت صلاة التروايح في ليالي رمضان، وما كانت إلا شفعًا شفعًا، وكانوا إذا صلّوا شفعًا لا ينصرفون عنه حتى يَصِلُوه بشفع آخر؛ فحينئذٍ يكون تطوعهم ثمان ركعات -ووترهم ثلاث ركعات- فالجملة إحدى عشرة ركعةً.

(1)"موطأ مالك"(1/ 115 رقم 251).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 496 رقم 4392).

ص: 103

والدليل على ذلك:

ما رواه مالك في "الموطأ"(1) عن زيد بن رومان قال: "كان الناس يقومون في زمن عمر رضي الله عنه في رمضان بثلاث وعشرين ركعة".

فهذه العشرون كانت تراويحهم شفعًا شفعًا، والثلاث كان وترهم، وبهذا استدل أصحابنا على أن التراويح عشرون بعشر تسليمات.

فإن قيل: كيف التوفيق بين روايتي مالك هاتين؟

قلت: يمكن الجمع بأنهم قاموا بإحدى عشرة، ثم قاموا بعشرين، ويوترون بثلاث.

ومن الدليل على ذلك أيضًا:

ما رواه البيهقي في "سننه"(2) بإسناده: عن شُتَيْر بن شكل؛ وكان من أصحاب علي رضي الله عنه: "أنه كان يؤمهم في رمضان بعشرين ركعة ويوتر بثلاث".

ومما يستفاد من الأثر المذكور: استحباب تطويل القراءة في التراويح، والدليل عليه أيضًا:

ما رواه مالك في "الموطأ"(3)، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه قال: سمعت أبي يقول: "كنا ننصرف في رمضان فنستعجل الخدم بالطعام؛ مخافة الفجر" أي مخافة طلوع الفجر، ولكن هذا كان في ذلك الزمان، وكانت لأهله رغبة في كثرة العبادات وإحياء الليالي، وفي زماننا هذا ظهر الكسل والفتور للناس في العبادات، فللإمام أن يقرأ في التراويح بحيث لا يثقل عليهم ولا يؤدي إلى تنفيرهم.

وقال أصحابنا: روى الحسن، عن أبي حنيفة: أن الإِمام يقرأ في كل ركعة عشر آيات أو نحوها؛ لأن السنة في التراويح الختم مرة، وعدد ركعات التراويح في جميع

(1)"موطأ مالك"(1/ 115 رقم 252).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(1/ 116 رقم 254).

(3)

"موطأ مالك"(1/ 116 رقم 254).

ص: 104

الشهر ستمائة، وعدد آي القرآن ستة آلاف وشيء، فإذا قرأ عشر آيات في كل ركعة يحصل الختم فيها.

وقال صاحب "الهداية": ولم يذكر قدر القراءة، وكثر المشاع على أن السنة فيها الختم مرة؛ فلا يترك لكسل القوم.

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى بن سليمان الجعْفي، قال: أنا ابن وَهْبٍ، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن أبي هلال، عن ابن السبّاق، عن المسوَر بن مخرمة قال:"دفنّا أبا بكر رضي الله عنه ليلًا، فقال عمر رضي الله عنه: إني لم أوُتِرْ. وَصفَّنا وراءه، فصلَّى بنا ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن".

ش: إسناده صحيح في غاية الصحة، ورجاله رجال الصحيح.

يحيى بن سليمان الجعفي أبو سعيد المقرئ الكوفي نزيل مصر شيخ البخاري.

وابن أبي هلال هو سعيد بن أبي هلال أبو العلاء المصري.

وابن السبّاق هو عبيد بن السباق الثقفي المدني.

والمِسْور بن مخرمة بن نوفل القرشي له ولأبيه صحبة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو معاوية، عن ابن جرير، عن إسماعيل بن محمَّد بن سَعْد، عن ابن السبّاق:"أن عمر رضي الله عنه دفن أبا بكر ليلًا، ثم دخل المسجد فأوتر بثلاثٍ".

ويستفاد منه أحكام:

جواز دفن الميت بالليل، وكافت وفاة أبي بكر رضي الله عنه بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة بين المغرب والعشاء، وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، والأول أصح. وكان رسول الله عليه السلام أسنّ من أبي بكر رضي الله عنه بمقدار سنيّ خلافته، وكان مولده بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أيامًا، وغسَّلته زوجته أسماء بنت عميس بوصية أبي بكر بذلك

(1)"مصنف ابن أبي شيبة".

ص: 105

إياها، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودُفِن في الحجرة إلي جانب النبي عليه السلام، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليال.

وأن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخره، وهذه حجة قوية لأصحابنا، ولما روى الحاكم في "مستدركه"(1)، عن عائشة:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن" وفي رواية: "لا يسلِّم في الركعتين الأوليين من الوتر". قال: وهذا وتر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعنه أخذ أهل المدينة عطاء وغيره.

وجواز الوتر بالجماعة في غير رمضان، وقال بعض المشايخ من أصحابنا: وهو الصحيح، وقال صاحب "الهداية": يصلى الوتر جماعة في غير شهر رمضان وعليه إجماع المسلمين.

وذكر في "النوازل والواقعات" و"الصدر الشهيد": [....](2) يصلى الوتر خارج رمضان يجوز.

قلت: كأنهم أخذوا هذا من فعل عمر رضي الله عنه المذكور.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: أنا أبو خلدة قال: "سألت أبا العالية عن الوتر فقال: علّمنا أصحاب محمَّد عليه السلام -أو علمونا- أن الوتر مثل صلاة المغرب غير أنك تقرأ في الثالثة، هذا وتر الليل، وهذا وتر النهار".

ش: أبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو خَلْدة -بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام- اسمه خالد بن دينار البصري الخياط، روى له الجماعة سوى مسلم وابن ماجه.

وأبو العالية اسمه رُفيع بن مهران الرياحي البصري، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد موت النبي عليه السلام بسنتين، ودخل على أبي بكر الصديق، وصلى خلف عمر بن الخطاب، وروى له الجماعة.

(1)"مستدرك الحاكم"(1/ 477 رقم 1140).

(2)

طمس في "الأصل" بمقدار ثلاث كلمات، وليس في "ك".

ص: 106

قوله: "مثل صلاة المغرب" يعني بتسليمة واحدة في آخرها، وبيّن أنهما وتر الليل كما أن صلاة المغرب وتر النهار.

قوله: "غير أنك تقرأ في الثالثة" أي في الركعة الثالثة من الوتر بخلاف المغرب فإنه لا يقرأ في الثالثة منها إلا على سبيل الاستحباب، حتى لو تركها لاشيء عليه، بخلاف الوتر فإن القراءة فرض في جميع ركعاته.

ص: حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا شجاع بن الوليد، عن سليمان بن مهران، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"الوتر ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث

فذكر مثله بإسناده.

ش: أخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقّي، عن شجاع بن الوليد بن قيس السَّكُوني أي بدر روى له الجماعة، عن سليمان بن مهران الأعمش روى له الجماعة، عن مالك بن الحارث السُّلَمي الرِّقّي روى له مسلم وأبو داود والنسائي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي الكوفي روى له الجماعة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا زائدة، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث

إلى، آخره نحوه.

قوله: "ثلاث" أي ثلاث ركعات.

قوله: "صلاة المغرب" بالجر على أنه بدل من قوله: "كوتر النهار" أو عطف بيان.

والثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن مالك بن الحارث

إلى آخره.

(1)"معجم الطبراني الكبير"(2/ 282 رقم 9419).

ص: 107

وأخرجه الطبراني (1) أيضًا: ثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال ابن مسعود: "وتر الليل كوتر النهار -صلاة المغرب- ثلاثًا".

ص: حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: أنا هُشَيم، عن حُمَيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"الوتر ثلاث ركعات. وكان يوتر بثلاث ركعات".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: ثنا ثابت قال: "صلى بنا أنس بن مالك الوتر -أنا عن يمينه وأم ولده خلفنا- ثلاث ركعات لم يسلم إلا في آخرهن، ظننت أنه يريد أن يعلمنى".

ش: أخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن صالح

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن هشيم، عن حميد، عن أنس:"أنه كان يوتر بثلاث ركعات".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس:"أنه أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن".

ص: حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن نافع والمَقْبري:"سَمِعَا مُعَاذًا القارِئ يُسلِم في الركعتين من الوتر".

حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، عن عياش بن عباس القتباني عن عامر بن يحيى، عن حنش الصنعاني قال: "كان

(1)"المعجم الكبير"(9/ 282 رقم 9419).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 89 رقم 6824).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 91 رقم 6840).

ص: 108

معاذ رضي الله عنه يقرأ للناس في رمضان، فكان يوتر بواحدة يفصل بينها وبين الثنتين بالسلام حتى يَسْمع مَنْ خلفه تَسْليمَه، فلما تُوفي قام للناس زيد بن ثابت رضي الله عنه فأوتر للناس بثلاث لم يُسَلّم بَيْنهن حتى فرغ منهن، فقال له الناس: أرغبت عن سنة صاحبك؟ فقال: لا، ولكن إن سلمت انفضّ الناسُ".

ش: هذان إسنادان صحيحان:

أحدهما: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن محمَّد بن عجلان، عن نافع مولى ابن عمر، وسعيد ابن أبي سعيد كيسان المقبري -ونسبته إلى مقبرة لسكناه فيها- أنهما سمعا معاذ بن الحارث الأنصاري، يعرف بالقارئ، وهو ممن أقامهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلون بالناس التروايح، شهد غزوة الخندق، وقيل: إنه لم يدرك من حياة النبي عليه السلام إلا ست سنين.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن سعيد ونافع قالا:"رأينا معاذًا القارئ يُسلِّم في ركعتي الوتر".

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد وشيخ البخاري، عن الليث بن سعد، عن عياش -بالياء آخر الحروف المشددة وفي آخره شين معجمة- ابن عباس -بالباء الموحدة والسين المهملة- ونِسْبته إلى قِتْبان -بكسر القاف وسكون التاء المثناة من فوق وبالباء الموحدة- وهو بطن من رعين.

وهو يروي عن عامر بن يحيى بن جَشِيب الشرعبي المصري، روى له مسلم والترمذي وابن ماجه- عن حَنَش الصنْعاني -بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة- روى له الجماعة إلا البخاري قال: "كان معاذ رضي الله عنه

" وأراد به معاذ بن جبل.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 89 رقم 6815).

ص: 109

وإنما أَوْرد هذين الحديثين عن معاذين المذكورين وإن كانا لا يَصْلحان للاحتجاج لأصحابنا من حيث أن فيهما تسليمتين، ولكنهما يصلحان من حيث أن فيهما أن الوتر ثلاث ركعات، وأما أمر التسليمتن فإنه يُجيب عنه عن قريب إن شاء الله.

ص: فهؤلاء جميعًا من أصحاب النبي عليه السلام كانوا يوترون بثلاث فمنهم من كان يسلم في الاثنتين منهن، ومنهم من كان لا يسلم.

فلما ثبت عنهم أن الوتر ثلاث؛ نظرنا في حكم التسليم بين الاثنتين منهن كيف هو؟ فرأينا التسليم يقطع الصلاة ويَخرُج المُسَلِّمُ به منها حتى يكون في غير صلاة، وقد رأينا ما قد أجمعوا عليه من أن الفرض لا ينبغي أن يفصل بعضه من بعضٍ بسلامٍ، فكان النظر على ذلك أن يكون الوتر كذلك لا ينبغي أن يفصل بعضه من بعض بسلامٍ.

ش: أشار بهؤلاء إلى الجماعة من الصحابة الذين أخرج عنهم أنهم كانوا يقولون: الوتر ثلاث ركعات ويوترون بثلاث، وهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك ومعاذ القارئ ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وناس آخرون من الصحابة.

فهؤلاء كانوا يوترون بثلاث ركعات، غير أن منهم من كان يسلم في الركعتين وهم: معاذ القارئ، ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمر على ما روى البخاري (1): من حديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر:"كان يسلم من الركعة والركعتين في الوتر حتى يأمر ببعض حاجته".

ومنهم من كان لا يسلِّم وهم: عمر بن الخطاب وابن مسعود وأنس وآخرون، وعلى كل حال ثبت عنهم أن الوتر ثلاث ركعات، وباقي الكلام ظاهر.

ص: فإن قال قائل: فقد روي عن غير واحد من أصحاب النبي عليه السلام أنه كان يوتر بواحدة؛ فذكر ما حدثنا أبو بكرة بكار، عن أبي داود، قال: ثنا

(1)"صحيح البخاري"(1/ 337 رقم 946).

ص: 110

فليح بن سليمان، قال: ثنا محمَّد بن المنكدر، عن عبد الرحمن التيمي قال: قلت: "لا يغلبني الليلة على المقام أحدٌ، فقمت أصلي فوجدتُ حسّ رجل من خلفي في ظهري، فنظرت فإذا عثمان بن عفان رضي الله عنه، فتنحيت له فتقدم فاستفتح القرآن حتى ختم، ثم ركع وسجد، فقلت: أوهم الشيخ؟ فلما صلى قلت: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة واحدة: قال: أجل، وهي وتري".

قيل له: قد يجوز أن يكون عثمان رضي الله عنه يفصل بين شفعه ووتره فيكون قد صلى شفعه قبل ذلك ثم أوتر فيما رواه عبد الرحمن، وفي إنكار عبد الرحمن فعل عثمان رضي الله عنه دليل على أن العادة التي كان جرى عليها قبل ذلك وعرفها إلى غير ما فعل عثمان، وعبد الرحمن فله صحبة.

فقد دخل بذلك المعنى في المعنى الأول.

ش: تقرير السؤال أن يقال: إنكم قد ادعيتم أن الوتر ثلاث ركعات، وذكرتم فيها آثارًا عن بعض الصحابة ما يدل على أن الوتر ثلاث، وعندنا أيضًا آثار عن بعض الصحابة تعارض ما ذكرتم وتنافيه، منها الأثر الذي روي عن عثمان.

أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة أبي يحيى المدني روى له الجماعة، عن محمد بن المنكدر بن عبد الله التيمي أبو بكر المدني روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن عثمان القرشيء التيمي له صحبة، أسلم يوم الحديبية وقيل: يوم الفتح.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث فليح، عن محمَّد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن عثمان قال: قلت: "لأغلبن علي المقام الليلة، فسبقت إليه، فبينما أنا قائم أصلي إذا رجل وضع يده على ظهري فنظرت فإذا عثمان -وهو يومئذٍ أمير- فتنحيت عنه، فقام فافتتح القرآن حتى فرغ منه، ثم ركع وجلس وتشهد وسلَّم في ركعة واحدة لم يزد عليها، فلما انصرف قلت: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة! قال: هي وتري".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 25 رقم 4561).

ص: 111

وتقرير الجواب: أنه قد يجوز أن يكون عثمان يفصل بين الركعة والركعتين بسلام فيكون في هذه الصورة قد صلى الركعتين قبل أن يراه عبد الرحمن التيمي ثم أوتر بعد ذلك بركعة واحدة، فيما رآه عبد الرحمن؛ فحينئذٍ لم يكن فيه دليل على أن الوتر ركعة واحدة، والمقصود نفي الإيتار بركعة واحدة فقط، وأما الفصل بين الركعتين والركعة بسلام فلا يضر كون الوتر ثلاثًا، غاية ما في الباب أنه يكون بتسليمتين، وأيضًا إنكار عبد الرحمن فعل عثمان هذا دليل على أن العادة في الوتر التي كان يعهدها عبد الرحمن غير ما فعله عثمان وإلا فلا مجال لإنكاره عليه بذلك، وعبد الرحمن أيضًا صحابي كما ذكرنا ولإنكاره تأثير، فبهذا التأويل دخل معنى هذا الأثر في المعنى الأول وهو الذي ذكره بقوله:"فهؤلاء جميعًا من أصحاب النبي عليه السلام كانوا يوترون بثلاث، منهم من كان يسلم في الاثنتين منهن ومنهم من كان لا يسلم" فكان عثمان - رضى الله عنه - ممن يسلم، وعبد الرحمن التيمي ممن لا يسلم، فافهم.

قوله: "في المقام" أي القيام وهو مصدر ميمي، وأراد به قيام الليل.

قوله: "فإذا عثمان" أي فإذا هو عثمان، وكلمة "إذا" للمفاجأة.

قوله: "أَوَهِمَ الشيخ" أراد به عثمان رضي الله عنه، والمعنى أسقط من صلاته شيئًا، يقال: أوهمت الشيء إذا تركته، وأوهمت في الكلام والكتاب إذا أسقطت منه شيئًا ووهم إذا غلط.

قوله: "أجل" أبي نعم.

ص:"وإن احتج في ذلك محتج بما روي عن سعدة فإنه قد حدثنا يونس، قال: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة حدثهم، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن سعيد بن المسيب قال: "شهد عندي من شئت من آل سعد بن أبي وقاص أن سعد بن أبي وقاص كان يوتر بواحدة".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن مصعب بن سعد، عن أبيه "أنه كان يوتر بواحدة".

ص: 112

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة قال:"أَمّنا سَعْد بن أبي وقاص في صلاة العشاء الآخرة، فلما انصرف تنحى في ناحية المسجد فصلى ركعة، فتبعْتُه فأحدث سجدة، فقلت: يا أبا إسحاق، ما هذه الركعة؟ قال: وتر أنام عليه. قال عمرو: فذكرت ذلك لمصعب بن سَعْد فقال: كان يوتر بركعة -يعني سعدًا".

قيل: قد يجوز أن يكون سَعْد فعل في ذلك ما يحتمله ما فعل عثمان رضي الله عنه فيما ذكرنا قبله.

ش: أي وإن احتج في الإيتار بركعة واحدة محتج بما روي عن سعد بن أبي وقاص في إيتاره بركعة؛ فالجواب عنه ما ذكرناه فيما فعله عثمان رضي الله عنه.

وأخرج ذلك من ثلاث طرق رجالها ثقات غير أن في الطريق الأول مجهولًا، وهو ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن يوسف التنيسي شيخ البخاري، عن بكر بن مضر بن محمَّد المصري، عن جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة أبي شرحبيل المصري، عن يعقوب بن عبد الله، عن ابن المسيب

إلى آخره.

وأخرج عبد الرزاق (1): عن ابن جريج، عن عطاء، عن سعيد:"بلغني أن سعد بن أبي وقاص كان يوتر بركعة".

الثاني: عن صالح، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هُشَيم بن بَشِير، عن حُصين بن عبد الرحمن السُّلَمي، عن مصعب بن سَعْد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا هشيم، قال: أنا حصين، عن مصعب ابن سعد، عن أبيه:"أنه كان يوتر بركعة، فقيل له، فقال: إنما استقصرتها".

الثالث: عن محمَّد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمَة -بكسر اللام- المرادي الكوفي

إلى آخره.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(3/ 21 رقم 4642).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 313 رقم 36407).

ص: 113

وأخرج عبد الرزاق (1): عن ابن عيينة، عن يزيد بن خُصيفة، قال: سمعت محمد بن شرحبيل يقول: "رأيت سعد بن مالك صلى العشاء، ثم صلى بعدها ركعة أوتر بها".

ص: فإن قال قائلٌ: ففي حديث عمرو بن مرة ما يدل على خلاف ذلك؛ لأنه قال: "صلى بنا، فلما انصرف جاء فصلى ركعة".

قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك الانصراف إلى منزله، وقد كان صلى قبل ذلك بعد انصرافه من صلاته.

وقد حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: ثنا داود بن أبي هند، عن عامرٍ قال:"كان آل سعد، وآل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم يُسلّمون في الركعتين من الوتر ويوترون بركعة".

فقد بيَّن الشَّعبِيُّ في هذا الحديث مذهب آل سَعْد في الوتر وهم الْمقتدُون بسَعْد المتبعون لفعله، وأن وترهم الذي كان ركعةً ركعةً إنما هو وتر بعد صلاة قد فصلوا بينه وبينها بتسليم، فقد عاد ذلك إلى قول الذين ذهبوا إلى أن الوتر ثلاث.

وقد حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حماد، عن حماد، عن إبراهيم:"أن ابن مسعود رضي الله عنه عاب ذلك على سَعْدٍ".

ومحالٌ عندنا أن يكون عبد الله عاب ذلك على سعد -مع نبل سعد وعلمه- إلا لمعنى قد ثبت عنده هو أولى من فعله، ولو كان ابن مسعود إنما خالفه برأيه لما كان رأيه أولى من رأي سَعْدٍ، ولما عاب ذلك على سعد إذ كان مأخذ ذلك هو الرأي، ولكن الذي علمه ابن مسعود مما خالفه فعل سعد في ذلك هو غير الرأي.

ش: هذا اعتراض على الجواب المذكور، تقريره أن يقال: إنكم قلتم: يجوز أن يكون سعد بن أبي وقاص كان يفصل بين شفعه ووتره، فيكون قد صلى شفعه قبل

(1)"مصنف عبد الرزاق"(3/ 22 رقم 4646).

ص: 114

وتره ثم أوتر بركعة، فيكون المجموع ثلاث ركعات كما هو كذلك في فعل عثمان رضي الله عنه، ولكن حديث عمرو بن مرة ينافي ما ذكرتم من هذا الكلام؛ لأنه قال:"صلى بنا، فلما انصرف جاء فصلى ركعة"، وليس ها هنا شيء قبل صلاته بركعة.

وتقرير الجواب أن يقال: قد يجوز أن يكون ذلك الانصراف انصرافًا إلى منزله فلما انصرف إلى منزله صلى هناك شفعه ثم لما جاء صلى ركعة، وقد صحح هذا التأويل بما أخرجه عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن عبد الوهاب بن عطاء الخفاف أبي نصر العجلي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن داود بن أبي هند دينار البصري روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن عامر بن شراحيل الشعبي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبد الأعلى، عن داود، عن الشعبي قال:"كان آل سعد وآل عبد الله بن عمر رضي الله عنهم يسلِّمون في ركعتي الوتر، ويوترون بركعة" انتهى.

فهذا الشعبي قد بين في هذا الحديث أن مذهب آل سعد إنما هو وتر بعد شفع، قد فصلوا بينهما وبينه بتسليم، وآل سعد إنما أخذوا هذا من سعد؛ فإنهم مقتدون به ومتبعون لفعله، وأن وترهم الذي كان ركعة ركعة إنما هو وتر صادر بعد صلاة قد فصلوا بينه وبينها بتسليم، فإذا كان كذلك عاد معناه إلى قول من يقول: إن الوتر ثلاث ركعات.

قوله: "وقد حدثنا أبو بكرة

" إلى آخره، جواب آخر، تقريره: أن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه عاب على سعد رضي الله عنه إيتاره بركعة واحدة، ولم يكن ذلك إلا لمعنى قد ثبت عند عبد الله أنه هو الأولى من فعل سعدث إذ لو لم يكن كذلك لاستحال على عبد الله أن يعيب على سعد فعله ذلك مع نبالة سعد وعلمه وجلالة قدره؛ فدل ذلك أن سعدًا إنما فعل ذلك برأيه واجتهاده، ألا تروى إلى ما قال سعد لما قيل له:

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 313 رقم 36414).

ص: 115

إنك توتر بركعة: "إنما استقصرتها" على ما ذكرناه في رواية ابن أبي شيبة عن قريب.

قوله: "ولو كان ابن مسعود إنما خالفه

" إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: لم لا يجوز أن يكون عيب ابن مسعود وإنكاره على سعد برأيه واجتهاده دون أمر ثبت عنده في ذلك؟

وتقرير الجواب: أنه لو كان ذلك برأيه لما كان رأيه أولى من رأي سعد، ولما عاب به أيضًا على سعد؛ لأن مأخذ ذلك منه الرأي، فالذي يفعل شيئًا برأي لا ينكر على من يفعل خلافه برأي أيضًا؛ لأن الإنكار لا مجال له في ذلك، وإنما ينكر على من يفعل برأي إذا كان عنده شيء قد ثبت بنصٍّ يخالف ذلك الرأي؛ فحينئذٍ يكون للإنكار مجال وتوجّه.

قوله: "مع نُبْل سَعْد" بضم النون وسكون الباء الموحدة، أي مع فضله، قال الجوهري: النبل والنبالة: الفضل، وقد نَبُل -بالضم- فهو نبيل.

ثم إسناد ما أخرجه عن للراهيم بن أبي داود البرلسي صحيح. لأن رجاله ثقات.

وأبو داود هو سليمان بن داود الطيالسي، وحماد الأول هو ابن سلمة، وحماد الثاني هو ابن أبي سليمان أحد مشايخ أبي حنيفة، وإبراهيم هو النخعي رحمه الله.

ص: وإن احتج في ذلك بما قد حدثنا فهدٌ، قال: حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي عبيد الله قال:"رأيت أبا الدرداء وفضالة بن عبيد ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم يدخلون في المسجد والناس في صلاة الغداة، فيتنحون إلى بعض السواري -فيوتر كل واحد منهم بركعة- ثم يدخلون مع الناس في الصلاة".

قيل له: قد يجوز أن يكون ذلك كان منهم بعد ما كانوا صلوا في بيوتهم أشفاعًا كثيرة، فيكون ذلك الذي صلوا في بيوتهم هو الشفع، وما صلوا في المسجد هو الوتر، فيعود ذلك أيضًا إلى أن الوتر ثلاث.

ش: أي: وإن احتج محتج في الإيتار بركعة بما رواه فهد بن سليمان، عن

ص: 116

محمَّد بن كثير بن أبي عطاء الصنعاني نزيل مصيصة الثقة، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يزيد -بفتح الياء آخر الحروف وكسر الزاي المعجمة وسكون الياء آخر الحروف- ابن أبي مريم بن أبي عطاء الشامي روي له البخاري والأربعة، عن أبي عبيد الله مسلم بن مسلم الخزاعي الدمشقي- كاتب أبي الدرداء، قال العجلي: شامي ثقة من خيار التابعين.

وأبو الدرداء اسمه عُويمر بن مالك الأنصاري الخزرجي، مات بدمشق سنة اثنتين وثلاثين.

وفضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي وهو ممن بايع تحت الشجرة، ولاه معاوية قضاء دمشق وكان خليفته أيضًا إذا غاب عنها، ومات بها سنة ثلاث وخمسين.

ومعاذ بن جبل الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن المدني، مات سنة ثماني عشرة بناحية الأردن وقبره بغور بيسان في شرقيه.

قوله: "قيل له: قد يجوز

" إلى آخره، جواب عن الأثر المذكور، وهو ظاهر.

ص: وقد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وَهْب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه قال:"أتيت عمر بن عبد العزيز والوتر بالمدينة -يقول الفقهاء-: ثلاثًا لا يُسَلَّم إلا في آخرهن".

حدثنا أبو العَوّام محمَّد بن عبد الله بن عبد الجبار المرادي، قال: ثنا خالد بن نزار الأيلي، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن السبعة: سعيد ابن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمَّد، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وخارجة بن زيد، وعبيد الله بن عبد الله، وسليمان بن يسار -في مشيخة سواهم أهل فقه وصلاح وفضل- وربما اختلفوا في الشيء فَأُخِذَ بقول أكبرهم وأفضلهم رأيًا، فكان مما وعيت عنهم على هذه الصفة أن الوتر ثلاث لا يُسَلَّم إلا في آخرهن.

فهذا من ذكرنا من فقهاء المدينة وعلمائهم قد أجمعوا أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا

ص: 117

في آخرهن، وتابعهم على ذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك منكر سواهم، وقد علم سعيد بن المسيب ما كان من وتر سعد فأفتى بغيره ورآه أولى منه، وقد أفتى عروة بن الزبير كذلك أيضًا، وقد روى عنه الزهري وابنه هشام في الوتر ما قد تقدمت روايتنا له في هذا الباب.

فهذا عندنا مما لا يبغي خلافه؛ لِمَا قد شهد له من حديث رسول الله عليه السلام ومن فعل أصحابه ومن أقوال أكثرهم من بعده ثم لِمَا اتفق عليه تابعوهم.

ش: أشار بهذا إلى بيان إجماع فقهاء المدينة الذين هم أهل فقه وصلاح وفضل ولا سيما الفقهاء السبعة المشهورون بالفضل التام، والعلم الغزير والدين المتين على أن الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، ثم إن مثل عمر بن عبد العزيز الذي هو من الخلفاء الراشدين الذين كانوا بالحق يعدلون قد تابعهم في ذلك وكفي به حجة في الدين، فإن قوله وفعله حجة بلا خلاف، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أرى قول أحد من التابعين حجة [....](1) عمر بن عبد العزيز، ولم ينكر ذلك منهم منكر ولا مِن سواهم، فصار إجماعًا على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن.

وعن هذا قال الحسن البصري: "أجمع المسلمون على أن الوتر ثلاث لا يسلم إلا في آخرهن".

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن حفص، عن عمرو، عنه.

فإذا كان الأمر كذلك لا ينبغي لأحد خلاف هذا، وقد شهد له من حديث رسول الله عليه السلام ثم من فعل الصحابة من بعده كأبي بكر وعمر وعلي وأنس وعبد الله ابن مسعود وآخرين، ثم من اتفاق التابعين عليه، ثم من أتباع التابعين.

(1) كلمة غير واضحة في "الأصل" وليست في "ك".

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6834).

ص: 118

وقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق قال:"كان أصحاب علي وأصحاب عبد الله لا يسلِّمون في ركعتي الوتر".

ثم إسناد ما رواه الربيع صحيح. وهو الربيع بن سليمان المؤذن يروي عن عبد الله ابن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عن أبيه أبي الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي، وعبد الرحمن وإن تكلم فيه قوم فهو ثقة عند آخرين، وبيَّن الفقهاء السبعة بما رواه عن أبي العوام، عن خالد بن نزار الأيلي المنسوب إلى، مدينة أيلا، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن السبعة، وهم: سعيد بن المسيب، وعروة ابن الزبير بن العوام، والقاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني، وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام.

قوله: "عن السبعة" أي الفقهاء السبعة.

قوله: "سعيدِ بن المسيب" بالجر بدل عن قوله: "عن السبعة"، أو عطف بيان وما بعده عطف عليه، ويجوز بالرفع على تقدير: وَهُمْ سعيدُ بن المسيب وعروة

إلى آخره.

قوله: "في مشيخة سواهم" أي سوى هؤلاء السبعة، وهم مثل علقمة، وجابر ابن زيد، وسعيد بن جبير، ومكحول، وحماد وإبراهيم النخعي.

وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا أبو بكر بن عياش، عن طلق، عن معاوية، عن علقمة قال:"الوتر ثلاث".

ثنا أبو أسامة (3)، عن عثمان بن غياث، قال: سمعت جابر بن زيد يقول: "الوتر ثلاث".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 91 رقم 6841).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6830).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6829).

ص: 119

ثنا زيد بن الحبُاب (1)، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير:"أنه كان يوتر بثلاث، ويقنت في الوتر قبل الركوع".

ثنا وكيع (2)، عن هشام بن الغاز، عن مكحول:"أنه كان يوتر بثلاث ويقنت في الوتر قبل الركوع".

ثنا وكيع (3)، عن مسعر، عن حماد قال:"نهاني إبراهيم أن أسلِّم في الركعتين من الوتر".

و"المشيخة": بفتح الميم جمع شيخ، قال الجوهري: جمع الشيخ: أشياخ وشيوخ وشِيَخَة وشِيخَان ومَشْيَخَة ومَشَايخ ومَشْيُوخَاء.

والشيخ في اللغة يطلق على من استبانت فيه السنّ، ويقال: من عدى خمسين سنةً يسمى شيخًا إلى ثمانين سنة، ثم يصير رهمًّا، ولكن المراد ها هنا من الشيخ: مَنْ تقدم في العلم وإن لم يبلغ حد الشيخوخة في السنن، ويقال: الشيخ مَنْ يصلح أن يُتلمذُ له.

قوله: "أهلِ فقة" بالجر صفة للجماعة المذكورين.

قوله: "مما وعيت عنهم" أي مما حفظت وفهمت عن هؤلاء الفقهاء.

قوله: "وتابعهم على ذلك" أي تابع الفقهاء المذكورين على أن الوتر ثلاث: عمر ابن عبد العزيز - رضى الله عنه - وهو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي أمير المؤمنين، بويع له بالخلافة بعد ابن عمه (4) وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل: سنتان ونصف.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6835).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6836).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 90 رقم 6838).

(4)

طمس "بالأصل" بمقدار سطرين، وغير موجود في "ك".

ص: 120

وقوله: "وقد علم سعيد بن المسيب

" إلى آخره إشارة إلى ما كان يفعله سعد ابن أبي وقاص من إيتاره بركعة من رأيه واجتهاده؛ فلأجل ذلك أفتى سعيد بن المسيب بخلافه ورأى أن ما ذهب إليه غيره من أن الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة في آخره أولى مما ذهب إليه هو.

وكذلك أفتى عروة بن الزبير بن العوام بخلاف ما ذهب إليه سعد بن أبي وقاص، والحال أنهما كانا يعلمان ما ذهب إليه سعد، ولو لم يكن ما عندهما مما أفتيا به أولى مما ذهب إليه سعد لما تركاه ولما اختارا غير ما ذهب إليه سعد، ولو كان ما فعله سعد عن أصل يرجع إليه لما جاز لسعيد بن المسيب ولا لعروة أن يخالفانه؛ على ما لا يخفى.

ص: 121