الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: صلاة الخوف كيف هي
؟
ش: أي هذا باب في بيان كيفية صلاة الخوف، ولما فرغ عن بيان أنواع الصلوات التي تقع في حالة الأمن؛ شرع يبين الصلاة التي تقع في حالة الخوف، فالمناسبة بين هذا الباب وبين الأبواب التي قبله تكون من جهة التضاد، فافهم.
ص: حدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا عاصم بن علي وخلف بن هشام، قالا: ثنا أبو عوانة (ح).
وحدثنا صالح، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا أبو عوانة، عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"فرض الله على لسان نبيكم أربعًا في الحضر، وركعتين في السفر، وركعة في الخوف".
ش: هذه أربعة أسانيد:
الأول: صحيح على شرط مسلم، عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي شيخ البخاري، وعن خلف بن هشام بن ثعلب البزار البغدادي شيخ مسلم كلاهما، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري، عن بُكير بن الأخنس السَّدُوسي الكوفي، عن مجاهد بن جبر المكي، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم (1): ثنا يحيى وسعيد بن منصور وأبو الربيع وقتيبة بن سعيد -قال يحيى: أنا. وقال الآخرون: ثنا- أبو عوانة، عن بُكَير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"فرض الله الصلاة على لسان نبيكم، في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي إسحاق الضرير إبراهيم بن زكرياء العجلي البصري، ضعفه خلق كثير؛ فقال أبو حاتم الرازي: مجهول، والحديث
(1)"صحيح مسلم"(1/ 479 رقم 687).
الذي رواه منكر. وقال الترمذي: كأن حديثه موضوع لا يشبه حديث الناس. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن عدي: حدث عن الثقات بالبواطيل.
وهو أيضًا يروي عن أبي عوانة
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وجبارة بن المغلس، قالا: ثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"افترض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة".
الثالث: عن عبد العزيز بن معاوية بن عبد العزيز العتَّابي أبي خالد البصري، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني ختن أبي عوانة، عن أبي عوانة
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (2): أنا يعقوب بن ماهان، قال: نا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة".
الرابع: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور شيخ أبي داود ومسلم، عن أبي عوانة
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (3): نا مسدد وسعيد بن منصور، قالا: ثنا أبو عوانة
…
إلى آخره نحوه.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث فقلَّدوه وجعلوه أصلًا، فجعلوا صلاة الخوف ركعةً واحدةً.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء، وطاوسًا والحسن ومجاهدًا والحكم بن عُتَيبْة
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 339 رقم 1068).
(2)
"المجتبى"(3/ 119 رقم 1442).
(3)
"سنن أبي داود"(1/ 400 رقم 1247).
وقتادة وإسحاق والضحاك؛ فإنهم قالوا: صلاة الخوف ركعة واحدة. واحتجوا بالحديث المذكور، وقال ابن قدامة: والذي قال منهم: ركعة إنما جعلها عند شدة القتال.
وروي مثله عن زيد بن ثابت، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر، قال جابر:"إنما القصر ركعة عند القتال".
وقال إسحاق "يجزئك عند الشدة ركعة تومئ إيماءً، فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة؛ لأنها ذكر الله تعالى".
وعن الضحاك أنه قال: "ركعة، فإن لم تقدر كبَّر تكبيرة حيث كان وجهه".
وقال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: ابن عمر والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة.
ثم قال: والذين روينا عنهم صلاة النبي عليه السلام أكثرهم لم ينقصوا عن ركعتين، وابن عباس رضي الله عنهما لم يكن ممن يحضر النبي عليه السلام في غزواته، ولا نعلم ذلك إلا بالرواية عن غيره، فالأخذ برواية من حضر الصلاة وصلاها مع النبي عليه السلام أولى.
وقال ابن حزم في "المحلّى": مَنْ حضره خوف من عدو ظالم، أو كافر، أو باغي من المسلمين، أو من سَيْل، أو من نار، أو من حَنش، أو سبع، أو غير ذلك، وهم في ثلاثة فصاعدًا، فأميرهم مُخيَّر بين أربعة عشر وجهًا كلها قد صح عن رسول الله عليه السلام وسواء ها هنا الخائف من طالب بحق أو بغير حق.
ثم قال: وروينا عن أبي هريرة أنه صلى بمن معه صلاة الخوف، فصلاها بكل طائفة ركعة، إلا أنه لم يقض ولا أمر بالقضاء.
وعن ابن عباس: "يومئ بركعةٍ عند القتال".
وعن الحسن: "أن أبا موسى الأشعري صلى في الخوف ركعة".
وعن معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه قال:"إذا كانت المسايفة فإنما هي ركعة يومئ إيماءً حيث كان وجهه، راكبًا كان أو ماشيًا".
وعن سفيان الثوري، عن موسى بن عبيد، عن الحسن قال في صلاة المطاردة:"ركعة".
وعن سفيان الثوري: حدثني سالم بن عجلان الأفطس: سمعت سعيد بن جبير يقول: "كيف تكون قصرًا وهم يُصلُّون ركعتين؟! وإنما هو ركعة ركعة يومئ بها حيث كان وجهه".
وعن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة قال:"سألت الحكم بن عُتَيْبة وحماد بن أبي سليمان، وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة حيث كان وجهه".
وعن وكيع، عن شعبة، عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم مثل قول الحكم وحماد وقتادة.
وعن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن مجاهد:"في قول الله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1) قال: في الغزو يصلي راكبًا وراجلًا، يومئ حيث كان وجهه، والركعة الواحدة تجزئه". وبه يقول سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه.
ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك أن الله عز وجل قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (2) ففرض الله عز وجل صلاة الخوف ونصَّ فرضها في كتابه هكذا، وجعل صلاة الطائفة بعد تمام الركعة الأولى مع الأمام، فثبت بهذا أن الإِمام يصلِّيها في حال الخوف ركعتين، وهذا خلاف هذا الحديث، ولا يجوز أن يؤخذ بحديثٍ يدفعه نَصُّ الكِتَاب.
ش: أي: فكان من الحجة والبرهان على القوم المذكورين الذين جعلوا صلاة الخوف ركعة واحدة: أن الله تعالى قال في كتابه الكريم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (2) الآية. فهذه الآية تدل على أن الإِمام يصلي صلاة الخوف ركعتين؛ لأن معنى قوله:
(1) سورة البقرة، آية:[239].
(2)
سورة النساء، آية:[102].
{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (1) اجعلهم طائفتين فلتقم إحداهما معك فصلِّ بهم ركعةً، فإذا سجدوا -يعني الطائفة الذين معك، والسجود على ظاهره عند أبي حنيفة- فليكونوا من ورائكم يحرسونكم، ولتأت طائفة أخرى -وهم الذين كانوا تجاه العدو- فليصلوا معلى ركعةً، فتكون صلاة الإِمام ركعتين.
وقال أبو بكر الرازي: وفي الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم، وذلك موافق لقولنا، فإذا كانوا كذلك لم يكملوا صلاتهم إلا بعد صلاة الطائفة الثانية الركعة الثانية، وإليه أشار الطحاوي بقوله:"وجعل صلاة الطائفة" أراد به الطائفة الأولى بعد تمام الركعة الأولى مع الإِمام، وعلى مذهب مالك لا يكونون من ورائهم إلا بعد تمام صلاتهم؛ لأنه فسّر السجود بالصلاة، فعلى مذهبه يقضون لأنفسهم بعد صلاتهم مع الإمام ركعةً، ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء.
فإذا ثبت بالتقرير المذكور أن الإمام يصليها في حالة الخوف ركعتين؛ لا يجوز أن يترك ذلك بحديث يخالف النص؛ لأن العمل به نسخ للكتاب بخبر الواحد، وذا لا يجوز، وقد يُقال: إن قوله: "وركعةً في الخوف" محمول على أنه مع الإمام حتى لا يكون مخالفًا لغيره من الأحاديث الصحيحة.
ص: ثم قد عارضه عن ابن عباس غيره:
حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قبيصة بن عقبة، قال: ثنا سفيان، عن أبي بكر بن أبي الجهْم، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:"صلى رسول الله عليه السلام بذي قَرْد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصفَّ صفًّا خلفه وصفًّا موازي العدو، فصلى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، فصلى بهم ركعةً، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله عليه السلام ركعتان ولكل طائفة ركعة".
(1) سورة النساء، آية:[102].
فهذا عبيد الله بن عبد الله قد روى عن ابن عباس ما يخالف ما روى مجاهد عنه، ومحال أن يكون الفرض على الإمام ركعةً فيَصِلُها بأخرى بلا قعود ولا تشهد ولا تسليم.
فلما تضادّ الخبران عن ابن عباس؛ تنافيا، ولم يكن لأحد أن يحتج في ذلك بمجاهد عن ابن عباس؛ لأن خصمه يحتج عليه بُعبَيد الله، عن ابن عباس بخلاف ذلك.
ش: هذا إشارة إلى حجة أخرى على القوم المذكورين، بيانها أن يُقال: إن ما رَوَيْتم عن مجاهد، عن ابن عباس من أن صلاة الخوف ركعة؛ يُعارِضُه ما رواه عبيد الله، عن ابن عباس أيضًا؛ لأنه صرَّح في روايته هذه بأن صلاة الخوف ركعتان، فحينئذٍ تضادّ خبرا ابن عباس وتنافيا؛ فلم يبق لهم أن يحتجوا في ذلك بخبر مجاهد عن ابن عباس؛ لأنهم متى احتجوا به يحتج عليهم خصمهم بخبر عبيد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
أخرجه بإسناد صحيح عن علي بن شيبة بن الصلت السَّدُوسي، عن قبيصة بن عقبة السوائي أبي عامر الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن أبي بكر بن أبي الجهم -واسم أبي الجهم صخر، ويقال: عُبيد- بن حذيفة القرشي العدوي، روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
عن عبيد الله بن عبد الله -بتصغير الابن وتكبير الأب- بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة.
عن عبد الله بن عباس.
وأخرجه النسائي (1): أنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: حدثني أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: "أن رسول الله عليه السلام صلّى بذي قرَدٍ، فصفّ الناس خلفه صَفّين، صفًّا خلفه، وصفًّا
(1)"المجتبى"(3/ 169 رقم 1533).
موازي العدوّ، فصلى بالذين خلفه ركعةً، ثم انصرف هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعةً ولم يقْضوا".
قوله: "بذي قَرَد" بفتح القاف والراء، وبالدال المهملة، هو موضع على ليلتين من المدينة على طريق خيبر، ويقال لغزوة ذي القَرَد: غزوة الغابة أيضًا، وكانت في سنة ست من الهجرة، وقال ابن هشام: واستعمل رسول الله عليه السلام على المدينة ابن أم مكتوم.
وذكر ابن سعد أنها كانت في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، وكانت لرسول الله عليه السلام عشرون لقحة ترْعي بالغابة، فأغار عليها عُيَيْنة في ليلة الأربعاء في أربعين فارسًا، فاستاقوها، وكان أبو ذر فيها، وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصريخ فنادى: الفزع الفزع، فنودي: يا خيل الله اركبي، وكان أول ما نودي بها، فركب رسول الله عليه السلام فخرج غداة الأربعاء في الحديد مقنعًا، فوقف، وكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو وعليه الدرع والمغفر شاهرًا سيفه، فعقد له رسول الله عليه السلام لواءً في رمحه، وقال:"امض حتى تلحقك الخيل"، وخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يَحْرسون المدينة، فلم تزل الخيل تأتي والرجال على أقدامهم وعلى الإبل حتى انتهوا إلى رسول الله عليه السلام بذي قَرَد، فاستنقذوا عَشْر لقاحِ، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر، وصلى رسول الله عليه السلام بذي قَرَد صلاة الخوَف، وأقام بها يومًا وليلة يتحسَّسُ الخبر، وقسم في كل مائة من أصحابة جزورًا ينحرونها، وكانوا خمسمائة -ويقال: سبعمائة- ثم رجع رسول الله عليه السلام إلى المدينة يوم الاثنين وقد غاب خمس ليالٍ.
قوله: "مَصافّ هؤلاء" بفتح الميم وتشديد الفاء، جمع مَصَفّ وهو موضع الحرب الذي تكون فيه الصفوف، وأما المُصاف -بضم الميم- فهو بمعنى المُقابِل، يقال: مُصَافّ العدو، أي مقابلهم.
ثم هذا النوع من صلاة الخوف ذهب إليه ابن أبي ليلى؛ فإنه قال: إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين، فيكبّر ويكبّرون، فيركع ويركعون
جميعًا معه، ويسجد الإِمام والصفُّ الأول، ويقوم الصف الآخر في وجه العدو، فإذا قاموا من السجود سجد الصف المؤخر، فإذا فرغوا من سجودهم فقاموا تقدم الصف الآخر وتأخر الصف المقدم، فيصلي بهم الإِمام الركعة الأخرى كذلك.
ثم اعلم أن صلاة الخوف على أنواع شتّى.
فقال الخطابي: وقد صلَاّها رسول الله عليه السلام في أيام مختلفة، وعلى أشكال متباينة يتَوخّى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة، وهي على اختلاف صورها مؤتلفة في المعاني.
وقال ابن القصَّار المالكي: إن النبي عليه السلام صلاهَّا في عشرة مواطن، وذكر مسلم أربعة أحاديث كل حديث يدل على صورة، وذكر أبو داود ثمان صور، وذكر غيره صُورًا أخرج يبلغ مجموعها ستة عشر وجهًا.
وقال في الإِمام: اختلفت الأحاديث في هيئة صلاة الخوف، فذكر ابن عمر رضي الله عنهما هيئةً، وروى صالح بن خوَّات هيئة أخرى، وروى جابر هيئةً أخرى، وأحسن ما بنيت عليه هذه الأحاديث أن تحمل على اختلاف أحوال أدَّي الاجتهاد في كل حالة إلى أن إيقاع الصلاة على تلك الهيئة أحصن وأكثر تحرزًا وأمنًا من العدو، ولو وقعت على هيئةٍ أخرى لكان فيها تفريط وإضاعة للحزم.
وقال عياض: واختلف فقهاء الأمصار في المختلف من الهيئات الواردة في الإيماء، فأخذ مالك برواية صالح بن خوَّات التي رواها عنه في "موطإه".
وأخذ الشافعي وأشهب من أصحاب مالك برواية ابن عمر، وأخذ أبو حنيفة برواية جابر، ولا معنى للأخذ بها إلا إذا كان العدو في القبلة، وذهب إسحاق بن راهويه إلى أن الإمام يصلي ركعتين وتصلي كل طائفة ركعة لا أكثر، واحتج بما رواه الطحاوي عن ابن عباس في أول الباب.
وأخرج مسلم (1) في بعض طرقه عن جابر رضي الله عنه: "أن النبي عليه السلام صلى أربع ركعات، بكل طائفة ركعتين" فكانت للنبي عليه السلام أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان، وهو اختيار الحسن، وذُكِرَ عن الشافعي أيضًا.
وفيها صورة أخرى رواها ابن مسعود وأبو هريرة، وأخرى رواها أبو داود في حديث ابن مسعود أيضًا، وأخرى رواها أيضًا في رواية أبي هريرة، وأخرى رويت عن عائشة رضي الله عنها، وأخرى جاءت في حديث ابن أبي حثمة من رواية صالح بن خوَّات، وأخرى رويت عن القاسم في حديث ابن أبي حثمة، وأخرى رواها أبو داود من حديث حذيفة وأبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم، وسيأتي ذلك مفصَّلًا مشروحًا.
ص: فإن قالوا: فقد رُوي عن غير ابن عباس ما يُوافِقُ ما قلنا، وذكروا ما حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن الرُّكَيْن بن الربيع، عن القاسم بن حسان قال:"أتيت ابن وَدِيعة فسألته عن صلاة الخوف، فقال: ائت زيد بن ثابت فسله، فأتيته فسألته، فقال: صلى النبي عليه السلام صلاة الخوف في بعض أيامه فصفَّ صفًّا خلفه، وصفًّا موازي العدوّ، فصلَّى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مَصَافّ هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مَصَافّ هؤلاء، فصلى بهم ركعةً ثم سَلّم عليهم".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مُؤَمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان، ثم ذكر مثله بإسناده، وقال عبد الله بن وديعة: وزاد: "فكانت لرسول الله عليه السلام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة".
حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قبَيصة (ح).
وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مُؤَملٌ، قالا: ثنا سفيان، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم الحنظلي قال: "كنا مع سعيد ابن العاص بطبرستان، فقال: أيكم شهد صلاة الخوف مع النبي عليه السلام؟ فقام حذيفة فقال: أنا
…
" ثم قال مثل ما ذكر زيد سواء.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 576 رقم 843).
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا عطيّة بن الحارث، قال: حدثني مُخْمَل بن دماثٍ قال: "غزوت مع سعيد بن العاص فسأل الناس: من شهد منكم صلاة الخوف مع النبي عليه السلام؟
…
" ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المَسْعُودي، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله عليه السلام مُقَابلَ العَدُو
…
" ثم ذكر مثله.
حدثنا أبو حازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: حدثني أبو حفص الفلاس، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة:"أن النبي عليه السلام صلَّى باصحابه صلاة الخوف" فذكر مثله.
ش: أي: فإن قال أولئك القوم المذكورون، هذه معارضة منهم، بيانها أن يقال: إنكم قد ذكرتم ما يعارض احتججنا به من حديث ابن عباس وأسقطتم احتجاجنا به، وها نحن قد وجدنا عن غير ابن عباس من الصحابة قد روى عن النبي عليه السلام أنه صلى صلاة الخوف ركعةَّ واحدةً نحو ما ذهبنا إليه. فذكروا في ذلك أحاديث زيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وجابر بن عبد الله وسهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم، فإنهم رووا عن النبي عليه السلام ما يوافق ما قلنا.
أما حديث زيد بن ثابت فأخرجه من طريقين صحيحين:
الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن الرُّكين -بضم الراء- بن الرَّبيع -بفتح الراء- بن عُمَيلة -بضم العين- الفزاري أبي الربيع الكوفي، روى له الجماعة، البخاري في كتاب "الأدب".
عن القاسم بن حسان العامري، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي.
عن عبد الله بن وديعة بن جذام الأنصاري المدني روى له البخاري وابن ماجه.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث سفيان، عن الركين، عن القاسم بن حسان قال: "أتيت فلان بن وديعة، فسألته عن صلاة الخوف فقال: أثبت زيد بن ثابت
…
" إلى آخره نحوه.
ثم قال البيهقي: أراد بقوله: "ذهب هؤلاء وجاء أولئك" في تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم.
الثاني: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان
…
إلى آخره. وزاد عبد الله بن وديعة في هذه الرواية: "فكانت" أي الصلاة "لرسول الله عليه السلام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة".
وأخرجه الطبراني في "الكبير (2): ثنا إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري، عن عبد الرزاق، عن الثوري، عن الرُّكين بن الرَّبيع بن عُمَيلة الفزاري، عن القاسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: "سألته عن صلاة الخوف فقال: قام رسول الله عليه السلام فصلى بهم، فقام صفّ خلفه، وصفّ موازي العدو، فصل بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وجاء هؤلاء فصلى بهم ركعةً ثم انصرف".
وأما حديث حديفة بن اليمان رضي الله عنه فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن أشعث بن أبي الشعثاء سليم بن أسود المحاربي الكوفي، عن الأسود بن هلال المحاربي أبي سلام الكوفي، عن ثعلبة بن زهدم التميمي الحنظلي الصحابي
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني أشعث بن سليم، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم قال: "كنا مع
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 262 رقم 5846).
(2)
"معجم الطبراني الكبير"(5/ 153 رقم 4919).
(3)
"المجتبى"(3/ 168 رقم 1530).
سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلَّى مع رسول الله عليه السلام صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فقام حذيفة وصفّ الناس خلفه صفين، صفًّا خلفه وصفًّا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعةً ولم يَقْضوا".
وأخرج أيضًا (1): عن إسحاق بن إبراهيم، عن وكيع، عن سفيان، عن الأشعث بن أبي الشعثاء
…
إلى آخره.
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمّل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): ثنا مسدد، نا يحيى، عن سفيان، حدثني الأشعث بن سُلَيم، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زَهْدم قال:"كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله عليه السلام صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعةً وبهؤلاء ركعةً ولم يقضوا".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عفان بن مسلم الصفار شيخ البخاري وأحمد، عن عبد الواحد بن زياد العبدي البصري، عن عطية بن الحارث الهمداني الكوفي، عن مُخْمل -بضم الميم وسكون الخاء المعجمة- بن دَمَاث -بفتح الدال المهملة وتخفيف الميم وفي آخره ثاء مثلثة- الكوفي وثقه ابن حبان، قال: "غزوت مع سعيد بن العاص
…
" إلى آخره.
وهو سعيد بن العاص بن أحيحة القرشي الأموي أبو عبد الرحمن المدني، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان رضي الله عنه، استعمله عثمان على الكوفة، وغزا طَبَرِسْتان فافتتحها -وهي بفتح الطاء والباء الموحدة والراء وسكون السين المهملة وبالتاء المثناة من فوق وبعد الألف نون- وهي بلاد كثيرة المياه والأشجار
(1)"المجتبى"(3/ 167 رقم 1529).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 16 رقم 1246).
والغالب عليها الجبال وأبنيتها بالخشب والقصب، وهي بلاد كثيرة الأمطار، ويرتفع منها أبرسم يعم الآفاق، وغالب خبزهم الأرز، وهي شرقي كبلان؛ وانما سميت بذلك لأن طَبَر بالفارسية الفأس، وأستان الناحية، ومن كثرة اشتباك أشجارها لا يَسْلك فيها الجيش إلا بعد أن تقطع الأشجار من بين أيديهم بالطبر، فسميت لذلك طبرستان أي: ناحية الطبر، ومن بلادها: رُويان خرج منها جماعة من أهل العلم، وناتل، والأرجان، وويمَه، وآمُل وهي أكبر مدينة بطبرستان ومنها أبو جعفر محمَّد بن جرير الطبري، وما مَطير خرج منها جماعة من أهل العلم.
وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه بإسناد صحيح عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، عن يزيد بن صهيب الفقير أبي عثمان الكوفي روى له الجماعة غير الترمذي.
وأخرجه النسائي (1): أنا أحمد بن المقدام، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، قال: أنبأني يزيد الفقير، أنه سمع جابر بن عبد الله قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام فأقيمت الصلاة، فقام رسول الله عليه السلام وقامت خلفه طائفة، وطائفة مواجهة العدو، فصل بالذين خلفه ركعةً وسجد بهم سجدتين، ثم إنهم انطلقوا فقاموا مقام أولئك الذين كانوا في وجه العدو، وجاءت تلك الطائفة فصل رسول الله عليه السلام ركعةً وسجدتين، ثم إن رسول الله عليه السلام سلَّم، فسلَّم الذين خلفه وسلَّم أولئك".
وله رواية أخرى (2): عن يزيد الفقير، عن جابر نحوه، وفي آخره:"فكانت للنبي عليه السلام ركعتان ولهم ركعة".
(1)"المجتبى"(3/ 175 رقم 1546).
(2)
"المجتبى"(3/ 174 رقم 1545).
وأخرجه البخاري (1) ومسلم (2) مطولًا ومختصرًا بوجوه متعددة.
وأما حديث سهل بن أبي حثمة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن أبي حازم عبد الحميد بن عبد العزيز البصري أحد الأئمة الحنفية الكبار، قال ابن الجوزي: ولي لقضاء بالشام والكوفة وبغداد، وكان عالمًا ورعًا ثقة قدوة في العلوم غزير الفضل والدين، ذكره صاحب "الهداية" في كتاب الرهن.
وهو يروي [عن](3) أبي حفص الفلاس الحافظ واسمه عمرو بن علي، وهو باسمه أشهر منه بكنيته، وهو شَيْخ الجماعة، يَرْوي عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم روى له الجماعة، عن أبيه القاسم بن محمَّد روى له الجماعة، عن صالح بن خوَّات -بالخاء المعجمة وبتشديد الواو وفي آخره تاء مثناة من فوق- بن جبير الأنصاري المدني، روى له الجماعة حديث صلاة الخوف.
عن سهل بن أبي حثمة عبد الله الأنصاري الصحابي رضي الله عنه.
والحديث أخرجه الجماعة:
فقال البخاري (4): ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة قال:"يقوم الإِمام مستقبل القبلة وطائفة منهم معه، وطائفة من قِبَل العدو ووجوههم إلى العدو، فيُصلِّي بالذين معه ركعة ثم يقومون فيركعون لأنفسهم ركعة ويسجدون سجدتين في مكانهم، ثم يذهب هؤلاء إلى مقام أولئك، فيجيء أولئك فيركع بهم ركعةً فله ثنتان، ثم يركعون ويسجدون سجدتين".
(1)"صحيح البخاري"(4/ 1515 رقم 3906).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 574 رقم 840).
(3)
ليست في "الأصل".
(4)
"صحيح البخاري"(4/ 1514 رقم 3902).
ثنا مسدد، ثنا يحيى، عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي عليه السلام مثله.
وقال مسلم (1): ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، قال: ثنا أبي، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة:"أن رسول الله عليه السلام صلَّى بأصحابه في الخوف، فصفّهم خلفه صفّين، فصلى بالذين يلونهم ركعةً، ثم قام، فلم يزل قائمًا حتى صلَّى الذين خلفهم ركعةً، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعةً، ثم قعد حتى صلَّى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم".
وقال أبو داود (2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوَّات، أن سهل بن أبي حثمة الأنصاري حدثه:"أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام وطائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإِمام ركعة ويسجد بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم الركعة الباقية، ثم سلَّموا وانصرفوا -والإمام قائم- فكانوا وجاه العدو، ثم يُقبل الآخرون الذين لم يُصلُّوا فيكبروا وراء الإِمام، فيركع بهم، ويسجد بهم، ثم يُسلِّم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون".
وقال الترمذي (3): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن صالح بن خوَّات بن جبير، عن سهل بن أبي حثمة: "أنه كان يقول في صلاة الخوف: يقوم الإِمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قِبَل العدو ووجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة ويركعون لأنفسهم ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم، ثم يذهبون إلى مقام أولئك،
(1)"صحيح مسلم"(1/ 575 رقم 841).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 13 رقم 1239).
(3)
"جامع الترمذي"(2/ 455 رقم 565).
فيركع بهم ركعةً ويسجد بهم سجدتين، فهي له ثنتان ولهم واحدة ثم يركعون ركعةً، ويسجدون سجدتين".
قال محمد بن بشار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي عليه السلام بمثل حديث يحيى بن سعيد الأنصاري.
وقال النسائي (1): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة:"أن رسول الله عليه السلام صلَّى بهم صلاة الخوف، فصفّ صفًّا خلفه وصفًّا مُصافّوا العدو، فصلَّى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلّى بهم ركعةً، ثم قاموا فقضوا ركعةً ركعةً".
وقال ابن ماجه (2): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوَّات، عن سَهْل بن أبي حثمة:"أنه قال في صلاة الخوف قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قِبَل العدو ووجوههم إلى الصف، فيركع بهم ركعة، ويركعون لأنفسهم ويسجدون لأنفسهم سجدتين في مكانهم ثم يذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد بهم سجدتين، فهي له ركعتان ولهم واحدة، ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين".
قال محمد بن بشار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوَّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي عليه السلام بمثل حديث يحيى بن سعيد.
(1)"المجتبى"(3/ 170 رقم 1536).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 399 رقم 1259).
ص: قيل لهم: هذا غير موافق لما روى مجاهد، ولكنه موافق لما روى عبيد الله، عن ابن عباس، وقد تقدّمت حجتنا في أول هذا الباب أن النبي عليه السلام محال أن يكون الفرض عليه في تلك الصلاة ركعة واحدة ثم يَصِلُها بأخرى لا يسلم بينهما، فثبت بما ذكرنا أن فرض صلاة الخوف ركعتان على الأمام، ولم يذكر المأمومين بقضاء ولا غيره في هذه الآثار، فاحتمل أن يكونوا قضوا ولا بد -فيما يوجبه النظر- أن يكونوا قد قضوا ركعةً ركعةً؛ لأنا رأينا الفرض على الإمام في صلاة الأمن والإقامة مثل الفرض على المأموم سواء، وكذلك الفرض عليهما في صلاة الأمن في السفر سواء، ومحال أن يكون المأموم فرضه ركعةً فيدخل مع غيره ممن فرضُه ركعتان إلا وجب عليه مثل ما وجب على إمامه ألا تُرى أن مسافرًا لو دخل في صلاة مقيم صلى أربعًا فكان المأموم يجب عليه ما يجب على إمامه، وقد يكون على المأموم ما ليس على إمامه، من ذلك أنَّا رأينا المقيم يُصلي خلف المسافر بصلاته ثم يقوم بعد ذلك فيقضي تمام صلاة المقيم، فكان المأموم قد يجب عليه ما ليس على إمامه ولا يجب على إمامه ما لا يجب عليه، فلما ثبت بما ذكرنا وجوب الركعتين على الإِمام ثبت أن مثلهما على المأموم.
ش: أي قيل لهؤلاء القوم في جواب ما ذكروا من موافقة أحاديث زيد بن ثابت وحذيفة وجابر بن عبد الله وسهل بن أبي حثمة: هذا غير موافق لما رواه مجاهد، عن عبد الله بن عباس من قوله:"إن صلاة الخوف ركعة واحدة"، ولكنه موافق لما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: "صلى بنا رسول الله عليه السلام بذي قرد صلاة الخوف
…
" الحديث، وأشار بقوله: "وقد تقدمت حجتنا في أول هذا الباب
…
" إلى قوله: "ومحال أن يكون الفرض على الإمام ركعةً فَيصِلُها بأخرى" بلا قعود للتشهد ولا تسليم.
قوله: "إن النبيَّ عليه السلام" بالفتح بدل من قوله: "حُجّتَنَا".
قوله: "ثم يَصِلُها بأخرى" أي يصلُ الركعة الواحدة بركعة أخرى.
قوله: "فثبت" أي: إذا كان كذلك؛ ثبت بما ذكرنا أن فرض صلاة الخوف ركعتان على الإِمام، فإذا كان على الإِمام ركعتين وجب أن يكون على المأموم مثلهما، وذلك بطريق النظر والقياس؛ لأنه لم يذكر المأمومين في هذه الأحاديث بقضاء ولا غيره، ولكن الذي يقتضيه القياس أن يكونوا قد قضوا ركعةً ركعةً، والباقي ظاهر.
ص: وقد روي عن حليفة رضي الله عنه من قوله ما يدل على ما تأوّلنا في حديثه وحديث زيد وجابر وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قضوا ركعةً ركعةً.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْم بن عبدٍ، عن حذيفة قال:"صلاة الخوف ركعتان وأربع سجدات".
قال أبو جعفر رحمه الله: فدلَّ ذلك على أبيهم قد كانوا فعلوا ذلك مع رسول الله عليه السلام في الأحاديث الأول.
ش: أشار بهذا إلى تأييد ما ذكره من التأويل في أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وهو أن الذي يوجبه النظر والقياس: أن يكون المأمومون قد قضوا ركعة ركعة؛ لأن من جملة من روى من هؤلاء الصحابة حذيفة بن اليمان، وقد روي عنه من رأيه ما يدل على تأويل حديثه بالتأويل الذي ذكرناه.
أخرجه بإسناده صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن سُلَيم -بضم السين- بن عبد السلولي الكوفي وثقه ابن حبان، عن حذيفة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سُليم ابن عبدٍ، عن حذيفة قال:"صلاة الخوف ركعتان وأربع سجدات، فإن أعملك العدو حلَّ لك القتال والكلام بين الركعتين" انتهى.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 215 رقم 8288).
فكلامه هذا قد دلَّ على أنهم كانوا يفعلون ذلك مع رسول الله عليه السلام فيما مضى من أحاديث هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم.
ص: ثم اعتبرنا بالآثار هل نجد فيها من ذلك شيئًا؟
فإذا أبو بكرة قد حدثنا، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن أبي موسى:"أن رسول الله عليه السلام عليه السلام صلى بأصحابه صلاة الخوف، فصلى بطائفة منهم ركعة وكانت طائفة بإزاء العدو، فلما صلى بهم ركعة سلم، فنكصوا على أعقابهم حتى انتهوا إلى إخوانهم ثم جاء الآخرون فصلَّى بهم رسول الله عليه السلام ركعة، ثم سلَّم، فقام كل فريق فصلوا ركعةً ركعةً".
قال أبو جعفر رحمه الله: فقد أخبر في هذا الحديث أنهم قضوا، فبيَّن ما وصفنا أنه يحتمل في الآثار الأول، وكان قوله:"ثم سلَّم بعد الركعة الأولى" يحتمل أن يكون سلامًا لا يريد به قطع الصلاة ولكن يريد به إعلام المأمومين موضع الانصراف.
ش: أي ثم اعتبرنا الأحاديث المروية في هذا الباب هل نجد فيها من ذلك شيئًا؟ أي من التأويل الذي ذكرناه الذي أيده قول حذيفة، فإذا أبو بكرة بكار القاضي قد حدث، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي حرة واصل ابن عبد الرحمن البصري روى له مسلم، عن الحسن البصري، عن أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده" مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) موقوفًا، وقال: ثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن:"أن أبا موسى رضي الله عنه صلى بأصحابه بأصبهان، فصلَّت طائفة منهم معه، وطائفة مواجهة العدوّ، فصلى بهم ركعةً، ثم نكصوا وأقبل الآخرون يتخللونهم، فصلى بهم ركعةً، ثم سلَّم، وقامت الطائفتان فصلتَّا ركعةً ركعةً".
قوله: "نكصوا على أعقابهم" أي رجعوا إلى ورائهم، والنكوص: الرجوع إلى وراء، وهو القهقرى، يقال: نكص ينكص من باب نصر ينصر فهو ناكص.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 215 رقم 8290).
قوله: "فبيَّن" أي حديث أي موسى، وقوله:"ما وصفنا" مفعوله، وقوله:"أنه يحتمل" مفعول "وصفنا".
وقوله: "وكان قوله: ثم سلم
…
" إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: كيف تكون صلاة الخوف ركعتين وقد سلم عليه السلام عقيب الركعة الأولى؟ فالسلام فاصل بين الركعتين، فلا تكون إلا ركعة في حق الطائفة الأولى، وركعة أيضًا في حق الطائفة الثانية.
وتقرير الجواب أن يقال: إن سلامه عليه السلام يحتمل أن يكون لم يُردْ به قطع الصلاة، وإنما أراد به أن يعلم المأمومين موضع الانصراف إلى جهة العدو لتأتي الطائفة الذين تجاههم، وهذا التأويل أيضًا يرفع التضاد بين الأحاديث ولتتفق معانيها.
ص: حدثنا على بن شيبة، قال: ثنا قييصة، قال: ثنا سفيان (ح).
وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن خُصَيْفٍ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال:"صلى النبي عليه السلام صلاة الخوف في بعض أيامه، يصفّ صفًّا خلفه وصفًّا مُوَازِينَ العَدوّ وكلُّهم في صلاة، فصلَّى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، فصلَّى بهم ركعةً ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء، وهؤلاء إلى مصافّ هؤلاء فقضوا ركعةً".
وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا بكر بن بكار القيسي، قال: ثنا عبد الملك بن حسين، قال: ثنا خُصَيْفٌ، عن أبي عُبيدة، عن عبد الله رضي الله عنه قال: "صلَّى رسول الله عليه السلام صلاة الخوف في حَرّة بني سُلَيم
…
" ثم ذكر نحوه غير أنه لم يذكر: "وكلهم في صلاة" وزاد: "وكانوا في غير القبلة".
قال أبو جعفر رحمه الله: فقد أخْبَر في هذا الحديث أنهم قضوا ركعةً ركعةً، وأخبر أنهم دخلوا في الصلاة جميعًا، فثبت بما ذكرنا من الآثار أن صلاة الخوف ركعتان، غير أن حديث ابن مسعود ذكر فيه دخولهم في الصلاة معًا، فأردنا أن ننظر: هل عارض هذا الحديث غيره في هذا المعنى؟
فنظرنا في ذلك، فإذا يونس قد حدثنا، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع:"أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإِمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة، وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يُصلوا، فيتقدم الذين لم يصلوا ويتأخر الآخرون فيصلي بهم ركعةً، وينصرف الإمام وقد صلى ركعتين، فتقوم كل طائفة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعةً ركعةً بعد أن أن ينصرف الإمام، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلّوا ركعتين ركعتين. قال نافع: لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن النبي عليه السلام".
فقد أخبر في هذا الحديث أن دخول الثانية في الصلاة بعد أن يصلي الإمام والطائفة الأولى ركعة، والكتاب شاهدٌ بهذا؛ لأن الله عز وجل قال:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} ، فقد ثبت بما وصفنا أن دخول الثانية في الصلاة بعد فراغ الإِمام من الركعة الأول.
وهذا الخبر صحيح الإسناد، وأصله مرفوع وإن كان نافعٌ قد شك فيه في وقت ما حدثه مالكًا، وهكذا روى عنه أصحابه الأكابر.
حدثنا عليُّ بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"صلى النبي عليه السلام صلاة الخوف في بعض أيامه فقامت طائفة منهم معه وطائفة منهم فيما بينه وبين العدو، فصلى بهم ركعةً، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلى بهم ركعة ثم سلم عليهم، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعةً".
حدثنا فهد بن سليمان وأحمد بن مسعود الخياط، قالا: ثنا محمَّد بن كثير، عن الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام بمثل معناه.
وقد رواه أيضًا سالم عن أبيه مرفوعًا.
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو الربيع الزَهْرانيُّ، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب كذلك.
حدثنا أبو محمَّد فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سالم، أن ابن عمر قال: "غزوت مع النبي عليه السلام غَزْوَته قِبلَ نجد فوازَيْنا العدو
…
" ثم ذكر مثله.
ش: أخرج حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من ثلاث طرق؛ لكونه دالًا على أن المأمومين في صلاة الخوف قد قضوا ركعةً ركعةً، وأخبر أيضًا أنهم دخلوا في الصلاة جميعًا، فإذا كان كذلك يثبت به أن صلاة الخوف ركعتان فيصير حجة على من يقول أنها ركعة كما ذكرنا.
ثم الطريق الأول: عن علي بن شيبة بن الصَّلْت، عن قبيصة ابن عقبة السوائي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن خُصَيْف -بضم الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء- ابن عبد الرحمن الجَزَري أبي عون الخزاعي فيه مقال؛ فعن أحمد: ليس بحجة ولا قوي في الحديث. وعنه: ضعيف الحديث. وعنه: ليس بذاك. وعنه شديد الاضطراب في المسند. وعن ابن معين: صالح. وعنه: ثقة. وكذا قال العجلي وأبو زرعة: إنه ثقة. وقال ابن سعد: كان ثقةً. وروى له الأربعة.
وهو يروي عن أبي عُبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود، وقيل: اسمه كنيته، روى له الجماعة، عن أبيه عبد الله بن مسعود.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الرزاق، أنا سفيان، عن خُصَيْف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام فصلى صفًّا خلفه وصفًّا موازي العدو، قال: وهم في صلاة كلهم، قال: فكبر وكبروا جميعًا، فصلى بالصف الذي يليه ركعة وصف موازي العدو. قال: ثم ذهب هؤلاء، وجاء هؤلاء فصلى بهم ركعةً، ثم قام هؤلاء الذين صلى بهم الركعة الثانية فقضوا مكانهم، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء وجاء أولئك فقضوا ركعة".
(1)"مسند أحمد"(1/ 409 رقم 3882).
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان، عن خُصَيْف
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي مطولًا (1)، ثم قال: ورواه الثوري، عن خُصَيْف فقال:"صفٌّ خلفه، وصف موازي العدو، وكل في صلاة".
الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن بكر بن بكار القيسي البصري فيه مقال، فعن ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. ووثقه أبو عاصم النبيل وابن حبان.
وهو يروي عن عبد الملك بن حسين أبي مالك النخعي المعروف بابن ذر، فيه كلام، فعن يحيى: ليس بشيء. وقال الفلاس: ضعيف الحديث منكر الحديث. وقال أبو داود: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. وروى له ابن ماجه، وهو يروي عن خُصَيْف، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله.
وأخرجه أبو داود (2): وليس فيه ذكر حرة بني سليم ولا قوله: "وكانوا في غير القبلة" فقال: ثنا عمران بن ميسرة، نا ابن فُضيل، نا خُصَيْفٌ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال:"صلَّى رسول الله عليه السلام صلاة الخوف، فقاموا صفًّا خلف رسول الله عليه السلام وصفًّ مستقبل العدو، فصلَّى بهم النبي عليه السلام ركعة، ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبل هؤلاء العدو، فصلَّى بهم النبي عليه السلام ركعة، ثم سلَّم، فقام هؤلاء فصلّوا لأنفسهم ركعةً ثم سلّموا، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعةً ثم سلّموا".
وأخرجه أيضًا ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): عن محمَّد بن فضيل، عن خصيف
…
إلى آخره نحوه سواء.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 261 رقم 5840).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 16 رقم 1244).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 214 رقم 8275).
فإن قيل: كيف يذكره الطحاوي في معرض الاستدلال لأهل المقالة الثانية والاحتجاج على أهل المقالة الأولى، وقد رأيت ما قالوا في بعض رواته كما ذكرنا؟! وقد قال البيهقي: هذا مرسل، أبو عبيدة لم يدرك أباه، وخصيف ليس بالقوي وقال الترمذي: أبو عبيدة لم يعرف اسمه ولم يسمع من أبيه شيئًا.
قلت: قال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين، وابن سبع سنين مميز يحتمل السماع والحفظ؛ ولهذا يؤمر الصبي ابن سبع سنين بالصلاة تخلقًا وتأدبًا.
وأما خصيف فقد ذكرنا أن أبا زرعة والعجلي وابن معين وابن سعد وثقوه، وقال النسائي: صالح.
وأما بكر بن بكار فقد ذكرنا أن أبا عاصم وابن حبان وثقاه.
وأما عبد الملك بن حسين وإن كانوا قد ضعفوه فإن حديثه في المتابعات، وحديث الضعيف إذا ذكر مع حديث الثقة لا يُناقش فيه، بل يكون مما يُقوّى به الصحيح ويصحح به الضعيف.
قوله: "في حَرَّة بني سُليم" الحَرَّة -بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء- وهي أرض ذات حجارة سود. وبنو سليم قبيلة من قيس غيلان، وهو سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصيفة بن قيس غيلان.
ثم اعلم أنه لما كان المذكور في طريق حديث ابن مسعود قوله: "وكلهم في صلاة" مما يخدش استدلال أهل المقالة الثانية؛ لأن مذهبهم أن دخول الطائفة الثانية في صلاة الإمام لا يكون إلا بعد أن يصلي الإمام مع الطائفة الأولى ركعة.
أجاب عن هذا بقوله: غير أن حديث ابن مسعود ذكر فيه دخولهم في الصلاة معًا، فأردنا أن ننظر هل عارض هذا الحديث -أي حديث ابن مسعود- غيره في هذا المعنى -أي في دخولهم في الصلاة معًا- فأخرج في ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو يخبر أن دخول الثانية في الصلاة بعد أن يصلي الإمام والطائفة الأول ركعةً، ثم قال:
والكتاب شاهد بهذا؛ وذلك لأن الله تعالى قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وهو يدل على شيئين:
الأول: أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل: طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة؛ لأنه قال:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} (1).
والثاني: قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) نفى كل جزء من الصلاة، فظهر أن الآية دلت على أنهم لا يكونون جميعًا مع الإمام، وثبت أن دخول الطائفة الثانية في الصلاة بعد فراغ الإمام من الركعة الأولى، فهذا كله موافق لمذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ومخالف لمذهب الخصم؛ لأن منهم من يقول: يفتتح جميعٌ الصلاةَ مع الإمام، وهذا خلاف الآية الكريم.
ولما عارض هؤلاء بقولهم: إن خبر ابن عمر موقوف وخبر ابن مسعود مرفوع فكيف يعارضه؟ أجاب عنه بقوله: "وهذا الخبر" أي خبر ابن عمر "صحيح الإسناد وأصله مرفوع"، وقد دل عليه أن أكابر أصحاب نافع مولى ابن عمر مثل موسى بن عقبة وأيوب بن موسى ومجاهد وآخرين رووه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا وكذا قال مالك: قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي عليه السلام.
ثم بيّن ذلك بخمس طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه مالك في "موطإه"(2).
الثاني: عن علي بن شيبة، عن قبيصة بن عقبة، عن سفيان الثوري، عن موسى ابن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر.
(1) سورة النساء، آية:[102].
(2)
"موطأ مالك"(1/ 184 رقم 442).
وأخرجه النسائي (1): أنا عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى، قال: ثنا يحيى ابن آدم، عن سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال:"صلى رسول الله عليه السلام صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلَّى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلَّى ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعةً ركعةً".
وأخرجه مسلم (2) والدارقطني (3) أيضًا نحوه.
الثالث: عن فهد بن سليمان وأحمد بن مسعود الخياط، كلاهما عن محمَّد بن كثير، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص القرشي الأموي المكي روى له الجماعة، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(4): نا أبو المغيرة، نا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام صلَّى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعةً وسجدتين -والطائفة الأخرى مواجهة للعدو- ثم انصرفت الطائفة التي مع النبي عليه السلام وأقبلت الطائفة الأخرى فصلى بها رسول الله عليه السلام ركعةً وسجدتين، ثم سلَّم النبي عليه السلام، ثم قام كل رجل من الطائفتين فركع لنفسه ركعة وسجدتين".
وهذان الطريقان بيان قوله: "وهكذا روى عنه أصحابه الأكابر" أي أصحاب نافع كما ذكرنا، ثم أكَّد كلامه ذلك بما رواه أيضًا غير نافع عن ابن عمر مرفوعًا وهو قوله:"وقد رواه أيضًا سالم عن أبيه مرفوعًا" أي قد روى الحديث المذكور أيضًا سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عبد الله بن عمر.
(1)"المجتبى"(3/ 173 رقم 1542).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 574 رقم 839).
(3)
"سنن الدارقطني"(2/ 59 رقم 7).
(4)
"مسند أحمد"(2/ 150 رقم 6377).
وقد أخرج عنه من طريقين صحيحين:
أحدهما: وهو الطريق الرابع مما ذكرنا، عن يزيد بن سنان، عن أبي الربيع الزَهْراني -واسمه سليمان بن داود الأزدي، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود- عن فليح بن سليمان، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه.
وأخرجه مسلم (1): ثنا عبد بن حميد، قال: أنا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال:"صلى رسول الله عليه السلام صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي عليه السلام ركعةً، ثم سلَّم النبي عليه السلام ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة".
وحدثنيه (2) أبو الربيع الزهراني، قال: نا فليح، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه:"أنه كان يحدث عن صلاة رسول الله عليه السلام في الخوف ويقول: صليتها مع رسول الله عليه السلام" بهذا المعنى.
والثاني: هو الطريق الخامس مما ذكرنا، عن فهد بن سليمان عن أبي اليمان الحكم ابن نافع شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار أبي بشر الحمصي روى له الجماعة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر.
وأخرجه البخاري (2): ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب عن الزهري قال: "سألته: هل صلى النبي عليه السلام يعني صلاة الخوف؟ قال: أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر قال: غزوت مع رسول الله عليه السلام قِبَل نجد فوازينا العَدُوّ، فصاففْنا لهم، فقام رسول الله عليه السلام يُصلِّي لنا، فقامت طائفة معه تصلي، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله عليه السلام بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تُصَلّ، فجاءوا فركع رسول الله عليه السلام بهم ركعةً وسجد سجدتن ثم سلَّم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعةً وسجد سجدتين".
(1)"صحيح مسلم"(1/ 574 رقم 839).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 319 رقم 900).
وأخرجه أبو داود (1): عن مسدد، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن سالم.
وأخرجه الترمذي (2): عن محمَّد بن عبد الملك، عن يزيد بن زريع
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): عن إسماعيل بن مسعود، عن يزيد بن زريع
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "غزوتَه" بالنصب على المصدرية.
قوله: "قِبَل نجدد" بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، أي جهة نجد، وهي من بلاد العرب، وهو خلاف الغور، والغور هو تهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد. قال الجوهري: وهو مذكر. وأنشد ثعلب:
ذراني من نجدٍ فإن سنينه
…
لعبن بنا شِيبًا وشيَّبنَنا مُرْدا
قوله: "فوازينا" من الموازاة وهي المقابلة، وأصله من آزى، يقال: آزيته إذا حاذيته، قال الجوهري: ولا تقل: وازيته. والذي في الحديث يرده.
قال ابن الأثير: الإزاء: المحاذاة والمقابلة، ومنه حديث صلاة الخوف:"فوازينا العدو" أي قابلناهم، وأنكر الجوهري أن يقال: وازينا.
ثم اعلم أن أباحنيفة ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير الطبري وبعض أصحاب الشافعي احتجوا بهذه الأحاديث على أن صلاة الخوف تصل بأن يجعل الإِمام الناس طائفتن، طائفة بإزاء العدو، ويفتتح الصلاة بطائفة فيصلى بهم ركعة إن كان مسافرًا أو كانت الصلاة صلاة الفجر وركعتين إن كان مقيمًا والصلاة من ذوات الأربع، وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية
(1)"سنن أبي داود"(2/ 15 رقم 1243).
(2)
"جامع الترمذي"(2/ 453 رقم 564).
(3)
"المجتبى"(3/ 171 رقم 1538).
فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، وتعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة، ورويت هذه الصورة عن سفيان الثوري أيضًا.
وقال أبو بكر الجصاص رحمه الله: أشد الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد؛ وذلك لأنه تعالى قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (1)، وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو، وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو؛ لأنها تحرس هذه المصلية، وقد عُقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعًا مع الإِمام؛ لأنهم لو كانوا مع الإِمام لما كانت طائفة منهم قائمةً مع النبي عليه السلام، بل يكونون جميعًا معه وذلك خلاف الآية، ثم قال: وقولنا موافق السنة الثابتة من النبي عليه السلام والأصول؛ وذلك لأن النبي عليه السلام قال (2): "إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا"، وقال (3):"إني امرؤ قد بدَّنتُ، فلا تبادروني بالركوع ولا السجود".
ومن مذهب المخالف: أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإِمام، وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإِمام لا يجوز الخروج منها قبله، وأيضًا جائز أن يلحق الإِمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يكون للخارجين من صلاته قبل فراغه إن سجدوا، ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فتحصل، مخالفة الإِمام في النفل وترك الإِمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الاقتداء والائتمام، ومنع الإِمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم، وهذان وجهان أيضًا خارجان من الأصول.
(1) سورة النساء، آية:[102].
(2)
متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه، والبخاري (1/ 149 رقم 371)، ومسلم (1/ 308 رقم 411).
(3)
"صحيح ابن خزيمة"(3/ 144 رقم 1594).
فإن قيل: جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصًا بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإِمام كما جاز المشي فيها.
قيل له: المشي له نظير في الأصول، وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق، وأيضًا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة فينصرف ويتوضأ ويبني، وقد وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن عباس (1) وعائشة (2) رضي الله عنهم أن النبي عليه السلام قال:"من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته"، والرجل يركع ويمشي إلى الصف ولا تبطل صلاته، وركع أبو بكر رضي الله عنه حتى دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبي عليه السلام قال له:"زادك الله حرصًا ولا تعد"(3) ولم يأمره باستئناف الصلاة، فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول، وليس في الخروج من الصلاة قبل فراغ الإِمام نظير فلم يجز فعله.
وأيضًا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي، ولما قامت به الدلالة سلمناه لهما، وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقه الأصول وحتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها.
ص: وذهب آخرون في ذلك إلى ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عن مَن صلى مع النبي عليه السلام يوم ذات الرقاع صلاة الخوف:"أن طائفة صَفّت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالدين معه ركعة ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصفوا وجاه العدو، ثم جاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلَّم بهم".
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 156 رقم 25).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 385 رقم 1221).
(3)
أخرجه البخاري في "صحيحه"(1/ 271 رقم 750).
حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد بن أبي بكر رضي الله عنهم، عن صالح بن خوّات الأنصاري، أن سهل بن أبي حَثْمة أخبره أن صلاة الخوف
…
فذكر نحوه، ولم يذكره عن النبي عليه السلام وزاد في ذكر الركعة الآخرة قال:"فيركع بهم، ثم يسجد، ثم يسلم، فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد
…
فذكر بإسناده مثله.
ش: أي ذهب جماعة آخرون في باب "صلاة الخوف" إلى حديث صالح بن خوّات، وأراد يهم: مالكًا في رواية، والشافعي وأحمد وأصحابهما الأكثرين.
وقال أبو عمر بن عبد البر في "التمهيد": وإلي حديث يزيد بن رومان ذهب الشافعي وأصحابه في صلاة الخوف، وبه قال داود، وهو قول مالك الأول؛ لأن ابن القاسم ذكر عنه أنه رجع إلي حديث القاسم بن محمَّد في ذلك، والخلاف منه إنما هو في موضع واحد؛ وذلك أن الإِمام عنده لا ينتظر الطائفة التي تقضي لأنفسها.
قال ابن القاسم: كان مالك يقول: لا يسلم الإمام حتى تقوم الطائفة الثانية فتتم لأنفسها ثم يسلم بهم.
وقال عياض في "شرح مسلم": أخذ مالك برواية صالح بن خوّات التي رواها عنه في "موطإه"، وأخذ الشافعي وأشهب من أصحاب مالك برواية ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال ابن قدامة في "المغني" بعد أن ذكر حديث سهل بن أبي حثمة: وبهذا قال مالك والشافعي.
ثم قال: ولنا ما روى صالح بن خوات عن مَن صلى مع النبي عليه السلام يوم ذات الرقاع.
وقال صاحب "البدائع": احتج الشافعي بما روى سهل بن أبي حثمة، ولنا ما روى ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنه انتهى.
وقال أحمد: وقد روي عن النبي عليه السلام صلاة الخوف على أوجه، وما أعلم في هذا الباب إلا حديثًا صحيحًا، واختار حديث سهل بن أبي حثمة.
وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم، قال: قد ثبتت الروايات عن النبي عليه السلام في صلاة الخوف فرأى كل ما روي عن النبي عليه السلام في صلاة الخوف فهو جائز، وهذا على قدر الخوف.
قال إسحاق: ولسنا نختار حديث سهل بن أبي حثمة على غيره من الروايات.
ثم إنه أخرج حديث صالح بن خوّات من ثلاث طرق صحاح.
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (1) في باب "غزوة ذات الرقاع": ثنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات عن مَنْ شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلى صلاة الخوف: "أن طائفةً صلت معه
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.
وأخرجه مسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك
…
إلى آخره.
وأبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك.
والنسائي (4): عن قتيبة، عن مالك.
الثاني: وهو موقوف: عن يونس بن عبد الأعلى أيضًا
…
إلى آخره.
وأخرجه مالك في "موطإه"(5): عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوّات الأنصاري، أن سهل بن أبي حثمة الأنصاري حدثه: "أن صلاة
(1)"صحيح البخاري"(4/ 1513 رقم 3900).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 575 رقم 842).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 13 رقم 1238).
(4)
"المجتبى"(3/ 171 رقم 1537).
(5)
"موطأ مالك"(1/ 183 رقم 441).
الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعةً ويسجد بالذين معه، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ثبت، وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلّمون وينصرفون والإمام قائم، فيكونون وجاه العدو، ثم يُقبل الآخرون الذين لم يسلمّون فيكبرون وراء الإِمام، فيركع بهم الإِمام ويسجد، ثم يُسلّم، فيقومون، فيركعون لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلّمون".
الثالث: موقوفٌ أيضًا، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوّات، أن سهل بن أبي حثمة أخبره.
وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن سهل بن أبي حثمة قال:"صلاة الخوف أن يقوم الإِمام مستقبل القبلة، ويقوم معه طائفة من أصحاب، وتقوم طائفة مستقبلة العدو، فيصلي بالطائفة التي معه ركعةً ثم يستأخر أولئك، وتقوم الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة، فيكون الإِمام قد صلى ركعتين، وتصلي كل طائفة مكانها ركعة".
قوله: "يوم ذات الرقاع" وهي غزوة مشهودة كانت سنة خمس من الهجرة بأرض غطفان من نجد؛ سميت ذات الرقاع لأن أقدام المسلمين ثقبت من الحفاء فلفّوا عليها الخرق، هذا هو الصحيح في سبب تسميتها، وقيل: سميت به لجبل هناك يقال له الرقاع؛ لأن فيه بياضًا وحمرة وسوادًا، وقيل: سميت بشجرة هناك يقال لها ذات الرقاع، وقيل: لأن المسلمين رقّعوا راياتهم، ويحتمل أن هذه الأمور كلها وجدت فيها.
وقال النووي: شرعت صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، وقيل: في غزوة بني النضير.
قوله: "وُجَاه العدو" بضم الواو أي مقابلهم وحذاءهم. وقال ابن الأثير: وتكسر الواو وتضم، وفي رواية "تجاه العدو" والتاء بدل من الواو مثلها في تقاة وتخمة.
وقال ابن قدامة: والعمل بهذا -أي بحديث صالح بن خوّات- أولى؛ لأنه أشبه بكتاب الله تعالى، وأحوط للصلاة والحرب.
أما موافقة الكتاب: فإن قوله الله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} (1) يقتضي أن جميع صلاتها معه، وعنده -أي عند أبي حنيفة- تصلى معه ركعة فقط، وعندنا جميع صلاتها معه، إحدى الركعتين توافقه في أفعاله وقيامه، والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلّم معه، ومن مفهوم قوله:{لَمْ يُصَلُّوا} (1) أن الطائفة الأولى قد صلّت جميع صلاتها، وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها.
وأما الاحتياط للصلاة: فإن كل طائفة تأتي بصلاتها متوالية، بعضها توافق الإِمام فيها فعلا، وبعضها تفارقه وتأتي به وحدها كالمسبوق، وعنده تنصرف من الصلاة فإما أن تمشي وإما أن تركب، وهذا عمل كثير وتستدبر القبلة، وهذا ينافي الصلاة ويفرق بين الركعتين تفريقًا كثيرًا بما ينافيها، ثم جعلوا الطائفة الأولى مؤتمةَ بالإمام بعد سلامه، ولا يجوز أن يكون المأموم مأمومًا في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه.
وأما الاحتياط للحرب: فإنه يتمكن من الضرب والطعن والتحريض، وإعلام غيره بما يراه مما يخفى عليه من أمر العدو وتحذيره، وإعلام الذين مع الإِمام بما يحدث، ولا يمكن هذا على قولهم؛ ولأن مبنى صلاة الخوف على التخفيف؛ لأنهم في موضع الحاجة إليه، وعلى قولهم تطول الصلاة أضعاف ما كانت حال الأمن؛ لأن كل طائفة تحتاج إلى مضي إلى مكان الصلاة، ورجوع إلى وجاه العدو، وانتظار لمضي الطائفة الأخرى ورجوعها، فعلى تقدير أن يكون بين المكانين نصف ميل تحتاج كل طائفة إلى مشي ميل، وانتظار الأخرى قدر مشي ميل وهي في الصلاة، ثم تحتاج إلى تكلف الرجوع إلى موضع الصلاة لاتمام الصلاة من غير حاجة إليه والمصلحة تتعلق به فلو احتاج الأمر إلى مثل هذه الكلفة في الجماعة لسقطت عنه، فكيف نكلف الخائف وهو في مظنة التخفيف والحاجة إلى الرفق به؟
(1) سورة النساء، آية:[102].
وأما مفارقة الإِمام فجائزة للعذر ولابد منها على القولين، فإنهم جوّزوا للطائفة الأولى مفارقة الإِمام والذهاب إلى وجه العدو، وهذا أعظم مما ذكرناه؛ فإنه لا نظير له في الشرع، ولا يوجد مثله في موضع آخر، والله أعلم، انتهى.
قلت: في جميع ما ذكره نظر:
أما قوله: أما موافقة الكتاب
…
إلى آخره فليس كذلك، بل الذي ذكره يخالف الآية؛ لأن قوله تعالى:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) يدل على معنيين:
أحدهما: أن الإِمام يجعلهم طائفتين في الأصل، طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة؛ لأنه قال:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} (1) وعلى قولهم يفتتح جميع الصلاة مع الإِمام.
والثاني: قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) يقتضي نفي كل جزء من الصلاة، وهم يقولون: يفتتح الجميع الصلاة مع الإِمام فيكونون حينئذٍ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة، وهذا خلاف الآية.
وأما قوله: "وعنده ينصرف في الصلاة
…
" إلى آخره فغير مسلّم؛ وذلك لأن المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق، وقد مر الكلام فيه عن قريب مستقصى.
وأما قوله: "ولا يجوز أن يكون المأموم مامومًا في ركعة يأتي بها بعد سلام إمامه" فغير مسلّم أيضًا؛ لأن الطائفة الأولى لاحقة ولهذا يُتمُّون صلاتهم بغير قراءة، فكأنهم في الحقيقة وراء الإِمام.
وأما قوله: "فإنه يتمكن من الضرب والطعن" فمردود بقوله: "فإما أن يمشي وإما أن يركب"، وهذا عمل كثير؛ وذلك لأن المشي إذا كان عملًا كثيرًا فكذلك
(1) سورة النساء، آية:[102].
الضرب والطعن عمل كثير، بل هو أقوى في الإفساد من ذاك، فكلما أجابوا عن ذلك فهو جوابنا عن ذاك.
وأما قوله: "وعلى قولهم: تطول الصلاة
…
" إلى آخره، فغير مُسلَّم، بل تطويل الصلاة فيما ذكروه؛ لأن ثبات الإِمام قائمًا لأجل الطائفة الأولى لأن يتموا صلاتهم، وثباته جالسًا لأجل الطائفة الثانية ليتموا صلاتهم حتى يسلّم معهم مما يوجب التطويل، لكون الإِمام مقيدًا بالصلاة لأجل تكميل الطائفتين صلاتهم فيحتاج ذلك إلى زمن مديد، وفيما ذكرنا لا يلبث الإِمام في الصلاة إلا زمنًا يسيرًا فهذا أولى؛ لأن الإِمام هو الأصل في إعلام غيره بما يراه مما يخفى عليه من أمر العدو وتحذيره.
وأما قوله: "فإنه لا نظير له في الشرع" فباطل؛ لما قلنا: إن الراكب المنهزم يصلي وهو سائر، فكذلك الطائفة الأولى إذا فارقوا الإِمام وذهبوا إلى وجه العدو ويكونون سائرين فسيرهم لا يضر صلاتهم، وهم وإن فارقوا الإِمام ظاهرًا ولكنهم وراء الإِمام حكمًا لأنهم لاحقون، والله أعلم.
ص: فقيل لهم: إن هذا الحديث فيه زيادة أنهم قد قضوا وهم مأمومون قبل فراغ الإمام من الصلاة في حديث يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات.
وقد روينا من حديث شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات خلافًا لذلك؛ لأن في حديث يزيد بن رومان أنه ثبت بعدما صلى الركعة الأولى قائمًا وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا، ثم جاءت الأخرى بعد ذلك، وفي حديث شعبة، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن صالح بن خوات أنه صلى بطائفة منهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافّ هؤلاء ولم يذكر أنهم صلّوا قبل أن ينصرفوا، فقد خالف القاسم يزيد بن رومان.
فإن كان هذا يؤخذ من طريق الإسناد فإن عبد الرحمن، عن أبيه القاسم، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي عليه السلام، أحسن من يزيد بن رومان، عن صالح، عمن أخبره، فإن تكافئا تضادَّا، فإن تضادَّا لم يكن لأحد الخصمين في أحدهما حجة على خصمه؛ لأن لخصمه عليه مثل ما له على خصمه.
فإن قال قائل: فإن يحيى بن سعيد قد روى عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوات، عن سهل ما يوافق ما روى يزيد بن رومان، ويحي بن سعيد ليس بدون عبد الرحمن بن القاسم في الضبط والحفظ.
قيل له: يحيى بن سعيد كما ذكرت، ولكن لم يرفع الحديث إلى النبي عليه السلام وإنما أوقفه على سهل، فقد يجوز أن يكون ما روى عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح هو الذي كان كذلك عند سهل عن النبي عليه السلام خاصةً، ثم قال: هو من رأيه ما بقي وصار ذلك رأيًا منه لا عن النبي عليه السلام؛ ولذلك لم يرفعه يحيى إلى النبي عليه السلام.
فلما احتمل ذلك ما ذكرنا ارتفع أن تقوم به حجة أيضًا.
والنظر يدفع ذلك؛ لأنا لم نجد في شيء من الصلوات أن المأموم يصلي شيئًا منها قبل الإِمام، وإنما يفعله المأموم مع فعل الإمام أو بعد فعل الإمام، وإنما يُلْتَمسُ علم ما اختلف فيه مما أُجمِع عليه.
فإن قالوا: قد رأينا تحويل الوجه عن القبلة قد يجوز في هذه الصلاة ولا يجوز في غيرها، فما تُنكرُون أن يكون قضاء المأموم قبل فراغ الإِمام كذلك جُوّز في هذه الصلاة ولم يجوز في غيرها؟
قيل لهم: إن تحويل الوجه عن القبلة قد رأيناه أبيح في غير هذه الصلاة للعذر، فأبيح في هذه الصلاة كما أبيح في غيرها، وذلك أنهم أجمعوا أن مَنْ كان منهزمًا فحضرت الصلاة أنه يصلي وإن كان على غير القبلة، فلما كان قد يُصلّي كل الصلاة إلى غير قبلة لعلة العذر ولا يُفسد ذلك عليه صلاته، كان انصرافه على غير قبلةٍ في بعض صلاته أحرى أن لا يضره ذلك، فلما وجدنا أصلًا في الصلاة إلى غير القبلة مجمعًا عليه أنه قد يجوز بالعذر؛ عطفنا عليه ما اختلف فيه من استدبار القبلة في الانصراف للعدو.
ولما لم نجد لقضاء المأموم قبل أن يفرغ الإمام من الصلاة أصلًا فيما أُجْمِعَ عليه يدلَّ عليه فنَعطفَه عليه؛ أبطلنا العمل به، ورجعنا إلى الآثار الأُخَر التي قدمنا ذكرها التي معها التواتر وشواهد الإجماع.
ش: أي فقيل لأولئك الذين ذهبوا في صلاة الخوف إلى حديث صالح بن خَوّاتٍ، فهذا جَوابٌ عما احتجوا به من هذا الحديث، تقريره: أن في هذا الحديث زيادة وهي أنهم قد قضوا صلاتهم والحال أنهم مأمومون قبل فراغ الإِمام من الصلاة؛ لأنه ذكر في حديث يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات: "ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا
…
" إلى آخر الحديث، فهذا صريح أنهم أتموا قبل فراغ الإِمام، ويخالف هذا حديث شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات؛ لأن فيه "أنه صلى بطائفة منهم ركعةً" ولم يذكر فيه أنهم قد صلوا قبل أن ينصرفوا، فوقع بين الروايتين تضادّ وتعارض ظاهرًا.
ثم لا يخلو إما أن نقول بالتساوي بينهما، أو نذهب إلى الترجيح.
فإن كان الترجيح؛ فخبر عبد الرحمن، عن أبيه القاسم، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي عليه السلام أحسن وأولى وأرجح من خبر يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات عمّن أخبره؛ لأن يزيد بن رومان لا يعادل القاسم.
وإن كان القول بالتساوي فهو عين التضادّ بين الخبرين وهو معنى قوله: "فإن تكافئا" أي: فإن تساويا وتنظرا -من الكفؤ وهو النظير- تضادّا لعدم المرجح، فإذا تضادّا لم يكن لأحد الخصمين حجة؛ لأن أحدهما إذا احتج على الآخر بأحد الخبرين، يحتج الآخر عليه بالآخر.
قوله: "فإن قال قائل: فإن يحيى بن سعيد
…
" إلى آخره، اعتراض من جهة الخصم، تقريره أن يقال:(إن يحيى بن سعيد الأنصاري)(1) قد روى عن القاسم بن محمَّد، عن صالح بن خوات، عن سهل ما يوافق ما روى يزيد بن رومان وهو الذي رواه مالك بن أنس عنه عن القاسم كما مرَّ، ويحيى بن سعيد ليس بأدنى من عبد الرحمن بن القاسم في الضبط والإتقان والحفظ، فحينئذٍ يرجح خبر يزيد بن رومان.
(1) تكررت "بالأصل".
وتقرير الجواب أن يقال: سلَّمنا أن يحيى بن سعيد كما ذكرتم ليس بأدنى من عبد الرحمن، بل هو يفوق عليه، ولكنه لم يرفع الحديث إلى النبي عليه السلام وإنما ذكره موقوفًا على سهل، ولا شك أن الموقوف لا يعادل المرفوع، ويحتمل أيضًا أن يكون ما رواه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم، عن صالح بن خوات هو الذي كان عند سهل بن أبي حثمة، عن النبي عليه السلام خاصةً ثم يكون ما بقي منه قولًا بالرأي منه لا عن النبي عليه السلام فلذلك لم يرفعه يحيى بن سعيد إلى النبي عليه السلام، فلقد كان هذا الاحتمال موجودًا، فارتفذع أن تقوم به حجة.
وقال أبو بكر الرازي: حديث يزيد بن رومان مضطرب.
وقال صاحب "البدائع": الرواية عن سهل بن أبي حثمة متعارضة؛ فإن بعضهم روى عنه مثل مذهبنا أيضًا فكان الأخذ برواية ابن مسعود وابن عمر وحذيفة أولى؛ لأن الرواية عن هؤلاء لم تتعارض مع أن في حديث سهل بن أبي حثمة ما يدل على كونه منسوخًا؛ لأن فيه أن الطائفة الثانية يقضون ما سُبقوا به قبل فراغ الإِمام ثم يُسلّمون معه، وكان هذا في ابتداء الإِسلام أن المسبوق يبدأ بقضاء ما فاته ثم يتابع الإِمام، فهذا قد نسخ، ولهذا لم يأخذ أحد من العلماء برواية أبي هريرة رضي الله عنه.
قوله: "والنظر يدفع ذلك" أي وجه النظر والقياس يدفع ما ذكره الخصم من كيفية صلاة الخوف؛ لأن فيما ذكروه أنهم قد قضوا وهم مأمومون قبل فراغ الإِمام من الصلاة، ونحن لم نجد في شيء من الصلوات أن المأموم يصلي شيئًا من الصلاة قبل الإِمام، وإنما الذي يفعله المأموم إما أن يكون مع فعل الإِمام أو بعد ما يفرغ الإِمام، ولذلك قال صاحب "البدائع": إن ما ذكروه منسوخ لما ذكرناه الآن.
قوله: "وإنما يُلتمس علم ما اختلف فيه مما أجمع عليه" أراد بهذا أن الذي يختلف فيه ينبغي أن يكون له نظير مما فيه الإجماع حتى يقاس ذلك المختلف فيه على الأمر المجمع عليه، فهذا الذي ذكروه لا نظير له فيما أجمع عليه، فإذا كان كذلك فقد ظهر فساده.
فإن قالوا: لا يلزم ذلك، فإنا قد نجد صورة في موضع يجوز فعلها مع أنه لا نظير لها في موضع من المواضع كتحويل الوجه عن القبلة فإنه يجوز ذلك في هذه الصلاة مع أنه لا يجوز في غيرها أصلًا، فلم تنكرون أن يكون قضاء المأموم صلاته قبل فراغ الإِمام كذلك يكون جائزًا في هذه الصلاة مع عدم جوازه في غيرها من الصلوات؟
والجواب عنه ما ذكره بقوله: "قيل لهم
…
" إلى آخره، تقريره أن يقال: لا نسلّم اختصاص جواز تحويل الوجه عن القبلة بهذه الصلاة، بل قد أبيح ذلك في غير هذه الصلاة أيضًا لأجل العذر وذلك أنهم أجمعوا أن من كان منهزمًا فحضرت الصلاة أنه يصلي وإن كان على غير القبلة، فظهر من ذلك أن جميع الصلاة تُصلَّى إلى غير جهة القبلة لأجل العذر ولا يُفسد ذلك عليه صلاته، فإذا كان هذا لا يُفسد في جميع الصلاة ولا يضرّه ذلك ففي بعض الصلاة وهي صلاة الخوف بالطريق الأولى أن لا يفسدها ولا يضره ذلك، فلما وجدنا هذا الأصل وهو جواز الصلاة إلى غير جهة القبلة لأجل العذر مجمعًا عليه؛ عطفنا عليه ما اختلف فيه من استدبار القبلة في الانصراف لأجل العذر؛ لأنا قد ذكرنا أن علم ما اختلف فيه إنما يُلتَمس مما أجمع عليه، ولما لم نجد لما ذكروه -وهو قضاء المأموم صلاته قبل فراغ الإِمام- منها أصلًا أبطلنا العمل به ورجعنا إلى الأحاديث التي معها التواتر وشواهد الإجماع، وأراد بالتواتر التكاثر والتوارد، ولم يُردْ به التواتر المصطلح عليه في الأصول، وأراد بشواهد الإجماع: وجود الأصل الصحيح المجمع عليه ليقاس عليه المختلف فيه.
قوله: "يدل عليه" جملة وقعت صفة لقوله: "أصلًا" فأصلًا منصوب على أنه مفعول لقوله: "ولما لم نجد".
قوله: "فنَعْطِفَه" بنصب الفاء بتقدير "أن".
وقوله: "أبطلنا العمل به" جواب لقوله: "ولما لم نجد".
ص: وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك كله كما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا حيوة وابن لهيعة، قالا: ثنا
أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن الأسدي، أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم، أنه سأل أبا هريرة:"هل صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الخوف؟ قال: نعم. قال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عام غزوة نجد، قام رسول الله عليه السلام لصلاة العصر، وقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابلوا العدو، وظهورهم إلى القبلة، فكبَّر رسول الله عليه السلام وكبّروا جميعًا الذين معه والذين مقابلوا العدو، ثم ركع رسول الله عليه السلام ركعةً واحدةً، وركعت معه الطائفة التي تليه، ثم سجد، وسجدت معه الطائفة التي تليه، والآخرون قيام مقابلوا العدو، ثم قام رسول الله عليه السلام، وقامت الطائفة الذين معه، فذهبوا إلى العدو، فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا، وسجدوا، ورسول الله عليه السلام قائم كما هو، ثم قاموا، فركع رسول الله عليه السلام ركعةً أخرى، وركعوا معه، ثم سجد، وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقابلي العدو، فركعوا وسجدوا، ورسول الله عليه السلام قاعدٌ ومن معه، فسلّم رسول الله عليه السلام وسلّموا جميعًا، فكانت لرسول الله عليه السلام ركعتان، ولكل رجل من الطائفتين ركعتان ركعتان".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا محمَّد بن عبد الله بن نمير، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمَّد بن إسحاق حدثه، قال: حدثني محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن أبي هريرة قال:"صلّى رسول الله عليه السلام صلاة الخوف فصلى الناس صَدْعَيْن، فصلَّت طائفة خلف النبي عليه السلام، وطائفة وجاه العدو، فصلَّى النبي عليه السلام بِمَنْ خلفه ركعةً، وسجد بهم سجدتين، ثم قام وقاموا معه، فلما استووا قيامًا، ورجع الذين خلفه وراءهم القهقرى، فقام وراء الذين بإزاء العدو، وجاء الآخرون، فقاموا خلف النبي عليه السلام، فصلوا لأنفسهم ركعةً والنبي عليه السلام قائم، ثم قاموا، فصلى النبي عليه السلام بهم ركعة أخرى، فكانت لهم ولرسول الله عليه السلام ركعتان، وجاء الدين بإزاء العدو فصلّوا لأنفسهم ركعةً وسجدتين، ثم جلسوا خلف النبي عليه السلام، فسلّم بهم جميعًا".
ففي هذا الحديث تحوُّل الإِمام إلى العدو بالطائفة التي صلّت معه الركعة، وليس ذلك في شيء من الآثار غير هذا الحديث، وفي كتاب الله عز وجل ما يدل على دفع ذلك؛ لأن الله عز وجل قال:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) ففي هذه الآية معنيان موجبان لدَفْع هذا الحديث.
أحدهما قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1)، فهذا يدل على أن دخولهم في الصلاة إنما هو في حين مجيئهم لا قبل ذلك.
والثاني قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (1) ثم قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1) وذكر الإتيان للطائفتين إلى الإمام، وقد وافق ذلك من فعل النبي عليه السلام الآثار المتواترة التي بدأنا بذكرها، فهي أولى من هذا الحديث.
ش: أي قد روي عن أبي هريرة في كيفية صلاة الخوف خلاف ما روي عن غيره في هذا الباب؛ لأنه ذكر فيه تحوُّل الإِمام إلى العدو بالطائفة التي صلت معه الركعة حيث قال: "ثم قام رسول الله عليه السلام وقامت الطائفة الذين معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم"، فهذا خلاف ما ذكر في أحاديث غيره كلها، وقوله تعالى:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (1) الآية، يدفع هذا الحديث من وجهين، وهو معنى قوله: "ففي هذه الآية مَعْنيان مُوجبان لدفع هذا الحديث
…
" إلي آخره، وهو ظاهر غني عن مزيد البيان.
ثم إنه أخرج حديث أبي هريرة من طريقين صحيحين:
الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي عبد الرحمن المقرئ -واسمه عبد الله بن يزيد القصير روى له الجماعة- عن حيوة بن شريح بن صفوان أبي زرعة المصري الزاهد العابد روى له الجماعة، وعن عبد الله بن لهيعة المصري -فيه مقال، ذكر ها هنا متابعًا- كلاهما يرويان عن أبي الأسود محمَّد بن عبد الرحمن ابن
(1) سورة النساء، آية:[102].
نوفل بن الأسود القرشي الأسدي المدني روى له الجماعة، عن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي أبي عبد الله المدني، روى له الجماعة، عن مروان بن الحكم بن أبي العاص الأموي روى له الجماعة سوى مسلم.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا الحسن بن علي، نا أبو عبد الرحمن المقرئ، نا حيوة وابن لهيعة، قالا: نا أبو الأسود
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه:"ولكل واحد من الطائفتين ركعةً ركعةً".
وأخرجه النسائي أيضًا (2): عن عبيد الله بن فضالة بن إبراهيم، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، وعن محمَّد بن عبد الله بن يزيد، عن أبيه، عن حيوة، كلاهما عن أبي الأسود، أنه سمع عروة بن الزبير
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.
قوله: "قال مروان: متى؟ " أي: متى صليت مع رسول الله عليه السلام؟
قوله: "عام غزوة نجد" هي غزوة ذات الرقاع؛ لأن ذات الرقاع من النجد، فهذا يقتضي أن تكون غزوة نجد بعد الخندق، وكذا ذهب البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واستدل على ذلك بأن أبا موسى الأشعري شهدها، وقدومه إنما كان ليالي خيبر صحبة جعفر وأصحابه رضي الله عنهم، ومما يدل على أنها كانت بعد الخندق أن ابن عمر رضي الله عنهما إنما أجازه رسول الله عليه السلام في القتال أول ما أجازه يوم الخندق، وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال:"غزوت مع رسول الله عليه السلام قِبل نجد" فذكر صلاة الخوف، وقد ذكر ابن هشام حديث صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ولكن لم يذكر غزوة نجد ولا ذات الرقاع، ولم يتعرض لزمان ولا لمكان.
قلت: أسلم أبو هريرة عام خيبر وكانت خيبر سنة سبع في المحرم، فدلّ ذلك على أن غزوة نجد كانت في سنة سبع، والله أعلم.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 14 رقم 1240).
(2)
"المجتبى"(3/ 173 رقم 1543).
قوله: "مقابلوا العدو" أصله: مقابلون فسقطت النون للإضافة، وفي بعض الرواية "مقابلَ العدو" بنصب اللام، ومعناه بحذائهم.
قوله: "والآخرون قيام" أي قائمون.
قوله: "تقابلهم" بالباء الموحدة من المقابلة وهي المواجهة.
الطريق الثاني: عن إبراهيم ابن أبي داود البرلسي، عن محمَّد بن عبد الله بن نمير الهمداني الخارفي شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، عن يونس بن بكير بن واصل الكوفي الجمال روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه، عن محمَّد بن إسحاق المدني استشهد به البخاري وروى له مسلم في المتابعات واحتج به الأربعة، عن محمَّد بن جعفر بن الزبير بن العوام روى له الجماعة، عن عروة بن الزبير بن العوام روى له الجماعة.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث ابن إسحاق، نا محمَّد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن أبي هريرة قال: "صلى رسول الله عليه السلام بالناس صلاة الخوف، فَصَدَع الناس صَدْعين، فقامت طائفة خلفه وطائفة تجاه العدو
…
" إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غيى أن في روايته ذكر "الرسول" موضع "النبي عليه السلام" في جميع المواضع.
قوله: "فصدع الناس" أي: فرق الناس نصفين، وأصله من صَدَعْتُ الرداء صَدْعًا إذا شققته، والاسم الصِّدع بكسر الصاد، والصَّدع في الزجاجة بالفتح، وأراد به ها هنا: جعلهم فرقتين.
قوله: "قيامًا" جمع قائم، ونصبه على الحال من الضمير الذي في "استووا".
قوله: "القهقَرى" وهو الرجوع إلى وراء، وانتصابه من قبيل قولهم: قعدت جلوسًا، وفي مشيهم هكذا لا يكون استدبار القبلة.
ص: وذهب آخرون في صلاة الخوف إلى ما حدثناأبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عاصم، عن الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة: "أن النبي عليه السلام صلّى بهم
(1)"سنن البيهقي"(3/ 264 رقم 5835).
صلاة الخوف، فصلى بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، فصلى رسول الله عليه السلام أربعًا، وكل طائفة ركعتين".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو حرة، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا أبان، قال: ثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله قال: "كنا مع رسول الله عليه السلام بذات الرقاع فأقيمت الصلاة
…
" فذكر مثله.
وحدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشْر، عن سليمان بن قيس، عن جابر بن عبد الله قال: "كان النبي عليه السلام يُحارِبُ خَصفَةَ، فصلى صلاة الخوف
…
" فذكر مثل ذلك.
ش: أي ذهب جماعة آخرون في كيفية صلاة الخوف إلى حديث أبي بكرة وجابر ابن عبد الله رضي الله عنهما، وأراد بهم: الحسن البصري والأشعث وسليمان بن قيس.
وقال أبو داود بعد أن أخرج حديث أبي بكرة: وبذلك كان يفتي الحسن البصري؛ وذلك لأنه على قضية التعديل وعبرة التسوية بين الصلاتين لا تفضل فيها طائفة على الأخرى، بل كلّ يأخذ قسطه من فضيلة الجماعة وحصته من بركة الأسوة.
ثم إنه أخرج حديث أبي بكرة -وهو نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي الصحابي رضي الله عنه- من طريقين صحيحين.
الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن الأشعث بن عبد الملك الحُمراني أبي هانئ البصري، وثقه النسائي، وروى له البخاري تعليقًا، واحتج به الأربعة.
عن الحسن البصري، عن أبي بكرة.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة قال:"صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوفٍ الظهرَ، فصفّ بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدوّ، فصلى ركعتين ثم سلّم، فانطلق الذين صلّوا معه فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلّوا خلفه، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلّم، فكانت لرسول الله عليه السلام أربعًا ولأصحابه ركعتين ركعتين".
الثاني: عن أبي بكرة، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن أبي حُرّة واصل بن عبد الرحمن، عن الحسن البصري، عن أبي بكرة نُفَيْع، عن النبي عليه السلام.
وأخرجه النسائي (2): أنا عمرو بن علي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي عليه السلام:"أنه صلّى صلاة الخوف بالذين خلفه ركعتين، والذين جاوءا بَعدُ ركعتين، فكانت للنبي عليه السلام أربع ركعات ولهؤلاء ركعتين ركعتين" انتهى.
وقال المنذري في "مختصر السنن": قال بعضهم: كان النبي عليه السلام في غير حكم سفر، وهم مسافرون، وقال بعضهم: هذا خاص بالنبي عليه السلام؛ لفضيلة الصلاة خلفه.
وقال الخطابي والنووي: وفيه دليل على جواز صلاة المفترض خلف المتفل، ويُعترض عليه بأنه لم يُسلّم من الفرض كما في حديث جابر.
وقيل: إنه عليه السلام كان مخيَّرًا بين القصر والإتمام في السفر فاختار الإتمام واختار لمن خلفه القصر.
وقال بعضهم: كان في حَضر ببطن نخلة على باب المدينة ولم يكن مسافرًا، وإنما كان خوف فمنع منه محترسًا.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 17 رقم 1248).
(2)
"المجتبى"(3/ 179 رقم 1555).
قلت: يتقوى هذا بحديث أخرجه البيهقي في "المعرفة"(1) من طريق الشافعي: أخبرنا الثقة ابن عيينة أو غيره، عن يونس، عن الحسن، عن جابر:"أن النبي عليه السلام كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخلة، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلَّم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم".
وأخرج الدارقطني (2): عن عنبسة، عن الحسن، عن جابر: "أن النبي عليه السلام كان محاصرًا لبني محارب، فنودي بالصلاة
…
" فذكر نحوه.
والأول أصحّ، إلا أن فيه شائبة الانقطاع؛ فإن شيخ الشافعي مجهول، وأما الثاني ففيه عنبسة بن سعيد القطان ضعفه غير واحد.
وقال غيره: لم نجد عن النبي عليه السلام أنه صلى صلاة الخوف قط في حضر، ولم يكن له حرب قط في حضر إلا يوم الخندق، ولم تكن نزلت صلاة الخوف بعد، والله أعلم.
وأما حديث جابر فأخرجه من طريقين صحيحين أيضًا:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن أبان بن يزيد العطار روى له الجماعة سوى ابن ماجه، عن يحيى بن أبي كثير الطائي روى له الجماعة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة، عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه مسلم مطولًا (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا عفان، قال: نا أبان، قال: نا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر قال: "أقبلنا مع رسول الله عليه السلام حتى إذا كنا بذات الرقاع قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله
(1)"معرفة السنن والآثار"(4/ 331 رقم 1540).
(2)
"سنن الدارقطني"(2/ 60 رقم 10).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 576 رقم 843).
- عليه السلام، قال: فجاء رجل من المشركين وسيفُ رسول الله عليه السلام معلّقٌ بشجرة، فأخذ سيف النبي عليه السلام واخترطه، فقال لرسول الله عليه السلام: أتخافني؟ قال: لا، قال: فَمَنْ يمنعك مني؟ قال: الله يَمْنعني منك. قال: فتهدَّده أصحاب النبي عليه السلام فأغمد السيف وعلقه، قال: فنُودي بالصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين قال: فكانت لرسول الله عليه السلام أربع ركعات وللقوم ركعتان".
وأخرجه البخاري تعليقًا (1) وقال: قال أبان: عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر: "كنا مع رسول الله عليه السلام بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة
…
" إلى آخره نحوه.
وكذلك أخرجه أبو داود (2) معلقًا وقال: وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن جابر، عن النبي عليه السلام.
واستدل بهذا الحديث صاحب "الهداية" من أصحابنا أن الإِمام إذا كان مقيمًا يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعتين.
وقال ابن قدامة: وتأول القاضي هذا الحديث على أن النبي عليه السلام صلى بهم كصلاة الحضر، وأن كل طائفة قضت ركعتين، وهذا ظاهر الفساد جدًّا؛ لأنه يخالف صفة الرواية، وقول أحمد، ومحَمْله محملٌ فاسدٌ، أما الرواية فإنه ذكر أنه صلى بكل طائفة ركعتين ولم يذكر قضاء، ثم قال في آخره: وللقوم ركعتين ركعتين، وأما قول أحمد فإنه ستة أوجه أو سبعة يروي فيها كلها جائز، وعلى هذا التأويل لا يكون ستة ولا خمسة، ولأنه قال: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فهو جائز، وهذا مخالف لهذا التأويل، وأما فساد المحمل، فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها ك ما قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
(1)"صحيح البخاري"(4/ 1515 رقم 3906).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 17 رقم 1248).
الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) وعلى هذا التأويل يجعل مكان الركعتين أربعًا ويتم الصلاة المقصورة، ولم ينقل عن النبي عليه السلام أنه أتم صلاة السفر فكيف يحمل ها هنا على أنه أتمها في موضع وجد فيه ما يقتضي التخفيف؟
قلت: هذا الكلام لا يخلو عن نوع نظر، فإن قوله:"فإن الخوف يقتضي تخفيف الصلاة وقصرها". غير صحيح إن أراد العموم؛ لأن المقيمن إذا صلوا صلاة الخوف لا يجوز لهم أن يقصروا.
وكذا قوله: "ولم ينقل عن النبي عليه السلام أنه أتم الصلاة في السفر". فيه نظر؛ لأنا قد ذكرنا عن البعض أنه عليه السلام كان مخيرًا في السفر بين القصر والإتمام، فعلى هذا يمكن أن يكون في حديث جابر مسافرًا ويكون قد أتم الصلاة، والله أعلم.
الطريق الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب البصري شيخ مسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي عوانة الوضّاح بن عبد الله اليشكري، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري الكوفي، عن سليمان بن قيس اليشكري الكوفي، عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا عفان، نا أبو عوانة، نا أبو بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر بن عبد الله قال: "قاتل رسول الله عليه السلام محاربَ خصفَة بنَخْلٍ، فرأوا من المسلمين غِرّةً، فجاء رجل منهم يُقال له: غَوْرث بن الحارث حتى قام على رسول الله عليه السلام بالسيف فقال: مَنْ يمنعك مني؟ [قال: الله عز وجل. فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله عليه السلام فقال: من يمنعك مني؟](3) قال: كن كخير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلّى سبيله، قال: فذهب إلى أصحابه،
(1) سورة النساء، آية:[101].
(2)
"مسند أحمد"(3/ 364 رقم 14971).
(3)
سقط من "الأصل، ك" والمثبت من "مسند أحمد".
قال: قد جئتكم من عند خير الناس، فلما كان الظهر والعصر صلى بهم صلاة الخوف، فكان الناس طائفتين: طائفة بإزاء عدوهم، وطائفة صلوا مع رسول الله عليه السلام فصلى بالطائفة الذين كانوا معه ركعتين، ثم انصرفوا، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم، وجاء أولئك فصلى بهم رسول الله عليه السلام ركعتين، فكان للقوم ركعتان ركعتان، ولرسول الله عليه السلام أربع ركعات".
وقال البخاري (1): قال مسدد: عن أبي عوانة، عن أبي بشر: اسم الرجل غورث بن الحارث، وقاتل فيها محاربَ خَصَفة.
قوله: "كان النبي عليه السلام يحارب خَصَفَة" هكذا وقع في نسخ الطحاوي "يحارب" بالياء آخر الحروف، وهو جملة تقع خبرًا لـ"كان"، ورأيت في بعض النسخ "محارب خصفة" بالميم، فإن صح فوجهه أن يكون اسم فاعل من حَارَبَ، ويكون مضافًا إلى "خصفة" منصوبًا لأنه خبر كان، والذي في رواية البخاري وأحمد كما ذكرنا آنفًا "قاتل النبي عليه السلام مُحاربَ خصفة".
قال في "العباب" وغيره: مُحاربٌ قبيلةُ من فهرٍ، وخَصَفَة -بفتح الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة- أبو حيّ من العرب، وهو خصفة بن قَيْس غيلان.
وفي "مطالع الأنوار": خصفة والد محارب.
فالمعنى على روايتهما: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحاربَ التي هي قبيلة من خصفة، فتكون الإضافة؛ للبيان والتمييز، فافهم.
قوله: "بنَخْل" في رواية أحمد أي: في نَخْلٍ، وهو موضع بنجد من أرض غطفان.
ص: فقال قوم بهذا وزعموا أن صلاة الخوف كذلك.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري ومن تبعه ممن ذكرناهم عن قريب، فإنهم زعموا أن صلاة الخوف تصلى على نحو ما ذكر في أحاديث أبي بكرة وجابر رضي الله عنه، وفي بعض النسخ، فقال قوم بهذا وأوجبوا صلاة الخوف، كذلك قال
(1)"صحيح البخاري"(4/ 1515 رقم 3906).
أبو داود، وبذلك كان يفتي الحسن، وقال أيضًا: وبالطريق المذكور يكون في صلاة المغرب للإمام ست ركعات وللقوم ثلاث؛ وذلك لأنها تصلى مرتين.
ص: ولا حجة لهم عندنا في هذه الآثارة لأنه يجوز أن يكون النبي عليه السلام صلاّها كذلك لأنه لم يكن في سفر تَقَصرُ في مثله الصلاة، فصلى بكل طائفة ركعتين، ثم قضوا بعد ذلك ركعتين ركعتين.
وهكذا نقول نحن إذا حضروا العدو في مصرٍ فأراد أهل ذلك العصر أن يصلوا صلاة الخوف فعلوا هكذا، يعني بعد أن تكون تلك الصلاة ظهرًا أو عصرًا أو عشاء، قالوا: فإن القضاء ما ذكر.
قيل لهم: قد يجوز أن يكونوا قد قَضْوا ولم يُنقل ذلك في الخبر، وقد يجيء في الأخبار مثل هذا كثير، وإن كانوا لم يقضوا فإن ذلك لا حجة لهم فيه عندنا أيضًا؛ لأنه قد يجوز أن يكون ذلك كان من النبي عليه السلام والفريضة حينئذٍ تُصلّى مرتين، فيكون كل واحد منهما فريضةً، وقد كان يفعل ذلك في أول الإِسلام ثم نسخ.
كما حدثنا حُسَين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: ثنا حسين المُعلّم، عن عمرو بن شعيب، عن سليمان مولى ميمونة رضي الله عنها قال:"أتيت المسجد فرأيت ابن عمر رضي الله عنه جالسًا والناس في الصلاة، فقلتُ: ألا تُصلّي مع الناس؟ فقال: قد صلّيت في رحلي، إن رسول الله عليه السلام نهى أن تُصلّى فريضةً في يوم مرتين".
والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة، فقد كان المسلمون هكذا يصنعون في بدء الإِسلام، يُصلّون في منازلهم ثم يأتون المسجد فيصلون تلك الصلاة التي أدركوها على أنها فريضة، فيكونوا قد صلوا فريضة في يوم مرتين، حتى نهاهم النبي عليه السلام عن ذلك، وأمر بعد ذلك من جاء إلى المسجد فأدْركَ تلك الصلاة أن يُصلّيها ويجعلها نافلة.
وترك ابن عمر رضي الله عنهما الصلاة مع القوم يحتملُ عندنا ضَرْبين: يَحْتملُ أن تكون تلك الصلاة صلاةً لا يُتطوَّعُ بعدَها، فلم يكن يجوز أن يصليها إلا على أنها فريضة
فقال: "نهى رسول الله عليه السلام أن تُصلّى صلاةُ فريضة في يوم مرتين" أي: فلا يجوز أن أصليها فريضة؛ لأني قد صلّيتُها مرةً، ولا أدخلُ معهم لأني لا يجوز لي التطوع في ذلك الوقت.
ويحتمل أن يكون سمع من النبي عليه السلام النهي عن إعادتها على المعنى الذي نهى عنه، ثم رخص رسول الله عليه السلام بعد ذلك أن تُصلى على أنها نافلة، فلم يَسْمَعْ ذلك ابنْ عمر.
فنظرنا في ذلك، فإذا ابنُ أبي داود حدثنا، قال: ثنا الوَهْبِيُّ، قال: ثنا الماجشون، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع قال:"أرسلني مُحَرَّر بن أبي هريرة بلى ابن عمر أسأله: إذا صَلَّى الرجل الظَّهرَ في بَيْته ثم جاء إلى المسجد والناس يُصلّون فصلى معهم، أيّتُهما صلاته؟ قال ابن عمر رضي الله عنهما: صلاته الأول".
ففي هذا الحديث أن ابن عمر رضي الله عنهما قد رأى أن الثانية تكون تطوعًا، فدل ذلك على أن تركه للصَّلاة في حديث سُلَيْمان إنما كان لأنها صلاة لا يجوز أن يُتطوَّعَ بعدَها، وإن كان حديثا أبي بكرة وجابر الذين ذكرنا كانا والحكم على ما وصَفْنا: أن مَنْ صلى فريضةً جاز أن يُعيدها فتكون فريضة، فلذلك صلاها رسول الله عليه السلام مرتين بالطائفتين، وذلك هو جائز لو بقي الحكم على ذلك، فأما إذا نُسِخ ونُهِىَ أن تُصلّى فريضةٌ مرتين؛ فقد ارتفعَ ذلك المعنى الذي له صَلّى بكُلّ طائفة ركعتَيْن، وبطل العمل به، فلا حجة لهم في حديث أبي بكرة وجابر؛ لاحتمالهما ما ذكرناه.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا حَبّان -يعني ابن هلال- قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن عامر الأحول، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المعافِريّ قال:"كان أهل العَوالي يُصلّون في منازلهم ويُصلّون مع النبي عليه السلام، فنهاهم النبي عليه السلام أن يُعيدوا الصلاة في يوم مرتين. قال عمروٌ: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: صدق".
ش: أي: ولا حجة لهؤلاء القوم الذين ذهبوا إلى حديثي أبي بكرة وجابر رضي الله عنهما، وذلك لأنه يجوز أن يكون النبي عليه السلام صَلاّها كذلك -أي ركعتين ركعتين- لأنه -أي
لأن النبي عليه السلام- لم يكن في سفر تُقصر في مثله الصلاة، يعني كان مقيمًا، فلذلك صلى بكل طائفة ركعتين، وهكذا هو الحكم فيما إذا حضر العدو مصرًا من أمصار المسلمين وأراد أهل العصر أن يصلّوا صلاة الخوف، فلهم أن يُصلوا كذلك إذا صلّوا
صلاة رباعيةً.
قوله: "قالوا: فإن القضاء ما ذكر" سؤال من جهة هؤلاء القوم، تقريره أن يُقال: كيف قلتم: إنه يحتمل أن يكون مقيمًا وصلى بكل طائفة ركعتين ثم قضوا بعد ذلك ركعتين ركعتين، والحال أن القضاء ما ذكر في الحديث؟
وتقرير الجواب ما أشار إليه بقوله: قيل لهم -أي لهؤلاء القوم-: قد يجوز أن يكون قد قضوا ركعتين ركعتين ولم يُنقل ذلك في الخبر اكتفاء لدلالة مرأى الحال عليه، وهذا الباب واسع شائع ذائع.
قوله: "وإن كانوا لم يقضوا
…
" إلى آخره، جواب على تقدير عدم القضاء، بيانه: وإن سلمنا أنهم لم يقضوا شيئًا؛ فكذلك لا حجة لكم فيه أيضًا؛ لأنه قد يجوز أن يكون النبي عليه السلام قد فعل ذلك حين كان يُصلي الفريضة مرتين، فتكون كلتا الصلاتين فريضةً، فلما نسخ ذلك انتسخ ذاك أيضًا.
قوله: "وقد كان يُفعل ذلك
…
" إلى آخره، إشارة إلى بيان ما ذكره من قوله: "والفريضة حينئذٍ تُصلّي مرتين" أي: قد كان يُفعل تكرار أداء الفريضة في ابتداء الإِسلام، ثم نسخ.
واستدل عليه بما أخرجه عن حسين بن نصر بن المعارك، عن يزيد بن هارون الواسطي شيخ أحمد روى له الجماعة، عن حسين بن ذكوان المعلم البصري روى له الجماعة، عن عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص احتج به الأربعة، عن سليمان بن يسار الهلالي أبي أيوب المدني مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام أخي عطاء بن يسار
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا أبو كامل، ثنا يزيد -يعني ابن زريع- عن عمرو بن شعيب، عن سليمان مولى ميمونة قال:"أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، قلت: ألا تُصلي معهم؟ قال: قد صليتُ (قد صليت) (2) إني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لا تصلوا في يوم مرتين".
وأخرجه النسائي (3): أنا إبراهيم بن محمَّد التيمي، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن سليمان مولى ميمونة قال:"رأيت ابن عمر جالسًا على البلاط والناس يصلون، قلت: يا أباعبد الرحمن، ما لك لا تُصلِّي؟ قال: إني قد صليت، إني سمعت رسول الله عليه السلام يقول: لا تعاد الصلاة في يوم مرتان".
قوله: "ألا تصلي؟ " استفهام على سبيل الإنكار عليه.
قوله: "في رحلي" أي: في منزلي.
قوله: "على البَلاط" بفتح الباء الموحدة وهي ضرب من الحجارة تُفرشُ به الأرضُ، ثم سُمِّي المكانُ بلاطًا اتساعًا، وهو موضع معروف بالمدينة.
قوله: "نهى أن تُصلَّى فريضة في يوم مرتين" قال الخطابي: هذا محمول على صلاة الاختيار دون ما لها سبب كالرجل يدرك جماعةً فيصلي معهم في غير العصر والصبح وقد كان صلى؛ ليدرك فضيلة الجماعة جمعًا بين الأحاديث.
قلت: هذا محمول على أن يصلي الفرض مرتين بنية الفرض في كل منهما، أو هو محمول على صلاة العصر والصبح؛ لأن تكرارهما منهي لورود النهي بعد الصلاة العصر والصبح، ويكون سؤال سليمان عن ابن عمر وجوابه إياه عند صلاة العصر أو الصبح.
(1)"سنن أبي داود"(1/ 158 رقم 579).
(2)
تكررت في "الأصل"، ووضع المؤلف رحمه الله فوق الثانية "صح" أي أنه قصدها هكذا وليست في "سنن أبي داود".
(3)
"المجتبى"(2/ 114 رقم 860).
قوله: "والنهي لا يكون إلا بعد الإباحة"؛ لأن النهي هو الحظر والمنع وذا لا يكون إلا بعد الإطلاق والإباحة.
قوله: "في بَدْء الإسلام" أي في ابتداء الإِسلام.
قوله: "وتركُ ابن عمر رضي الله عنهما" كلام إضافي مبتدأ، وقوله:"يحتمل عندنا" خبره، وأشار بهذا إلى بيان معنى ترك ابن عمر الصلاة مع القوم، وهو أن ذلك يحتمل مَعْنَيَيْن.
الأول: أن تكون تلك الصلاة التي كان ابن عمر تركها صلاةً لا يتُطوع بعدها نحو صلاة العصر أو الصبح، فحينئذٍ لا يجوز أن يُصليها إلا على أنها فريضة لعدم جواز التطوع، والصلاة على أنها فريضة أيضًا لا يجوز لنهيه عليه السلام أن تُصلى فريضة في يوم مرتين.
والثاني: يحتمل أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما قد سمع من النبي عليه السلام النهي عن إعادة الفريضة وتكرارها مرتين مطلقًا، ثم إن النبي عليه السلام قد رخص بعد ذلك أن تُصلّى على أنها نافلة، فلم يبلغ ذلك ابن عمر رضي الله عنهما، فترك الصلاة مع القوم بناءً على ما سمعه من النهي عن إعادة الفريضة.
فلما تحقق ها هنا احتمالان، نَحْتاجُ إلى نظر في ذلك، هل يوجد شيء من الآثار يحقق أحد الاحتمالين؟
فنظرنا في ذلك فوجدنا إبراهيم بن أبي داود البُرلسي قد حدّث عن أحمد بن خالد بن موسى بن وهب الوَهْبي الكندي الحمصي شيخ البخاري في غير الصحيح عن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون أبي عبد الله روى له الجماعة -وقد ذكرنا أن الماجشون لقب لُقِّب به لحمرة خدَّيه- عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع مولى سعيد بن العاص المدني وثقه ابن حبان، عن محرّر -براءين مهملتين الأصلين مفتوحة مشددة- ابن أبي هريرة وثقه ابن حبان وروى له النسائي وابن ماجه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن ربيعة بن عمار وأبي العميس، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، عن ابن عمر قال:"صلاته الأولى" انتهى.
فهذا الحديث قد دلّ على تحقق الاحتمال الثاني؛ لأنه قد رأى أن الصلاة الثانية تكون تطوعًا، فدلّ على أن تركه الصلاة مع القوم في حديث سليمان مولى ميمونة إنما كان لأن تلك الصلاة كانت صلاة لا يجوز أن يتطوع بعدها فكانت، إما عصرًا أو صبحًا.
قوله: "وإن كان حديثا أبي بكرة وجابر اللذين ذكرنا كانا والحكم ما وصفنا" أي: وُجدا ووقعا، و"كان" ها هنا تامّة و"الحكم" مبتدأ، وما وصفنا خبره، والجملة وقعت حالًا.
قوله: "جاز أن يعيدها" جواب "إنْ" في قوله: "وإن كان حديث أبي بكرة". وباقي الكلام ظاهر.
قوله: "حدثنا أبو بكرة
…
" إلى آخره، إشارة إلى تأكيد ما ورد من النهي عن إعادة الصلاة في يوم مرتين.
أخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن حَبّان -بالفتح وتشديد الباء الموحدة- ابن هلال الباهلي روى له الجماعة، عن همام بن يحيى العَوْذي أبي بكر البصري روى له الجماعة، عن قتادة بن دعامة، عن عامر بن عبد الواحد الأحول البصري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن عمرو بن شعيب، عن خالد بن أيمن المُعَافري ذكره ابن أبي حاتم في الصحابة، وأنكر عليه أبو عمر بن عبد البرّ وقال: لا يُعرف هذا في الصحابة ولا ذكره فيهم غيره.
قلت: هذا مجرد إنكار فلا يُسَمعُ ذلك؛ لأنه لا يلزم من عدم ذكر غيره إياه في الصحابة أن لا يكون هو صحابيًّا، فقد يمكن أن يكون قد ثبت عند ابن أبي حاتم
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 75 رقم 6643).
كونه من الصحابة، ويفهم من كلام الطحاوي أيضًا أنه صحابي، فإذا اتفق إمامان مثلهما على شيء لا يبقى فيه مجال للإنكار والرد.
وقد أخرج ابن أبي حاتم هذا الحديث في ترجمة خالد بن أيمن المعافري (1)، ونسبته إلى المَعافر -بفتح الميم- بن يَعفر بن مالك بن الحارث بن قرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن غريب بن زيد بن كهلان قبيل ينسب إليه كثيرٌ، عامّتُهم بمصْر.
قوله: "كان أهل العوالي" وهي أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية، والنسبة إليها عُلْوِيّ على غير قياس.
قوله: "قال عمرو" أي: عمرو بن شعيب.
ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله في هذا ما يَدُلّ على غير هذا المعنى.
حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري:"أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة في الخوف أيّ يوم أنزل؟ وأين هو؟ قال: انطلقنا نَتَلَقّى عير قريش آتيةً من الشام حتى إذا كنا بنَخْل جاء رجل من القوم إلى رسول الله عليه السلام فقال: أنت محمَّدٌ؟ قال: نعم. قال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك. قال: فسَلّ السَيْفَ، فتهدده القوم وأوعدوه، فنادى النبي عليه السلام بالرحيل، وأخذوا السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى النبي عليه السلام بطائفة من القوم وطائفةُ أخرى يَحْرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم سلم، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم، فقاموا في مصافّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين، والآخرون يحرسونهم ثم سلم، فكان للنبي عليه السلام أربع ركعات، وللقوم ركعتان ففي يومئذٍ أنزل الله تعالى إقصار الصلاة، وأمر المؤمنين بأخذ السلاح".
(1)"الجرح والتعديل"(3/ 320 رقم 1435).
ففي هذا الحديث ما يَدُلّ على أن النبي عليه السلام صلى بهم أربعًا يومئذٍ قبل إنزال الله عز وجل في قصر الصلاة ما أنزل عليه، وأن قصر الصلاة إنما أمر الله به بعد ذلك فكانت الأربع يومئذٍ مفروضة على النبي عليه السلام وكان المؤتمون به فرضهم أيضًا كذلك؛ لأن حكمهم حينئذٍ كان في سفرهم كحكمهم في حضرهم، ولابد إذا كان ذلك كذلك من أن تكون كل طائفة من هاتين الطائفتين قد قضت ركعتين ركعتين كما يُفعَل لو كانت في الحضر.
ش: أي قد روي عن جابر بن عبد الله في هذا الباب ما يدل على غير المعنى المذكور في الرواية السابقة؛ وذلك لأنه أخبر في هذا الحديث أن النبي عليه السلام صلى بالقوم أربع ركعات؛ لأن الله تعالى لم يكن أنزل بَعدُ في قصر الصلاة، وأنه إنما أنزل القصر بعد ذلك، فكانت الأربع حينئذٍ مفروضة عليهم؛ لأن السفر كان كالحضر قبل نزول القصر، فإذا كان الأمر كذلك فلابد أن تكون كل واحدة من الطائفتين قد قضت ركعتين ركعتين كما كان يجب عليهم ذلك لو كانوا في الحضر.
ثم إسنادُ حديث جابر صحيح، وقال البخاري: ويقال إن سليمان اليشكري مات في حياة جابر بن عبد الله ولم يسمع منه قتادة.
والحديث أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1): أنا عبد الله بن محمَّد الأزدي، نا إسحاق بن إبراهيم، نا معاذ بن هشام، نا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري: "أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة في الخوف، أين أنزل وأين هو؟ فقال: خرجنا نتلقى عيرًا لقريش أتت من الشام، حتى إذا كنا بنخلٍ جاء رجل إلى رسول الله عليه السلام وسيفه موضوع، فقال: أنت محمَّد؟ قال: نعم
…
" إلى آخره نحوه.
قوله: "عِير قريش" أي: إبلهم بأحمالها وهو بكسر العين. قال ابن الأثير: العير: الإبل بأحمالها، فِعل من عَارَ يَعِيرُ إذا سار، وقيل: هي قافلة الحمير فكثرت
(1)"صحيح ابن حبان"(7/ 136 رقم 2882).
حتى سميت بها كل قافلة كأنها جمع عَير، وكان قياسُها أن تكون فُعُلا بالضم كسُقُف في سَقْف، إلا أنه حوفظ على الياء بالكسر نحو عِين.
قوله: "آتيةً" بالنصب على أنها حال من "العير".
قوله: "بنخل" أي في نَخْل، وهو بفتح النون وسكون الخاء المعجمة على لفظ جمع نخلة، قال يعقوب: هي قرية بوادي يُقال لها شَرْح لفزارة وأشجع وأنمار وقريش والأنصار.
وقال ابن حبيب: هي لبني فزارة. وقال ابن عوف: على ليلتين من المدينة. وقال غيره: ما بين القَصير والثاملية حضَر محارب.
قوله: "جاء رجل" واسمه غورث بن الحارث.
قوله: "على أعقابهم" جمع عَقِب -بفتح العين وكسر القاف- وهي مؤخر الرحل، والمعنى: تأخروا إلى ورائهم.
قوله: "في مَصافّ أصحابهم" بفتح الميم وتشديد الفاء جمع مَصَفٍّ وهو موضع الحرب الذي تكون فيه الصفوف.
قوله: "إقصار الصلاة" بكسر الهمزة.
ص: فإن قال قائلٌ: ففي هذا الحديث ما يَدُلّ على خروج النبي عليه السلام من الصلاة بعد فراغه من الركعتين اللتين صلاهما بالطائفة الأولى، واستقباله الصلاة في وقت دخول الطائفة الثانية معه فيها؛ لأن في الحديث "ثم يُسَلّم".
قيل له: قد يحتملُ أن يكون ذلك السلام المذكور في هذا الموضع هو سلام التشهد الذي لا يُراد به قطع الصلاة، ويحتمل أن يكون سلامًا أراد به إعلام الطائفة الأولى بأوان انصرافها، والكلام حينئذٍ مباح له في الصلاة غير قاطع لها على ما قد رُوي في ذلك عن عبد الله بن مسعود، وعن أبي سعيد الخدري، وعن زيد بن أرقم رضي الله عنهم على ما قد رويناه عن كل واحد منهم في الباب الذي ذكرنا فيه وجوه حديث ذي اليدين في غير هذا الموضع من هذا الكتاب.
ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف قلتم: فكان الأربعُ يومئذٍ مفروضةً على النبي عليه السلام وعلى المأمومين به، والحديث يدل على أنه عليه السلام خرج من الصلاة بعد فراغه من الركعتين اللتن صلاهما بالطائفة الأولى، وعلى أنه استقبل الصلاة في وقت دخوله فيها مع الطائفة الثانية، والذي دلّ على ذلك هو قوله:"ثم سلّم". والتسليم قاطع؛ لقوله عليه السلام: "وتحليلها التسليم"(1).
وتقرير الجواب أن يقال: يحتمل أن يكون سلامه بين الأربع لم يكن لأجل قطع الصلاة، وإنما كان سلام التشهد لأن في التشهد على رأس الركعتين الأولتين من ذوات الأربع تسليمًا في تشهده، ويحتمل أن يكون التسليم حيئنذٍ لم يكن ممنوعًا؛ لكون الكلام مباحًا حينئذٍ غير قاطع للصلاة على ما بيّن ذلك في باب "سجود السهو" على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله، عن النبي عليه السلام أنه صلاّها على غير هذا المعنى.
حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البَرْقيُّ، قال: ثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني يزيدُ بن الهاد، قال: حدثني شرحبيل بن سَعْد، عن جابر بن عبد الله، عن النبي عليه السلام في صلاة الخوف قال:"قام النبي عليه السلام وطائفة من خلفه من وراء الطائفة التي خلف النبي عليه السلام قعودٌ ووجوههُم كلُهم إلى النبي عليه السلام، فكبَّر صلى الله عليه وسلم وكبرت الطائفتان، وركع وركعت الطائفة التي خلفه والأخرَى قعُودٌ، ثم سجد فسجدوا أيضًا والآخرون قعودٌ، ثم قام وقاموا فنكصوا خلفه، حتى كانوا مكان أصحابهم، وأتت الطائفة الأخرى فصلى بهم النبي عليه السلام ركعةً وسجدتين والآخرون قعود، ثم سلم، فقامت الطائفتان كلتاهما فصلوا لأنفسهم ركعةً وسجدتين، ركعةً وسجدتين".
(1) تقدم.
فهذا الحديث عندنا من المحال الذي لا يجوز كونه؛ لأن فيه أنهم دخلوا في الصلاة وهم قعود. وقد أَجْمَع المسلمون أن رجلًا لو افتتح الصلاة قاعدًا، ثم قام فأتّمها قائمًا ولا عذر له في شيء من ذلك؛ أن صلاته باطلة، فكان الدخول لا يجوز إلا على ما يكون عليه الركوع والسجود، واستحال أن يكون الذي خلف النبي عليه السلام في الصفّ الثاني دخلوا في الصلاة قعودًا، فثبت عن جابر بن عبد الله ما رويناه عنه عن النبي عليه السلام في غير هذا الحديث.
ش: أشار بهذا إلى أنه قد روي عن جابر بن عبد الله في صلاة الخوف وجه آخر غير ما ذكر فيما مضى من الوجوه، ولكنه وجه محال؛ لأنه يذكر فيه أن القوم دخلوا في الصلاة وهم قعود وهذا لا يجوز؛ لأن العلماء قد أجمعوا على أن من افتتح الصلاة قاعدًا من غير عذر ثم أتمها قائمًا فإن صلاته باطلة؛ لأن فيه بناء القوي على الضعيف، والدخول في الصلاة إنما يجوز إذا كان على ما يكون عليه الركوع والسجود، فإذا كان كذلك فمن المحال أن يكون الذين خلف النبي عليه السلام في الصف الثاني قد دخلوا في الصلاة قعودًا، فثبت عن جابر بن عبد الله ما روي عنه عن النبي عليه السلام من غير هذا الوجه، وهذا الوجه لم يصح من جهة المعنى ومن جهة أن في سنده شرحبيل بن سعد، فإنه ضعيف على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: يحتمل أن يكون افتتاحهم الصلاة وهم قعود لأجل شدة الخوف، وكانوا مضطرين إلى ذلك فصاروا معذورين فيه.
قلت: هذا لا يتمشى ها هنا؛ لأنه لو كان كما ذكر لكانوا كلهم على هذه الهيئة، فلم يكونوا كذلك حتى لو كان الإِمام مع القوم جميعهم افتتحوا الصلاة وهم قعود في حالة إلجائهم إلى هذه الهيئة يجوز، وكذا لو صلّوا ركبانًا عند شدة الخوف أو بالإيماء يجوز، كما عرف في موضعه.
ثم رجال الحديث المذكورون كلهم ثقات إلا شرحبيل بن سعد الخطميم المدني مولى الأئصار، فإن مالكًا قال فيه: ليس بثقة. وقال يحيى: ليس
بشيء، ضعيف. وقال ابن سَعْد: وله أحاديث وليس يحتج به. وقال النسائي: ضعيف. وذكره ابن حبان في الثقات، وروى له أبو داود وابن ماجه.
والحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه"(1): ثنا عبد الرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان، ثنا أبو حاتم محمَّد بن إدريس الرازيّ، ثنا سعيد بن أبي مريم، أنا يحيى بن أيوب، حدثني يزيد بن الهاد، حدثني شرحبيل بن سَعْد، عن جابر بن عبد الله
…
إلى آخره نحوه.
ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد عرفتَ تساهل الحاكم في باب التصحيح.
ص: وذهب أخرون في صلاة الخوف إلى ما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قَبيصةُ، قال: ثنا سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزُرَقي قال:"صلى النبي عليه السلام الظهر بعُسفان، والمشركون بينه وبين القبلة فيهم أو عليهم خالد بن الوليد، فقال المشركون: لقد كانوا في صلاة لو أصَبْنا منهم لكانت الغنيمة، فقال المشركون إنها ستجيء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، قال: ونزل جبريل عليه السلام بالآيات فيما بين الظهر والعصر، قال: فصلى النبي عليه السلام العصر وصفّ الناس صفين، فكبّر وكبّروا معه جميعًا، ثم ركع وركعوا معه جميعًا، ثم رفع ورفعوا معه جميعًا، ثم سجد وسجد معه الصفُّ الذين يلونه، وقام الصف المؤخر يَحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع ورفعوا، ثم سجد الصف الآخر، ثم رفعوا، وتأخر الصف المقدم وتقدّم الصفّ المؤخر، فكبّر وكبّروا معه جميعًا، ثم ركع وركعوا معه جميعًا، ثم رفع ورفعوا معه جميعًا، ثم سجد وسجد الصفُّ الذين يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونهم بسلاحهم، ثم رفع ورفعوا جميعًا، ثم سجد الصف المؤخر، ثم سلم عليهم، وصلاّها مرّةً أخرى في أرض بني سُلَيْم".
(1)"المستدرك على الصحيحين"(1/ 486 رقم 1249).
وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي عليه السلام: "أنه صلاّها
…
" فذكر نحو هذا.
وكان ابن أبي ليلى ممن ذهب إلى هذا الحديث، وتركه أبو حنيفة ومحمد بن الحسن رحمهما الله؛ لأن الله عز وجل قال:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1)
ففي هذا الحديث أنهم صلوا جميعًا، وفي حديث ابن عمر، وعبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس، وفي حديث حذيفة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم دخول الطائفة الثانية في الركعة الثانية ولم يكونوا صلوا قبل ذلك، فالقرآن يدل على ما جاءت به الرواية عنهم عن النبي عليه السلام في ذلك، فكانت عنده أولى من حديثي أبي عياش وجابر بن عبد الله هَذَيْن.
ش: أي ذهب قوم آخرون، وأراد بهم: سفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبا يوسف في رواية، فإنهم ذهبوا في كيفية صلاة الخوف إلى حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله في حديثه الذي نحوه.
أما حديث أبي عياش فأخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة السوائي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد بن جبر، عن أبي عياش -بالياء المشددة آخر الحروف وفي آخره شين معجمة، قيل اسمه: زيد بن الصامت، وقيل: زيد بن النعمان، وقيل: عبيد، وقيل: عبد الرحمن بن معاوية- ابن الصامت، شهد مع النبي عليه السلام بعض غزواته.
وأخرجه أبو داود (2): نا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي قال: "كنا مع رسول الله عليه السلام بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصَبنا غِرّةً، لقد أصَبْنا غَفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة. فنزلت آية القصر بين الظهر
(1) سورة النساء، آية:[102].
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 11 رقم 1236).
والعصر، فلما حضرت العصر، قام رسول الله عليه السلام مستقبل القبلة والمشركون أمامه، فصفّ خلف رسول الله عليه السلام صف، وصَفّ بعد ذلك الصفّ صَفُّ آخر، فركع رسول الله عليه السلام وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذين بإزائه، وقام الآخرون يحرسونهم فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا؛ سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصفُّ الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصفّ الأخير إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله عليه السلام وركعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يَحْرسونهم، فلما جلس رسول الله عليه السلام والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعًا، فسلّم عليهم جميعًا، فصلاّها بعَسْفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم".
وأخرجه النسائي (1)، والإمام أحمد (2) والبيهقي (3) وقال: هذا إسناد صحيح إلا أن بعض أهل العلم بالحديث يشُكك في سماع مجاهد من أبي عياش.
ثم ذكر الحديث بإسناد جيد، عن مجاهد، قال: ثنا أبو عياش، وبيّن فيه سماع مجاهد من أبي عياش، وبهذه الصورة أخذ سفيان الثوري.
ولما أخرج أبو داود حديثه قال: وهو قول الثوري.
وهو أحوط الصور، وإنما كانت أحوط الصور لأنها رويت بطرق كثيرة، والفقهاء لما رجح بعضُهم بعضَ الروايات على بعضٍ احتاجوا إلى ذكر سبب الترجيح، فتارةً يرجحون بموافقة ظاهر القرآن، وتارة بكثرة الرواية، وتارةً بكونها موصولًا وبعضها موقوفًا، وتارة بالموافقة للأصول في غير هذه الصلاة، وتارة بالمعاني، كما أن أبا حنيفة اختار حديث ابن عمر وروايته؛ لأنها تُوافقُ الأصول في أن قضاء الطائفة بعد سلام الإِمام.
(1)"المجتبى"(3/ 177 رقم 1550).
(2)
"مسند أحمد"(4/ 59 رقم 16630).
(3)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 256 رقم 5821).
وإلى هذا المعنى أشار الطحاوي بقوله: "وتركه أبو حنيفة ومحمد". أي تركا الحديث المروي عن أبي عياش وجابر نحوه؛ لأن فيه مخالفةً لظاهر القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (1)، فهذا يقتضي أن يكون القوم طائفتين: طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، وعلى ما ذهب إليه الثوري وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي يكون القوم جميعهم يفتتحون الصلاة مع الإِمام، فهذا خلاف ظاهر القرآن، والذي يُوافق ظاهر القرآن هو حديث عبد الله ابن عمر، وحديث عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وحديث حذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، فلذلك كانت أحاديث هؤلاء عنده -أي عند أبي حنيفة- أولى من حديثي أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله هذين، وأشار به إلى المذكورَيْن من حديثَيْهما.
وأما حديث جابر فأخرجه عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير محمَّد بن مسلم المكي، عن جابر بن عبد الله عن النبي عليه السلام.
ولما أخرج أبو داود (2) حديث أبي عياش الزُّرقي قال: وروى أيوب وهشام، عن أبي الزبير، عن جابر هذا المعنى عن النبي عليه السلام، وكذلك رواه داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وكذلك عبد الملك، عن عطاء، عن جابر، وكذلك قتادة، عن الحسن، عن حطان، عن أبي موسى فعله، وكذلك عكرمة بن خالد، عن مجاهد، عن النبي عليه السلام، وكذلك هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي عليه السلام.
قلت: رواية عكرمة وعطاء موقوفة، ورواية مجاهد وعروة مرسلة، فالحاصل أن الحديث المذكور روي بطرق مختلفة ما بين مرفوع وموقوف ومرسل.
(1) سورة النساء، آية:[102].
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 11 رقم 1236).
قوله: "بعُسفان" بضم العين وسكون السين المهملة وبالفاء بعدها ألف ثم نون، وهي قرية جامعة بها منبر، على ستة أميال من مكة، وذكرت في كتاب "البلدان" أنها على مرحلة من خُلَيص في الجنوب، ومن عُسْفان إلى بطن مرّ ثلاثة وثلاثون ميلًا، وسُمِّيت عسفان لتعسف السيول فيها، وكانت صلاته عليه السلام بعسفان صلاة الخوف سنة أربع من الهجرة، وكانت هي غزوة بني لحيان، وهكذا ذكر البيهقي في "الدلائل".
وأما ابن إسحاق فإنه ذكر أنها كانت في جمادى الأولى من سنة ست للهجرة بعد الخندق وبني قريظة، وهو الأشبه مما ذكره البيهقي.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله قال:"أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعُسفان بينهما أربع سنين" قال: وهذا عندنا أثبت.
قوله: "فيهم" أي: في المشركين.
قوله: "أو عليهم" شك من الراوي، أي: أو على المشركين.
قوله: "بالآيات" أراد بها آيات القصر وهي قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (1) الآية، وقال علي رضي الله عنه:"نزل قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} (1) بعد قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1) بسنة في غزوة بني أسد؛ صلى رسول الله عليه السلام الظهر قال بعضهم: هلًا شدَدْتم عليهم وقد أمكنوكم من ظهورهم؟ فقالوا: بعدها صلاة أحبّ إليهم من آبائهم وأولادهم؛ فنزل {إِنْ خِفْتُمْ} (1) إلى قوله: {عَذَابًا مُهِينًا} (2) ليشرع صلاة الخوف".
قوله: "وصلاها مرةً أخرى في أرض بني سُلَيم" وسُلَيم -بضم السين- قبيلة من قيس غيلان، وهو سُليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس غيلان، وسُلَيم أيضًا قبيلة في جذام من اليمن.
(1) سورة النساء، آية:[101].
(2)
سورة النساء، آية:[102].
ص: وذهب أبو يوسف إلى أن العدو إذا كان في القبلة فالصلاة كما رَوَى أبو عياش وجابرٌ رضي الله عنهما، وإن كانوا في غير القبلة فالصلاة كما رَوَى ابن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم؛ لأن في حديث أبي عياش أنهم كانوا في القبلة، وحديث حذيفة وابن عمر وزيد لم يُذكر فيه شيءٌ من ذلك، إلا أنه قد روي عن ابن مسعود في ذلك ما يوافق ما رَوَوْا، وقال: كان العدوّ في غير القبلة.
وقال أبو يوسف: فأصحِّح الحديثين، فأجعل حديث ابن مسعود وما يوافقه إذا كان العدو في غير القبلة، وحديث أبي عياش وجابر إذا كان العدو في القبلة، وليس هذا بخلاف التنزيل عندنا؛ لأنه قد يجوز أن يكون قوله:{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} إذا كان العدو في غير القبلة، ثم أوحى الله تعالى إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا في القبلة، ففعل الفعلين جميعًا كما جاء الخبران، وهذا أصح الأقاويل عندنا في ذلك وأولاها؛ لأن تصحيح الآثار يشهد له.
وقد دلّ على ذلك أيضًا أن عبد الله بن عباس قد رُوي عنه، عن النبي عليه السلام في صلاة الخوف ما ذكرنا في أول هذا الباب مما رواه عنه عبيد الله بن عبد الله من صلاة النبي عليه السلام في ذلك بذي قرد، وكان ذلك موافقًا لما روى عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وحذيفة وزيدٌ رضي الله عنهم عن النبي عليه السلام في ذلك.
ثم رُوي عن عبد الله بن عباس في ذلك من رأيه ما قد حدّثنا سليمان بن شُعَيْب، قال: ثنا عبد الله بن محمَّد بن صالح الهاشمي أبو بكر، قال: ثنا ابن لهيعة، عن الأعرج أنه سمع عبيد الله بن عبد الله بن عباس يقول: "كان ابن عباس يقول في صلاة الخوف
…
" فذكر مثل ما فعل النبي عليه السلام في حديث أبي عياش، وحديث جابر بن عبد الله الذي وافقه.
فلما كان ابن عباس قد علم من فعل النبي عليه السلام على ما رويناه عنه في حديث عبيد الله وقال: "وكان المشركون بينه وبين القبلة" ثم قال هذا برأيه، واستحال أن يكونوا يصلون هكذا والعدو في غير القبلة، ويصلون إذا كان العدو في
القبلة كما روى عنه عبيد الله؛ لأنهم إذا كانوا لا يستدبرون القبلة والعَدوُّ في ظهورهم كان أحرى أن لا يَسْتدبروها إذا كانوا في وجوههم.
ولكن ما ذكرنا عنه من ترك الاستدبار هو إذا كان العدوّ في القبلة، ويحتمل أيضًا أن يكون كذلك إذا كان العدو في غير القبلة كما قال ابن أبي ليلى، فقد أحاط علمنا بقوله بخلاف ما روى عنه عبيد الله، عن النبي عليه السلام إذا كان العدوّ في القبلة ولم نَكُن لِنقُول ذلك إلا بعد ثبوت نسخ ما تقدّمه عنده، ولم نَعلم نسخ ذلك عنده إذا كان العدو في غير القبلة، فجعلنا هذا الذي رَوْيناه عنه من قوله هو في العدو إذا كانوا في القبلة، وتركنا حكم العدوّ إذا كانوا في غير القبلة على مثل ما رواه عنه عبيد الله عن النبي عليه السلام.
ش: اعلم أنه رُوي عن أبي يوسف ثلاث روايات في صلاة الخوف.
الأولى: أنها لا تُصلى بعد النبي عليه السلام على ما يأتي
والثانية: مثل قول أبي حنيفة ومحمد.
والثالثة: بالتفصيل، وهو أن العدو إذا كانوا في القبلة تُصلّى كما في حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله، وهو أن يجعل الإِمام الناس صفين، فيكبرّ ويكبّرون معه جميعًا، ثم إذا ركع يركعون معه جميعًا وإذا رفع رأسه يرفعون رءوسهم معه جميعًا، ثم إذا سجد يسجد معه الصف الذين يلونه ويقوم الصف الآخر يحرسونهم بأسلحتهم، ثم إذا رفع الإِمام رأسه من السجدة يرفع معه الصف الذين يلونه، ثم يَسْجد الصَفّ الآخر، فإذا رفعوا رءوسهم من السجود يتأخر الصف المقدم ويتقدم الصف المؤخر، فيكبر الإِمام ويكبرون معه جميعًا، وإذا ركع يركعون معه جميعًا وإذا رفع رأسه يرفعون معه جميعًا، ثم إذا سجد الإِمام سجد معه الصف الذين يلونه، ويقوم الصف الآخر يحرسونهم بأسلحتهم، فإذا رفع الإِمام رأسه يرفعون معه جميعًا، ثم يسجد الصف الآخر، ثم يسلم الإِمام معهم جميعًا.
وإن كان العَدُو في غير القبلة تُصلّى كما في حديث عبد الله بن عمر وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وهو أن يجعل الإِمام الناس طائفتين، طائفة بإزاء
العدو، ويفتتح الصلاة بطائفة فيصلي بهم ركعةً إن كان مسافرًا أو كانت صلاة الصبح، وركعتين إن كان مقيمًا والصلاة من ذوات الأربع، وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، وتعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة.
وإنما فصَّل أبو يوسف بهذا التفصيل؛ لأن في حديث أبي عياش أنهم -أي العدو- كانوا في القبلة؛ لأنه قال فيه: "والمشركون بينه وبين القبلة"، وأما في حديث ابن عمر وحذيفة وزيد رضي الله عنهم فلم يذكر شيء من ذلك، غير أنه قد روي عن عبد الله بن مسعود في ذلك ما يُوافق ما رَوَوْا، وقال في روايته:"كان العَدّو في غير القبلة"، وهو صَرّح بأنهم لم يكونوا في القبلة، وهو خلاف ما روي في حديث أبي عياش وجابر رضي الله عنهما، فإذا وقع خلاف بين الروايتين، الأصل فيه التوفيق ما أمكن وإليه أشار أبو يوسف بقوله: "فَأُصَحِّح الحديثين، فأجعل حديث ابن مسعود
…
" إلى آخره، وأراد بتصحيح الحديثين العمل بهما بالتوفيق بينهما؛ وذلك أنه حمل حديث ابن مسعود وما يوافقه من أحاديث ابن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت على ما إذا كان العدو في غير القبلة وحمل حديث أبي عياش الزرقي وجابر على ظاهره على ما إذا كان العدو في القبلة، وبهذا التصحيح يكون العمل بالحديثين، بخلاف ما إذا عمل بأحدهما حيث يلزم الإهمال للآخر.
ولما كان ها هنا سؤال وهو أن يقال: إن ما ذكرتم خلاف لما في الآية، فلا يجوز العمل بخبر يخالف ظاهره ظاهر القرآن.
أجاب عنه بقوله: "وليس هذا بخلاف التنزيل عندنا". وتقريره أن يقال: لا نسلم أن ما في حديث أبي عياش وجابر يخالف ظاهر الآية؛ لأنه قد يجوز أن يكون قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا} (1) إذا كان العدو
(1) سورة النساء، آية:[102].
في غير القبلة، فتكون الآية مُبينة لصورة الصلاة إذا كان العدو في غير القبلة، ثم بعد ذلك أوحى الله إلى نبيه عليه السلام كيف يكون حكم الصلاة إذا كان العدو في القبلة، فيكون النبي عليه السلام قد فعل الفعلين جميعًا في الحمالتين وبهما جاء الخبران.
واختار الطحاوي أيضًا ما ذهب إليه أبو يوسف من التوفيق المذكور حيث قال: "وهذا أصح الأقاويل عندنا في ذلك" أي في باب صلاة الخوف و"أولاها" أي أحقها بالقبول والعمل؛ "لأن تصحيح الآثار يشهد له" يعني: إذا جُمِعَت الأحاديث التي رُوِيَتْ في هذا الباب وكشف معناها ترجع كلها إلى المعنى الذي ذكره أبو يوسف، فيكون أولى الأقوال وأحقها بالعمل.
قوله: "وقد دل على ذلك" أي على ما قاله أبو يوسف أن عبد الله بن عباس قد روى عنه عبيد الله بن عبد الله من صلاة النبي عليه السلام بذي قرد ما يوافق ما رواه عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وحذيفة وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وأراد بالموافقة المذكورة هي الموافقة في كيفية الصورة؛ وذلك أن المذكور فيما رواه عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، هو أن النبي عليه السلام جعل الناس صفين صفًّا خلفه، وصفًّا بإزاء العدو
…
إلى آخر ما ذكره، وهذا كالمذكور في أحاديث عبد الله بن مسعود وابن عمر وحذيفة وزيد، ثم روى عن عبد الله بن عباس من رأيه واجتهاده أنه ذهب في صلاة الخوف إلى ما ذكر في حديث أبي عياش الزرقي وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الله بن محمَّد بن صالح بن قيس الهاشمي، عن عبد الله بن لهيعة، عن عبد الرحمن الأعرج، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عبد الله بن عباس.
وذهاب ابن عباس إلى ما في حديث أبي عياش بعد روايته عن النبي عليه السلام ما رواه عنه عبيد الله بن عبد الله يدل على أنهم كانوا يصلون هكذا والعدو في القبلة كما ذكر أيضًا عبيد الله بن عبد الله في روايته عن عبد الله بن عباس: "والمشركون بينهم وبين القبلة؛ لأنه يستحيل أن يكونوا يصلون على ما في حديث أبي عياش والعدو في غير القبلة"؛ وذلك أنهم إذا كانوا لا يستدبرون القبلة والعدو في ظهورهم فبالطريق
الأولى أن لا يستدبروها إذا كانوا في وجوههم، ولكن المذكور عنه من ترك الاستدبار هو ما إذا كان العدو في القبلة.
قوله: "ويحتمل أيضًا
…
" إلى آخره، إشاره إلى توجيه آخر لذهاب ابن عباس برأيه إلى ما في حديث أبي عياش الزرقي، بيان ذلك أن يقال: يحتمل أن يكون ذهاب ابن عباس إلى ما في حديث أبي عياش الزرقي سواء كان العدو في القبلة أو غيرها، كما ذهب إليه عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، فحينئذٍ يكون قوله بخلاف ما روى عنه عبيد الله عن النبي عليه السلام إذا كان العدو في القبلة، ولكن لا يمكن أن نقول ذلك إلا بعد ثبوت نسخ ما تقدم ذلك عنده -أي عند ابن عباس- ولا نعلم نسخ ذلك عنده إذا كان العدو في غير القبلة، فإذا كان كذلك حملنا قوله من رأيه على ما إذا كان العدو في القبلة، وتركنا روايته عن النبي عليه السلام التي رواها عنه عبيد الله بن عبد الله على مثل ما روى إذا كان العدو في غير القبلة، فافهم فإنه موضع دقيق مأخذه.
ص: وقد كان أبو يوسف رحمه الله قال مرةً: لا تُصلَّى صلاةُ خوف بعد النبي عليه السلام، وزعم أن الناس إنما صلّوْها لفضل الصلاة معه، وهذا القول عندنا ليس بشيء؛ لأن أصحاب النبي عليه السلام قد صلوها بعده، قد صلاها حذيفة بطبرستان، وما في ذلك فأشهر من أن نحتاج إلى نذكره ها هنا.
فإن احتج في ذلك بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (1) الآية، فقال: إنما أمر بذلك إذا كان فيهم، فإذا لم يكن فيهم انقطع ما أمر به من ذلك.
قيل له: فقد قال عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (2) الآية. فكان الخطاب ها هنا له صلى الله عليه وسلم، وقد أُجمع أن ذلك معمول به بعده كما كان يُعمل به في حياته.
(1) سورة النساء، آية:[102].
(2)
سورة التوبة، آية:[103].
ولقد حدثني ابن أبي عمران أنه سمع أبا عبد الله محمَّد بن شجاع الثلجيَّ يَعيبُ قول أبي يوسف هذا فيقول: إن الصلاة مع النبي عليه السلام وإن كانت أفضل من الصلاة مع الناس جميعًا فإنه لا يجوز لأ حد أن يتكلم فيها بكلام يقطعها، ولا ينبغي أن يفعل فيها شيئًا لا يَفْعله في الصلاة مع غيره، وأنه يقطعها ما يقطع الصلاة خلف غيره من الأحداث كلها، فلما كانت الصلاة خلفه لا يقطعها الذهاب والمجيء واستدبار القبلة إذا كانت صلاة خوف، كانت خلف غيره أيضًا كذلك، والله أعلم.
ش: قد ذكرنا أن أبا يوسف روي عنه ثلاث روايات في صلاة الخوف إحداها أتى قال: لا تُصلَّى بعد النبي عليه السلام لأنهم إنما صلوها لأجل فضل الصلاة معه؛ إذ الفضل الذي يكون وراءه لا يوجد في الصلاة وراء غيره، فلا تصلى بعده إلا بإمامين؛ لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول، فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة ونحوها مما هو منافٍ للصلاة.
وقال الطحاوي: هذا القول عندنا ليس بشيء؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قد صلوها بعده - أي بعد النبي عليه السلام- منهم حذيفة بن اليمان قد صلاها بطبرستان.
وروى البيهقي (1) من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سُلَيْم بن عبد السلولي قال: "كنت مع سعيد بن العاص بطبرستان وكان معه نفر من أصحاب النبي عليه السلام، فقال لهم سعيد: أيكم شهد مع رسول الله عليه السلام صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، مُرْ أصحابك فليقوموا طائفتين
…
" الحديث، وقال الذهبي: سُلَيْم لا يعرف.
وأخرج عن مسلم (2)، عن عبد الصمد بن حبيب، عن أبيه:"أنهم غزوا مع عبد الرحمن بن سَمُرة كابل، فصلّى بهم صلاة الخوف".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 252 رقم 5802).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 261 رقم 5841).
وعن أبي جعفر الرازي (1)، عن قتادة، عن أبي العالية قال:"صلى بنا أبو موسى بأصبهان صلاة الخوف".
وعن أبي جعفر الباقر (1): "أن عليًّا رضي الله عنه صلى المغرب صلاة الخوف ليلة الهرير".
وكذلك روى (1) عن جماعة من الصحابة جواز فعلها بعد النبي عليه السلام منهم: ابن عباس، وابن مسعود وزيد بن ثابت، وآخرون من غير خلاف يحكى عن أحد منهم، ومثله يكون إجماعًا لا يسعُ خلافه.
قوله: "فإن احتج في ذلك" أي فإن احتج أبو يوسف فيما ذهب إليه من منعه صلاة الخوف بعد النبي عليه السلام بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} (2)؛ وذلك أن الله تعالى قد خصّ هذه الصلاة يكون النبي عليه السلام فيهم، فإذا خرج من الدنيا عُدِمَ الشرط، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط.
وأجاب عنه بقوله: "قيل له" أي: لأبي يوسف، وتقريره أن يقال: إن الآية ليس فيها أن الرسول إذا لم يكن معهم لا تجوز، ألا ترى إلى قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (3) الآية، فإنه لم يوجب كون النبي عليه السلام مخصوصًا به دون غيره من الأئمة بعده، وقد أجمعوا أن ذلك معمول به بعده كما هو معمول به في حياته، وكذلك قوله:{إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} (4)، وقوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (5)، وقوله:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} (6)، ففي هذه الآيات تخصيص النبي عليه السلام بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم؛ لأنهم قائمون مقامه؛ فكأنه عليه السلام فيهم.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 252 رقم 5804).
(2)
سورة النساء، آية:[102].
(3)
سورة التوبة، آية:[103].
(4)
سورة الممتحنة، آية:[12].
(5)
سورة المائدة، آية:[49].
(6)
سورة المائدة، آية:[42].
قوله: "ولقد حدثني ابن أبي عمران
…
" إلى آخره. إشارة إلى أن النظر والقياس أيضًا يقتضي جوازها بعد النبي عليه السلام، ووجهه ظاهر.
وابن أبي عمران هو أحمد بن موسى بن عيسى الفقيه البغدادي الثقة المثبت، وأبو عبد الله محمَّد بن شجاع البغدادي المشهور بابن الثلجي -بالثاء المثلثة وبالجيم - من أصحاب الحسن بن زياد اللؤلؤي العابد الزاهد رحمهم الله.