الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: القيام في شهر رمضان هل هو في المنازل أفضل أم مع الإمام
؟
ش: أي هذا باب في بيان حكم القيام في شهر رمضان -وهو صلاة التراويح- هل هو أفضل في المنازل والبيوت أم الأفضل قيامه مع الإِمام في المسجد؟ والمناسبة بينه وبين ما قبله من الأبواب: أن فيما قبله تُذكر أحوال صلاة الليل وأحكام القراءة في الصلوات وهذا أيضًا من صلوات الليل.
ص: حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عفان، قال: ثنا وهيب بن خالد، قال: ثنا داود -وهو ابن أبي هندٍ- عن الوليد بن عبد الرحمن، عن جُبير بن نُفَير الحضرمي، عن أبي ذرِّ قال:"صمت مع النبي عليه السلام رمضان، فلم يقم بنا حتى بقي سَبعٌ من الشهر، فلما كانت الليلة السابعة خرج، وصلى بنا حتى مضي ثلث الليل، ثم لم يُصَلّ بنا السادسة، ثم خرج ليلة الخامسة فصلى بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا. فقال: إن القوم إذا صلوا مع الإِمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة. ثم لم يصلّ بنا الرابعة، حتى إذا كانت ليلة الثالثة خرج، وخرج بأهله فصلى بنا حتى خَشِينا أن يفوتنا الفلاح. قلت: وما الفلاح؟ قال: السحور".
ش: إسناد صحيح، وعفان هو ابن مسلم الصفار شيخ البخاري وأحمد، وأبو ذر جندب بن جنادة.
وأخرجه أبو داود (1): قال: ثنا مسدد، ثنا يزيد بن زريع نا داود بن أبي هند
…
إلى آخره نحوه غير أن في لفظه: "إن الرجل إذا صلى مع الإِمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة". وبعد قوله: "قال: السحور": "ثم لم يقم بنا بقية الشهر".
وأخرجه الترمذي (2): ثنا هناد، قال: ثنا محمَّد بن الفضل، عن
(1)"سنن أبي داود"(2/ 50 رقم 1375).
(2)
"جامع الترمذي"(3/ 169 رقم 806).
داود بن أبي هند
…
إلى آخره نحو رواية الطحاوي، غير أن في لفظه:"إنه مَنْ قام مع الإِمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة".
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (1): عن عبيد الله بن سعيد، عن محمَّد بن الفضيل، عن داود بن أبي هند
…
إلى آخره نحوه.
وأخرجه ابن ماجه (2): عن محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، عن سلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "حتى بقي سبع من الشهر" أي سبع ليال.
قوله: "فلما كانت الليلة السابعة" وهي الليلة الثالثة والعشرون من الشهر.
قوله: "ثم لم يُصلّ بنا السادسة" أي الليلة السادسة وهي الليلة الرابعة والعشرون.
قوله: "حتى إذا كانت ليلة الثالثة" وهي ليلة السابع والعشرين ليلة القدر عند الجمهور.
قوله: "الفلاح" وأصل الفلاح البقاء، وسمي السحور فلاحًا؛ إذْ كان سببًا لبقاء الصوم ومعينًا عليه.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن القيام مع الإِمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل، واحتجوا في ذلك بقول النبي عليه السلام: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قنوت بقية ليلته".
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سَعْد وعبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: القيام مع الإِمام في شهر رمضان أفضل منه في المنازل.
(1)"المجتبى"(3/ 203 رقم 1605).
(2)
"سنن ابن ماجه"(1/ 420 رقم 1327).
وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل: القيام في المسجد أحبَّ إليّ وأفضل من صلاة المرء في بيته.
وقال به قوم من المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الشافعي، فمن أصحاب أبي حنيفة: عيسى بن أبان، وبكار بن قتيبة، وأحمد بن أبي عمران، ومن أصحاب الشافعي: إسماعيل بن يحيى المزني، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، واحتجوا بحديث أبي ذر عن النبي عليه السلام:"إن الرجل إذا قام مع الإِمام حتى ينصرف حُسب له قيام ليلة".
قال الأثرم: كان أحمد يُصلّي مع الناس التراويح كلها -يعني الأشفاع إلى آخرها- ويوتر معهم، ويحتج بحديث أبي ذر. وقال أحمد: كان جابر وعلي وعبد الله يُصلّونها في جماعة، انتهى.
قلت: ويحكى ذلك عن عمر بن الخطاب ومحمد بن سيرين وطاوس، وهو مذهب أصحابنا الحنفية أيضًا.
وقال صاحب "الهداية"(1): يستحب أن يجتمع الناس في شهر رمضان بعد العشاء، فيصلي بهم إمامهم خمس ترويحات، ثم قال: والسنة فيها الجماعة لكن على وجه الكفاية، حتى لو امتنع أهل المسجد كلهم عن إقامتها كانوا مسيئين، ولو أقامها البعض فالمتخلف عن الجماعة تارك للفضيلة؛ لأن أفراد الصحابة روي عنهم التخلّف. انتهى.
قلت: الذي يفهم من كلام الإِمام الطحاوي رحمه الله أنه اختار مذهب أهل المقالة الثانية، وهم الذين ذهبوا إلى أن صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإِمام، وأشار إلى هذا أيضًا في آخر هذا الباب بقوله:"وذلك هو الصواب"، وإنما لم يتعرض إلى ذكر أبي حنيفة وصاحبيه في آخر الباب على عادته في غالب الأبواب حيث يقول: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وإذا كان خلاف بينهم بَيّنه؛ إما أن مذهبهم مثل ما ذهب إليه هو بنفسه، وإما الرواية عنهم مختلفه في ذلك.
(1)"الهداية"(1/ 70).
قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بقوله عليه السلام: "إنه من قام مع الإِمام حتى ينصرف؛ كتب له قنوت بقية ليلته" أي قيام بقية ليلته، والمراد من القنوت ها هنا القيام، وهذا الحديث هو بعض حديث أبي ذر المذكور ولكن لفظه عنده كما مرّ:"إن القوم إذا صلوا مع الإِمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة".
وهذه اللفظة قريبة من لفظة الترمذي: "أنه من قام مع الإِمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلته".
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: واحتجوا في ذلك بهذا الحديث وقال: واحتجوا في ذلك يقول النبي عليه السلام: "أنه من قام
…
" إلى آخره.
قلت: لما كان موضع الاحتجاج من الحديث هو قوله: "إن القوم إذا صلوا مع الإِمام حتى ينصرف كتب لهم قيام تلك الليلة" خصَّ ذلك بالذكر، ولكنه ذكره بغير لفظه الذي ذكره في الحديث؛ فلا يخلو إما نقل بالمعنى، أو روايته ثبتت عنده كذلك.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإِمام.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: مالكًا والشافعي وربيعة وإبراهيم والحسن البصري والأسود وعلقمة؛ فإنهم قالوا: بل صلاته في بيته أفضل من صلاته مع الإِمام.
قال أبو عمر: اختلفوا في الأفضل من القيام مع الناس أو الانفراد في شهر رمضان؟ فقال مالك والشافعي: صلاة المنفرد في بيته أفضل.
قال مالك: وكان ربيعة وغير واحد من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس، وقال مالك: وأنا أفعل ذلك، وما قام رسول الله عليه السلام إلا في بيته، وروي ذلك عن ابن عمر وسالم والقاسم وإبراهيم ونافع؛ أنهم كانوا ينصرفون ولا يقومون مع الناس.
وقال الترمذي: واختار الشافعي أن يصلي الرجل وحده إذا كان قارئًا.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أن ما احتجوا به من قول رسول الله عليه السلام: "أنه من قام مع الإِمام حتى ينصرف كتب له قنوت بقية ليلته" كما قال عليه السلام ولكنه قد روي عنه أيضًا أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" في حديث زيد بن ثابت، وذلك لما كان قام بهم في رمضان ليلةً، فأرادوا أن يقوم بهم بعد ذلك فقال لهم هذا القول، فأعلمهم به أن صلاتهم في منازلهم وحدانًا أفضل من صلاتهم معه وفي مسجده، فصلاتهم تلك في منازلهم أحرى أن تكون أفضل من الصلاة مع غيره وفي
غير مسجده.
فتصحيح هذين الأثرين يُوجبُ أن حديث أبي ذر هو على أن يكتب لهم بالقيام مع الإمام قنوت بقية ليلته.
وحديث زيد بن ثابت يوُجبُ أن ما فعل في بيته هو أفضل من ذلك، حتى لا يتضادّ هذان الأثران.
ش: أي: وكان من الدليل والبرهان للآخرين فيما ذهبوا إليه أن ما احتجوا به أي أن ما احتج به أهل المقالة الأولى من قوله عليه السلام
…
إلى آخره.
حاصله أن يقال: إن ما احتججتم به من قوله عليه السلام: "إنه من قام
…
" إلى آخره صحيح كما قلتم، ولكن روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" فهذا يعارض ذلك ظاهرًا، ويجب التوفيق بينهما حتى يرتفع ذلك التعارض ولا يقع التضاد بينهما، وهو أن نقول: إن حديث أبي ذر يوجب أن يكتب لهم بالقيام مع الإمام قنوت بقية ليلته، وحديث: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبه" الذي رواه زيد بن ثابت -على ما يجيء عن قريب إن شاء الله- يوجب أن يكون ما يفعل في البيت أفضل من ذلك.
قوله: "فتصحيح هذين الأثرين" أي أثر أبي ذر المذكور وأثر زيد بن ثابت الذي أخرجه معلقًا ويُسنده عن قريبٌ إن شاء الله تعالى.
ص: حدثنا ابن مرزوق وعلي بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عفان، قال: ثنا وهيبٌ، قال: حدثني موسى بن عقبة، قال: سمعت أبا النضر يحدث، عن بُسر ابن سعيد، عن زيد بن ثابت:"أن النبي عليه السلام احتجر حجرةً في المسجد من حصير، فصلى فيها النبي عليه السلام ليالي حتى اجتمع إليه ناسٌ، ثم فقدوا صوته، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم منذ الليلة حتى خشيت أن يكتب عليكم قيام الليل، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الوُحَاظي، قال: ثنا سليمان بن بلال، قال: حدثني بَرْدان إبراهيم ابن أبي فلان، عن أبيه، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:"صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مَسْجدي هذا إلا المكتوبة".
حدثنا ربيع الجيزيّ، قال: ثنا أسدٌ وأبو الأسود قالا: أنا ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، أن النبي عليه السلام قال:"إن أفضل صلاة المرء: صلاته في بيته إلا المكتوبة".
ش: أخرج حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بيانًا لقوله: "وقد روي عنه أيضًا أنه قال: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
وذلك من ثلاث طرق:
الأول: بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، وعلي بن عبد الرحمن بن محمَّد ابن المغيرة الكوفي، كلاهما عن عفان بن مسلم الصفار، عن وهيب بن خالد، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي المدني، عن أبي النَضْر -بالنون والضاد المعجمة- سالم بن أبي أمية القرشي التيمي المدني مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي عن بُسْر -بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة- بن سعيد المدني العابد.
وهؤلاء كلهم من رجال الجماعة ما خلا شيخي الطحاوي.
وأخرجه النسائي (1): عن أحمد بن سليمان، عن عفان بن مسلم
…
إلى آخره نحوه سواء سندًا ومتنًا، غير أن لفظه:"فظنوا أنه نائم" و"إلا الصلاة المكتوبة".
وأخرجه البخاري (2): ثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: ثنا وهيب، قال: ثنا موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت:"أن رسول الله عليه السلام اتخذ حجرةً -قال: حسبت أنه قال: من حصير- في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم فقال: قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
وأخرجه مسلم (3): نا محمد بن مثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا عبد الله بن سعيد، قال: ثنا سالم أبو النضر مولي عمر بن عبيد الله، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:"احتجر رسول الله عليه السلام حُجَيْرةً بخصفة أو حصيرٍ، فخرج رسول الله عليه السلام يصلي فيها فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلةً فحضروا، فأبطأ رسول الله عليه السلام عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله عليه السلام مُغْضَبًا، فقال لهم رسول الله عليه السلام: ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه ستُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".
وأخرجه أبو داود (4): ثنا هارون بن عبد الله البزاز، ثنا مكي بن إبراهيم، نا عبد الله -يعني ابن سعيد- بن أبي هند، عن أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت أنه قال: "احتجر رسول الله عليه السلام في المسجد حجرة فكان رسول الله عليه السلام يخرج من الليل فيصلي فيها، قال: فصلوا معه بصلاته -يعني رجال- وكانوا
(1)"المجتبى"(3/ 197 رقم 1599).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 256 رقم 698).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 539 رقم 781).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 69 رقم 1447).
يأتون كل ليلة، حتى إذا كان ليلة من الليالي لم يخرج إليهم رسول الله عليه السلام، فتنحنحوا ورفعوا أصواتهم وحصبوا بابه، قال: فخرج إليهم رسول الله عليه السلام مغضبًا فقال: أيها الناس، ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أن سَتُكتب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
قوله: "احتجر" افتعل من الحجرة وهي الموضع المنفرد، والمعنى: اتخذ حجرة أو اقتطع موضعًا حَجَرهُ عن غيره، والحجر: المنع، ومنه سميت الحجرة.
قوله: "من حصير" وهو الذي يُصْنَع من خوص المقل والنخل، قال عياض في "شرح مسلم": الخصفة والحصير بمعنًى.
وفي "المحكم": أن الحصير يُصْنع من برديّ وأسل، ثم يفترش؛ سُمّي بذلك لأنه يلي وجه الأرض، ووجه الأرض يسمى حصيرًا.
وفي "الجمهرة": الحصير عربي؛ سُمي حصيرًا لانضمام بعضه إلى بعض.
ومما يستفاد منه:
جواز اتخاذ الحجرة في المسجد إذا لم تضر بالمصلين، وجواز صلاة النفل فيه، والأفضل في النفل إقامته في المنازل والبيوت.
الثاني: أيضًا إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود، عن يحيى بن صالح الشامي الدمشقي -ويقال: الحمصي- الوُحَاظي -نسبة إلى وُحَاظة- بن سعد أحد مشايخ البخاري، عن سليمان بن بلال القرشي التيمي أبي محمَّد المدني روى له الجماعة، عن بردان -بفتح الباء الموحدة وسكون الراء- وهو لقب إبراهيم ابن أبي فلان، ولهذا ترك العاطف بين بردان وبين إبراهيم؛ لأن إبراهيم وقع عطف بيان عن بردان، وإبراهيم بن أبي فلان هو إبراهيم بن أبي النضر سالم بن أبي أمية القرشي المدني، وثقه ابن حبان، وروى له أبو داود، وهو يروي عن أبيه أبي النضر سالم، وقد مرَّ ذكره في الطريق السابق، وهو يروي عن بُسْر بن سعيد
…
إلى آخره.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1) وقال: ثنا علي بن المبارك الصنعاني وعلي بن جبلة الأصبهاني ومحمد بن نصر الصائغ، قالوا: ثنا إسماعيل بن أبي أُوَيس، حدثني سليمان بن بلال، عن إبراهيم بَرْدان بن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن أبيه، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت، عن رسول الله عليه السلام أنه قال:"صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة".
الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزيّ شيخ أبي داود والنسائي أيضًا، عن أسد بن موسى وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي كلاهما، عن عبد الله بن لهيعة المصري فيه مقال، عن أبي النضر سالم بن أبي أمية
…
إلى آخره.
وأخرجه أحمد في"مسنده"(2): ثنا وكيع، قال: ثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن سالم أبي النضر، عن بُسْر بن سعيد، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله عليه السلام: "أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".
ص: وقد روي عن غير زيد بن ثابت في ذلك عن النبي عليه السلام أيضًا ما ذكرناه في باب "التطوع في المساجد"، فثبت بتصحيح معاني هذه الآثار ما ذكرنا.
ش: أي قد روي عن النبي عليه السلام في كون صلاة المرء في بيته أفضل ما خلا المكتوبة؛ من حديث غير زيد بن ثابت ما قد ذكرناه في باب "التطوع في المساجد"، وهو ما رواه عن سعد بن إسحاق، عن أبيه، عن جده:"أن النبي عليه السلام صلى المغرب في مسجد بني عبد الأشهل، فلما فرغ رأى الناس يُسبِّحون، فقال: أيها الناس، إنما هذه الصلاة في البيوت".
وما رواه عن حرام بن حكيم، عن عمه عبد الله بن سعد قال: "سألت رسول الله عليه السلام عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد فقال: قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد؟! فلأن أصلي في بيتي أحب إليَّ من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة
مكتوبة".
(1)"المعجم الكبير"(5/ 144 رقم 4893).
(2)
"مسند أحمد"(5/ 182 رقم 21622).
قوله: "فثبت بتصحيح معاني هذه الآثار ما ذكرنا" أي بتصحيح معاني هذه الأحاديث ما ذكرناه من أفضلية إقامة الصلوات غير المكتوبة في البيوت والمنازل.
ص: وقد روي في ذلك عن مَنْ بعد النبي عليه السلام ما يوافق ما صححناها عليه، فمن ذلك:
ما حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال ثنا سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه:"أنه كان لا يصلي خلف الإِمام في شهر رمضان".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمِّل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال:"قال رجل لابن عمر رضي الله عنهما: أصلّي خلف الإِمام في رمضان؟ فقال: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: صلّ في بيتك".
ش: أي: وقد روي في كون صلاة المرء في بيته أفضل سوى المكتوبة عن بعض الصحابة وغيرهم من التابعين رضي الله عنهم أيضًا ما يوافق ما صححنا معاني الآثار عليه، فمن ذلك: ما رواه عن ابن عمر.
وأخرجه من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن نمير، قال: ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان لا يقوم مع الناس في شهر رمضان، قال: وكان القاسم وسالم لا يقومان مع الناس".
والآخر: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد
…
إلى آخره.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 166 رقم 7714).
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر:"أنه قال له رجل: أُصلي خلف الإِمام في رمضان؟ قال -يعني ابن عمر-: أليس تقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: أَفَتُنْصِت كأنك حمار؟! صلّ في بيتك".
ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي حمزة ومغيرة، عن إبراهيم قال:"لو لم يكن معي إلا سورتين لرددتهما؛ أحبُّ إليّ من أن أقوم خلف الإِمام في رمضان".
حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"كان المتهجدون يصلّون في ناحية المسجد والإمام يصلي بالناس في رمضان".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"كانوا يصلون في رمضان فيؤمهم الرجل وبعض القوم يصلي في المسجد وحده. قال شعبة: فسألت إسحاق بن سويد عن هذا فقال: كان الإِمام ها هنا يؤمنا، وكان لنا صف يقال له صَفُّ القراء، فنصلي على حدة، والإمام يصلي بالناس".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم قال:"لو لم يكن معي إلا سورة واحدة لكنتُ أردّدُها أحبّ إليّ من أن أقوم خلف الإمام في رمضان".
ش: أخرج أثر إبراهيم النخعي من أربع طرق صحاح:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دُكين الكوفي، عن سفيان الثوري، عن أبي حمزة -بالحاء المهملة والزاي المعجمة- واسمه عمران بن أبي عطاء الأسدي القصاب الواسطي، روى له مسلم، عن مغيرة بن مقسم الضبيّ الكوفي الفقيه الأعمى، عن إبراهيم.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 494 رقم 4383).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن وكيع، عن سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم قال:"لو لم يكن معي إلا سورة أو سورتان؛ لأن أرددهما أحب إليّ من أن أقوم خلف الإِمام في شهر رمضان".
الثاني: عن روح بن الفرج القطان، عن يوسف بن عدي بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الحنفي الكوفي، عن مغيرة، عن إبراهيم.
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن رَوح بن عبادة بن العلاء البصري روى له الجماعة، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم
…
إلى آخره.
وإسحاق بن سويد بن هبيرة البصري ثقة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
الرابع: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان الثوري، عن أبي حمزة عمران المذكور آنفًا، عن إبراهيم.
ومتنه كمتن الطريق الأول غير أن ها هنا: "سورة" وهناك: "سورتين"، وكليهما في "مصنف ابن أبي شيبة"(1).
ص: حدثنا يونس وفهدٌ، قالا: ثنا عبد الله بن يوسف، قال: ثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة:"أنه كان يصلي مع الناس في رمضان، ثم ينصرف إلى منزله فلا يقوم مع الناس".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا أبو عوانة، أنه قال: لا أعلمه إلا عن أبي بشر: "أن سعيد بن جبير كان يصلي في رمضان في المسجد وحده والإِمام يصلي بهم فيه".
حدثنا يونس، قال: ثنا أنس، عن عبيد الله بن عمر قال:"رأيت القاسم بن محمَّد وسالمًا ونافعًا ينصرفون من العشاء في رمضان ولا يقومون مع الناس".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 166 رقم 7716).
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم قال:"أتيت مكة وذاك في رمضان في زمن ابن الزبير رضي الله عنه، فكان الإِمام يصلي بالناس في المسجد وقومٌ يُصلّون على حدة في المسجد".
فهؤلاء الذين روينا عنهم ما روينا من هذه الآثار كلهم يُفضّل صلاته وحده في شهر رمضان على الصلاة مع الإِمام، وذلك هو الصواب، والله أعلم.
ش: يونس هو ابن عبد الأعلى، وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة المصري وثقه قوم وضعفه آخرون، وأبو الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، وعروة هو ابن الزبير بن العوام، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي، وأبو عوانة الوضاح اليشكري، وأبو بشر جعفر بن إياس وهو ابن أبي وحشية اليشكري الواسطي، وأنس هو ابن عياض بن ضمرة أبو ضمرة المدني روى له الجماعة، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب.
قوله: "وذلك هو الصواب" أشار به إلى أن الصلاة وحده في شهر رمضان هو الصواب، ونبَّه به على أن هذا مختاره كما ذكرنا، والله أعلم.