المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الرجل يصلي بالرجلين أين يقيمهما - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٥

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الرجل يصلي بالرجلين أين يقيمهما

‌ص: باب: الرّجلَ يُصلِّي بالرجلين أين يُقيمُهما

؟

ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يصلي بالرجلين، في أين يقيمهما الإِمام في الصلاة؟ والمناسبة بين البابين: من حيث اشتمال كل منهما على حكم الاثنين، أما في الأول، فالكلام كان في كراهة الركعتين بعد العصر، وأما في هذا فالكلام في حكم الرجلن إذا صليا مع الإِمام.

ص: قد ذكرنا في باب "التطبيق في الركوع" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أنه صلى بعلقمة والأسود، فجعل أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، قال: ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على رُكَبنا، فضرب أيدينا بيده وطبَّق، فلما فرغ قال: هكذا فعل رسول الله عليه السلام".

فاحتمل ذلك عندنا أن يكون ما ذكره عن النبي عليه السلام أنه فعله هو التطبيق، ويحتمل أن يكون هو التطبيق وإقامة أحد المأمومين عن يمينه والآخر عن شماله، فأردنا أن ننظر، هل في شيء من الروايات ما يدل على شيء من ذلك؟

فإذا حُسين بن نصر قد حدثنا، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: ثنا محمَّد ابن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال:"دخلتُ أنا وعمي على عبد الله بالهاجرة، فأقام الصلاة، فتأخرنا خلفه، فأخذ أحدنا بيمينه، والآخر بشماله، فجعلنا عن يمينه وعن يساره، فلما فرغ قال: هكذا كان رسول الله عليه السلام يصنع إذا كانوا ثلاثة".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا الحديث يخبر أن قول ابن مسعود: "هكذا فعل رسول الله عليه السلام" هو علي قيام الرجلين أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وعلى التطبيق جميعًا.

وقد حدثنا أبو بشر الرقي، قال: ثنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون قال: "كنتُ أنا وشعيب بن الحبحاب عند إبراهيم، فحضرت العصر، فصلى بنا إبراهيم، فقمنا

ص: 180

خلفه، فجرّنا، فجعلنا عن يمينه وعن شماله، قال: فلما صلينا وخرجنا إلى الدار قال إبراهيم: قال ابن مسعود: هكذا فَصَلّوا، ولا تُصلُّوا كما يُصلِّي فلان. قال: فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين ولم أُسمِّ له إبراهيم، فقال: هذا إبراهيم قد قال ذاك عن علقمة، ولا أرى ابن مسعود فعله إلا لضيقٍ كان في المسجد، أو لعذر رآه فيه، ولا أعلم ذلك من السنة. قال: فذكرته للشعبي فقال: قد زعم ذلك علقمة- ابن عون القائل".

ففي هذا الحديث إضافة الفعل إلى ابن مسعود ولم يذكره الشعبي ولا ابن سيرين أن ابن مسعود رضي الله عنه ذكره عن النبي عليه السلام، ثم ذكره الأسود لابنه عن النبي عليه السلام.

وكيف كان المعنى في هذا؟ فقد عورض ذلك بما حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا مَهديّ بن جعفر قال: ثنا حاتم بن إسماعيل، عن أبي حَزْرَة المدني يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: أتينا جابر بن عبد الله فقال جابر: "جئتُ رسول الله عليه السلام وهو يصلي حتى قمتُ عن يساره، فأخذني بيده فأدارني حتى أقامني عن يمينه، وجاء جبار بن صخر فقام عن يساره، فَدَفَعَنا بيده جميعًا حتى أقامنا خلفه".

حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا أخبره، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك:"أن جَدَّته مُلَيكة دعت النبي عليه السلام لطعامٍ صَنَعتْه، فأكل منه، ثم قال: قوموا فلأصلي لكم، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبِس، فنضحته بماء، فقام رسول الله عليه السلام وصفَفتُ أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى بنا ركعتين ثم انصرف".

ش: ذكر الطحاوي في باب "التطبيق في الركوع" -وهو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع- عن ابن مسعود شيئين:

الأول: أنه صلى بعلقمة والأسود، فجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله.

والثاني: أنه طبق ثم قال بعد فراغه من صلاته: "هكذا فعل رسول الله عليه السلام".

ص: 181

فقوله هذا يحتمل معنيين:

الأول: أن يكون فعله هذا هو التطبيق وحده، يعني يكون قوله:"هكذا فعل رسول الله عليه السلام" راجعًا إلى التطبيق وحده.

الثاني: يحتمل أن يكون قوله: "هكذا فعل رسول الله عليه السلام" راجعًا إلى التطبيق وإلى إقامة أحد المأمومين عن يمينه والآخر عن شماله.

فإذا كان الأمر كذلك نحتاج أن ننظر هل جاء شيء من الروايات ما يدل على شيء من ذلك؟ فنظرنا في ذلك، فوجدنا عبد الرحمن بن الأسود روى عن أبيه الأسود أنه قال: "دخلت أنا وعمي

" الحديث، فدل هذا الحديث على أن قول ابن مسعود: "هكذا فعل رسول الله عليه السلام" يرجع إلى الاحتمال الثاني وهو أنه يدل على قيام أحد المأمومين عن يمينه والآخر عن شماله، وعلى التطبيق جميعًا، وهذا هو مذهب ابن مسعود وأصحابه، وروي أيضًا عن أبي يوسف، ومذهب الجمهور أن الإِمام يتقدم عليهما، وهو قول عمر وعلي وجابر بن زيد، وعطاء، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد.

ثم إسناد هذا الحديث صحيح، ورجاله ثقات.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا يزيد بن هارون، أنا محمَّد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال:"دخلت على ابن مسعود أنا وعمي بالهاجرة، قال: فأقام الصلاة، فقمنا خلفه، قال: فأخذني بيدٍ وأخذ عمي بيدٍ، قال: ثم قدمنا حتى جعل كل رجل منا على ناحية، ثم قال: هكذا كان رسول الله عليه السلام يفعل إذا [كانوا] (2) ثلاثةً".

قوله: "دخلت أنا وعمي" إنما ذكر "أنا" ليصح عطف قوله: "وعمي" على قوله: "دخلت"؛ لأن الضمير المرفوع المتصل لا يعطف عليه إلا بإعادة الضمير المتصل ليصير عطف الاسم على الاسم، وفي تركه يتوهم عطف الاسم على الفعل.

(1)"مسند أحمد"(1/ 451 رقم 4311).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أحمد".

ص: 182

وعم الأسود هو علقمة بن قيس بن عبد الله، والأسود بن يزيد بن قيس، فعلقمة ويزيد أخوان ابنا قيس بن عبد الله.

والهاجرة: اشتداد الحرّ نصف النهار، وأراد به وقت الظهر.

قوله: "فجعلَنا" بفتح اللام، أي جعلنا ابن مسعود عن يمينه، وعن شماله.

قوله: "وقد حدثنا أبو بشر الرقي

" إلى آخره، جواب عما ذكر، بيانه: أن الحديث المذكور وإن كان مرفوعًا في رواية الأسود، فهو موقوف في رواية إبراهيم النخعي، والصحيح وقفه، وكذا قال أبو عمر: إن هذا الحديث لا يصح رفعه، والصحيح فيه عندهم التوقيف على ابن مسعود أنه كذلك صلى بعلقمة والأسود. انتهى.

والدليل على صحة الوقف دون الرفع: أن محمَّد بن سيرين أنكر أن يكون ذلك من السنة حيث قال: ولا أعلم ذلك من السنَّة، وإنما فعل ابن مسعود ذلك لضيق كان في المسجد، أو لعلةٍ أخرى رآه فيها، وكذا عامر بن شراحيل الشعبي قال: هذا زعم علقمة. وعبد الله بن عون هو القائل بذلك.

ففي هذا الحديث أضافوا الفعل إلى ابن مسعود دون النبي عليه السلام، أعني به الحديث الذي أخرجه عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري أبي المثني البصري قاضيها روى له الجماعة، عن عبد الله بن عون بن أرطبان المزني أبي عون البصري روى له الجماعة، قال: كنت أنا وشعيب بن الحبحاب الأزدي أبو صالح البصري روى له الجماعة سوى ابن ماجه.

عن إبراهيم هو النخعي، وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود.

قوله: "وقد يجوز أيضًا أن يكون علقمة

" إلي آخره، جواب عن سؤال مقدر، تقريره أن يقال: قد يجوز أن يكون علقمة بن قيس لم يذكر لعامر الشعبي ولا لمحمد ابن سيرين أن ابن مسعود ذكر فعله المذكور عن النبي عليه السلام، وذكره الأسود بن يزيد

لابنه عبد الرحمن أنه عن النبي عليه السلام، فيكون الحديث مرفوعًا.

ص: 183

وتقرير الجواب هو ما أشار إليه بقوله: "وكيف كان المعنى في هذا، فقد عُورِض ذلك

" إلى آخره، بيانه: أن هذا الحديث وإن سلَّمنا صحة رفعه أو صحة وقفه؛ فأيًّا ما كان فهو مُعَارَض بحديث جابر بن عبد الله وحديث أنس بن مالك رضي الله عنهم.

أما حديث جابر فأخرجه وإسناد صحيح، عن حسين بن نصر بن المعارك، عن مهدي بن جعفر الرملي الزاهد وعن يحيى: لا بأس به.

عن حاتم بن إسماعيل المدني روى له الجماعة، عن أبي حَزْرة -بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي المعجمة وبالراء المهملة- المدني القاضي واسمه يعقوب بن مجاهد، روى له البخاري في "الأدب" ومسلم وأبو داود.

عن عبادة بن الوليد أبي الصامت المدني روى له الجماعة سوى الترمذي.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث حاتم بن إسماعيل، ثنا أبو حَزْرة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد قال: "أتينا جابرًا قال: سرت مع رسول الله عليه السلام في غزوة فقام يصلي

" الحديث، وفيه: "فقمت عن يسار رسول الله عليه السلام فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء ابن صخر حتى قام عن يساره، فأخَذَنا بيديه جميعًا فدَفَعنا حتى أقامنا خلفه".

وأخرجه مسلم (2) وأبو داود (3) أيضًا مطولًا.

وجبار بن صخر بن أمية بن خنساء الأنصاري الخزرجي ثم السلمي، يكنى أبا عبد الله، من أصحاب العقبة.

قوله: "فَدَفَعَنَا" بفتح العين أبي فدفعنا رسول الله عليه السلام.

وأما حديث أنس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم، عن عبد الله بن وهب

إلى آخره.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 239 رقم 3106).

(2)

"صحيح مسلم"(4/ 2301 رقم 3006).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 171 رقم 634).

ص: 184

وأخرجه الجماعة غير ابن ماجه.

فالبخاري (1): عن عبد الله، عن مالك.

ومسلم (2): عن يحيى بن يحيى، عن مالك.

وأبو داود (3): عن القعنبي، عن مالك.

والترمذي (4): عن إسحاق الأنصاري، عن مالك.

والنسائي (5): عن قتيبة، عن مالك.

غير أن في رواية البخاري ومسلم: "فصلى لنا رسول الله عليه السلام ركعتين" وفي رواية أبي داود: "فصلى لنا ركعتين"، وفي رواية النسائي:"قوموا فأصلي لكم، وصلى ركعتين ثم انصرف".

قوله: "أن جدته مليكة" الضمير في "جدته" يرجع إلى إسحاق المذكور، وهي جدة إسحاق أم أبيه عبد الله بن أبي طلحة، وهي أم سليم بنت ملحان زوج أبي طلحة الأنصاري، وهي أم أنس بن مالك، ويقال: الضمير يرجع إلى أنس، وهو القائل:"أن جدته" وهي جدة أنس بن مالك أم أمه، واسمها مليكة بنت مالك بن عدي، ويؤيد الوجه الأول أن في بعض طرق الحديث:"أن أم سليم سألت رسول الله عليه السلام أن يأتيها".

أخرجه النسائي (6): عن يحيى بن سعيد، عن إسحاق بن عبد الله

فذكره.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 149 رقم 373).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 457 رقم 658).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 166 رقم 612).

(4)

"جامع الترمذي"(1/ 454 رقم 234).

(5)

"المجتبى"(2/ 85 رقم 801).

(6)

"المجتبى"(2/ 56 رقم 737).

ص: 185

وأم سليم هي أم أنس، جاء ذلك مصرحًا في البخاري، وقال النووي في "الخلاصة": الضمير في "جدته" لإسحاق -على الصحيح- وهي أم أم إسحاق، وقيل جدّة أنس. وهو باطل، وهي أم سليم، صرَّح به في رواية البخاري، ومُليكة بضم الميم وفتح اللام، وبعض الرواة رواه بفتح الميم وكسر اللام، والأول أصح، وفي بعض شروح البخاري: اختلف في الضمير من "جدته" هل يعود على إسحاق أو على أنس؟ فزعم أبو عمر أنه يعود على إسحاق وأنها جدته وأم أنس، ولم يتردد في ذلك، وتبعه على ذلك غير واحد، يؤيده ما جاء في رواية أبي داود "أن رسول الله عليه السلام كان يزورها وجاءت الصلاة فصلى على بساط"، وما جاء في رواية النسائي:"أن أم سُليم سألت رسول الله عليه السلام أن يأتيها فيصلي في بيتها" ومنهم من قال: الضمير يعود على أنس؛ لأن أم أم سليم اسمها مليكة بنت مالك بن عدي بن زيد مناة. قال ذلك محمَّد بن سعد في كتاب "الطبقات"، وهشام بن محمَّد الكلبي في "الجمهرة"، وأبو عبيد بن سلام، وأحمد بن جابر البلاذري وذكرها في الصحابة رضي الله عنهم، وزعم الأصيليُّ أن أم سليم اسمها مَلِيكة بفتح الميم وكسر اللام، وكأنه غير جيد لغرابته.

قوله: "دعت النبي عليه السلام" أي طلبته.

قوله: "لطعام" أي لأجل طعام.

قوله: "صنعته" جملة وقعت صفة لطعام.

قوله: "فأكل منه" فيه حذف، أي فأجاب دعوتها، فجاء فأكل منه.

قوله "فلأصلي بكم" قال أبو العباس القرطبي: رويناه بكسر لام "فلأصلي" وفتح الياء على أنها لام كي، والياء زائدة، وروي بكسر اللام وجزم الياء على خطاب نفسه، وروي بفتح اللام واثبات الياء ساكنة، وهي أضعفها؛ لأن اللام تكون جواب قسم محذوف، وحينئذٍ تلزمها النون في المشهور.

ص: 186

قوله: "فقمت إلى حصير" قال ابن سيده في "المحكم" و"المحيط الأعظم": إنها سفيفة تصنع من بَرْديّ وأسَلٍ ثم تفترش؛ سمي بذلك لأنه يلي وجه الأرض، ووجه الأرض يسمى حصيرًا. وفي "الجمهرة": الحصير عربي؛ سمي حصيرًا لانضمام بعضه إلى بعض.

قوله: "من طول ما لبس" أبي من كثرة ما استعمل، وقال الشيخ تقي الدين: دلَّ ذلك أن الافتراش يُطلق عليه لبس.

ويرتب على ذلك مسألتان:

إحداهما: لو حلف لا يلبس ثوبًا ولم تكن له نية فافترشه؛ أنه يحنث.

والثانية: أن افتراش الحرير حرام؛ لأنه كاللبس.

قلت: أما الأول فينبغي أن لا يحنث فيها؛ لأن مبنى اليمين على العرف، ولا يُسمى المفترش لابسًا في العرف.

وأما الثانية: فليس الافتراش كاللبس؛ لأن بجواز الافتراش جاء الأثر دون اللبس.

قوله: "فنضحته بماء" إن كان ذلك لنجاسة متيقنة يكون النضح بمعنى الغسل، وإن كان لتوقع نجاسة لامتهانه بطول افتراشه يكون النضح بمعنى الرش لتطييب النفس، ويقال: إن كان النضح لِيَلِينَ الحصير للصلاة عليه يكون بمعنى الرش، وإن كان لعرض الدوس والأقدام يكون بمعني الغسل.

قوله: "واليتيم" عطف على ما قبله، وإنما ذكر "أنا" لأن العطف على الضمير المرفوع المتصل لا يجوز إلا بعد الضمير المرفوع المنفصل؛ حتى لا يتوهم عطف الاسم على الفعل، واسم اليتيم ضُمَيرة، جَدّ حسين بن عبد الله بن ضميرة، قاله ابن الحَذَّاء عن عبد الملك بن حبيب، قال: ولم يذكره إلا ابن حبيب فيما علمت، وأظنه سمعه من حسين بن عبد الله أو من أحد من أهل المدينة الذين لقيهم، قال ابن الحَذَّاء: حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضُميرة، وأبو ضُميرة

ص: 187

هو مولى رسول الله عليه السلام، فإن كان كما قال فقد اختلفوا في اسم أبي ضُميرة، فقيل: اسمه روح بن سَنْدَر، وقيل روح بن شيرزاد، وقال أبو عمر عن البخاري: اسمه سعد الحمْيري من آل ذي يزن، وقال أبو حاتم: سعبد الحميري هو جد حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة.

قوله: "ثم انصرف" أي عن البيت، وهذا هو الأقرب، ويحتمل أنه أراد الانصراف من الصلاة.

أما على رأي أبي حنيفة بناءً على أن السلام لا يدخل تحت مسمى الركعتين.

وأما على رأي غيره فيكون الانصراف عبارة عن التحلل الذي يَسْتعقب السلام، وقد قال بعض الحنفية: ويستدل أبو حنيفة ومن قال بقوله أن السلام ليس بواجب في الخروج من الصلاة لقوله: "ثم انصرف" ولم يذكر سلامًا، ولقائل أن يقول: قوله "ثم انصرف" يريد الانصراف من البيت الذي هو فيه كما ذكرناه.

ويستفاد من الحديث فوائد: استحباب التواضع وحسن الخلق، وإجابة دعوة الداعي، والدلالة على إجابة أولى الفضل لمن دعاهم لغير الوليمة، واستحباب الصلاة للتعليم أو لحصول البركة، وبيان موقف الاثنين وراء الإمام وهو المطلوب من تخريج الحديث، والدلالة على أن للصبي موقفًا في الصف، وعلى أن موقف المرأة وراء موقف الصبي، وأنها لا تجوز إمامتها لأن مقامها إذا كان متأخرًا عن مرتبة الصبي فبالأوْلى أن لا تتقدمهم، وهو قول الجمهور خلافًا للطبري وأبي ثور في إجازتهما إمامة النساء مطلقًا، وحكي عنهما أيضًا إجازة ذلك في التروايح إذا لم يوجد قارئ غيرها، وعلى جواز الاجتماع في النوافل خلف الإِمام، وعلى صحة صلاة الصبي وأنها معتدٌّ بها، وعدم كراهة الصلاة على الحصير ونحوه مما تنبته الأرض وهو إجماع، إلا ما رُوي عن عمر بن عبد العزيز، ويُحمل فعله على التواضع.

ص: 188

فإن قيل: فقد روى ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): من حديث يزيد بن المقدام، [عن المقدام بن شريح](2) عن أبيه، عن شريح:"أنه سأل عائشة رضي الله عنها: أكان النبي عليه السلام يصلي على الحصير، فإني سمعت في كتاب الله عز وجل {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} (3) فقالت: لا، لم يكن يصلي عليه".

قلت: هذا غير صحيح؛ لأنه معلول بيزيد (4)، فلا يُعارِض الصحيح.

ص: فإن قال قائل: فإن فعل ابن مسعود رضي الله عنه هذا الذي وصفنا بعد النبي عليه السلام يدل على أن ما عمل به من ذلك هو الناسخ.

قيل له: فقد روي عن غير ابن مسعود من أصحاب النبي عليه السلام أنه فعل بعد موت النبي عليه السلام في ذلك مثل ما روى جابر وأنس رضي الله عنهما، فإن كان ما روي عن ابن مسعود من فعله بعد النبي عليه السلام دليلًا عندك على أن ذلك هو الناسخ، كان ما روي عن غير ابن مسعود من ذلك دليلًا عند خصمك على أن ذلك هو الناسخ.

(1) ورواه أبو يعلى في "مسنده"(7/ 426 رقم 4448) من طريق ابن أبي شيبة عن يزيد بن المقدام، عن المقدام بن شريح، عن أبيه به.

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "مسند أبي يعلى".

(3)

سورة الإسراء، آية:[8].

(4)

قلت: قال السيوطي في "الجامع الصغير"(1/ 323) بعد أن ذكر هذا الحديث: ورجاله -كما قال الحافظ الزين العراقي- ثقات.

وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 57): رواه أبو يعلى، ورجاله موثقون.

ويزيد هذا هو ابن المقدام بن شريح بن هانئ الحضرمي الحارثي، قال الحافظ في "تهذيب التهذيب": قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال أبو داود والنسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال ابن معين: ليس به بأس، وقال عبد الحق: ضعيف، وردّ عليه ذلك ابن القطان وقال: لا أعلم أحدًا قال فيه ذلك.

قال الحافظ: وهو كما قال.

وقال في "التقريب": صدوق.

وكذا قال الذهبي في "الكاشف".

وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري"(1/ 491) تحت باب: "الصلاة على الحصير" فكأنه لم يثبت عند المصنف -أي البخاري- أو رآه شاذًّا مردودًا لمعارضته ما هو أقوى منه كحديث الباب.

ص: 189

فمما روي عن غير ابن مسعود في ذلك ما حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري (خ).

وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه قال:"جئت بالهاجرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فوجدته يُصلي، فقمت عن شماله، فأخلفني فجعلني عن يمينه، ثم جاء يَرْفأ فتأخرت فصليت أنا وهو خلفه".

حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا محمَّد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، قال: سمعت سليمان بن يسار يقول: سمعت ابن عتبة يقول: "أقيمت الصلاة، وليس في المسجد أحد إلا المؤذن ورجل وعمر بن الخطاب، فجعلهم عمر رضي الله عنه خلفه فصلى بهم".

ش: السؤال والجواب ظاهران، وهو معارضة بالمثل.

قوله: "فمما روي" أي فمن الذي روي عن غير ابن مسعود رضي الله عنه وهو ما رواه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عيينة، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه عبد الله بن عتبة

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عبيد الله، عن أبيه قال:"أتيت عمر بن الخطاب وهو يصلي بالهاجرة، فقمت عن شماله فجعلني عن يمينه، فجاء يَرْفأ، فتأخرنا، فصرنا اثنين خلفه".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 429 رقم 4944).

ص: 190

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك بن أنس، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه عبد الله

إلى آخره.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1): عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود، عن أبيه أنه قال:"دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالهاجرة، فوجدته يُسبِّح، فقمت وراءه، فقرَّبني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يَرْفأ تأخرنا، فصففنا وراءه".

الثالث: عن بكر بن إدريس بن الحجاج أبي القاسم الأزدي الفقيه، عن آدم بن أبي إياس التيمي -ويقال التميمي- شيخ البخاري، عن شعبة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن عبيد مولى آل طلحة القرشي الكوفي روى له الجماعة إلا البخاري، عن سليمان بن يسار الهلالي أبي أيوب المدني روى له الجماعة، عن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبي عبد الرحمن المدني والد عبيد الله، أحد الفقهاء السبعة، روى له الجماعة غير الترمذي.

قوله: "بالهاجرة" أراد بها وقت الظهر، ولكن رواية مالك تدل على أن المراد بها وقت الضحوة الكبرى، وهو وقت اشتداد الحر، وكان يصلي فيه الضحى؛ لأنه قال:"فوجدته يُسبِّح" أي يتطوع ويتنفل.

قوله: "فأخلفني" أي جعلني من خلفه إلى يمينه، بمعني أدارني من خلفه إلى يمينه.

قوله: "يَرْفأ" بفتح الياء آخر الحروف وسكون الراء المهملة وبالفاء بعدها ألف ساكنة، وهو مولى لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان حاجبه في خلافته.

ص: ثم التمسنا حكم ذلك من طريق النظر، فرأينا الأصل أن الإمام إذا صلى برجل واحد أقامه عن يمينه، وبذلك جاءت السنة عن رسول الله عليه السلام في حديث

(1)"موطأ مالك"(1/ 154 رقم 360).

ص: 191

أنس، وفيما حدثنا بكر بن إدريس، قال: ثنا آدم بن أبي إياس، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"أتيت النبي عليه السلام وهو يصلي، فقمت عن يساره، فأخلفني فجعلني عن يمينه".

فهذا مقام الواحد مع الإِمام، وكان إذا صلى بثلاثةٍ أقامهم خلفه، هذا لاخلاف فيه بين العلماء، وإنما اختلافهم في الاثنين، فقال بعضهم: يقيمهما حيث يقيم الواحد. وقال بعضهم: يقيمهما حيث يقيم الثلاثة، فأردنا أن نَنْظر في ذلك لنعلم هل حكم الاثنين في ذلك كحكم الثلاثة أو حكم الواحد؟

فرأينا رسول الله عليه السلام قد قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة".

حدثنا بذلك أحمد بن داود، قال: ثنا عبيد الله بن محمَّد التيمي وموسى بن إسماعيل، قالا: ثنا الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي عليه السلام بذلك.

فجعلهما رسول الله عليه السلام جماعةً، فصار حكمهما كحكم ما هو أكثر منهما لا حكم ما هو أقل منهما.

ورأينا الله عز وجل قد فرض للأخ أو للأخت من قبل الأم السدس، وفرض للجميع الثلث وكذلك فرض للاثنين، وجعل للأخت من الأب والأم النصف، وللاثنتين الثلثين، وكذلك أجمعوا أنه يكون للثلاث، وأجمعوا أن للابنة النصف وأن للبنات الثلثين، وقال أكثرهم -وابن مسعود فيهم-:

إن للاثنتين أيضًا الثلثين.

فكذلك هو في النظر؛ لأن البنت لَمَّا كانت في ميراثها من أبيها كالأخت في ميراثها من أخيها كان البنتان أيضًا في ميراثهما من أبيهما كالأختين في ميراثهما من أخيهما؛ فكان حكم الاثنين فيما وصفنا حكم الجماعة لا حكم الواحد.

فالنظر على ذلك أن يكونا في مقامهما مع الإمام في الصلاة مقام الجماعة لا مقام الواحد، فثبت بذلك ما روى جابر وأنس، وفعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ص: 192

غير أن أبا يوسف قال: الإِمام بالخيار، إن شاء فعل كما روى ابن مسعود، وإن شاء فعل كما روى أنس وجابر. وقول أبي حنيفة ومحمد في هذا أحب إلينا، والله أعلم.

ش: أي: ثم طلبنا حكم الاثنين من طريق القياس هل له حكم الثلاثة أم حكم الواحد؟ فوجدنا الأصل في ذلك أن الإِمام إذا كان وراءه واحد فإنه يقيمه عن يمينه كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

أخرجه بإسناد صحيح، عن بكر بن إدريس بن الحجاج، عن آدم بن أبي إياس شيخ البخاري، عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وأخرجه الجماعة مطولًا ومختصرًا، فقال البخاري (1): ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "بتّ في بيت خالتي ميمونة، فصلى رسول الله عليه السلام العشاء، ثم جاء فصلى أربع ركعات، ثم نام، ثم قام، فجئت فقمت عن يساره، فجعلني عن يمينه

" الحديث.

وقال مسلم (2): حدثني هارون بن عبد الله ومحمد بن رافع، قالا: نا وهب بن جرير، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت قيس بن سعد يحدث، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"بعثني العباس إلى النبي عليه السلام وهو في بيت ميمونة، فبتّ معه تلك الليلة، فقام يصلي من الليل، فقمت عن يساره فتناولني من خلف ظهره فجعلني عن يمينه".

وقال أبو داود (3): حدثنا ابن المثنى، نا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم

إلى آخره نحو رواية البخاري.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 247 رقم 665).

(2)

"صحيح مسلم"(1/ 531 رقم 763).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 45 رقم 1357).

ص: 193

وقال الترمذي (1): نا قتيبة، قال: نا داود بن عبد الرحمن العطار، عن عمرو بن دينار، عن كريب مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال:"صليت مع النبي عليه السلام ذات ليلة، فقمت عن يساره، فأخذ رسول الله عليه السلام برأسي من ورائي، فجعلني علي يمينه".

وقال النسائي (2): أنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"بتّ عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله عليه السلام يصلي من الليل، فقمت عن شماله، فقال بي هكذا، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه".

وقال ابن ماجه (3): ثنا محمَّد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، نا عبد الواحد بن زياد بن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال:"بتّ عند خالتي ميمونة، فقام النبي عليه السلام يصلي من الليل، فقمت عن يساره، فأخذ بيدي، فأقامني عن يمينه".

قوله: "هذا لا خلاف فيه بين العلماء" أشار به إلى قوله: "وكان إذا صلى بثلاثة أقامهم خلفه"؛ لأن هذا مما لا يختلف فيه أحد من العلماء، "وإنما اختلافهم في الاثنين" أي في حكم الاثنين، هل هو كحكم الواحد أم كحكم الجماعة؟

"فقال بعضهم" وأراد بهم: أصحاب ابن مسعود كعلقمة والأسود، وغيرهما:"يقيمهما" أي يقيم الإمام الاثنين "حيث يقيم الواحد" يعني واحدًا عن يمينه، والآخر عن شماله.

"وقال بعضهم" وأراد بهم جمهور العلماء والأئمة الأربعة وأصحابهم "يقيمهما" أي الاثنين "حيث يقيم الثلاثة" يعني يتقدم الإِمام عليهما كما يتقدم على الثلاثة فما فوقها، فصار الخلاف في هذا الفعل، فننظر فيه، هل حكمه حكم الواحد أو حكم الجمع؟

(1)"جامع الترمذي"(1/ 451 رقم 232).

(2)

"المجتبى"(2/ 87 رقم 806).

(3)

"سنن ابن ماجه"(1/ 312 رقم 973).

ص: 194

فرأينا دلائل تدل على أن حكم الاثنين في غير صورة النزاع حكم الجمع لا حكم الواحد:

منها: قوله عليه السلام: "الاثنان فما فوقهما جماعة".

أخرجه عن أحمد بن داود المكي شيخ الطبراني أيضًا، عن عبيد الله -بالتصغير- ابن محمَّد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله التيمي أبي عبد الرحمن البصري المعروف بابن عائشة شيخ أبي داود وأحمد، ثقة صدوق.

وعن موسى بن إسماعيل المنقري أبي سلمة التبوذكي البصري شيخ البخاري وأبي داود، كلاهما يرويان عن الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد التيمي السَعْدي الأعرجي أبي العلاء البصري المعروف بُعَليْله، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: ليس بشيء. وعنه: ضعيف. وقال أبو داود: لا يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: لا يشتغل بروايته فإنه ضعيف الحديث، ذاهب الحديث.

عن أبيه بدر بن عمرو بن جراد الكوفي، قال في "الميزان": فيه جهالة، ما روى عنه غير ولده.

عن جده عمرو بن جراد التيمي السعدي.

عن أبي موسى الأشعري عبد الله بن قيس.

وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا هشام بن عمار، نا الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جدِّه عمرو بن جراد، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله عليه السلام: "اثنان فما فوقهما جماعة".

فجعلهما -أي الاثنين- رسول الله عليه السلام جماعةً فصار حكمهما كحكم ما هو أكثر منهما لا حكم ما هو أقل منهما، ومثل هذا القول حجة من اللغوي فكيف من النبي عليه السلام؟!

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 312 رقم 972).

ص: 195

ومن الدلائل:

ما أشار إليه بقوله: "ورأينا الله عز وجل قد فرض للأخ

" إلى آخره، بيانه: أن الله تعالى قد فرض للأخ من الأم أو للأخت من الأم السدس؛ وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (1) أي وله أخ لأم أو أخت لأم، وبذلك قرئت، وفرض للثلاثة منهم الثلث؛ وذلك لقوله تعالى: ({فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} وكذلك فرض للاثنين منهم الثلث فجعل الأخوين من الأم أو الأختين من الأم مثل الثلاثة منهم.

ومنها: ما أشار إليه بقوله: "وجعل للأخت من الأب والأم النصف" بيانه: أن الله تعالى فرض للأخت الواحدة من الأب والأم النصف، وللأختين من الأب والأم الثلثين، وكذلك للثلاث فما فوقه، فقد سوَّى الله تعالى هنا أيضًا بين الاثنين والجمع، وجعل حكمهما واحدًا، وهذا لا خلاف فيه، ومنها ما أشار إليه بقوله:"وأجمعوا أن للابنة النصف" بيانه: أن الله تعالى فرض للبنت الواحدة النصف؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (2)، فهذا مجمع عليه للنص، وكذلك أجمعوا أن للبنات الثلثين؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (2). ثم قال أكثر العلماء من التابعين وغيرهم ومن الصحابة عبد الله بن مسعود: إن للاثنتين أيضًا الثلثان كالجمع منهن، وذهب آخرون منهم ومن الصحابة عبد الله بن عباس أن للاثنتين النصف كالواحدة.

ومنها غير ما ذكره الطحاوي: أن بالاثنين غير الإِمام تنعقد صلاة الجمعة عند أبي يوسف.

ومنها: أن حكم المرأتين في النصف كحكم النساء عنده.

ومنها: أن الاثنين كالثلاث عنده في سد الطريق الكبير الذي بين الإِمام والقوم.

(1) سورة النساء، آية:[12].

(2)

سورة النساء، آية:[11].

ص: 196

ومنها: قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (1) المراد قلباكما؛ إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

فإذا دلَّت هذه الأحكام على أن حكم الاثنين حكم الجماعة لا حكم الواحدة في هذه الصُورَ، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون حكم الاثنين في مقامهما مع الإِمام في الصلاة كحكم الجماعة لا حكم الواحد.

والأكثرون من الصحابة والفقهاء وأئمة اللغة على أن أقل الجمع ثلاثة حتى لو حلف لا يتزوج نساء لا يحنث بتزوج امرأتين؛ وذلك لإجماع أهل اللغة والعربية على اختلاف صيغ الواحد والاثنين والجمع في غير ضمير المتكلم مثل: رجل، رجلان، رجال، وهو فَعَلَ، وهما فَعَلا، وهم فَعَلُوا، وأيضًا يصح نفي الجمع عن الاثنين مثل: ما في الدار رجال بل رجلان.

وقد أجابوا عن الحديث بأنه لما دل الإجماع على أن أقل الجمع ثلاثة وجب تأويل الحديث، وذلك بأن يحمل على أن للاثنين حكم الجمع في المواريث استحقاقًا وحجبًا، أو في حكم الاصطفاف خلف الإِمام وتقدم الإِمام عليهما، أو في حكم إباحة السفر لهما وارتفاع ما كان منهيًّا عنه في أول الإِسلام من مسافرة واحد واثنين بناءً على غلبة الكفار، أو في انعقاد صفة الجماعة بهما وإدراك فضيلة الجماعة؛ وذلك لأن الغالب من حال النبي عليه السلام تعريف الأحكام دون اللغات.

وعن الآيات بأن فيها إطلاق الجمع على الاثنين مجاز بطريق إطلاق اسم الكل على البعض، أو تشبيه الواحد بالكثير في العِظَم والخطر كما يطلق الجمع على الواحد تعظيمًا في مثل قوله تعالى:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2).

قوله: "فثبت بذلك" أي بما ذكرنا من وجه النظر: ما روى جابر بن عبد الله وأنس بن مالك وما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانتفى بذلك ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه.

(1) سورة التحريم، آية:[4].

(2)

سورة النجم، آية:[9].

ص: 197