الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: التطوع بعد الوتر
ش: أي هذا باب في بيان حكم التطوع بعد الوتر، والمناسبة بين البابين ظاهرة.
ص: حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدُ، قال: ثنا أسباط، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه قال:"كان النبي عليه السلام يوتر أول الليل وفي وسطه وفي آخره، ثم ثبت له الوتر في آخره".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر وعفان، قالا: ثنا شعبة، قال: أبو إسحاق أنبأني غير مرة، قال: سمعت عاصم بن ضمرة يحدث، عن علي رضي الله عنه عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا ربيعٌ الجيزي، قال: ثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو أمية، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنا إسرائيل.
وقال مرةً أخرى: أخبرنا أبو إسرائيل، عن السُّدِّيِّ، عن عبد خير قال:"خرج علينا عليّ رضي الله عنه ونحن في المسجد فقال: أين السائل عن الوتر؟ فانتهينا إليه، فقال: إن رسول الله عليه السلام كان يوتر أول الليل، ثم بدا له فأوتر وَسْطَه، ثم ثبت له الوتر في هذه الساعة. قال: وذاك عند طلوع الفجر".
قال أبو جعفر رحمه الله: وهذا عندنا على قرب طلوع الفجر قبل أن يطلع الفجر؛ حتى يَسْتوى معنى هذا الحديث ومعنى حديث عاصم بن ضمرة.
ش: هذه أربعة أسانيد:
الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي وشيخ أبي داود والنسائي وابن ماجه، عن أسد بن موسى الثقة، عن أسباط بن محمَّد القرشي الكوفي روى له الجماعة، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي إسحاق
عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي روى له الأربعة، ووثقه العجلي وابن المديني.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا محمَّد بن فضيل، نا مطرف، عن أبي إسحاق
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "يوتر في أول الليل" أراد به بعد صلاة العشاء الآخرة، وقد علم بذلك أن وقت الوتر ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر، ففِعْلُه عليه السلام أول الليل وأوسطه؛ بيان للجواز، وتأخيرُه إلى آخر الليل؛ تنبيه على الأفضل لمن يثق بالانتباه، وكان بعض السلف يوترون أول الليل، منهم: أبو بكر وعثمان وأبو هريرة ورافع بن خديج.
وبعضهم يوترون آخر الليل، منهم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وغيرهم من التابعين.
وأما أمره عليه السلام لأبي هريرة قبل النوم بالوتر فهو اختيار منه له حين خشي أن يستولي عليه النوم، فأمره بالأخذ بالثقة. والترغيب في الوتر في آخر الليل هو لمن قوي عليه ولم تكن عادته أن تغلبه عيناه.
قوله: "وفي وسْطه" بسكون السين، والفرق بينه وبين الوسَط بالتحريك أن الوسْط بالسكون يقال في مكان متفرق الأجزاء غير متصل كالناس والدواب وغير ذلك، فإذا كان متصل الأجزاء كالدار والرأس فهو بالفتح، وقيل: كل ما يصلح فيه "بين" فهو بالسكون، وما لا يصلح فيه "بنين" فهو بالفتح، وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر، وكأنه الأشبه.
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي وعفان بن مسلم كلاهما، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة
…
إلى آخره.
(1)"مسند أحمد"(1/ 78 رقم 580).
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع، وثنا محمَّد بن بشار، نا محمَّد ابن جعفر، قالا: نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال:"من كل الليل قد أوتر رسول الله عليه السلام، من أوله وأوسطه، وانتهى وتره إلى السحر".
الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن يعقوب بن إسحاق بن عباد العبدي البصري، عن إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
الرابع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم، عن عبيد الله بن موسى بن أبي المختار الكوفي شيخ البخاري وأحمد، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي أبي محمَّد الكوفي الأعور روى له الجماعة إلا البخاري، كان يقعد في سُدَّة باب الجامع بالكوفة فسُمِّي السُّدّي.
وهو يروي عن عبد خير بن يزيد أي عمارة الكوفي روى له الأربعة، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا غسّان بن الربيع، نا أبو إسرائيل، عن السدي، عن عبد خير قال:"خرج علينا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحن في المسجد، فقال: أين السائل عن الوتر؟ فمن كان منا في ركعة شفع إليها أخرى حتى اجتمعنا إليه، فقال: إن رسول الله عليه السلام كان يوتر في أول الليل ثم أوتر في وسطه، ثم أثبت الوتر في هذه الساعة. قال: وذلك عند طلوع الفجر".
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 375 رقم 1186).
(2)
"مسند أحمد"(1/ 120 رقم 974).
قوله: "وقال مرة أخرى: أبو إسرائيل" أي قال عبيد الله بن موسى مرة: أخبرنا إسرائيل، ومرة أخرى قال: أبو إسرائيل. وكذا وقع في رواية أحمد كما ذكرنا، وأبو إسرائيل اسمه إسماعيل بن أبي إسحاق وهو إسماعيل بن خليفة العَبْسي، قال أبو زرعة: يُعدّ في الكوفيين، وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: أبو إسرائيل يكتب حديثه، وعن يحيى: صالح. وعن أبي زرعة: صدوق كوفي إلا أنه كان في رأيه غلو. وقال النسائي: ضعيف. وقال أبو حاتم: لا يحتج بحديثه ويكتب حديثه وهو سيء الحفظ.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى أن الوقت الذي ينبغي أن يُجعل فيه الوتر هو السحر، وأنه لا يتطوع بعده، وأن من تطوع بعده فقد نقضه وعليه أن يعيد وترًا آخر.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمرو بن ميمون ومكحولًا وإسحاق؛ فإنهم قالوا: وقت الوتر الذي ينبغي أن يفعل فيه هو وقت السحر ولا يتطوع بعده، فلو تطوع بعده فقد نقض وتره وعليه أن يعيد وترًا آخر، ويحكى ذلك عن علي، وأسامة، وأبي هريرة، وعمر، وعثمان، وسعد، وابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم. وحاصل ما ذهبوا إليه: أن من أوتر أول الليل، ثم قام للتهجد ينبغي له أن يصلي ركعةً يشفع الوتر الأول، ثم يصلي مثنى مثنى، ثم يوتر في آخر التهجد.
ص: واحتجوا في ذلك بتأخير النبي عليه السلام الوتر إلى آخر الليل، ربما روي عن جماعة من أصحابه عليه السلام من بعده أنهم كانوا يَروْن أن كل مَنْ تطوع بعد وتره فقد نقضه.
وذكروا في ذلك: ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، أن عثمان رضي الله عنه قال:"إني أوتر أول الليل، فإذا قمت من أخر الليل صليت ركعةً فما شبهتها إلا بقلوص أضمها إلى الإبل".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وَهْب، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر رضي الله عنه كان يفعل ذلك".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن حِطّان بن عبد الله، قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: "الوتر على ثلاثة أنواع: رجل أوتر أول الليل، ثم استيقظ فصلى ركعتين، ورجل أوتر أول الليل ثم استيقظ فوصل إلى وتره ركعةً، فصلى ركعتين ركعتين ثم أوتر، ورجل أَخَّرَ وتره إلى آخر الليل".
حدثنا محمَّد بن بحر، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا همام، عن قتادة ومالك بن دينار، عن خلاس قال:"كنت جالسًا عند عمار رضي الله عنه، فأتاه رجل فقال له: كيف توتر؟ قال: أترضى بما أصنع؟ قال: نعم. قال: أحسب قتادة قال في حديثه-: فإني أوتر بليلٍ خمس ركعاتٍ ثم أرقد، فإذا قمتُ من الليل شفعتُ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن زيد بن عبد الله بن قُسَيط، عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"من أوتر فبدا له أن يُصلّى، فليشفع إليها بأخرى حتى يوتر بَعْدُ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا أبو إسحاق، عن مسروق، قال: قال ابن عمر: "شيء أفعله برأي لا أرويه
…
" ثم ذكر نحوًا من ذلك.
قال مسروق: وكان أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه يَتَعجّبُون من صنيع ابن عمر رضي الله عنهما.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة:"أن رجلًا استفتاه عن رجل أوتر أول الليل ثم نام، ثم قام، كيف يصنع؟ قال: يُتمَّها عشرًا".
وقد روي عن أبي هريرة خلاف هذا القول وسنذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ش: أي احتج هؤلاء القوم فيما ذهبوا إليه بتأخير النبي عليه السلام وتره إلى آخر الليل، واحتجوا أيضًا بما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يرون أن كل من صلى تطوعًا بعد أن صلى وتره فقد نقض وتره، وممن روي ذلك عنهم: عثمان بن عفان وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمار بن ياسر، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهم.
أما أثر عثمان فأخرجه من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير بن سُوَيْد الكوفي المعروف بالقبطي روى له الجماعة، عن موسى بن طلحة بن عبيد الله التَيمي المدني نزيل كوفة روى له الجماعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان وشعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن عثمان رضي الله عنه:"أنه كان يشفع بركعة ويقول: ما أشبهها إلا بالغربية من الإبل".
قوله: "إلا بقَلُوص" بفتح القاف وهي الناقة الشابة.
والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة
…
إلى آخره.
وأما أثر أبي بكر رضي الله عنه فأخرجه بإسناد حسن جيد، عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 82 رقم 6730).
عمران بن بشير بن محرر وثقه ابن حبان، عن أبيه بشير بن محرر -براء مهملة مكررة- روى له أبو داود عن سعيد بن المسيب:"أن أبا بكر رضي الله عنه كان يفعل ذلك" وأشار به إلى ما روي عن عثمان رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي (1) بأتمّ منه: من حديث سعيد بن المسيب قال: "كان ابن عمر رضي الله عنهما يوتر أول الليل، فإذا قام، نقض وتره ثم صلى، ثم أوتر آخر صلاته -أو آخر الليل- وكان عمر رضي الله عنه يوتر آخر الليل، وكان خيرًا مني ومنهما أبو بكر رضي الله عنه يوتر أول الليل ويشفع آخره".
وأما أثر علي رضي الله عنه فأخرجه بإسناد جيد أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي هارون إبراهيم بن العلاء الغَنَوي البصري ونسبته إلى غني بن يعصر -قبيلة- عن حِطان -بكسر الحاء- بن عبد الله، روى له البخاري وأبو داود والنسائي.
وأخرجه البيهقي (2): من حديث شعبة، عن أبي هارون الغنوي، سمعتُ حطان، سمع عليًّا يقول: "الوتر ثلاثة أنواع
…
" إلى آخره.
وأما أثر عمار رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح، عن محمد بن بحر بن مطر البغدادي، عن يزيد بن هارون، عن همام بن يحيى، عن قتادة ومالك بن دينار البصري الزاهد المشهور الثقة الكبير، روى له البخاري مستشهدًا والأربعة كلاهما، عن خِلاس -بكسر الخاء المعجمة- بن عمرو الهجري روى له الجماعة البخاري مقرونًا بغيره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن خِلاس بن عمرو الهجري، عن عمار قال:"أما أنا فأوتر، فإذا قمتُ صليت مثنى مثنى وتركت وتري الأول كما هو".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 36 رقم 4623).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 37 رقم 4627).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 83 رقم 6734).
وأما أثر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأخرجه من طريقين بإسناد صحيح أيضًا.
الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن زيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان كلاهما، عن ابن عمر.
وأخرج نحوه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن هشيم، عن حصين، عن الشعبي، عن ابن عمر.
والثاني: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير ابن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي، عن مسروق بن الأجدع.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده".
وأما أثر أبي هريرة: فأخرجه عن أبي بكرة أيضًا، عن أبي داود أيضًا، عن حرب بن شداد اليشكري، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي الحارث الغفاري، ذكره أبو أحمد فيمن لم يقف على اسمه، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه وعن اسمه.
وأخرجه الطيالسي في "مسنده": عن حرب بن شداد اليشكري
…
إلى آخره نحوه.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا بأس بالتطوع بعد الوتر، ولا يكون ذلك ناقضًا للوتر.
شْ: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: طاوسًا وعلقمة وأبا مجلز والنخعي والأوزاعي والثوري وأبا حنيفة وعبد الله بن المبارك والشافعي ومالكًا وأحمد وأبا ثور؛ فإنهم قالوا: لا بأس بالتطوع بعد الوتر ولا يكون ذلك
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 82 رقم 6726).
ناقضًا للوتر، ويروى ذلك عن أبي بكر الصديق وعمار وسعد بن أبي وقاص وعائذ بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم.
وقال ابن حزم في "المحلى": والوتر آخر الليل أفضل، ومن أوتر أوله فحسَنٌ، والصلاة بعد الوتر جائزة ولا يعيد وترًا آخر ولا يشفع بركعة.
ص: وروَوْا عن النبي عليه السلام في ذلك ما حدثنا فهدٌ، قال: ثنا يحيى بن عبد الله البَابُلْتي، قال: ثنا الأوزاعي، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام ركع ركعتين بعد الوتر فقرأ فيهما وهو جالسٌ، فلما أراد أن يركع قام فركع".
وقد ذكرنا مثل ذلك أيضًا عن عائشة في باب الوتر في حديث سعد بن هشام.
ش: أي: روى هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه عن النبي عليه السلام حديث عائشة رضي الله عنها.
أخرجه عن فهد بن سليمان، عن يحيى بن عبد الله بن الضحاك بن بَابُلْت البَابُلْتي أبي سعيد الحراني ابن امرأة الأوزاعي، فيه مقال، فعن يحيى بن معين: أنه لم يسمع والله من الأوزاعي شيئًا. وقال ابن عدي: وليحيى البابلْتي عن الأوزاعي أحاديث صالحة (1). وقال ابن حبان: يأتي عن الثقات بأشياء معضلات يَهِم فيها فهو ساقط الاحتجاج فيما انفرد به.
قلت: استشهد به البخاري في كتاب الحج في باب نزول النبي عليه السلام بمكة.
وهو يروي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي اليمامي، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.
وأخرجه مسلم (2): ثنا محمَّد بن مثنى، قال: ثنا ابن أبي عدي، نا هشام، عن
(1) وبقية كلامه كما في "الكامل"(7/ 250): وفي تلك الأحاديث أحاديث ينفرد بها عن الأوزاعي، ويروي عن غير الأوزاعي من المشهورين والمجهولين، والضعف على حديثه بَيِّن.
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 509 رقم 738).
يحيى، عن أبي سلمة قال:"سألت عائشة عن صلاة رسول الله عليه السلام فقالت: كان يصلي ثلاث عشرة ركعةً، يصلي ثمان ركعات ثم يوتر، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، وإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يصلي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح".
وأخرجه أبو داود (1) والنسائي (2) أيضًا.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: فيه دلالة على إباحة التطوع بعد الوتر، وهو حجة على من منع ذلك.
الثاني: احتج به الأوزاعي، وأباح ركعتين بعد الوتر جالسًا، وقال أحمد: لا أفعله ولا أمنع مَنْ فعله. وأنكره مالك.
قلت: الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما عليه السلام بعد الوتر جالسًا لبيان جواز الصلاة بعد الوتر وبيان جواز النفل جالسًا، ولم يُواظب على ذلك، بل فعله مرةً أو مرتين أو مرات قليلة، ولا يغترّ بقول عائشة رضي الله عنها:"كان يصلي" فإن المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون من الأصوليين: أن "كان" لا يلزم منها الدوام والتكرار، وإنما هي فعل ماض يدل على وقوعه مرةً، فإن دلّ دليل على التكرار عُمل به وإلا فلا يقتضيه بوضعها، كذا قالوا، وفيه نظر، وقد مرّ تحقيق هذا في باب الوتر فليعاود إليه.
الثالث: فيه بيان جواز النفل كما ذكرناه، والله أعلم.
ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا عمارة بن زاذان، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام كان يَقرأ في الركعتين بعد الوتر بالرحمن والواقعة".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 42 رقم 1350).
(2)
"المجتبى"(3/ 256 رقم 1781).
ش: أبو غسان مالك بن إسماعيل النَّهْدي شيخ البخاري، وعمارة بن زاذان الصيدلاني أبو سلمة البصري فيه مقال، فقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالمتين. وقال الدارقطني: ضعيف. ووثقه ابن حبان، وأحمد في رواية، وعن يحيى: صالح. وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وأخرجه البيهقي (1): من حديث محمَّد بن بزيع، عن إسحاق الأزرق، نا عمارة بن زاذان، نا ثابت البناني، عن أنس:"كان رسول الله عليه السلام يوتر بتسع ركعات، فلما أسنّ وثقل أوتر بسبع، ويصلّي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما الرحمن والواقعة. قال أنس: ونحن نقرأ بالسور القصار: {إِذَا زُلْزِلَتِ} (2) {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (3) ونحوها". وقال مرة: "نقرأ فيهن". وقال: تفرد به عمارة.
ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عبد الرحمن بن المبارك، قال: ثنا عبد الوارث، عن أبي غالب، عن أبي أمامة:"أن النبي عليه السلام كان يصليهما بعد الوتر وهو جالس يقرأ فيهما بـ {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ".
ش: عبد الرحمن بن المبارك بن عبد الله الطفاوي أبو بكر البصري شيخ البخاري وأبي داود، وعبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة البصري روى له الجماعة، وأبو غالب البصري اختلف في اسمه، فقيل: حَزوّر، وقيل: سعيد بن حزور، وقيل: نافع، وقال الترمذي في بعض حديثه: هذا حسن، وفي بعضه: هذا حديث صحيح. وقال النسائي: ضعيف. وقال الدارقطني: ثقة. وروى له الأربعة.
وأبو أمامة الباهلي اسمه صُدَي بن عجلان.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 33 رقم 4605).
(2)
سورة الزلزلة.
(3)
سورة الكافرون.
وأخرجه البيهقي (1) بأتمّ منه من حديث أبي غالب، عن أبي أمامة:"أن رسول الله عليه السلام كان يوتر بسبع حتى إذا بدّن وكثر لحمه أوتر بثلاثٍ وصلى ركعتين وهو جالس فقرأ فيهما {إِذَا زُلْزِلَتِ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ".
ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن شريح بن عُبَيْد، عن عبد الرحمن بن جبير بن نُفَيْر، عن أبيه، عن ثوبان مولى النبي عليه السلام قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام في سَفرٍ فقال: إن هذا السفر جَهْدٌ وثِقل، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له".
ش: عبد الله بن صالح كاتب الليث وشيخ البخاري، ومعاوية بن صالح بن حُدَير الحِمْصي قاضي الأندلس روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، وشريح بن عبيد الحضرمي أبو الصلت الشامي الحِمْصي، قال العجلي: تابعي ثقة، وروى له أبو داود وابن ماجه.
وعبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي أبو حُميد الحمصي، روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".
وأبوه جبير بن نفير الحضرمي الحمصي روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح".
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(2): ثنا إسماعيل بن عياش الوراق، ثنا محمَّد بن إسحاق، نا أبو صالح، أخبرني معاوية بن صالح، عن شريح بن عبيد، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كنا مع رسول الله عليه السلام في السفر فقال: إن السفر جَهْد وثِقَلٌ، فإذا أوتر أحدكم فليركع ركعتين، فإن استيقظ وإلا كانتا له".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 33 رقم 4605).
(2)
"سنن الدارقطني"(2/ 36 رقم 1).
قوله: "جَهْد" بفتح الجيم أي مشقة وتعب، ولا تستعمل في هذا المعنى إلا بالفتح، وأما الجُهد -بالضم- فهو الوِسْع والطاقة، وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة.
قوله: "وثِقَل" بكسر الثاء وفتح القاف ضد الخِفَّة، وأما الثِّقْل -بكسر الثاء وسكون القاف- فهو واحد الأثقال مثل حِمْل وأَحْمَال، ومنه قولهم: أعط ثِقْلَه أي وزنه، وأما الثَّقَل-بفتحتين- فهو متاع المسافر وحشمه، والثقلان: الإنس والجن، والثَّقلةُ -بزيادة الهاء- هي الفتور والكسل في الجسم.
قوله: "فإن استيقظ" جوابه محذوف تقديره: فإن انتبه أحدكم فيها "وإلا" أي وإن لم يستيقظ كانت الركعتان له من صلاة الليل، فدل الحديث على إباحة الصلاة بعد الوتر وأنها لا تنقض وتره.
ص: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تطوع بعد الوتر بركعتين وهو جالس، ولم يكن ذلك ناقضًا لوتره المتقدم، فهذا أولى مما تأوّله أهل المقالة الأولى وادّعوه من معنى حديث علي رضي الله عنه أن النبي عليه السلام انتهى وتره إلى السحر مع أن ذلك أيضًا ليس فيه خلاف عندنا لهذا؛ لأنه قد يجوز أن يكون وتره ينتهي إلى السحر ثم يتطوع بعده قبل طلوع الفجر.
فإن قال قائل: فيحتمل أن تكون تانك الركعتان هما ركعتا الفجر فلا يكون ذلك من صلاة الليل.
قيل له: لا يجوز ذلك من جهتين:
أما إحداهما: فلأن سعد بن هشام إنما سأل عائشة عن صلاة النبي عليه السلام بالليل، فكان ذلك منها جوابًا لسؤاله، وإخبارًا منها إياه عن صلاته بالليل كيف كانت.
والجهة الأخرى: أنه ليس لأحد أن يُصلّي ركعتي الفجر جالسًا وهو يُطيق القيام؛ لأنه بذلك تارك لقيامها، وإنما يجوز أن يُصلّي قاعدًا وهو يطيق القيام ما
له أن لا يصليه البتّة ويكون له تركه، فيكون كما له تركه بكماله يكون له ترك القيام فيه، فأما ما ليس له تركه فليس له ترك القيام فيه، فثبت بذلك أن تينك الركعتين اللتين تطوع بهما النبي عليه السلام بعد الوتر كانتا من صلاة الليل، وفي ذلك ما
يجب به قول الذين لم يَرَوْا بالتطوع في الليل بعد الوتر باسًا ولم ينقضوا الوتر،
وقد روي عن النبي عليه السلام في ذلك من قوله- ما يدل على هذا أيضًا - ما قد ذكرنا
عنه في حديث ثوبان رضي الله عنه.
ش: نبّه بقوله: "فهذا رسول الله عليه السلام" على أنه عليه السلام قد تطوع بعد وتره كما
صرَّح به في حديث عائشة وأنس وأبي أمامة رضي الله عنهم، وأنه قد دل على أن ذلك لم يكن
ناقضًا لوتره المتقدم، وكذا أمره بالركعتين في حديث ثوبان يدلّ على ذلك.
ثم إنه رجَّح هذا المعنى الذي احتج به أهل المقالة الثانية على المعنى الذي تأوّله
أهل المقالة الأولى من قول علي رضي الله عنه في حديثه: "ثم ثبت له الوتر في هذه الساعة.
قال: وذاك عند طلوع الفجر".
وقد أوّل الطحاوي هذا فيما مضى بقوله: "وهذا عندنا على قرب طلوع الفجر قبل أن يطلع الفجر"، فيكون المعنى: عند مشارفة الوقت الذي صلّي فيه على طلوع الفجر كما في قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} (1) أي: فإذا أشرفن على بلوغ الأجل، وإنما أوّل بهذا التأويل ليرتفع الخلاف بين حديثي علي:
أحدهما: ما رواه عنه عاصم بن ضمرة: "كان النبي عليه السلام يوتر أول الليل وفي وسطه وفي آخره، ثم ثبت له الوتر في آخره".
والآخر: ما رواه عنه عبد خير: "كان يوتر أول الليل، ثم بدا له فأوتر وسطه، ثم ثبت له الوتر في هذه الساعة. قال: وذاك عند طلوع الفجر".
قوله: "مع أن ذلك أيضًا
…
" إلى، آخره، جواب آخر بطريق التسليم، يعني:
(1) سورة الطلاق، آية:[2].
سلمنا أن وتره عليه السلام قد انتهى إلى السَّحَر، ولكن هذا لا يمنع عن تطوعه بعد طلوع الفجر؛ فإنه يجوز أن يكون وتره ينتهي إلى السَّحَر، ثم يتطوع بعد طلوع الفجر.
قوله: "فإن قال قائل
…
" إلى آخره ظاهرٌ غنيٌّ عن مزيد البيان.
قوله: "تانك الركعتان" أراد بهما الركعتين اللتين صلاهما النبي عليه السلام بعد وتره في حديث عائشة وهو من أسماء الإشارة في تثنية المؤنث، ويجوز فيه تخفيف النون وتشديدها فتقول: تانك وتانّك وجمعها أولئك من غير لفظ واحده، وتقول في تثنية المذكر: ذانك وذانّك بالتخفيف والتشديد، قال الله تعالى:{فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} (1) فقرئ بالتشديد والتخفيف، وتقول في مفرد المؤنث: تلك وتالك وتيك وتاك، ويقال أيضًا: هاتيك وهاتاك وهاتلك وهاتالك، وفي مفرد المذكر: ذلك وذاك، وكل هذه إشارات لغير الحاضر، فافهم.
قوله: "فلأن سعد بن هشام إنما سأل عائشة
…
" إلى آخره، قد مرَّ حديثه مستوفى في باب الوتر.
قوله: "وهو يطيق القيام" جملة حالية في الموضعين.
قوله: "ما له أن لا يصليه" في محل النصب على أنه مفعول لقوله: "وإنما يجوز أن يصلي قاعدًا".
قوله: "البتةَ" نصب على المصدر من بتّ يبتّ، وهو مصدر معرف باللام نحو ضربت الضربَةَ.
قوله: "فيكون كما له تركه" أي: كما للمصلي ترك ما له أن لا يصليه بكماله يكون له ترك القيام فيه؛ لكونه نفلًا محضًا بخلاف سنة الفجر فإنها سنة مؤكدة كادت أن تكون واجبة، فلا يجوز ترك القيام فيها عند القدرة عليه، ألا ترى أن الحسن البصري قد ذهب إلى وجوب ركعتي الفجر، وهو مذهب بعض الظاهرية أيضًا.
(1) سورة القصص، آية:[32].
ص: وقد حدثنا عمران بن موسى الطائي وابن أبي داود، قالا: نا أبو الوليد (ح)
وحدثنا ابن أبي عمران، قال: ثنا علي بن الجعد، قال: أنا أيوب بن عتبة، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي عليه السلام قال:"لا وتران في ليلة".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق، عن أبيه، عن النبي عليه السلام مثله.
حدثنا أبو أمية، قال: ثنا أبو نعيم وأبو الوليد، قالا: ثنا ملازم، عن عبد الله ابن بدر
…
فذكر مثله بإسناده.
ش: ذكر حديث طلق بن علي بن المنذر الحنفي السُّحَيْمي اليمامي الصحابي رضي الله عنه، لكونه حجة لما ذهب إليه أهل المقالة الثانية فيما إذا تطوع بعد الوتر لا يكون ذلك نقضًا لوتره، فلا يعيد وتره؛ لأنه عليه السلام قال:"لا وتران في ليلة"، يعني: لا يُصلّى وترٌ مرتين في ليلة واحدة.
وأخرجه من أربع طرق:
الأول: عن عمران بن موسى الطائي وإبراهيم بن أبي داود البرلّسي كلاهما، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن أيوب بن عتبة اليمامي قاضي اليمامة، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا أبو النضر، قال: ثنا أيوب -يعني ابن عتبة- قال: ثنا قيس بن طلق، عن أبيه قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا وتران في ليلة".
ومعناه: أن من أوتر ثم صلى بعد ذلك لا يعيد الوتر.
الثاني: عن أحمد بن أبي عمران موسى بن عيسى الفقيه البغدادي، عن علي بن الجعد بن عبيد الجَوْهري الثقة المتقين المثبت، عن أيوب بن عتبة
…
إلى آخره.
(1)"مسند أحمد"(4/ 23 رقم 22 رقم 16327).
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1).
الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، عن ملازم بن عمرو بن عبد الله السُّحَيمي أبي عمرو اليمامي، عن عبد الله ابن بدر بن عميرة السُّحَيْمي اليمامي، عن قيس بن طلق، عن أبيه طلق بن علي، عن النبي عليه السلام مثله.
وأخرجه أبو داود (2) بأتمّ منه: ثنا مسدد، ثنا ملازم بن عمرو، نا عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق قال:"زارنا طلق بن علي في يوم من رمضان وأمسى عندنا وأفطر، ثم قام بنا تلك الليلة وأوتر بنا، ثم انحدر إلى مسجده، فصلى بأصحابه حتى إذا بقيَ الوتر قدّم رجلًا فقال: أوتِرْ بأصحابك، فإني سمعت رسول الله عليه السلام يقولُ: لا وتران في ليلة".
الرابع: عن أبي أمية محمَّد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، وأبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، كلاهما عن ملازم بن عمرو
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (3): أنا هناد بن السَّرِي، عن ملازم بن عمرو، قال: حدثني عبد الله بن بدر، عن قيس بن طلق قال: "زارنا أي طلق بن علي في يوم من رمضان فأمسى بنا وقام بنا تلك الليلة
…
" إلى آخره نحو رواية أبي داود.
فإن قيل: كيف استدل بهذا الحديث للطائفة الثانية، وفي إسناده أيوب بن عتبة وقد قال فيه يحيى: ضعيف. وعنه: ليس بشيء. وقال مسلم: ضعيف. وقال البخاري: هو عندهم ليّن.
وفي إسناده أيضًا قيس بن طلق وقد ضعّفَه غير واحد؟
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 36 رقم 4622).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 67 رقم 1439).
(3)
"المجتبى"(3/ 229 رقم 1679).
قلت: أما أيوب فقد قال ابن عدي: يكتب حديثه، وعن يحيى: لا بأس به. وأما قيس بن طلق فقد قال العجلي: يمامي تابعي ثقة، وهكذا وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في الثقات.
وأخرج الترمذي (1) حديثه هذا: عن هناد، عن ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر، عنه.
وقال: هذا حديث حسن غريب.
والحديث الحسن يجوز الاحتجاج به، ولئن سلمنا إجماع ضعف أيوب بن عتبة، فقد أخرج الحديث من طريقين ليس فيهما أيوب، فافهم.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا زائدة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله، أن النبي عليه السلام قال لأبي بكر رضي الله عنه:"متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة. قال: أخذتَ بالوُثْقَى، وقال لعمر رضي الله عنه: متى توتر؟ قال: آخر الليل. قال: أخذتَ بالقوة".
حدثنا يونس، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب:"أن أبا بكر وعمر رضي الله عنه تذاكرا الوتر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أما أنا فأصلي ثم أنام على وترٍ، فإذا استيقظت صليت شفعًا حتى الصباح، فقال عمر رضي الله عنه: لكني أنام على شفع ثم أوتر من آخر السَّحَر. فقال عليه السلام لأبى بكر: حَذِرَ هذا، وقال لعمر: قَوِي هذا".
فدل قول النبي عليه السلام: "لا وتران في ليلة" على ما ذكرنا من نفي إعادة الوتر، ووافق ذلك قول أبي بكر:"أما أنا فأوتر أول الليل، فإذا استيقظت صليتُ شفعًا حتى الصباح".
وتركُ النبي عليه السلام النكيرَ عليه دليل على أن حكم ذلك كما كان يَفعلُ، وأن الوتر لا تَنقُضُه النوافل التي يُتنفّلُ بها بعده.
(1)"جامع الترمذي"(2/ 333 رقم 470).
ش: لما كان الأثران اللذان رواهما جابر وسعيد بن المسيب يوافقان في المعنى قول النبي عليه السلام: "لا وتران في ليلة"؛ ذكرهما.
وأخرج الأول: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زائدة بن قدامة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب القرشي المدني، ضعفه بعضهم ووثقه آخرون.
عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه ابن ماجه (1): ثنا أبو داود سليمان بن توبة، ثنا يحيى بن أبي بكير، نا زائدة، عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله عليه السلام لأبي بكر: "أيّ حينٍ توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة. قال: فأنت يا عمر؟ قال: آخر الليل. فقال النبي عليه السلام: أما أنت يا أبا بكر فأخذت بالوثقى، وأما أنت يا عمر فأخذت بالقوة".
قوله: "بعد العتمة" أي بعد العشاء.
قوله: "بالوُثْقَى" بضم الواو على وزن فُعْلى مؤنث وثيق وهو الأمر المحكم، وهو في الحقيقة صفة لمحذوف، والتقدير: أخذت بالفَعْلة الوثقة أو نحو ذلك.
وأخرج الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن يحيى بن عبد الله بن بكير، عن الليث بن سعد، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب سيد التابعين ولم يسمع من أبي بكر رضي الله عنه ولا أَدركه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2) مختصرًا: ثنا هشيم، قال: أنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال:"كان أبو بكر يوتر أول الليل، وكان عمر يوتر آخر الليل".
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 379 رقم 1202).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 80 رقم 6706).
وأخرج أبو داود (1): نا محمَّد بن أحمد بن خلف، نا أبو زكرياء السَّيْلَحيني، نا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة "أن النبي عليه السلام قال لأبي بكر: متى توتر؟ قال: أوتر من أول الليل. وقال لعمر: متى توتر؟ قال: آخر
الليل. قال لأبي بكر: أخذ هذا بالحذر، وقال لعمر: أخذ هذا بالقوة" انتهى.
قوله: "حَذِرَ هذا" أي: احتاط حيث أوتر أول الليل خوفًا من عدم الانتباه، وهو معنى قوله أيضًا:"أخذ هذا بالحذر".
قوله: "قوي هذا" أي أخذ بالقوة والحزم حيث أوتر آخر الليل؛ لأنه كان متوثقًا من نفسه بالانتباه.
ص: وقد روي ذلك عن جماعة من أصحاب النبي عليه السلام:
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة، عن أبي جمرة قال:"سألت ابن عباس عن الوتر فقال: إذا أوترت أول الليل فلا توتر آخره، وإذا أوترت آخره فلا توتر أوله. قال: وسألت عائذ بن عمرو فقال مثله".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثثا أبو عامر العقدي، قال: ثنا شعبة، عن قتادة ومالك بن دينار، أنهما سمعا خلاسًا قال:"سمعت عمار بن ياسر رضي الله عنه وسأله رجل عن الوتر فقال: أما أنا فأوتر ثم أنام، فإن قمتُ صليت ركعتين".
وهذا عندنا معنى حديث همام، عن قتادة الذي ذكرناه في الفصل الأول، كان في ذلك:"إذا قمت شفعت"، فاحتمل ذلك أن يكون يشفع بركعة كما كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل.
ويحتمل أن يكون يُصلّي شفعًا، ففي حديث شعبة قد بَيَّن أن معنى قوله:"شفعت" أي صلّيتُ شفعًا شفعًا ولم أنقض الوتر.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 66 رقم 1434).
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد ابن جبير قال:"ذكر عند عائشة رضي الله عنها نقض الوتر، فقالت: لا وتران في ليلة".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا عبس الله بن حُمران، قال: ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن عمران بن أبي أنس، عن عمر بن الحكم، أن أبا هريرة قال:"لو جئتُ بثلاثة أبعرة فَأَنَخْتُها، ثم جئتُ بَبعيرَيْن فأنختهما، أليس كان يكون ذلك وترًا؟ قال: وكان يضرب ذلك مثلًا لنقض الوتر".
قال أبو جعفر رحمه الله: وهذا عندنا كلام صحيح، ومعناه: أن ما صليت بعد الوتر من الإشفاع فهو مع الوتر الذي أوترتُه وترًا". حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن أبي مُرَّة مولى عقيل بن أبي طالب: "أنه سأل أبا هريرة: كيف كان النبي عليه السلام يوتر؟ فقال: إن شئت أخبرتك كيف أصنع أنا؟ قلت: أخبرني. قال: إذا صليتُ العشاء صليت بعدها خمس ركعات، ثم أنام، فإن قمتُ من الليل صليتُ مثنى مثنى، فإن أصبحت أصبحت على وترٍ".
فهذا ابن عباس وعائذ بن عمرو وعمار وأبو هريرة وعائشة رضي الله عنهم لا يرون التطوع بعد الوتر ينقض الوتر، فهذا أولى عندنا مما روي عمن خالفهم؛ إذ كان ذلك موافقًا لما روي عن النبي عليه السلام من فعله وقوله، والذي روى عن الآخرين أيضًا فليس له أصل في النظر؛ لأخهم إذا كانوا أرادوا أن يتطوعوا صلّوا ركعةً فيشفعون بها وترًا متقدمًا قد قطعوا فيما بينه وبين ما شفعوا به بكلام وعمل ونوم، وهذا لا أصل له في الإجماع فَيُعْطَف عليه هذا الاختلاف، فلما كان ذلك كذلك وقد خالفه من أصحاب النبي عليه السلام من ذكرنا، وروي عن النبي عليه السلام أيضًا خلافه؛ انتفى ذلك ولم يجز العمل به.
وهذا القول الذي بينّا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي: قد روي نفي إعادة الوتر وتكراره عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وهم: ابن عباس وعائذ بن عمرو، وعمار، وأبو هريرة، وعائشة رضي الله عنهم.
أما أثر ابن عباس وعائذ بن عمرو فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة، عن أبي جمرة -بالجيم- واسمه نصر بن عمران بن عاصم، وثقه ابن معين وابن حبان.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس وعائذ بن عمرو قالا:"إذا أوترت أول الليل فلا توتر آخره، وإذا أوترت آخره فلا توتر أوله".
قوله: "وسألت عائذ بن عمرو" السائل هو أبو جمرة، وعائذ بن عمرو بن هلال المزني أبو هُبَيرة البصري، شهد بيعة الرضوان مع رسول الله عليه السلام.
وأما أثر عمار رضي الله عنه فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن شعبة، عن قتادة، ومالك بن دينار البصري الزاهد المشهور، كلاهما عن خلاس بن عمرو الهجري، عن عمار بن ياسر رضي الله عنه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا وكيع، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو الهجري، عن عمار قال:"أما أنا فأوتر، فإذا قمت صليت مثنى مثنى؟ وِتري الأول كما هو".
قوله: "وهذا عندنا" أي معنى هذا الحديث الذي رواه شعبة، عن قتادة، عن خلاس معنى الحديث الذي رواه همام بن يحيى، عن قتادة عن خلاس المذكور في الفصل الأول في هذا الباب، وهو قوله: حدثنا محمَّد بن بحر، قال: ثنا يزيد هارون، قال: أنا همام، عن قتادة ومالك بن دينار، عن خلاس قال:"كنت جالسًا عند عمار رضي الله عنه فأتاه رجل فقال له: كيف توتر؟ قال: أترضى بما أصنع؟ قال: نعم. قال: -أحسب قتادة قال في حديثه-: فإني أوتر بليل خمس ركعات ثم أرقد، فإذا قمت من الليل شفعتُ".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 83 رقم 6735).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 83 رقم 6734).
ويحتمل هذا أن يكون يشفع بركعة كما كان عبد الله بن عمر يفعل؛ فإنه روي عنه أنه قال: "من أوتر فبدا له أن يصلي، فليشفع إليها بأخرى حتى يوتر بعد"، ويحتمل أن يكون يصلي شفعًا، ويؤيد هذا الاحتمال حديث شعبة عن قتادة، عن خلاس؛ لأنه يبيّن أن معنرل قوله:"فإذا قمت من الليل شفعت" أي صليت شفعًا شفعًا ولم أنقض الوتر؛ وذلك لأن شعبة صرَّح في حديثه: "فإن قمت
صليت ركعتين ركعتين".
وأما أثر عائشة رضي الله عنها: فأخرجه بإسناد صحيح أيضًا: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية اليشكري، عن سعيد بن جبير
…
إلى آخره.
وأما أثر أبي هريرة رضي الله عنه: فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن عبد الله بن حمران بن عبد الله بن حمران بن أبان القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان، روى له مسلم وأبو داود.
عن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاري المدني روى له الجماعة، البخاري مستشهدًا.
عن عمران بن أبي أنس المصري العامري روى له مسلم والأربعة، عن عمر بن الحكم بن رافع الأنصاري أبي حفص المدني روى له البخاري مستشهدًا، والباقون سوى ابن ماجه، عن أبي هريرة.
قوله: "أبعرة" جمع بعير، ويجمع أيضًا على أباعر وأباعير وبُعْران وبَعْران، والبعير: الجمل البازل، وقيل: الجذع، وقد يكون الأنثى، وحكي عن بعض العرب: شربت من لبن بعيري، وصرعتني بعيرٌ لي.
وفي "الجامع": البعير بمنزلة الإنسان، يَجْمَع المذكر والمؤنث من الناس، إذا رأيت جملًا على البُعْد قلتَ: هذا بعير، وإذا استثبته قلت: جمل أو ناقة.
والثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبي مرة واسمه يزيد مولى عقيل بن أبي طالب، عن أبي هريرة.
وأخرجه البيهقي أيضًا (1): من حديث مالك رحمه الله.
قوله: "إذْ كان" كلمة "إذْ" للتعليل.
قوله: "من فعله وهو ما روي من حديث عائشة أنه صلى الركعتين بعد الوتر.
قوله: "من قوله" وهو قوله: "لا وتران في ليلة".
قوله: "والذي روي عن الآخرين" مبتدأ، وخبره قوله:"فليس له أصل في النظر" أي في القياس.
قوله: "فَيُعْطَفَ عليه" بنصْب الفاء، وتقديره: فإن يعطف.
قوله: "انتفى" جواب قوله: "فلما كان ذلك كذلك" والباقي ظاهر، والله أعلم.
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 36 رقم 4625).