الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: المفصل هل فيه سجود أم لا
؟
ش: أي هذا باب في بيان أن المفصل -وهو السُّبع السابع من القرآن- هل فيه سجدة التلاوة أم لا؟ ولما كان المذكور في بعض الأبواب التي قبله حكم القراءة؛ ناسب أن يذكر هذا الباب عقيبها لكونه مشتملًا على بعض أحكام القراءة، والقدر اليسير في مثل هذا كافٍ.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن يزيد بن قُسَيْط، عن خارجة بن زيد، عن أبيه قال:"عرضت على النبي عليه السلام النجم فلم يسجد أحدٌ منا".
حدثنا ربيع الجيزيُّ، قال: أنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة بن شريح، قال: أنا أبو صخر
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا ابن أبي ذئب (ح).
وحدثنا فهد، قال: ثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي كثير، عن يزيد بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت، عن النبي عليه السلام نحوه.
ش: هذه أربع طرق صحاح:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن أبي صخر حميد بن زياد الخراط صاحب العباء نزيل مصر، روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح"، والنسائي في "مسند علي رضي الله عنه".
عن يزيد بن قسيط هو يزيد بن عبد الله بن قسيط بن أسامة بن عمير الليثي المدني الأعرج، روى له الجماعة.
عن خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المدني أحد الفقهاء السبعة، روى له الجماعة.
عن أبيه زيد بن ثابت الأنصاري.
وأخرجه الدارقطني بهذا الإسناد (1): ثنا أبو بكر بن أبي داود، ثنا سليمان بن داود، ثنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي، عن أبي زرعة حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه الزاهد العابد عن أبي صخر حُمَيْد بن زياد الخَرّاط، عن يزيد بن قُسَيْط
…
إلى آخره.
وأخرجه البخاري (2): ثنا سليمان بن داود أبو الربيع، قال: ثنا إسماعيل بن جعفر، قال: أنا يزيد بن خُصَيْفة، عن ابن قسيط، عن عطاء بن يسار، أنه أخبره:"أنه سأل زيد بن ثابت رضي الله عنه فزعم أنه قرأ على النبي عليه السلام {وَالنَّجْمِ} (3) فلم يسجد فيها".
الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة البصري، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت.
وأخرجه أبو داود: ثنا هناد بن السري، ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار، عن زيد بن ثابت قال:"قرأت على رسول الله عليه السلام (النجم) فلم يسجد فيها".
وأخرجه الترمذي (4): عن يحيى بن موسى، عن وكيع، عن ابن أبي ذئب
…
إلى آخره نحوه، وقال: حديث زيد بن ثابت حديث حسن صحيح.
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد بن شداد، عن إسماعيل بن أبي كثير، عن يزيد بن قسيط
…
إلى آخره.
(1)"سنن الدارقطني"(5/ 183 رقم 21631).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 364 رقم 1022).
(3)
سورة النجم.
(4)
"جامع الترمذي"(2/ 466 رقم 576).
وأخرجه النسائي (1) بأتمّ منه، قال: أنا علي بن حُجْر، قال: أبنا إسماعيل، عن يزيد بن خُصَيْفة، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن عطاء بن يسار أنه أخبره:"أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإِمام فقال: لا قراءة مع الإِمام في شيء، وزعم أنه قرأ على رسول الله عليه السلام {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فلم يسجد".
وأخرجه مسلم (2) نحوه.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب إلى هذا الحديث قوم فتقلدوه فلم يَرَوا في (النجم) سجدةً.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير والحسن البصري وسعيد بن المسيب وعكرمة وطاوسًا ومالكًا؛ فإنهم قالوا: ليس في سورة النجم سجدة، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث، ويحكى ذلك عن ابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وكذا مذهب هؤلاء نفي السجدة في المفصل وهو سورة (النجم) و (الانشقاق) و (العلق)، وروي ذلك عن ابن عمر أيضًا، وإليه ذهب مجاهدٌ.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون؛ فقالوا: بل فيها سجدة.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وعبد الله بن وهب وابن حبيب من أصحاب مالك؛ فإنهم قالوا: بل في سورة (النجم) سجدة، وكذا في باقي المفصل، ويروى ذلك عن عثمان وعمار وعمرو بن العاص، وعمر بن العزيز، ومحمد بن سيرين.
وفي "التلويح شرح البخاري": واختلف في عدد سجدات التلاوة؛ فعند أبي حنيفة أربع عشرة سجدة: في آخر الأعراف، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، {الم (1) تَنْزِيلُ} ، وص، وحم السجدة، و (النجم)، و (إذا السماء انشقت)، و (اقرأ باسم ربك).
(1)"المجتبى"(2/ 160 رقم 960).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 406 رقم 577).
وذهب مالك إلى أنها إحدى عشرة سجدةً بإسقاط آخر الحج وثلاث المفصل.
وذهب المدنيون في روايتهم عن مالك والليث وإسحاق ورواية عن أحمد وأبي المنذر، واختاره المروزي وابن سريج الشافعيان، إلى أنها خمس عشرة سجدةً بثانية الحج.
وذهب الشافعي إلى أنها أربعة عشر بسقوط (ص) وهو أصح قوليه وأحمد.
وذهب أبو ثور إلى أنها أربعة عشر فأسقط سجدة (النجم).
وذهب مسروق فيما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة (1) بسند صحيح إلى أنها ثنتي عشرة سجدة، أسقط ثانية الحج، وص، والانشقاق.
وذهب عطاء الخراساني إلى أنها ثلاث عشر، أسقط ثانية الحج، والانشقاق.
وذهب ابن مسعود إلى أن عزائم السجود: الأعراف، وبنو إسرائيل، و (النجم) والانشقاق، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .
رواه ابن أبي شيبة (2): عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عنه.
وذهب علي بن أبي طالب إلى أن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ} ، وحم السجدة، والنجم، و {اقْرَأْ} .
رواه ابن أبي شيبة (3): عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عنه.
وذهب سعيد بن جبير إلى أن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ} ، والنجم، و {اقْرَأْ} .
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 377 رقم 4344).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 369 رقم 4242).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 377 رقم 4349).
رواه أبو بكر (1)، عن داود -يعني: ابن أبي إياس- عنه.
وذهب عبيد بن عمير (2) إلى أن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ} ، والأعراف، و {حم (1) تَنْزِيلٌ} ، وبنو إسرائيل.
وذهب جماعة إلى أنها عشر سجدات.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة (3): ثنا أبو أسامة، ثنا ثابت بن عمارة، عن أبي تميمة الهجيمي:"أن أشياخنا من الهجيم بعثوا رائيًا لهم إلى المدينة وإلى مكة شرفهما الله يسأل لهم عن سجود القرآن، فأخبرهم أنهم أجمعوا على عشر سجدات".
وذهب ابن حزم إلي أنها تُسْجَد للقبلة ولغير القبلة، وعلى طهارة وعلى غير طهارة، قال: وثانية الحج لا نقول بها أصلًا في الصلاة وتبطل الصلاة بها -يعني إذا سجدت فيها- قال: لأنها لم تصح بها سنة عن رسول الله عليه السلام، ولا أُجمع عليها وإنما جاء فيها أثر مرسل. انتهى.
قلت: فيه نظر؛ لأن الحاكم روى فيها حديثًا صحيحًا (4): عن عمرو بن العاص: "أن رسول الله عليه السلام أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن العظيم منها ثلاثة في المفصل".
ص: وليس في هذا الحديث دليل عندنا على أن لا سجود فيها؛ لأنه قد يحتمل أن يكون ترك النبي عليه السلام السجود فيها حينئذٍ؛ لأنه كان على غير وضوء، فلم يسجد لذلك، ويحتمل أن يكون تركه لأنه كان وقتٌ لا يحل فيه السجود، ويحتمل أن يكون تركه لأن الحكم كان عنده في سجود التلاوة أن من شاء سجده ومن شاء تركه، ويحتمل أن يكون تركه لأنه لا سجود فيها.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 378 رقم 4350).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 377 رقم 4348).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 378 رقم 4351).
(4)
"المستدرك على الصحيحين"(1/ 345 رقم 811).
فلما احتمل تركه السجود كل معنى من هذه المعاني لم يكن هذا الحديث بمعنًى منها أولى من صاحبه إلا بدلالة تدل عليه من غيره، ولكنا نحتاج إلى أن نفتش ما بعد هذا الحديث من الأحاديث لنلتمس حكم هذه السورة، هل فيها سجود أم لا سجود فيها؟
فنظرنا في ذلك فإذا إبراهيم بن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا وهب بن جرير، قال: ثنا شعبة. (ح)
وحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله:"أن النبي عليه السلام قرأ {وَالنَّجْمِ}، فلم يبق أحد إلا سجد فيها، إلا شيخٌ كبيرٌ أخذ كفًّا من تراب وقال: هذا يكفيني. قال عبد الله: فلقد رأيته بَعدُ قتُل كافرًا".
ش: هذا جواب عن حديث زيد بن ثابت الذي احتج به أهل المقالة الأولى، تقريره أن يقال: هذا الحديث لا يتم به الاستدلال على نفي السجدة في النجم؛ لأنه يحتمل أمورًا:
الأول: يجوز أن يكون ترك النبي عليه السلام السجود فيها حينئذٍ لأنه كان على غير وضوء، ويُبنى على هذا أن سجدة التلاوة ليست على الفور وإنما هي على التراخي، وينبني عليه أيضًا أن الطهارة شرط لسجدة التلاوة، وهو مذهب جمهور العلماء؛ فإنهم اشترطوا الطهارة لها من الأحداث والأنجاس بدنًا ومكانًا وثيابًا وستر العورة واستقبال القبلة، وأن كل ما يفسد الصلاة يفسدها.
وقال ابن حزم وطائفة: لا يشُترط لها الطهارة. وقد ذكرناه عن قريب.
وقال البخاري (1): وكان ابن عمر يسجد على غير وضوء.
(1)"صحيح البخاري"(1/ 364) تعليقًا قبل الحديث رقم 1021 في باب: "سجود المسلمين مع المشركين".
وفي "المصنف"(1): عن الحسن: "في الرجل يسمع السجدة وهو على غير وضوء، قال: لا سجود عليه".
وعن الشعبي (2): "في الرجل يقرأ السجدة وهو على غير وضوء قال: يسجد حيث كان وجهه".
وعن إبراهيم (3): "إن لم يكن عنده ماء تيمم وسجد".
وقال ابن بطال: فإن ذهب البخاري إلى الاحتجاج بقول ابن عمر وابن عباس: "سجد معه عليه السلام المشركون" فلا حجة فيه؛ لأن سجود المشركين لم يكن على وجه العبادة لله والتعظيم له، وإنما كان لما قيل في الحديث الضعيف أنه ذكر آلهتهم، ولا
يستنبط من سجودهم جواز السجود على غير وضوء لأن المشرك نجس لا وضوء له إلا بعد إسلامه.
الثاني: يجوز أن يكون ترك السجود حينئذٍ لكون الوقت وقت كراهة لا يحل فيه السجود، ويُبنى على هذا كراهة السجود للتلاوة في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها وهي طلوع الشمس وغروبها واستوائها في كبد السماء، حتى لو تلاها في وقت غير مكروه فأداها في الوقت المكروه لا يجوز.
الثالث: يجوز أن يكون تركه لكون الحكم فيها عنده على التخيير على معنى أن مَنْ شاء سجد ومَنْ شاء ترك، ويبُنى على هذا أن سجدة التلاوة ليست بواجبة، واختلف العلماء في هذا الباب، فذهب أبو حنيفة إلى وجوبها على التالي والسامع سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد؛ لقوله تعالى:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (4)،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 375 رقم 4323).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 375 رقم 4325).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 375 رقم 4326).
(4)
سورة النجم، آية:[62].
وقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (1)، ولدلائل أخرى ذُكرت في موضعها. وذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق والأوزاعي وداود إلى أنها سنة.
وعن مالك كقول أبي حنيفة، وعنه فضيلة.
الرابع: يجوز أن يكون إنما تركه لكون أنها لا سجود فيها كما ذهبت إليه أهل المقالة الأولى.
فلما وجد ها هنا أربع احتمالات وليس أحدها أولى من الآخر إلا بدليل يوجب ترجيحه على غيره، احتجنا في ذلك إلى أن نلتمس حديثا آخر يؤخذ منه حكم هذه السورة هل فيها سجدة للتلاوة أم لا؟
فنظرنا في ذلك، فرأينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قد روى حديثًا يدل على أن فيها سجدة، فرجَّح هذا الحديث الاحتمالين الأولين، فوجب العمل بالحديثين، فبحديث عبد الله وجوب السجدة في هذه السورة، وبحديث زيد بن ثابت تركها عند عدم الوضوء إلى وقت الوضوء، وعند الوقت المكروه إلى وقت غير مكروه.
وقال الترمذي: وتأول بعض أهل العلم هذا الحديث وقال: إنما ترك النبي عليه السلام السجود لأن زيد بن ثابت حين قرأ فلم يسجد فلم يسجد النبي عليه السلام.
وقالوا: السجدة واجبة على مَنْ سمعها ولم يرخصوا في تركها.
وقالوا: إن سمع الرجل وهو على غير وضوء فإذا توضأ سجد، وهو قول سفيان وأهل الكوفة وبه يقول إسحاق.
وقال بعض أهل العلم: إنما السجدة على مَن أراد أن يسجد فيها والتمس فضلها، ورخّصوا في تركها.
وقال الطبري في "تهذيب الآثار": هذا الحديث محمول على أن زيدًا القارئ لم يسجد، وجماعة من العلماء عندهم إذا لم يسجد القارئ لا يسجد المستمع، بيان ذلك
(1) سورة العلق، آية:[19].
ما في "مراسيل أبي داود"(1): عن زيد بن أسلم: "قرأ غلام عند النبي عليه السلام السجدة، فانتظر الغلام النبي عليه السلام أن يسجد، فلما لم يسجد قال: يا رسول الله، أليس فيها سجدة؟ قال: أنت قرأتها فلو سجدتَ سجدنا".
وقال ابن حزم: إن راويه ابن قسيط صح عن مالك أنه قال: لا يُعتمد على روايته.
قال أبو محمَّد: وصح بطلان هذا الخبر بحديث أبي هريرة يرفعه: "أنه سجد في النجم"، وأبو هريرة متأخر الإِسلام.
ثم إنه أخرج حديث عبد الله بن مسعود من طريقين صحيحين:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن الأسود بن يزيد النخعي، عن عبد الله.
وأخرجه البخاري (2): ثنا محمَّد بن بشار، ثنا غُندر، نا شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت الأسود، عن عبد الله قال:"قرأ رسول الله عليه السلام النجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفًّا من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. فرأيته بعد قُتِلَ كافرًا".
وأخرجه مسلم (3): نا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قالا: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن علي بن شيبة، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، عن أبي إسحاق
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (4): ثنا حفص بن عمر، نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن
(1)"المراسيل" لأبي داود (1/ 112 رقم 76).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 363 رقم 1017).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 405 رقم 576).
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 59 رقم 1406).
الأسود، عن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام قرأ سورة النجم فسجد فيها، وما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفًّا من حصى أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد ذلك قُتِلَ كافرًا".
قوله: "قرأ {وَالنَّجْمِ} " أي سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} .
قوله: "إلا شيخ" قيل: هو أمية بن خلف، وقيل: هو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عتبة بن ربيعة، وقيل: هو أبو أحيحة سعيد بن العاص، والأول أصح، وهو الذي ذكره البخاري في "التفسير"، وأما قول ابن بزيزة:"كان منافقًا" ففيه نظر؛ لأن السورة مكية وإنما كان المنافقون بالمدينة، قال أبو العباس الضرير في "مقامات التنزيل": إنها مكية بالإجماع.
فإن قيل: من المراد من قوله: "وسجد مَنْ معه"؟
قلت: المسلمون والمشركون جميعًا.
لأنه جاء في البخاري (1): عن ابن عباس: "سجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس".
وروى الدارقطني: من حديث أبي هريرة: "سجد النبي عليه السلام بآخر النجم والجن والإنس والشجر".
وزعم النووي أن ذلك محمول على من كان حاضرًا، والذي ذكرناه يعكر عليه.
وقال عياض: وسجودهم كان لأنها أول سجدة نزلت.
قلت: فيه نظر؛ لأن أول ما نزل سورة "أقرأ" وفيها سجدة والنجم بعد ذلك بأعوام.
وأيضًا قد روى الحاكم (2) حديثا صحيحا على شرط الشيخين: من حديث
(1)"صحيح البخاري"(1/ 364 رقم 1021).
(2)
"المستدرك على الصحيحين"(1/ 342 رقم 803).
أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله:"أول سورة نزلت فيها السجدة: الحج، فقرأها النبي- عليه السلام فسجد، وسجد معه الناس إلا رجل أخذ التراب فسجد عليه ، فرأيته قُتِل كافرًا".
وقال عياض أيضًا: وأما ما يَرْويه الإخباريون والمفسرون أن سبب ذلك ما جرى على لسان النبي عليه السلام من ذكر الثناء على آلهة المشركين في سورة النجم فباطل لا يصح فيها شيء لا من طريق النقل ولا من طريق العقل؛ لأن مدح آلهة غير الله كفر، ولا يصح أن ينزل على النبي عليه السلام من الله كفر، ولا أن يقول النبي عليه السلام من قِبَل نفسه مداراة لهم، ولا أن يقوله الشيطان على لسانه؛ إذ لا يصح أن يقول عليه السلام شيئًا خلاف ما هو عليه فكيف من طريق القرآن، وما هو كفر لا يسلط الشيطان على ذلك؛ لأنه داعية إلى الشك في المعجزة وصدق النبي عليه السلام، وكل هذا لا يصح.
ص: حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أبو مصعب الزهري، قال: ثنا عبد العزيز ابن محمَّد، عن مصعب بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر:"أن رسول الله عليه السلام قرأ بـ (النجم) فسجد معه المسلمون والمشركون، حتى سجد الرجل على الرجل، وحتى سجد الرجل على شيء يرفعه إلى وجهه بكفه".
ش: أبو مصعب الزهري اسمه أحمد بن أبي بكر القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني الفقيه، قاضي مدينة رسول الله عليه السلام، روى عنه الجماعة سوى النسائي، وروى له النسائي.
وعبد العزيز بن محمَّد الدَراوَرْدي. ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي المدني فيه مقال؛ فعن أحمد: ضعيف الحديث. وعن يحيى: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: صدوق كثير الغلط ليس بالقوي. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى له أبو داود والنسائي وابن ماجه.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عبيد العجلي، قال: ثنا أبو مصعب
(1)"المعجم الكبير"(12/ 365 رقم 13358).
الزهري، ثنا عبد العزيز بن محمَّد، عن مصعب بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه: "أن النبي عليه السلام قرأ {وَالنَّجْمِ} بمكة فسجد وسجد معه الناس حتى أن الرجل ليرفع إلى جبهته شيئًا من الأرض يسجد عليه، وحتى يسجد الرجل على
الرجل".
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر وبشر بن عمر، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي هريرة "أن النبي عليه السلام قرأ {وَالنَّجْمِ} فسجد وسجد الناس معه إلا رجلين أرادا الشهرة".
حدثنا أحمد بن مسعود الخياط، قال: ثنا محمد بن كثير، قال: ثنا مَخْلدُ بن حُسَين، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام قرأ النجم فسجد وسجد من حضره من الجن والإنس والشجر".
حدثنا محمَّد بن النعمان، قال: ثنا أبو ثابت المدني، قال: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:"أنه رأى أبا هريرة رضي الله عنه سجد في خاتمة النجم، قال أبو سلمة: يا أبا هريرة، رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها؟ قال: لولا أني رأيتُ رسول الله عليه السلام يسجد فيها ما سجدت".
ش: أخرج حديث أبي هريرة من ثلاث وجوه:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقَدي وبشر بن عمر الزهراني أبي محمَّد البصري روى له الجماعة كلاهما، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن القرشي المدني خال ابن أبي ذئب، قال النسائي: ليس به بأس. ووثقه ابن حبان وروى له الأربعة، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن ثوبان العامري أبي عبد الله المدني روى له الجماعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن الحارث ابن عبد الرحمن، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: "سجد رسول الله عليه السلام
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 370 رقم 4253).
والمسلمون في (النجم) إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة".
الثاني: عن أحمد بن مسعود الخياط، عن محمَّد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي نزيل مصيصة، وعن أحمد: ضعيف. وعنه: منكر الحديث. وعن ابن معين: كان صدوقًا. وقال ابن سعد: كان ثقة، ويذكرون أنه اختلط في آخر عمره.
عن مخلد بن حسين الأزدي أبي محمَّد البصري نزيل مصيصة، قال العجلي: ثقة رجل صالح. روى له مسلم في مقدمة كتابه، والنسائي.
عن هشام بن حسان الأزدي القُرَدْوسي البصري، روى له الجماعة، عن محمَّد بن سيرين.
وأخرجه الدارقطني (1): ثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، ثنا محمَّد بن آدم، ثنا مَخلد بن الحسين، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال:"سجد رسول الله عليه السلام بآخر النجم والجنُّ والإنس والشجرُ" انتهى.
ثم اعلم أن السجود في الجن والإنس حقيقة، وهو وضع الجبهة على الأرض لتعظيم الله تعالى، وفي الشجر مجاز، وهو كناية عن الانقياد لله تعالى، ويجوز أن يكون حقيقة أيضًا في الشجر؛ لأن الله تعالى قادر على إسجادها كسجود بني آدم؛ فافهم.
الثالث: عن محمَّد بن النعمان السقطي، عن أبي ثابت محمَّد بن عبيد الله بن محمَّد بن زيد القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان، شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن أبي حازم سلمة بن دينار المدني روى له الجماعة، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي أبي شبل المدني روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبيه عبد الرحمن روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف روى له الجماعة.
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 409 رقم 11).
وأخرجه ابن أبي حاتم في كتاب "العلل"(1)، وذكر سورة النجم و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي} .
ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن مَنْ أخبره، عن أبي الدرداء قال:"سجدت مع النبي عليه السلام إحدى عشرة سجدة منها النجم".
ش: رجاله رجال "الصحيح"، ولكن فيه مجهول، وأبو الدرداء اسمه عُويمر بن مالك رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2) نحوه: من حديث عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن مَنْ أخبره، عن أبي الدرداء:"أنه سجد مع رسول الله عليه السلام إحدى عشرة سجدة منهن النجم".
وقال الترمذي (3): ثنا سفيان بن وكيع، قال: ثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هذيل، عن عمر الدمشقي، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال:"سجدت مع النبي عليه السلام إحدى عشرة سجدة منها التي في النجم".
وقال (4): ثنا عبد الله بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: نا الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن عمرو بن حيان الدمشقي، قال: سمعت مُخبرًا يُخْبر عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن النبي عليه السلام نحوه.
قال أبو عيسى: وهذا أصح من حديث سفيان بن وكيع عن عبد الله بن وهب.
(1)"علل ابن أبي حاتم"(1/ 165 رقم 468).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 313 رقم 3522).
(3)
"جامع الترمذي"(2/ 457 رقم 568).
(4)
"جامع الترمذي"(2/ 458 رقم 568).
وقال: حديث أبي الدرداء حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن أبي هلال، عن عمر الدمشقي.
وقال ابن ماجه (1): ثنا حرملة بن سعيد المصري، ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن أبي هلال، عن عمرو الدمشقي، عن أم الدرداء، قالت: حدثني أبو الدرداء: "أنه سجد مع النبي عليه السلام إحدى عشرة سجدة منهن النجم".
وقال أبو داود (2): روي عن أبي الدَّرْداء، عن النبي عليه السلام إحدى عشرة سجدة، وإسناده واهٍ.
ص: حدثنا فهدٌ، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا ابن المبارك، قال: ثنا معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن المطلب بن أبي وداعة قال:"رأيت النبي عليه السلام قرأ النجم بمكة فسجد ولم أسجد معه؛ لأني كنت على غير الإسلام فلن أَدَعَها أبدًا".
ش: إسناده صحيح، والحِمَّاني يحيى بن عبد الحميد أبو زكرياء الكوفي -وهو بتشديد الميم بعد الحاء المهملة، نسبة إلى بني حِمَّان من تميم، وحمان بن عبد العزيز ابن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم- وابن المبارك هو عبد الله، ومعمر هو ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري روى له الجماعة، وابن طاوس هو عبد الله، وعكرمة بن خالد المكي روى له الجماعة سوى ابن ماجه، والمطلب بن أبي وداعة واسمه الحارث بن صُبَيْرة بن سُعَيْد (3) بن سَعْد بن سهم القرشي له ولأبيه صحبة وهما من مسلمة الفتح.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 335 رقم 1055).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 58 رقم 1401).
(3)
كذا في "الأصل" ووضع المؤلف فوقها "صح" إشارة إلى صحة هذا الضبط.
وأخرجه عبد الرزاق (1) عن معمر نحوه.
وقال النسائي (2): أنا عبد الملك بن عبد الحميد، قال: ثنا ابن حنبل، قال: ثنا إبراهيم بن خالد، قال: ثنا رباح، عن معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة، عن أبيه قال:"قرأ رسول الله عليه السلام بمكة سورة النجم فسجد وسجد مَن عنده، فرفعت رأسي وأبيتُ أن أسجد، ولم يكن يومئذٍ أسلم المطلب".
ص: قال أبو جعفر: ففي هذه الآثار تحقيق السجود، فيها وليس فيما ذكرنا في الفصل الأول ما ينفي أن يكون فيها سجدة، فهذه أولى؛ لأنه لا يجوز أن يسجد في غير موضع سجود، وقد يجوز أن يترك السجود في موضعه لعارض من العوارض التي ذكرنا في الفصل الأول.
ش: أي: ففي هذه الأحاديث المذكورة تصريح بالسجدة فيها أي في سورة النجم، وأراد بما ذكره في الفصل الأول حديث زيد بن ثابت الذي ذكره في أول الباب.
قوله: "لعارض من العوارض التي ذكرنا في الفصل الأول". أراد بها ما ذكره من قوله؛ لأنه قد يحتمل أن يكون ترك النبي عليه السلام السجود فيها حينئذٍ؛ لأنه كان على غير وضوء، أو يكون تركه لأن الوقت كان من الأوقات المكروهة.
ص: فقال قائل: فإن في ذلك دلالة أيضًا تدل على أن لا سجود فيها.
فذكر ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أحمد بن الحسين اللهبي، قال: حدثني ابن أبي فديك، قال: حدثني داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار "أنه سأل أبي بن كعب رضي الله عنه: هل في المفصل سجدة؟ قال: لا،
(1)"مصنف عبد الرزاق"(3/ 342 رقم 5893).
(2)
"المجتبى"(2/ 160 رقم 958).
قال: فَأُبَيّ بن كعب رضي الله عنه قد قرأ عليه النبي عليه السلام القرآن كله، فلو كان في المفصل سجود إذًا لعلمه بسجود النبي عليه السلام فيه لما أتى عليه في تلاوته". ولا حجة له في هذا عندنا؛ لأنه قد يحتمل أن يكون النبي عليه السلام ترك ذلك لمعنًى من المعاني التي ذكرناها في الفصل الأول.
ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى، بيانه: أن القائل منهم اعترض بأن في الحديث دلالةً أيضًا على نفي السجدة في النجم؛ وذلك لأن عطاء بن يسار لما سأل أُبيًّا: هل في المفصل سجدة؟ قال له: لا. فقوله هذا يدل على نفي السجدة فيها؛ إذ لو كان فيها سجدة لكان قد علم ذلك بسجود النبي عليه السلام حين قرأها عليه.
وأخرج حديثه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن الحسين اللهبي -من ذرية أبي لهب بن عبد المطلب- ثقة، عن محمَّد بن إسماعيل بن أبي فديك دينار المدني روى له الجماعة، عن داود بن قيس الفراء الدباغ المدني روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، عن زيد بن أسلم القرشي المدني روى له الجماعة، عن عطاء بن يسار الهلالي المدني روى له الجماعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا وكيع، عن داود بن قيس، عن زيد ابن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي بن كعب قال:"ليس في المفصل سجود".
والجواب ما ذكره بقوله: "ولا حجة له" أي لهذا القائل المعترض؛ لأنه قد يحتمل أن يكون النبي عليه السلام ترك ذلك لمعنى من المعاني التي ذكرناها في الفصل الأول، وهو أن يكون تركه إما لكونه حينئذٍ على غير وضوء، أو لكون الوقت وقت كراهة.
وفيه نظر لا يخفى على الفطِن.
ص: وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي عليه السلام في سجود التلاوة إلى أنه غير واجب، وإلى أن التالي لا يضرّه أن لا يفعله، فمما روي عنهم في ذلك:
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 368 رقم 4233).
ما قد حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه (ح).
وحدثنا محمَّد بن عمرو، قال: ثنا عبد الله بن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، فنزل فسجد وسجدوا معه، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيئوا للسجود، فقال عمر: على رِسْلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. فقرأها ولم يسجد ومنعهم أن يسجدوا".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال:"مرّ سلمان رضي الله عنه بقوم قد قرءوا بالسجدة فقيل له: ألا تسجد؟ فقال: إنا لم نقصد لها".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا عبد الله بن بكر، قال: ثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة قال:"لقد قرأ ابن الزبير رضي الله عنه السجدة وأنا شاهد فلم يَسْجد، فقام الحارث بن عبد الله فسجد فقال: يا أمير المؤمنين ما منعك أن تَسْجُدَ إذ قرأت السجدة؟ فقال: إني إذا كنت في صلاة سجدت، وإذا لم أكن في صلاة فإني لا أسجد".
فهؤلاء الجلّة لم يروها واجبة، وهذا هو النظر عندنا؛ لأنا رأيناهم لا يختلفون أن المسافر إذا قرأها وهو على راحلته أو في جهاد لم يكن عليه أن يسجدها على الأرض، فكانت هذه صفة التطوع لا صفة الفرض؛ لأن الفرض لا يُصلّى إلا على الأرض والتطوع يُصلّى على الراحلة.
وكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله يذهبون في السجود إلى خلاف ذلك ويقولون: هي واجبة.
فثبت بما وصفنا أن ما ذكروا عن أبي لا دلالة فيه على أن لا سجود في المفصل؛ لأنه قد يجوز أن يكون الحكم كان في السجود عند رسول الله عليه السلام على واحد من المعاني التي ذكرناها في ذلك عن عمر وسلمان وابن الزبير رضي الله عنهم فترك السجود في
المفصل لذلك، ولعله أيضًا لم يسجد في تلاوة ما فيه سجود أيضًا من غير المفصل.
ش: أشار بهذا الكلام إلى بيان شيئين:
الأول: بيان الخلاف الواقع في صفة سجدة التلاوة هل هي واجبة أم سنة؟
والثاني: إلى بيان عارض من تلك العوارض التي ذكرها في جواب ذلك المعترض حيث قال: لأنه قد يحتمل أن يكون النبي عليه السلام ترك ذلك لمعنًى من المعاني التي ذكرناها في الفصل الأول، وأراد بالمعاني: العوارض التي ذكرها هناك.
بيان ذلك: أن بعض الصحابة قد ذهبوا إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب، وأن القارئ مخيّر بين أن يسجد وبين أن يترك، فإذا كان الأمر كذلك فيمكن أن يكون قول أبي بن كعب:"ليس في المفصل سجود" على معنى سجود فرض أو واجب، وليس في ذلك نفي أصل السجدة، والمدعى أن في (النجم) سجدة، ثم كون هذا السجود واجبًا أو سنة شيء آخر لا يتعلق بالمدعى، وممن ذهب من الصحابة إلى أن سجود التلاوة ليس بواجب: عمر بن الخطاب، وسلمان الفارسي، وعبد الله بن الزبير.
وأخرج ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن يونس بن عبد الأعلى عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن
هشام بن عروة عن أبيه "أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة
…
" إلى آخره.
وأخرجه مالك في "موطئه"(1).
وقال البخاري (2): ثنا إبراهيم بن موسى، قال: أنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم، قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة، عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي، عن ربيعة بن عبد الله بن الهُدَير التَّيْمي- قال أبو بكر: وكان ربيعة من خيار
(1)"موطأ مالك"(1/ 206 رقم 484).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 366 رقم 1027).
الناس-: "حضر ربيعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ يوم الجمعة على المنبر بسورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نَمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه".
وزاد نافع عن ابن عمر: "إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء".
والطريق الآخر: عن محمَّد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن عبد الله بن نمير الهمداني الكوفي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير بن العوام: "أن عمر بن الخطاب
…
" إلى آخره.
قوله: "على رِسلكم" بكسر الراء وسكون السين المهملة، أي على هيئتكم لا تستعجلوا.
وأخرج عن سلمان أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العَقدي البصري، عن سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السُّلَمي الكوفي القارئ، ولأبيه صحبة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن قال:"دخل سلمان الفارسي رضي الله عنه المسجد وفيه قوم يقرءون، فقرءوا السجدة فسجدوا، فقال له صاحبه: يا أبا عبد الله لولا أتينا هؤلاء القوم، فقال: ما لهذا غدونا".
وأخرجه البخاري (2): وقال: "قال سلمان: ما لهذا غدونا".
وأخرج عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أيضًا بإسنادٍ صحيح: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي البصري روى له الجماعة، عن حاتم بن أبي صغيرة وهو ابن مسلم القشيري وأبو صغيرة أبو أمه، وقيل: زوج
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 367 رقم 4233).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 365) معلقًا في باب: "من رأى أن الله عز وجل لم يوجب السجود".
أمه، روى له الجماعة، عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة واسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، كان قاضيًا لعبد الله بن الزبير ومؤذنًا له، روى له الجماعة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) بأتم منه: ثنا إسماعيل بن عُلية، عن حاتم بن أبي صغيرة، قال:"قلت لعبد الله بن أبي مليكة: قرأتُ السجدة وأنا أطوف بالبيت فكيف ترى؟ قال: آمرك أن تسجد. قلت: إذا تركني الناس وهم يطوفون فيقولون: مجنون أفأستطيع أن أسجد وهم يطوفون؟ فقال: والله لئن قلت ذلك، لقد قرأ ابن الزبير السجدة فلم يسجد فقام الحارث بن أبي ربيعة فقرأ السجدة ثم جاء، فجلس، فقال: يا أمير المؤمنين ما منعك أن تسجد قبيل حيث قرأت السجدة؟ فقال: لأي شيء أسجد؟ إني لو كنتُ في صلاة سجدت، فأما إذا لم أكن في صلاة فإني لا أسجد".
قال: "وسألت عطاء عن ذلك فقال: استقبل البيت وأومئ برأسك".
قوله: "فهؤلاء الِجلّة" أشار به إلى عمر وسلمان وابن الزبير، وهو بكسر الجيم وتشديد اللام جمع جليل بمعنى عظيم كصِبية جمع صبي، أي: فهؤلاء العظماء من الصحابة لم يَروْها -أي سجدة التلاوة- واجبةً، وممن ذهب إلى مذهبهم: عبد الله بن عباس، وعمران بن حصين.
وهو مذهب الأوزاعي أيضًا، والشافعي، ومالك في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وداود، وإليه مال البخاري والطحاوي أيضًا حيث قال: وهذا هو النظر عندنا، أي: وكون سجدة التلاوة سنة غير واجبة هو القياس عندنا، ثم بيَّن وجه النظر بقوله: "لأنا رأيناهم
…
" إلى آخره، وهو ظاهر.
ولكن لقائل أن يقول: إنما لم يجب على المسافر أن يسجدها على الأرض إذا قرأها على راحلته؛ لأنها وجبت ناقصة فجاز له أن يؤديها ناقصةً، وعدم الأمر بالسجدة على الأرض مبني على هذا لا على أنها واجبة أو سنة.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 381 رقم 231).
قوله: "وكان أبو حنيفة
…
" إلى آخره، وممن ذهب إلى ما ذهب إليه هؤلاء: حمادُ بن أبي سليمان وسعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو العالية والأعمش وإبراهيم التيمي والحكم بن عُتَيْبة وأصحاب عبد الله بن مسعود.
ويحكى ذلك عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقالوا: إن مواضع السجود في القرآن منقسمة، منها ما هو أمر بالسجود، والأمر للوجوب كما في آخر سورة القلم، ومنها ما هو إخبار عن استنكاف الكفرة عن السجود فيجب علينا مخالفتهم بتحصيله، ومنها ما هو إخبار عن خشوع المطيعين فيجب علينا متابعتهم بقوله تعالى:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1)، ولأن الله ذم أقوامًا بترك السجود فقال:{وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (2)، وإنما يُستحقُّ الذم بترك الواجب، وأجابوا عن قول عمر رضي الله عنه بأنا نقول بموجبه؛ لأنها لم تكتب علينا بل وجبت، وفرق بين الواجب والفرض على ما عرف في مَوْضعه، وعن أثرَيْ سلمان وابن الزبير بأنه يحتمل أن يكونا حينئذٍ على غير وضوء، أو كانا في وقت كراهة السجدة، والله أعلم.
قوله: "فثبت بما وصفنا" أي من قوله: "وقد ذهب جماعة من أصحاب النبي عليه السلام
…
إلى آخره" يعني هذه الأشياء تدل على أنه لا دليل فيما ذكروا عن أبي على نفي السجدة في المفصل؛ لأنه قد يجوز أن يكون حكم السجدة عند رسول الله عليه السلام في حديث أبي بن كعب على واحد من المعاني التى ذكرها في ذلك عن هؤلاء الثلاثة من الصحابة وهم: عمر وسلمان وعبد الله بن الزبير، وهو أن يكون محمولًا على قول عمر بأنه لم تُكْتب علينا، أو على قول سلمان بأنه لم يقصد لها، أو على قول ابن الزبير بأنه لم يكن في صلاة، وأيًّا ما كان لا يدل واحد من ذلك على نفي أصل السجدة في المفصل، فافهم.
(1) سورة الأنعام، آية:[90].
(2)
سورة الانشقاق، آية:[21].
قوله: "ولعله أيضًا" أي: ولعل النبي عليه السلام أيضًا لم يسجد في تلاوة آية سجدة من غير المفصل لأجل معنى من المعاني التي ذكرناها فإن ذلك أيضًا لا يدل على نفي أصل السجدة؛ وإنما ذكر هذا لأنه لو فرض هذا الحكم في سجدة تلاوة من سجدات غير المفصل كان الخِصْم أيضًا يقول: هذا محمول على معنى من المعاني التي ذكرناها، فهذا مجمع عليه، فكذا الجواب فيما إذا كان ذلك في المفصل.
ص: وقد خالف أبي بن كعب رضي الله عنه فيما ذهب إليه من ذلك جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن عاصم بن بَهْدلة، عن زرٍّ، عن عليّ رضي الله عنه قال:"إن عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ} و {حم}، والنجم، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
حدثنا حُسَيْن بن نَصْر، قال: ثنا أبو نُعَيْم، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، فذكر بإسناده مثله.
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا يوسف بن عديّ، قال: ثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفجر بمكة، فقرأ في الركعة الثانية بالنجم، ثم سجد، ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} .
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ووَهْبٌ وَرْوحٌ، قالوا: ثنا شعبة، قال: ثنا الحكم، أنه سمع إبراهيم التيمي يُحدِّث، عن أبيه قال: "صليت خلف عمر بن الخطاب
…
فذكر مثله، واللفظ لروح.
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن عمران بن عبيد الله ابن عمران، عن أبي رافع، عن أبي هريرة:"أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن زرارة بن أوفى، عن مَسْروق قال:"صليتُ خلف عثمان رضي الله عنه الصبح فقرأ النجم وسجد فيها، ثم قام فقرأ سورة أخرى".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود:"أن عمر وعبد الله رضي الله عنهما سجدا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} قال منصور: أو أحدهما".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة
…
فذكر مثله بإسناده.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا يحيى بن حماد، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان، عن إبراهيم، عن الأسود، قال:"رأيت عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود يَسْجدان في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
حدثنا روح، قال: ثنا يوسف، قال: ثنا أبو الأحوص، عن ليث، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عبد الله
…
بذلك.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال:"رأيت عمر بن الخطاب يَسْجدُ في النجم في صلاة الصبح، ثم استفتح بسورة أخرى".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: أنا مالك، عن الزهريّ، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:"صلى بنا عمر رضي الله عنه فقرأ النجم فسجد فيها".
حدثنا فهد، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا بكر بن مضر، قال: حدثني عمرو بن الحارث، عن بُكَيْر، أن نافعًا حدثه:"أنه رأى ابن عمر رضي الله عنهما يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} في غير صلاة".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا شعبة، عن إسحاق بن سُوَيْد قال: "سُئِل نافع: أكان ابن عمر رضي الله عنه يسجد في الحجّ
سجدتين؟ قال: مات ابن عمر ولم يقرأها ، ولكنه كان يَسْجُد في {وَالنَّجْمِ} وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا همام، عن يحيى بن أبي كثير، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يسجد في {وَالنَّجْمِ} ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا المسعودي، قال: ثنا عبد الرحمن ابن الأصبهاني، عن أبي عبد الرحمن:"أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْحٌ، قال: ثنا شعبة والثوري وحماد، عن عاصمٍ، عن زرٍّ:"أن عمارًا رضي الله عنه سجد فيها".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة:"أنه كان يسجد فيها".
فكل هؤلاء قد خالفوا أبي بن كعب في قوله: "لا سجود في المفصل".
وقد حدثنا فهد، قال: ثنا ابن الأصبهاني، قال: أنا شريك، عن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: قال لي ابن عباس: "أيُّ قراءة تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد. فقال: هي القراءة الآخرة؛ إن رسول الله عليه السلام كان يعرض عليه القرآن في كل عام أراه قال: في كل شهر رمضان، فلما كان في العام الذي مات فيه عرض عليه مرتين فشهد عبد الله ما نُسِخَ وما بُدِّل".
فهذا عبد الله بن عباس قد أخبر أن عبد الله بن مسعود حضر قراءة رسول الله عليه السلام القرآن مرتين في العام الذي قُبِض فيه، فعلِم ما نُسخ وما بُدِّل، فإن كان في قراءة رسول الله عليه السلام على أبي بن كعب ما قد دلّ على أن أبيًّا قد علم ما فيه من السجود في القرآن حتى صار قوله:"لا سجود في المفصل" دليلًا على أنه كان كذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن في حضور ابن مسعود رضي الله عنه قراءة النبي عليه السلام -
القرآن مرتين دليلًا على أنه قد علم ما فيه من السجود في القرآن، فصار قوله:"إن في المفصل من السجود ما رويناه عنه" حجة.
ش: أي خالف أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: "لا سجود في المفصل" جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام وهم: علي بن أبي طالب، وعمر بن الخطاب، وعثمان ابن عفان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعمار بن ياسر، وأبو هريرة رضي الله عنه؛ فإنهم كلهم قد خالفوا أبي بن كعب في قوله:"لا سجود في المفصل"، والأخذ بقولهم أولى، وقد أخبر ابن عباس رضي الله عنه في حديثه الذي رواه عنه أبو ظبيان -على ما نُبيّنه- أن عبد الله بن مسعود حضر قراءة رسول الله عليه السلام القرآن مرتين في العام الذي قبُض فيه، فَعَلِمَ ابن مسعود ما نُسخ من ذلك وما بُدِّل من التلاوة والحكم.
فإن قيل: كيف يُحتجّ بهذا وأبي بن كعب رضي الله عنه قد علم حين قرأ النبي عليه السلام عليه القرآن ما فيه من السجود وما ليس فيه، فلذلك قال:"لا سجود في المفصل"، فيكون هذا دليلًا على أنه كان كذلك عند رسول الله عليه السلام؟
قلت: أجاب الطحاوي عن ذلك بقوله: "فإن كان في قراءة النبي عليه السلام على أبي بن كعب
…
" إلى آخره.
بيانه أن يقال: إذا كان في قراءة النبي عليه السلام على أبي بن كعب القرآن دليلٌ على عدم السجود في المفصل لكونه كذلك عند رسول الله عليه السلام، ففي حضور ابن مسعود قراءة النبي عليه السلام القرآن مرتين في العام الذي قبُض فيه أدلّ دليل على أنه قد علم ما فيه من السجود في القرآن وما ليس فيه، فيكون العمل به والاعتماد عليه أقوى، وقد أخبر هو أن في المفصل سجودًا، فصار أولى بالعمل به.
ثم إنه أخرج أثر ابن عباس بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان، عن محمَّد بن سعيد الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن سليمان الأعمش، عن أبي ظبيان الجَنْبي واسمه حُصَيْن بن جندب الكوفي روى له الجماعة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): عن محمَّد بن سابق، عن إسرائيل، عن إبراهيم ابن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال (2):"أي القراءتين كانت أجزأ؟ قراءة عبد الله أو قراءة زيد؟ قال: قلنا: قراءة زيد. قال: لا، إن رسول الله عليه السلام كان يعرض القرآن على جبريل عليه السلام كل عام مرةً، فلما كان في العام الذي قبُض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبد الله".
قوله: "قراءة ابن أم عبد" هو عبد الله بن مسعود، وأم عبد أمه، وهي أم عبد بنت عبد وُدّ بن سواء من هذيل، ولها صحبة.
قوله: "ما نسخ" أي من تلاوته.
قوله: "وما بدل" أي وما غُيّر من القراءة، وهو كالتفسير لقوله:"ما نسخ"؛ لأن معنى النسخ هو التبديل.
ويستفاد منه أحكام:
الأول: جواز النسخ، سواء كان في التلاوة أو في الحكم.
الثاني: فيه دليل على أن في المفصل سجودًا؛ وذلك لأن عبد الله بن مسعود كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} كما ذكر عنه مسندًا، ولو لم يعلم ذلك من النبي عليه السلام حين عرض القرآن عليه لما سجد هو، وكان العرض على جبريل عليه السلام كما صرَّح به في رواية أحمد وهو المراد من قول ابن عباس رضي الله عنهما:"فلما كان العام الذي مات فيه عرض عليه مرتين" أي عُرض القرآن على رسول الله عليه السلام مرتين، وكان العارض هو النبي عليه السلام ولكن أسند العرض هنا إلى القرآن وهو مفعول ناب عن الفاعل.
(1)"مسند أحمد"(1/ 275 رقم 2494).
(2)
تكررت في "الأصل".
الثالث: فيه دلالة على فضيلة ابن مسعود رضي الله عنه ولهذا جاء في حديث أخرجه الترمذي (1) من حديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "لو كنت مؤمِّرًا أحدًا منهم من غير مشورة لأمّرت عليهم ابن أم عبد".
وأخرج الطبراني (2) من حديث عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: "مَنْ سَرَّه أن يقرأ القرآن غضًّا فليقرأه على قراءة ابن أم عبد".
وأخرج الطبراني (3) أيضًا بإسناده إلى عبد الله قال: "لقد قرأت القرآن من فيّ النبي عليه السلام سبعين سورة وزيد بن ثابت ذو ذؤابة يَلْعب مع الصبيان".
وبقي الكلام في أثر هؤلاء.
أما أثر علي بن أبي طالب فأخرجه من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة بن الحجاج، عن عاصم بن بَهْدلة -وهو عاصم بن أبي النَّجودُ- عن زِرِّ -بكسر الزاي وتشديد الراء- عن عليّ رضي الله عنه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا هشيم، عن شعبة، عن عاصم، عن زر، عن علي رضي الله عنه قال:"عزائم السجود: {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {حم (1) تَنْزِيلُ} ، والنجم ، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
والآخر: عن حسين بن نصر، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عاصم بن بهدلة، عن زِرِّ بن حُبَيْش عن علي رضي الله عنه.
قوله: "إن عزائم السجود" أي إن واجبات السجود، والعزائم: جمع عزيمة،
(1)"جامع الترمذي"(5/ 673 رقم 3809).
(2)
"المعجم الكبير"(9/ 71 رقم 8425).
(3)
"المعجم الكبير"(9/ 74 رقم 8436).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 369 رقم 4244).
والعزيمة والعَزْمة بمعنى الحق والواجب، وهذا حجة لمن يذهب إلى وجوب سجدة التلاوة.
وأما أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخرجه من ثمان طرق صحاح، ولكن الطريق الرابع والخامس والسادس فيها عبد الله بن مسعود أيضًا على ما نُبيّنه عن قريب إن شاء الله تعالى.
الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن يوسف بن عدي بن زُريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن [أبي](1) ليلى، عن عمر رضي الله عنه.
وبنحوه أخرج مالك في "موطئه"(2) عن ابن شهاب، عن الأعرج:"أن عمر بن الخطاب قرأ بـ {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} فسجد فيها، ثم قام فقرأ بسورة أخرى".
الثاني: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ووهب بن جرير، وروح بن عبادة، ثلاثتهم عن شعبة، عن الحكم بن عُتَيْبة، أنه سمع إبراهيم التيمي يُحدّث، عن أبيه يزيد بن شريك بن طارق التَّيْمي -تيم الرباب- الكوفي.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن حصين بن سَبْرة قال:"صليت خلف عمر بن الخطاب، فقرأ في الركعة الأولى بسورة {يُوسُفُ}، ثم قرأ في الثانية بـ {وَالنَّجْمِ}، فسجد، ثم قام فقرأ {إِذَا زُلْزِلَتِ} ثم ركع".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمران
(1) سقطت من "الأصل، ك".
(2)
"موطأ مالك"(1/ 206 رقم 483).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 312 رقم 3564).
ابن عبيد الله بن عمران التميمي ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقيل: عبيد الله بن عمران.
عن أبي رافع الصائغ اسمه نُفيع المدني نزيل البصرة مولى ابنة عمر بن الخطاب، روى له الجماعة.
وهذه الثلاثة [
…
] (1) الأخرى مشتركة كما ذكرنا [
…
] (2) فيما بعد ونذكرهما ها هنا لاقتضاء المناسبة.
فالأول منهما الذي هو السابع من الجملة: أخرجه عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "رأيت عمر رضي الله عنه
…
" إلى آخره.
والثاني الذي هو الثامن من الجملة: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن مالك، عن محمَّد بن مسلم الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة قال: "صلى عمر رضي الله عنه
…
" إلى آخره.
وأخرجه مالك في "موطئه"(3).
وأما أثر عثمان رضي الله عنه فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس البصري روى له الجماعة عن شعبة، عن علي بن زيد بن جدعان أبي الحسن البصري المكفوف، عن زرارة بن أوفى، عن مسروق بن الأجدع.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا إسماعيل بن عُلية، عن علي بن زيد،
(1) طمس في "الأصل، ك".
(2)
طمس في "الأصل، ك".
(3)
"موطأ مالك"(1/ 206 رقم 483).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 370 رقم 4252).
عن زرارة بن أوفى، عن مسروق بن الأجدع:"أن عثمان رضي الله عنه قرأ في العشاء بالنجم فسجد".
وأما أثر عبد الله بن مسعود فأخرجه من خمس طرق صحاح.
الأول: فيه عمر بن الخطاب أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا حفص، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود قال:"رأيت عمر وعبد الله يسجدان في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، أو أحدهما".
الثاني: فيه عمر أيضًا، عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود بن يزيد فذكر مثل المذكور بإسناده.
الثالث: فيه عمر أيضًا، عن أبي بكرة أيضًا، عن يحيى بن حماد بن أبي زياد الشيباني البصري ختن أبي عوانة، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود.
وأخرجه عبد الرزاق (2): عن الثوري، عن الأعمش
…
إلى آخره نحوه.
الرابع: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عديّ بن زريق شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سُليم الحنفي، عن ليث بن أبي سليم القرشي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، ومسلم مقرونًا بأبي إسحاق الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه الأسود بن يزيد.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): ثنا محمَّد بن النضر الأزدي، ثنا معاوية بن
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 369 رقم 4239).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(3/ 340 رقم 5884).
(3)
"المعجم الكبير"(9/ 146 رقم 8728).
عمرو، ثنا زائدة، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه قال:"كان عبد الله يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
الخامس: عن أبي بكرة، عن أبي داود الطيالسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن أبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن حبيب، عن ابن مسعود.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن ابن الأصبهاني، عن أبي عبد الرحمن، عن ابن مسعود:"أنه كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه من ثلاث طرق صحاح:
الأول: عن فهد بن سليمان، عن سعيد بن الحكم بن محمَّد بن سالم المعروف بابن أبي مريم أبي محمَّد المصري شيخ البخاري، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(2): عن معمر، عن أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
عبد الرزاق (3): عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، قال: حدثني نافع: "أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا قرأ بـ {وَالنَّجْمِ} سجد، وإذا قرأ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} في الصلاة كبَّر وركع وسجد، وإذا قرأ بهما في غير الصلاة سجد فيهما".
الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن شعبة،
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 369 رقم 4240).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(3/ 342 رقم 5896).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(3/ 342 رقم 5897).
عن إسحاق بن سُوَيْد العدوي التميمي البصري روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: "أكان ابن عمر" الهمزة فيه للاستفهام.
الثالث: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن همام بن يحيى، عن العَوْذي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن نافع.
وأما أثر عمار بن ياسر رضي الله عنه فأخرجه من طريق صحيح أيضًا: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن شعبة وسفيان الثوري وحماد بن سلمة، ثلاثتهم عن عاصم بن بَهْدلة، عن زر بن حُبَيش عن عمار.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِزّ قال:"قرأ عمار على المنبر {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ثم نزل إلى القرار فسجد بها".
قوله: "فيها" أي في سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} .
وأما أثر أبي هريرة فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة:"أنه كان يسجد فيها".
وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا أبو يحيى البزار، ثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة:"أنه كان يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فإذا صلى خلف مَنْ يَذرها أومأ برأسه إيماءً".
ص: وقد قال قوم: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في المفصل بمكة، فلما هاجر ترك ذلك، ورَوْوا ذلك عن ابن عباس من طريق ضعيف لا يثبت مثله، ورووا عنه من قوله:"أنه لا سجود في المفصل".
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 370 رقم 4251).
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا همام، عن ابن جريج، عن عطاء "أنه سأل ابن عباس عن سجود القرآن، فلم يَعُدّ عليه في المفصل شيئًا".
وهذا عندنا لو ثبت لكان فاسدًا؛ وذلك أن أبا هريرة قد روينا عنه في هذا الباب أن رسول الله عليه السلام قد سجد في {وَالنَّجْمِ} وأنه كان حاضرًا ذلك، وأن النبي عليه السلام سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، وإسلام أبي هريرة ولقاؤه رسول الله عليه السلام إنما كان بالمدينة قبل وفاته بثلاث سنين، قد روينا ذلك عنه في موضعه من كتابنا هذا، فدل ذلك على فساد ما ذهب إليه أهل تلك المقالة.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا والحسن البصري وعطاء وابن جريج وبعض أصحاب الشافعي؛ فإنهم قالوا: قد كان رسول الله عليه السلام يسجد في المفصل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة ترك ذلك، واستدلوا في ذلك بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق ضعيف.
وهو ما رواه أبو داود (1): ثنا محمَّد بن رافع، نا أزهر بن القاسم -قال محمَّد: رأيته بمكة- نا أبو قدامة، عن مطر الوراق، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة".
فهذا هو الحديث الذي أشار إليه الطحاوي بقوله: "من طريق ضعيف لا يثبت مثله". وقال عبد الحق في "أحكامه": إسناده ليس بقوي، ويروى مرسلًا.
وقال ابن القطان في كتابه: وأبو قدامة الحارث بن عبيد قال فيه ابن حنبل: مضطرب الحديث. وضعفه ابن معين، وقال الساجي: صدوق وعنده مناكير، ومطر الوَرّاق كان سيء الحفظ حتى كان يشبه في سوء الحفظ محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد عيب على مسلم إخراج حديثه.
قوله: "ورووا عنه" أي روى هؤلاء القوم من قول ابن عباس أنه لا سجود في
(1)"سنن أبي داود"(2/ 58 رقم 1403).
المفصل، وأشار بهذا إلى أنهم احتجوا أيضًا في عدم السجود في المفصل بقول ابن عباس أيضًا.
أخرجه عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن الخَصِيب بن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر، عن همام بن يحيى، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح:"أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن سجود القرآن، فلم يعدّ عليه -أي على عطاء- في المفصل -وهو السُّبع السابع- شيئًا من السجود".
قوله: "وهذا عندنا" أشار به إلى الحديث الذي رووا عن ابن عباس من طريق ضعيف، وهو الذي أخرجه أبو داود الذي ذكرناه آنفًا، يعني: ولئن سلمنا أن هذا الحديث ثابت من حيث الإسناد ولكنه فاسد من حيث الدلالة على الحكم؛ وذلك لأن أبا هريرة قد روى عن النبي عليه السلام أنه سجد في {وَالنَّجْمِ} وأنه كان حاضرًا ذلك، وأنه سجد أيضًا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، وإسلام أبي هريرة ولقيه رسول الله عليه السلام إنما كان بالمدينة سنة سبع من المهجرة، فظهر بهذا فساد ذلك الحديث.
وقال عبد الحق: والصحيح حديث أبي هريرة: "أن النبي عليه السلام سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} " وإسلامه متأخر، قدم على النبي عليه السلام في السنة السابعة من الهجرة.
وقال ابن عبد البر: حديث ابن عباس حديث منكر، وأبو قدامة ليس بشيء، وأبو هريرة لم يصحب النبي عليه السلام إلا في المدينة، وقد رآه يسجد في الانشقاق و {الْقَلَمِ} .
ص: وقد تواترت الآثار أيضًا عن النبي عليه السلام بسجوده في المفصل، فمن ذلك:
ما حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني قرة بن عبد الرحمن، عن ابن شهاب وصفوان بن سليم، عن عبد الرحمن بن سعد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
"سجدت مع رسول الله عليه السلام في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} سجدتين".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا شعيب بن الليث، قال: ثنا الليث، عن بكير بن عبد الله، عن نُعَيْم المُجْمر أنه قال:"صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها وقال: رأيت النبي عليه السلام يسجد فيها".
حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا علي بن زيد، عن أبي رافع قال:"صلَّيتُ خلف أبي هريرة بالمدينة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها فلما فرغ من صلاته لقِيتُه فقلت: أتسجدُ فيها؟ فقال: رأيت النبي عليه السلام يَسجُد فيها؛ فلن أدع ذلك".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا حماد، قال: ثنا علي بن زيد، قال: ثنا أبو رافع، عن أبي هريرة، عن النبي عليه السلام نحوه، غير أنه لم يذكر قوله:"فلن أدع ذلك".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح بن عبادة، قال: ثنا شعبة، عن مروان الأصفر، حدثه عن أبي رافع
…
فذكر مثله بإسناده وزاد: "فلن أدع ذلك حتى ألقاه".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا الثوري وابن جريج وابن عيينة، عن أيوب بن موسى، قال: ثنا عطاء بن مينا، عن أبي هريرة قال:"سجدنا مع النبي عليه السلام في {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أيوب بن موسى، قال: ثنا عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال:"سجدنا مع رسول الله عليه السلام {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ورَوْحُ -واللفظ لأبي داود- قالا: ثنا هشام، عن يحيى، قال: ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة:"أنه رآه يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وقال: لو لم أر النبي عليه السلام يسجد فيها لم أسجد".
حدثنا محمَّد بن عبد الله بن ميمون البغدادي، قال: ثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة
…
فذكر بإسناده مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح (ح).
وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا عثمان بن عمر، قالا: ثنا مالك، عن عبد الله بن يزيد، عن أبي سلمة:"أن أبا هريرة قرأ بهم {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فلما انصرف حدثهم أن رسول الله عليه السلام سجد فيها".
حدثنا ابن خزيمة وفهدٌ، جميعًا قالا: ثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن الهاد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:"أنه رأى أبا هريرة وهو يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، قال أبو سلمة: فقلتُ له حين انصرف: سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها؟! فقال: لو لم أر النبي عليه السلام يسجد فيها لم أسجد".
حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا ابن أبي ذئب، عن عبد العزيز ابن عياش، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"أن رسول الله عليه السلام سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمَّد، عن أبي هريرة، عن رجلين كلاهما خير من أبي هريرة:"أن أحدهما سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وكان الذي سجد أفضل من الذي لم يسجد، فإن لم يكن عمر فهو خير من عمر رضي الله عنه".
فهذا أبو هريرة قد تواترت عنه الروايات أنه سجد مع النبي عليه السلام أيضًا في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وإسلامه إنما كان بالمدينة، فكيف يجوز أن يقال له: إن رسول الله عليه السلام بعدما هاجر لم يسجد في المفصل؟!.
ش: أي قد تكاثرت الأحاديث أيضًا عن النبي عليه السلام بأنه سجد في المفصل، ولم يُرِدْ به التواتر المصطلح عليه.
قوله: "فمن ذلك ما حدثنا" أي: فمما تكاثر: حديث أبي هريرة، وأخرجه من أربعة عشر طريقًا:
الأول: إسناده على شرط مسلم: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن قرة بن عبد الرحمن بن حَيْوئيل أبي حيوئيل المصري وثقه ابن حبان، وروى له مسلم مقرونًا بغيره وروى له الأربعة، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، وصفوان بن سليم المدني القرشي الزهري الفقيه روى له الجماعة، عن عبد الرحمن بن سَعْد المدني، وثقه ابن حبان.
وأخرجه الدارقطني في "سننه"(1): ثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، نا أحمد بن صالح، نا ابن وهب
…
إلى آخره نحوه، وزاد في آخره:"سجدتين".
الثاني: إسناده صحيح أيضًا: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن شعيب بن الليث، عن الليث بن سَعْد، عن بكير بن عبد الله، عن نعيم بن عبد الله المُجْمر، وقد ذكرنا مرةً أن الصحيح أن المجمر هو صفة عبد الله، وبه جزم ابن حبان، وقال النووي: ويطلَقُ على ابنه نعيم مجازًا، ونعيم هذا روى له الجماعة.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا حجاج، نا ليث، حدثني بكير بن عبد الله، عن نعيم بن عبد الله المُجمر أنه قال: "صليتُ مع أبي هريرة
…
" إلى آخره نحوه.
الثالث: إسناده صحيح أيضًا عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن علي بن زيد، عن أبي رافع نفيع الصائغ.
وأخرجه الشيخان، وأبو داود، والنسائي بألفاظ مختلفة:
فالبخاري (3): عن مسدد، ثنا معتمر، قال: سمعت أبي، قال: حدثني بكر، عن أبي رافع قال: "صليتُ مع أبي هريرة العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 409 رقم 14).
(2)
"مسند أحمد"(2/ 451 رقم 9829).
(3)
"صحيح البخاري"(1/ 265 رقم 732).
فسجد، فقلت: ما هذه؟ قال: سجدت بها خلف أبي القاسم صلى الله عليه وسلم؛ فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه".
ومسلم (1): عن عبيد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى، قالا: ثنا المعتمر
…
إلى آخره نحوه.
وأبو داود (2): عن مسدد
…
إلى آخره نحو رواية البخاري.
والنسائي (3): عن حميد بن مسعدة، عن سليم بن أخضر، عن التيمي، قال: حدثني بكر بن عبد الله المزني، عن أبي رافع قال:"صليت خلف أبي هريرة صلاة العشاء -يعني العتمة- فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فلما فرغ قلت: يا أبا هريرة، هذه يعني سجدة ما كنا نسجدها! قال: سجد بها أبو القاسم عليه السلام وأنا خلفه، فلا أزال أسجد بها حتى ألقى أبا القاسم عليه السلام".
الرابع: مثله أيضًا، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع نفيع الصائغ.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(4): ثنا هشيم، قال: أنا علي بن زيد بن جدعان، عن أبي رافع قال:"صليتُ خلف أبي هريرة بالمدينة العشاء الآخرة، قال: فقرأ فيها {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فقلت: تسجد فيها؟ فقال: رأيت خليلي أبا القاسم سجد فيها".
الخامس: عن أبي بكرة أيضًا، عن روح بن عبادة أيضًا، عن شعبة، عن مروان الأصفر، ويقال له: مروان بن خاقان، وقيل: إنهما اثنان، وثقه ابن حبان.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 407 رقم 578).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 59 رقم 1407).
(3)
"السنن الكبرى"(1/ 333 رقم 1040).
(4)
"مصنف ابن أبي شيبه"(1/ 369 رقم 4236).
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عبد الرحمن، نا شعبة، عن مروان الأصفر وعطاء بن أبي ميمونة، أنهما سمعا أبا رافع قال:"رأيت أبا هريرة يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}: قلت: تسجد فيها؟ قال: رأيت خليلي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها، فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه".
السادس: صحيح أيضًا، عن أبي بكرة بكار أيضًا، عن روح بن عبادة أيضًا، عن سفيان الثوري وعبد الملك بن جريج وسفيان بن عيينة، ثلاثتهم عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة. وميناء -بكسر الميم وسكون الياء آخر الحروف بعدها النون- مولى ابن أبي ذباب المدني.
وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، قالا: ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال:"سجدنا مع النبي عليه السلام في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
وأخرجه أبو داود (3): ثنا مسدد، نا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة نحوه.
وأخرجه الترمذي (4): ثنا قتيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن أيوب بن موسى
…
إلى آخره نحوه. وقال: حديث حسن صحيح.
السابع: صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي حذيفة النَّهْدي موسى بن مسعود شيخ البخاري، عن سفيان الثوري
…
إلى آخره.
وأخرجه النسائي (5): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة.
(1)"مسند أحمد"(2/ 459 رقم 9917).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 406 رقم 578).
(3)
"سنن أبي داود"(2/ 59 رقم 1407).
(4)
"جامع الترمذي"(2/ 462 رقم 573).
(5)
"السنن الكبرى"(1/ 333 رقم 1039).
ووكيع، عن سفيان، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة قال:"سجدت مع رسول الله عليه السلام في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
وأخرجه ابن ماجه (1) أيضًا نحوه.
الثامن: صحيح أيضًا، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، وروح بن عبادة كلاهما، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف.
وأخرجه البخاري (2): ثنا مسلم ومعاذ بن فضالة، قالا: أنا هشام، عن يحيى، عن أبي سلمة قال:"رأيت أبا هريرة رضي الله عنه قرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد بها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أرك تسجد؟ قال: لو لم أرا النبي عليه السلام يَسُجد لم أسجد".
وأخرجه مسلم (3) أيضًا.
التاسع: صحيح أيضًا، عن محمَّد بن عبد الله، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة.
وأخرجه الدارمي في "مسنده"(4): ثنا محمَّد بن يوسف، نا الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة قال:"رأيت أبا هريرة يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فقال: لو لم أر رسول الله عليه السلام يسجد فيها لم أسجُدْ".
العاشر: صحيح أيضًا، عن أبي بكرة بكار، عن رَوْح بن عبادة، عن مالك، عن عبد الله بن يزيد القرشي المدني المقرئ الأعور، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة.
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 336 رقم 1058).
(2)
"صحيح البخاري"(1/ 365 رقم 1024).
(3)
"صحيح مسلم"(1/ 406 رقم 578).
(4)
"سنن الدارمي"(1/ 408 رقم 1469).
وأخرجه مالك في "موطئه"(1).
الحادي عشر: نحوه، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عثمان بن عمر بن فارس، عن مالك
…
إلى آخره.
وأخرجه مسلم (2): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك
…
إلى آخره نحوه.
الثاني عشر: صحيح أيضًا، عن محمد بن خزيمة وفهد بن سليمان، جميعًا عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أبي سلمة عبد الله
…
إلى آخره.
وأخرجه السراج في "مسنده": ثنا الحسن بن سلام، ثنا أبو نعيم، ثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة قال:"رأيت أبا هريرة قرأ بنا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد فيها، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أراك سجدت؟ قال: بلى، لو لم أر رسول الله عليه السلام يسجد فيها لم أسجد".
الثالث عشر: نحوه، عن نصر بن مرزوق، عن أسد بن موسى، عن محمَّد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب، عن عبد العزيز بن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- عن عمر بن العزيز بن مروان بن الحكم، عن أبي سلمة.
وأخرجه النسائي (3): أنا محمَّد بن رافع، قال: نا ابن أبي فديك، قال: أبنا ابن أبي ذئب، عن عبد العزيز بن عياش، عن ابن قيس، عن عمر بن عبد العزيز، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"سجد رسول الله عليه السلام في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ".
الرابع عشر: صحيح أيضًا، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد
(1)"موطأ مالك"(1/ 205 رقم 480).
(2)
"صحيح مسلم"(1/ 406 رقم 578).
(3)
"المجتبى"(2/ 161 رقم 962).
شيخ البخاري، عن حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة
…
إلى آخره.
وأخرج البيهقي (1): من حديث مسلم بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن بكر المزني، نا ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال:"حدثني رجلان كلاهما خير مني إن لم يكن -أظنه قال:- أبو بكر وعمر فلا أدري من هو، أن أحدهما سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
وأخرج أيضًا ما يشابه هذا (2) من حديث مرة، عن ابن سيرين، نا أبو هريرة قال:"سجد أبو بكر وعمر في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ومن هو خيرٌ منهما".
قلت: أراد به النبي عليه السلام.
قوله: "عن رجلين كلاهما خير من أبي هريرة" أراد بهما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
قوله: "فهذا أبو هريرة قد تواترت عنه الروايات" أي تكاثرت وتتابعت، أنه سجد مع النبي عليه السلام أيضًا في سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ، والحال أن إسلامه كان بالمدينة في السنة السابعة من الهجرة كما ذكرنا عن قريب، فإذا كان كذلك؛ كيف يجوز أن يقال: إن رسول الله عليه السلام لم يسجد في المفصل -وهو السُّبع السابع- بعد هجرته؟! فدل ذلك كله على فساد ذلك القول، والله أعلم.
ص: وقد روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن النبي عليه السلام في سجود المفصل أيضًا:
ما حدثنا ربيعٌ الجيزي، قال: ثنا أبو الأسود، قال: ثنا ابن لهيعة، عن العلاء بن كثير، عن الحارث بن سعيد الكندي، عن عبد الله بن مُنَيْنٍ اليَحْصبي: "أن عمرو
(1)"سنن البيهقي"(2/ 323 رقم 3583).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 316 رقم 3543).
ابن العاص سجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فقيل له في ذلك، فقال: كان رسول الله عليه السلام يسجد فيهما".
ش: ذكر حديث عمرو بن العاص تأكيدًا لبيان بطلان ما روَوْه عن ابن عباس من أنه عليه السلام لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحوّل إلى المدينة؛ وذلك لأن عمرو بن العاص قد سجد في هاتين السورتين، ثم أخبر أنه عليه السلام كان يسجد فيهما، وإسلام عمرو إنها كان في السنة الثامنة من الهجرة قبل الفتح بأشهر، قدم هو وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة رضي الله عنه.
وقيل: أسلم بين الحديبية وخيبر.
فإن قيل: كيف يَسْتدل بهذا الحديث على إثبات مطلوبه وفي سنده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف؟!.
قلت: قد قلت لك مرارًا: إنه ثقة عند الطحاوي كما هو كذلك عند أحمد بن حنبل الإِمام، وتضعيف خصمه إياه لا ينافي توثيقه، بل الأصل العدالة وقبول الخبر، ولئن سلمنا ذلك؛ فإنه قد أخرج حديثه [متابعًا](1) لحديث أبي هريرة الذي أخرجه من طرق كثيرة كلها صحيحة.
ثم إنه أخرجه عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج المصري، عن أبي الأسود النضر بن عبد الجبار المرادي المصري، عن عبد الله بن لهيعة المصري، عن العلاء بن كثير الإسكندراني وثقه أبو زرعة، عن الحارث بن سعيد الكِنْدي العُتْقِي المصري، قال في "الميزان": مصري لا يعرف.
عن عبد الله بن مُنَيْن -بضم الميم وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون أيضًا- اليَحْصُبي المصري من بني عبد كلال روى له أبو داود وابن ماجه، قال ابن القطان: عبد الله بن مُنَيْن مجهول. وقال عبد الحق في "أحكامه": لا يحتج به.
(1) لعل الصواب: "شاهدًا" كما هو معلوم في علم أصول الحديث.
قلت: ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه (1).
وأخرج أبو داود (2): عن محمَّد بن عبد الرحيم البَرقي، نا ابن أبي مريم، أنا نافع بن يزيد، عن الحارث بن سعيد العتقي، عن عبد الله بن منين من بني عبد كلال، عن عمرو بن العاص:"أن النبي عليه السلام أقرأه خمسة عشر سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج سجدتان".
وأخرجه ابن ماجه (3) والطبراني في "الكبير"(4) نحوه.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فقد تواترت هذه الآثار عن رسول الله عليه السلام بالسجود في المفصل، فبها نقول، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي: قد تكاثرت وتتابعت هذه الأحاديث عن رسول الله عليه السلام بالسجود في المفصل -وهو السُّبع السَّابع- فدلت على أن فيها السجود، وهي حجة على أهل المقالة الأولى.
قوله: "فبها" أي: فبهذه الآثار نقول، أشار بذلك إلى أنه اختار قول من يقول: في المفصل سجود، وهو أيضًا قول أبي حنيفة النعمان وأبي يوسف يعقوب ومحمد بن الحسن الشيباني رحمهم الله.
ص: فأما النظر في ذلك فعلى غير هذا المعنى؛ وذلك أنا رأينا السجود المتفق عليه هو عشر سجدات:
منهن: الأعراف، وموضع السجود منها قوله:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (5).
(1) وذكر الحافظ ابن حجر في "التهذيب"(6/ 40) أن يعقوب بن سفيان قد وثقه.
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 58 رقم 1401).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 335 رقم 1057).
(4)
"المعجم الكبير"(الجزء المفقود).
(5)
سورة الأعراف، آية:[206].
ومنهن: الرعد، وموضع السجود منها قوله عز وجل:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (1).
ومنهن: النحل، وموضع السجود منها عند قوله عز وجل:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} إلى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (2).
ومنهن: سورة بني إسرائيل، وموضع السجود منها عند قوله عز وجل:{يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} إلى قوله: {خُشُوعًا} (3).
ومنهن: سورة مريم، وموضع السجود منها عند قوله عز وجل:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (4).
ومنهن: سورة الحج فيها سجدة في أولها عند قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} إلى آخر الآية (5).
ومنهن: سورة الفرقان، وموضع السجود منها عند قوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} إلى آخر الآية (6).
ومنهن: سورة النمل فيها سجدة عند قوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ} إلي آخر الآية (7).
ومنهن: {الم (1) تَنْزِيلُ} ، فيها سجدة عند قوله:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} إلى آخر الآية (8).
(1) سورة الرعد، آية:[15].
(2)
سورة النحل، آية:[49 - 50].
(3)
سورة الإسراء، آية:[107 - 109].
(4)
سورة مريم، آية:[58].
(5)
سورة الحج، آية:[18].
(6)
سورة الفرقان، آية:[60].
(7)
سورة النمل، آية:[25].
(8)
سورة السجدة، آية:[15].
ومنهن: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وموضع السجود منها فيه اختلاف، فقال بعضهم: موضعه {تَعْبُدُونَ} (1)، وقال بعضهم: موضعه {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (2).
وكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله إلى هذا المذهب الأخير يذهبون.
وقيل: اختلف المتقدمون في ذلك:
فحدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا فِطْر بن خليفة، عن مجاهد، عن ابن عباس:"أنه كان يسجد في الآية الأخيرة من {حم (1) تَنْزِيلٌ} ".
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا فِطْر، عن مجاهد قال:"سألت ابن عباس عن السجدة التي في {حم} قال: اسجد بآخر الآيتين".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مسعر، عن عمرو بن مرة، عن مجاهد قال:"سجد رجل في الآية الأولى من {حم} ، فقال ابن عباس: عجل هذا بالسجود".
حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن أبي وائل:"أنه كان يسجد في الآخرة من {حم} ".
حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا ابن عون، عن ابن سيرين مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان الثوري، عن ليث، عن مجاهد مثله.
(1) سورة فصلت، آية:[37].
(2)
سورة فصلت، آية:[38].
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا رَوْح، قال: ثنا شعبة، عن قتادة مثله.
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير، قال: ثنا أبو إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يذكر: "أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يسجد في الآية الأولى من حم".
حدثنا صالح، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، عن رجل، عن نافع، عن ابن عمر مثله.
فكانت هذه السجدة التي في {حم} مما قد اتفق عليه، واختلفوا في موضعها، وما قد ذكرنا قبل هذا من السجود في السور الأخرى قد اتفقوا عليها وعلى مواضعها التي ذكرناها، وكان موضع كل سجدة فيها فهو موضع إخبار وليس بموضع أمر، وقد رأينا السجود مذكورًا في مواضع أمر منها قوله تعالى:{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} (1)، ومنها قوله تعالى:{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (2) فكلٌّ قد اتفق أن لاسجود في شيء من ذلك.
فالنظر على ذلك أن يكون كل موضع اختلف فيه هل فيه سجود أم لا أن نَنْظر فيه، فإن كان موضع أمر فإنما هو تعليم فلا سجود فيه، وكل موضع فيه خبر عن السجود فهو موضع سجدة التلاوة، فكان الموضع الذي اختلف فيه من سورة {وَالنَّجْم} فقال قوم: هو موضع سجود التلاوة، وقال آخرون: ليس هو موضع سجدة تلاوة، وهو قوله تعالى:{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (3) فذلك أمر وليس بخبر.
فكان النظر على ما ذكرنا أن لا يكون موضع سجود التلاوة، وكان الموضع الذي اختُلف فيه أيضًا من {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} هو قوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
(1) سورة آل عمران، آية:[43].
(2)
سورة الحجر، آية:[98].
(3)
سورة النجم، آية:[62].
وَاقْتَرِبْ} (1) فذلك أمر وليس بخبر، فالنظر على ما ذكرنا أن لا يكون موضع سجود التلاوة، وكان الموضع الذي اختُلف فيه من {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} هل هو موضع السجود أو لا؟ وهو قوله:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (2)، فذلك موضع إخبار لا موضع أمر، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون موضع سجود التلاوة، ويكون كل شيء من السجود يُردُ إلى ما ذكرنا، فما كان منه أمر رُدَّ إلى شكله مما ذكرنا فلم يكن فيه سجود، وما كان منه خبر رُدَّ إلى شكله من الإخبار فكان فيه سجودٌ، فهذا هو النظر في هذا الباب.
وكان يجيء على ذلك أن يكون موضع السجود من {حم} هو الموضع الذي ذهب إليه ابن عباس؛ لأنه عند خبر وهو قوله: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (3)، لا كما ذهب إليه مَنْ خالفه؛ لأن أولئك جعلوا السجدة عند أمرٍ وهو قوله:{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (4)، فكان ذلك موضع أمر، وكان الموضع الآخر موضع خبر، وقد ذكرنا أن النظر يوجب أن يكون السجود في موضع الخبر لا في موضع الأمر، وكان يجيء على ذلك أن لا يكون في سورة الحج غير سجدة واحدة؛ لأن الثانية المختلف فيها إنما موضعها في قول مَن يجعلها سجدة موضع أمر وهو قوله:{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (5) الآية، وقد بيّنا أن مواضع سجود التلاوة هي مواضع الإخبار لا مواضع الأمر، فلو خُلِّينا والنظر لكان القول في سجود التلاوة أن ننظر، فما كان منه موضع أمر لم نجعل فيه سجودًا، وما كان منه موضع خبر جعلنا فيه سجودًا؛ ولكن اتباع ما قد ثبت عن رسول الله عليه السلام أولى.
(1) سورة العلق، آية:[19].
(2)
سورة الانشقاق، آية:[20 - 21].
(3)
سورة فصلت، آية:[38].
(4)
سورة فصلت، آية:[37].
(5)
سورة الحج، آية:[77].
ش: أي: فأما وجه النظر والقياس في كون السجود في المفصل فعلى غير هذا المعني، وهو وجوب السجود في المفصل وغيره وعدم الوجوب، وبيّن ذلك بقوله: "إنا رأينا السجود المتفق عليه
…
" إلى آخره، ملخصه محرّرًا: أن السجدات المتفق عليها عشر، وهي: الأعراف، والرعد، والنحل، وبنو إسرائيل، ومريم، والأولى من الحج، والفرقان، والنمل، و {الم (1) تَنْزِيلُ} ، و {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وفي موضع السجدة فيه اختلاف، فقال بعضهم: موضعه {تَعْبُدُونَ} (1)، وأراد بهم: مالكًا وبعض الشافعية، ويحكى ذلك عن الحسن البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي، وطلحة، ويحيى، وزبيد اليامي، وأبي عبد الرحمن السلمي، والأعمش، ومسروق، وأصحاب عبد الله؛ فإن هؤلاء كلهم يذهبون إلى أن موضع السجود في حم السجدة عند قوله {تَعْبُدُونَ} .
وقال بعضهم: موضعه {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (2) وأراد بهم: سعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين في رواية، والنخعي في رواية، وشقيق بن سلمة، وابن أبي ليلى، وأبا حنيفة، وأصحابه؛ فإنهم ذهبوا إلى أن موضع السجود في هذه السورة عند قوله:{وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} ، ويحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وهو مذهب الشافعي في الصحيح ومذهب الجمهور؛ لأن في ذلك أخذًا بالاحتياط عند اختلاف مذاهب الصحابة، فإن السجدة لو وجبت عند قوله:{تَعْبُدُونَ} فالتأخير أولى إلى قوله: {لَا يَسْأَمُونَ} لنخرج عن الواجب باليقين، ولو وجبت عند قوله:{لَا يَسْأَمُونَ} لكانت السجدة المؤداة قبله حاصلةً قبل وجوبها.
ثم أشار إلى بيان اختلاف الصحابة والتابعين رضي الله عنهم بقوله: "وقيل: اختلف المتقدمون في ذلك" أي في موضع السجود في سورة {حم (1) تَنْزِيلُ} .
(1) سورة فصلت، آية:[37].
(2)
سورة فصلت، آية:[38].
وأخرج عن ابن عباس رضي الله عنهما من ثلاث طرق صحاح:
أحدها: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن فطر بن خليفة، عن مجاهد، عن ابن عباس.
والثاني: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن فطر بن خليفة
…
إلى آخره.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا محمَّد بن فضيل، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أنه كان يسجد في آخر الآيتين من {حم} السجدة".
والثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد- اسمه محمَّد بن عبد الله بن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي، عن مسعر بن كدام، عن عمرو بن مرة، عن مجاهد
…
إلى آخره.
قوله: "عجَّل هذا بالسجود" كالإنكار عليه بأن الآية الأولى ليست موضع السجدة، وأن محلها: الآية الأخيرة.
وأخرج أيضًا: عن عبد الله بن مسعود بإسناد صحيح، عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد.
وأخرج عبد الرزاق (2): عن معمر، عن أبي إسحاق، قال: سمعته يذكر عن بعضهم: "أنه كان لا يسجد في الأولى {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (3) ".
وأخرج أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 372 رقم 4276).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(3/ 339 رقم 5879).
(3)
سورة فصلت، آية:[37].
ابن منصور، عن هشيم بن بشير، عن رجل، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يسجد في الآية الأول من {حم} ".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هشيم، عن حجاج، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يسجد بالأولى".
قلت: لعل الرجل المجهول في رواية الطحاوي هو حجاج المذكور في رواية ابن أبي شيبة.
وأخرج عن أبي وائل شقيق بن سلمة بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم الضبي، عنه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا هشيم، قال: أنا مغيرة، عن أبي وائل:"أنه كان يسجد في الآخرة -أي في الآية الآخرة- في سورة {حم} السجدة".
وأخرج عن ابن سيربن أيضًا بإسناد صحيح، عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور، عن هشيم بن بشير، عن عبد الله بن عون، عن محمَّد بن سيرين.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): ثنا هشيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين:"أنه كان يسجد في الآخرة".
وأخرج عن مجاهد أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار، عن أبي عاصم الضحاك بن مَخلد النبيل، عن سفيان الثوري، عن ليث بن أبي سُليم، عن مجاهد.
وأخرج عن قتادة أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة، عن رَوْح بن عبادة، عن شعبة، عن قتادة.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 372 رقم 4282).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 372 رقم 4277).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 372 رقم 4278).
وأخرجه عبد الرزاق (1): عن معمر، عن قتادة نحوه.
قوله: "فكانت هذه السجدة التي في {حم} " أشار بالفاء التفسيرية إلى بيان قوله: "فأما النظر في ذلك فعلى غير هذا المعنى"، بيانه: أن السجدة في {حم (1) تَنْزِيلُ} متفق عليها، والاختلاف في موضعها، والسُّوَر العشر التي ذكرناها غير حم تنزيل متفق عليها في السجود فيها وفي مواضعها، ثم إن موضع كل سجدة من هذه السور موضع إخبار يعني في صورة الإخبار وليست في صورة أمرٍ، وقد جاء في مواضع من القرآن لفظ السجود مذكورًا بصورة الأمر كما في قوله تعالى:{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} (2)، وقوله تعالى:{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (3)، والعلماء كلهم قد اتفقوا أن لا سجود في شيء من ذلك، فالنظر والقياس على ذلك أن يكون كل موضع اختلف فيه هل فيه سجود أم لا؟ غير موضع للسجود إن كان في صورة الأمر؛ لأنه تعليم، فلا سجود فيه، وإن كان في صورة خبر يكون فيه السجود، فالنظر والقياس على ذلك أن تكون سورة {وَالنَّجْمِ} غير موضع السجود كما ذهب إليه الخصم؛ لأنه في صورة الأمر، وكذلك سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ؛ لأنه في صورة الأمر، ولكن يُترك القياس عند وجود الآثار، وأما سورة الانشقاق فكان ينبغي للخصم أن يقول بالسجود فيها ، لأنها في موضع الإخبار، وقد قلنا: إن السجدة إنما تجب إذا كان في موضع الإخبار على ما ورد من الآثار في السجود فيها، فوجد فيها الآثار والقياس جميعًا.
قوله: "ويكون كل شيء من السجود يرد إلى ما ذكرنا" يعني: إن كان من صورة الأمر يُردّ إلى ما اتفق عليه من عدم السجدة مما هو في صورة الأمر، وإن كان من صورة الخبر -وهو مما اختلف فيه- يرد إلى ما اتفق عليه من وجوب السجدة مما هو
(1)"مصنف عبد الرزاق"(3/ 338 رقم 5875).
(2)
سورة آل عمران، آية:[43].
(3)
سورة الحجر، آية:[98].
في صورة الخبر، ثم بيّن ذلك بالفاء التفسيرية بقوله:"فما كان منه أمرٌ رُدّ إلى شَكْله" بفتح الشين أي رُدّ إلى نظيره ومثله.
قوله: "وكان يجيء على ذلك" أي على وجه النظر والقياس الذي ذكره، وأراد بهذا تقوية ما ذهب إليه ابن عباس الذي ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من جهة النظر والقياس، وقد بيّن وجه ذلك في الكتاب فلا حاجة إلى التطويل.
قوله: "ولو خُلّينا" على صيغة المجهول.
قوله: "والنظر" بنصب الراء على أنه مفعول معه.
قوله: "لكان القول" جواب لوْ، والباقي ظاهر.
ثم اعلم أن ما ذكره الطحاوي يُعكّر على ما قاله شُرّاح كتب الحنفية من قولهم: إن مواضع السجود في القرآن منقسمة، منها ما هو أمر بالسجود، والأمر للوجوب كما في آخر سورة القلم. وهذا كلام غير سديد؛ إذ لو كان وجوب سجدة التلاوة في هذا الموضع لأجل كونه في صورة الأمر لوجبت أيضًا عند قوله:{وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} وقوله: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي} (1)، فظهر من هذا أن الحق مع الطحاوي.
إذا قالت حذام فصدقوها
…
فإن القول ما قالت حذام
ص: وقد اختلف في سورة ص، فقال قوم: فيها سجدة، وقال آخرون: ليست فيها سجدة، فكان النظر في ذلك عندنا أن يكون فيها سجدة؛ لأن الموضع الذي جعله من جَعَل فيه سجدةً هو موضع خبر لا موضع أمرٍ، وهو قوله تعالى:{فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (2) فذلك خبر، فالنظر فيه أن يُردّ حكمه إلى حكم أشكاله من الأخبار، فيكون فيه سجدة كما يكون فيها.
(1) سورة آل عمران، آية:[43].
(2)
سورة ص، آية:[24].
ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن جبير والحسن البصري ومسروقًا والثوري وابن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وأحمد وإسحاق ومالكًا؛ فإنهم قالوا: في {ص} سجدة تلاوة، ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.
وقال الترمذي: واختلف أهل العلم في ذلك، فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام وغيرهم أن يسُجَد فيها، وهو قول سفيان، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال بعضهم: إنما هي توبة نبي، ولم يروا السجود فيها.
قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: الشافعي وأحمد في رواية، وعلقمة، ويروى ذلك عن عبد الله وأصحابه.
وعن الشعبي قال: كان بعض أصحاب النبي عليه السلام يَسْجد في {ص} وبعضهم لا يسجد، فأيُّ ذلك شئت فافعل.
ثم السجدة عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا} (1) وكذا قاله مالك، وعنه عند قوله:{وَحُسْنَ مَآبٍ} (2).
وقال أبو بكر الرازي: قال محمَّد بن الحسن: معناه: خر ساجدًا، فعبرّ عن السجود بالركوع.
وفي "شرح المهذب": إن قرأها في الصلاة فينبغي أن لا يسجد، فإن خالف وسجد ناسيًا أو جاهلًا لم تبطل صلاته على أصح الوجهين، ولو سجد إمامه الذي يعتقد السجود فيها فثلاثة أوجه أصحها لا يتابعه، وإن انتظره لم يسجد للسهو؛ لأن المأموم لا سجود عليه، والثالث: يتابعه.
(1) سورة ص، آية:[24].
(2)
سورة ص، آية:[25].
وفي بعض شروح "الهداية": قال بعض الشيوخ: ينوب الركوع عن سجدة التلاوة في الصلاة وخارج الصلاة، وكذا حكي عن ابن حبيب المالكي.
قوله: "فكان النظر في ذلك" أي: فكان القياس في حكم سجدة {ص}
…
إلى آخره.
ص: وقد روي ذلك عن رسول الله عليه السلام.
حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد، عن أبي سعيد رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام سجد في (ص) ".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا العَوّام بن حوشب، قال:"سألت مجاهدًا عن السجود في {ص} فقال: سألت عنها عن ابن عباس فقال: اسجد في {ص} فتلا عليَّ هؤلاء الآيات من الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1)، فكان داود عليه السلام ممن أُمِر نبيكم أن يقتدي به".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهبٌ، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مجاهد قال:"سُئل ابن عباس عن السجود في (ص) فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ".
فبهذا نأخذ، ونرى السجود في {ص} اتباعًا لما قد روي فيها عن النبي عليه السلام، ثم لما قد أوجبه النظر، ونرى أن السجود في المفصل في {وَالنَّجْمِ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} لما قد ثبتت فيه الرواية بالسجود في ذلك عن رسول الله عليه السلام، ونرى أن لا سجود في أخر الحج لما قد نفاه ما قد ذكرناه من النظر، ولأنه موضع التعليم لا موضع خبر، ومواضع التعليم لا سجود فيها للتلاوة.
(1) سورة الأنعام، آية:[84 - 90].
ش: أي قد روي السجود في سورة {ص} عن النبي عليه السلام، ثم بين ذلك بقوله: "حدثنا يونس
…
" إلى آخره.
فأخرج في ذلك عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم.
أما أثر أبي سعيد فأخرجه بإسناد صحيح: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث المصري، عن سعيد بن أبي هلال المصري روى له الجماعة، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري روى له الجماعة.
وأخرجه أبو داود (1) بأتم منه: ثنا أحمد بن صالح، نا ابن وهب، أخبرني عمرو، عن ابن أبي هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد الخدري أنه قال:"قرأ رسول الله عليه السلام وهو على المنبر {ص} ، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود، فقال رسول الله عليه السلام: إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود، فنزل وسجد وسجدوا".
وأخرجه الحكم في "المستدرك"(2) في تفسير سورة {ص} ، وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال النووي في "الخلاصة": سنده صحيح على شرط البخاري.
قوله: "تشزن الناس" أي تأهبوا للسجود وتهيئوا له.
قوله: "إنما هي توبة نبي" أراد به داود عليه السلام.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 59 رقم 1410).
(2)
"المستدرك على الصحيحين"(2/ 469 رقم 3615).
وأما أثر ابن عباس فأخرجه من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب الشيباني الواسطي روى له الجماعة سوي أبي داود، عن مجاهد، عن ابن عباس.
والآخر: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن عمرو ابن مرة، عن مجاهد
…
إلى آخره.
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هشيم، قال: أنا حصين والعوام، عن مجاهد، عن ابن عباس:"أنه كان يسجد في {ص}، وتلا هذه الآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (2) ".
ثنا (3) وكيع، عن مسعر، عن عمرو بن مرة عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال:"فيها سجدة، ثم قرأ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ".
قوله: "سألت عنها عن ابن عباس" وفي بعض النسخ: "سألت عنها ابن عباس".
قوله: "فقال: السجدة في {ص} "، وفي رواية فقلت "أتسجد في {ص} "، وإنما قرأ هذه الآية إشعارًا بأن في {ص} سجدة.
قوله: "فبهذا نأخذ" أي فبوجوب السجدة في {ص} نأخذ، وذلك من وجهين:
أحدهما: اتباعًا لما قد روي عن النبي عليه السلام.
والثاني: لإيجاب وجه النظر والقياس ذلك، وقد مر بيان وجه النظر عن قريب.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 370 رقم 4259).
(2)
سورة الأنعام، آية:[90].
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 371 رقم 4268).
قوله: "ونرى أن السجود في المفصل" أي أن السجود واجب في المفصل -وهو السُّبع السَّابع- وبيَّن ذلك بقوله: "في {وَالنَّجْمِ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} " بطريق البدل والبيان عن قوله: "في المفصل".
قوله: "لما قد ثبتت فيه الرواية" اللام فيه للتعليل متعلق بقوله: "ونرى"، والباقي ظاهر.
ص: وقد اختلف في ذلك المتقدمون، فروي عنهم في ذلك:
ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود ورَوْحٌ، قالا: ثنا شعبة، قال: أنبأني سعد بن إبراهيم، قال: سمعت ابن أختٍ لنا يقال له: عبد الله بن ثعلبة قال: "صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصبح فيما أعلم. ثم قال سَعْدٌ: صلى بنا الصبح فقرأ بالحج وسجد فيها سجدتين".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا حماد، قال: ثنا عليُّ بن زيد، عن صفوان بن محرز:"أن أبا موسى الأشعري سجد فيها سجدتين".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا روح، قال: ثنا مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مثله.
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يزيد بن خُمَيْر قال: سمعت عبد الرحمن بن جبير بن نفير وخالد بن معدان يحدثان، عن جبير بن نفير:"أنه رأى أبا الدرداء يسجد في الحج سجدتين".
حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو عامر، قال: ثنا سفيان، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال في سجود الحج:"الأولى عَزْمة والأخرى تعليم".
فبقول ابن عباس هذا نأخذ إلا ما خالفه النظر أن السجدة في نفسها ليست بواجبة، وجميع ما ذهبنا إليه في هذا الباب مما جاءت به الآثار قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي قد اختلف المتقدمون من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في سجدة الحج هل هي واحدة أم سجدتان، فروي عن ابن عباس وعلى بن أبي طالب وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو وأبي الدرداء وأبي العالية وزر بن حبيش وأن في الحج سجدتين، وإليه ذهب مالك في رواية وأحمد في قول والشافعي وعبد الله بن وهب وابن سريج.
وروي عن ابن عباس أن فيها سجدة واحدةً وهي الأولى، وإليه ذهب سعيد بن جبير والحسن البصري وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب والأعمش وأبو حنيفة، وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.
قوله: "فروي عنهم في ذلك" أي روي عن المتقدمين في سجود الحج، فأخرج في ذلك عن عمر بن الخطاب وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وابن عباس رضي الله عنهم.
أما أثر عمر رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي وروح بن عبادة، كلاهما عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر -ويقال: ابن أبي صُعَيْر- بن عمرو الشاعر العذري الصحابي، عن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن ثعلبة:"أنه صلى مع عمر بن الخطاب الصبح، فسجد في الحج سجدتين".
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن غُندر، عن شعبة
…
إلى آخره نحوه.
وأما أثر أبي موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، عن
(1)"سنن البيهقي"(2/ 317 رقم 3547).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 373 رقم 4288).
علي بن زيد بن جدعان، عن صفوان بن محرز المازني البصري روى له الجماعة سوى أبي داود.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث بكر بن عبد الله المزني، عن صفوان ابن محرز:"أن أبا موسى سجد في الحج سجدتين".
وأما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن روح بن عبادة، عن مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
وأخرجه مالك في "موطئه"(2) والبيهقي في "سننه"(3): من حديث مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه سجد في الحج سجدتين".
وأما أثر أبي الدرداء واسمه عويمر بن مالك فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن يزيد بن خُمَيْر بن يزيد الرحَبي الهمداني أبي عمر الشامي الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".
عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي أبي حمير الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".
وعن خالد بن معدان بن الحارث الكلاعي أبي عبد الله الشامي الحمصي روى له الجماعة، كلاهما عن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي أبي عبد الرحمن الشامي الحمصي روى له الجماعة، البخاري في غير "الصحيح".
عن أبي الدرداء.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(4): من حديث شعبة، عن يزيد بن خمير، عن
(1)"سنن البيهقي"(2/ 318 رقم 3552).
(2)
"موطأ مالك"(1/ 205 رقم 481).
(3)
"سنن البيهقي"(2/ 317 رقم 3549).
(4)
"سنن البيهقي"(2/ 318 رقم 3556).
خالد بن معدان، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء:"أنه كان يسجد في الحج سجدتين"، رواه عاصم بن علي، عن شعبة، فقال: عن يزيد، سمعت عبد الرحمن ابن جبير، عن أبيه.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا وكيع، عن شعبة، عن يزيد بن خمير، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه:"أن أبا الدرداء سجد في الحج سجدتين".
وأما أثر ابن عباس فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكار وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي -بالثاء المثلثة والعين المهملة- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
فإن قلت: كيف تقول: إنه صحيح الإسناد وقد روي عن أحمد: أن عبد الأعلى الثعلبي ضعيف. وقال أبو حاتم: ليس بالقوي؟!
قلت: وثقه يحيى بن معين والطحاوي وروى له الأربعة.
قوله: "عزمةٌ" أي حقٌّ وواجب، وبه يحتج من يذهب إلى وجوب سجدة التلاوة.
وقال الطحاوي: "فبقول ابن عباس نأخذ" يعني في كون السجدة في الأولى من الحج إلا ما خالفه النظر -أي: القياس- من أن السجدة في نفسها ليست بواجبة لما أقام عليه من البرهان فيما مضى، والله أعلم.