المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: صلاة: الكسوف كيف هي - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٥

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: صلاة: الكسوف كيف هي

‌ص: باب: صلاة: الكسوف كيف هي

؟

ش: أي هذا باب في بيان صلاة الكسوف كيف صفتها؟

روى جماعة أن الكسوف يكون في الشمس والقمر، وروى جماعة فيهما بالخاء، وروى جماعة في الشمس بالكاف وفي القمر بالخاء، والكثير في اللغة -وهو اختيار الفراء-: أن يكون الكسوف للشمس والخسوف للقمر، فيقال: كسفت الشمس وكسفها الله وانكسفت وخسف القمر وخسفه الله، وانخسف وذكر ثعلب في "الفصيح" انكسفت الشمس وخسف القمر أجود الكلام. وفي "التهذيب" لأبي منصور: خسف القمر وخسفت الشمس إذا ذهب ضوؤها. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: خسف القمر وكسف واحد: ذهب ضوؤه. وقيل: الكسوف أن يكسف ببعضها، والخسوف أن يخسف بكلها، قال الله تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} (1).

وقال شِمْرٌ: الكسوف في الوجه الصفرة والتغير.

وقال ابن حبيب في "شرح الموطأ": الكسوف تغيّر اللون، والخسوف انخسافهما، وكذلك تقول في عين الأعور إذا انخسفت وغارت في جفن العين وذهب نورها وضياؤها.

وفي "نوادر اليزيدي" و"الغريبين": انسكفت الشمس، وأنكر ذلك القزاز والجوهري، قال القزاز: كسفت الشمس والقمر تكسف كسوفًا فهي كاسفة وكُسِفت فهي مكسوفة وقوم يقولون: انكسفت، وهو غلط.

وقال الجوهري: العامة تقول: انكسفت، وفي "المحكم": كسفها الله وأكسفها، والأولى أعلى، والقمر كالشمس.

(1) سورة القصص، آية:[81].

ص: 314

وقال اليزيدي: خسف القمر وهو يخسف خسوفًا فهو خسِفٌ وخَسِيف وخَاسِف وانخسف انخسافًا قال: وانخسف أكثر في ألسنة الناس.

وفي "شرح الفصيح" لأبي العباس أحمد بن عبد الجليل: كسفت الشمس أي اسودت في رأي العين من ستر القمر إياها عن الأبصار، وبعضهم يقول: كُسفت على ما لم يُسم فاعله، وانكسفت.

وعن أبي حاتم: إذا ذهب ضوء بعض الشمس لخفاء بعض جرْمها فذلك الكسوف.

وزعم ابن التين وغيرُه أن بعض اللغويين قال: لا يقال في الشمس إلا: كسفت، وفي القمر إلا خسف، وذكر هذا عن عروة بن الزبير أيضًا.

وحكى عياض عن بعض أهل اللغة عكسه وكأنه غير جيّد؛ لقوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (1).

وعند ابن طريف: كسفت الشمس والقمر والنجوم والوجوه كسوفًا، وفي "المغيث" لأبي موسى: روى حديث الكسوف عليٌّ وابن مسعود وأبي بن كعب وسَمُرة وعبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو والمغيرة وأبو هريرة وأبو بكرة وأبو شريح الكعبي والنعمان بن بشير وقبيصة الهلالي رضي الله عنهم جميعًا: بالكاف، ورواه أبو موسى وأسماء وعبيد الله بن عدي بن الخيار: بالخاء. وروي عن جابر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم باللفظين جميعًا، كلهم حكوا عن النبي عليه السلام عليه السلام "ينكسفان" بالكاف، فسمي كسوف الشمس والقمر كسوفًا.

قلت: أغفل حديث أبي مسعود من عند البخاري (2)"لا ينكسفان". والله أعلم.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "انكسفت الشمس على عهد النبي

(1) سورة القيامة، آية:[8].

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 353 رقم 994).

ص: 315

- عليه السلام، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم رفع رأسه فأطال القيام وهو دون قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون ركوعه الأول، ثم رفع رأسه، فسجد ثم قام ففعل مثل ذلك؛ غير أن الركعة الأولى منهما أطول".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النعيم عليه السلام مثله.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل بن إسماعيل، قال: ثنا سفيان الثوري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن عروة -وهشام بن عروة، عن أبيه- عن عائشة، عن النبي عليه السلام نحوه.

ش: هذه أربع طرق صحاح:

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن محمَّد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة.

وأخرجه الجماعة بوجوه متعددة وألفاظ مختلفة مطولة ومختصرة.

وأخرجه بهذا الإسناد مسلم (1) مطولًا: حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس.

قال: وحدثني أبو الطاهر ومحمد بن سلمة المرادي، قالا: نا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي عليه السلام قالت: "خسفت الشمس في حياة رسول الله عليه السلام، فخرج رسول الله عليه السلام إلى المسجد، فقام وكبّر، وصفّ الناسُ وراءه فاقترأ قراءة طويلة، ثم كبرّ فركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ثم كبَّر فركع ركوعًا طويلًا هو أدنى من الركوع

(1)"صحيح مسلم"(2/ 619 رقم 901).

ص: 316

الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد -ولم يذكر أبو الطاهر ثم سجد- ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب الناس، فأثني على الله بما هو أهله ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة".

وأخرجه أبو داود (1): ثنا ابن السَّرْح، نا ابن وهب.

ونا محمَّد بن سلمة المرادي، نا ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي عليه السلام قالت: "خسفت الشمس

" نحو رواية مسلم إلى قوله: "أن ينصرف".

الثاني: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.

وأخرجه البخاري (2): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: "خسفت الشمس في عهد رسول الله عليه السلام بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع ثم قام فأطال القيام -وهو دون القيام الأول- ثم ركع فأطال الركوع -وهو دون الركوع الأول- ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس

" الحديث.

وأخرجه مسلم (3): عن قتيبة بن سعيد، عن مالك

إلى آخره نحوه.

الثالث: عن يونس أيضًا، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه السلام.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 307 رقم 1180).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 354 رقم 997).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 618 رقم 901).

ص: 317

وأخرجه البخاري (1) مطولًا جدًّا: ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى ابن سعيد، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي عليه السلام:"أن يهوديةً جاءت تسألها فقالت لها: أعاذكِ الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رضي الله عنها -أَيُعَذّبُ الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله عليه السلام عائذًا بالله من ذلك، ثم ركب رسول الله عليه السلام ذات غداةٍ مركبًا، فخسفت الشمس فرجع ضُحى، فمرّ رسولُ الله عليه السلام بين ظهراني الحجر ثم قام يُصلّي، وقام الناس وراءه، فقام قيامًا طويلًا، ثم ركع ركوعًا طويلًا -وهو دون الركوع الأول- ثم رفع فسجد، ثم قام فقام قيامًا طويلًا -وهو دون القيام الأول- ثم ركع ركوعًا طويلًا -وهو دون الركوع الأول- ثم رفع فسجد وانصرف، فقال ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر".

الرابع: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عروة.

وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي عليه السلام نحوه.

والحديث يدل على أن للكسوف صلاة، وأنها ركعتان بأربع ركعات وأربع سجدات كما ذهب إليه الشافعي وآخرون، واستحباب تطويل الركوع فيها، واستحباب الجماعة فيها، واستحباب فعلها في المسجد الذي تُصلَّى فيه الجمعة، وقيل: إنما لم يخرج رسول الله عليه السلام إلى المصلى لخوف فواتها بالانجلاء لسنة المبادرة إليها.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس رضي الله عنها، عن النبي عليه السلام نحوه.

ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه البخاري (2): ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن زيد بن أسلم،

(1)"صحيح البخاري"(1/ 356 رقم 1002).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 357 رقم 1004).

ص: 318

عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عباس قال:"انخسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، فصلى رسول الله عليه السلام فقام قيامًا طويلًا نحوًا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع، فقام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلّت الشمس".

وأخرجه مسلم (1): عن سويد بن سعيد، عن حفص بن مَيسرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فصلى رسول الله عليه السلام والناس معه، فقام قيامًا طويلًا قدر نحو سورة البقرة، ثم ركع ركوعًا طويلًا، ثم رفع، فقام قياما طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف وقد انجلت الشمس

" الحديث.

وأخرجه أبو داود (2) والترمذي (3) والنسائبم (4) بعبارات مختلفة وأسانيد متغايرة.

ص: حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا يَعْقوب بن حميد، قال: ثنا يحيى بن سُلَيم، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام نحوه، إلا أنه لم يذكر أن الركوع الثاني كان دون الركوع الأول، ولكنه ذكر بأنه مثله. قال:"وذلك يوم مات إبراهيم عليه السلام".

ش: يعقوب بن حميد بن كاسب المدني شيخ البخاري في غير "الصحيح" وابن ماجه، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث. وعن ابن معين: ليس بشيء. وعنه: ليس

(1)"صحيح مسلم"(2/ 626 رقم 907).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 307 رقم 1181).

(3)

"جامع الترمذي"(2/ 446 رقم 446).

(4)

"المجتبى"(3/ 129 رقم 1469).

ص: 319

بثقة. وقال النسائي: ليس بشيء. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: وربما أخطأ في الشيء بعد الشيء.

ويحيى بن سُلَيم ويقال: ابن أبي سليم، ويقال: ابن أبي الأسود الكوفي، روى له الجماعة غير البخاري.

وإسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي المكي، روى له الجماعة.

وأخرجه أبو يعلى الموصلي في "مسنده": ثنا داود بن عمرو، نا مسلم بن خالد الزنجي، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر قال:"انكسفت الشمس في زمن النبي عليه السلام في اليوم الذي مات فيه إبراهيم، فخرج النبي عليه السلام فصلّى بالناس، فقام فأطال القيام حتى قيل: إنه لم يركع من طول قيامه، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل: لم يرفع صلبه من طول ركوعه، ثم انتصب قائمًا، فقام كنحو قيامه الأول أو أدنى شيئًا، ثم ركع كنحو ركوعه الأول أو أدنى شيئًا، ثم انتصب فسجد، ثم قام إلى الركعة الأولى ففعل مثل ذلك، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إن كسوف الشمس والقمر ليس لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة".

وأخرجه البزار أيضًا في "مسندة": ثنا عبد الأعلى بن حماد، نا مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر. وحدثنا يحيى بن وَرْد بن عبد الله، حدثني أبي، نا عدي بن الفضل، عن إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر: "أن الشمس انكسفت لموت عظيم من العظماء، فخرج النبي عليه السلام فصلى بالناس، فأطال القيام حتى قيل: لا يركع من طول القيام، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل: لا يرفع من طول الركوع، ثم رفع فأطال القيام نحوًا من قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع كنحو ركوعه الأول، ثم رفع رأسه فسجد، ثم رفع فأطال القيام نحوًا من قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل لا يرفع من طول الركوع ثم رفع

ص: 320

فأطال القيام نحوًا من قيامه الأول، ثم ركع فأطال الركوع كنحو ركوعه الأول، ثم رفع رأسه فسجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة".

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا وقالوا: هكذا صلاة الكسوف أربع ركعات وأربع سجدات.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الليث بن سعد ومالكًا والشافعي وأحمد وأبا ثور وعلماء الحجاز، فإنهم ذهبوا إلى الأحاديث المذكورة وقالوا: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة ركوعان وسجودان، فتكون الجملة أربع ركعات وأربع سجدات في ركعتين، وسواء تمادى الكسوف أو لا.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل هي ثمان ركعات في أربع سجدات.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون وأراد بهم طاوس بن كيسان وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك بن جريج؛ فإنهم قالوا: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة أربع ركوعات وسجدتان، فتكون الجملة ثمان ركعات وأربع سجدات، ويحكى هذا عن عليّ وابن عباس رضي الله عنهم.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، قال: ثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"صلى رسول الله عليه السلام صلاة الخسوف، فقام فافتتح، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه فقرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه فقرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه فقرأ، ثم ركع، ثم سجد، ثم فعل مثل ذلك مرة أخرى".

حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو، قال: ثنا زهير بن حَرْب، قال: ثنا يحيى القطان، عن سفيان

فذكر بإسناده مثله.

ص: 321

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، قال: ثنا حبيب بن أبي ثابت

فذكر بإسناده مثله.

ش: أي احتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي أحمد محمَّد بن عبد الله بن الزبير الكوفي روى له الجماعة، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار الكوفي روى له الجماعة، عن طاوس بن كيسان، عن عبد الله بن عباس.

وأخرجه مسلم (1): ثنا محمد بن المثنى وأبو بكر بن خلادً، كلاهما عن يحيى القطان، قال ابن المثنى: نا يحيى، عن سفيان، قال: ثنا حبيب، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام:"أنه صلّى في كسوف، قرأ ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد، قال: والأخرى مثلها".

وأخرجه النسائي (2): أبنا محمَّد بن المثنى، عن يحيى، عن سفيان، قال: ثنا حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام:"أنه صلّى في كسوف، فقرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد، والأخرى مثلها".

الثاني: عن أبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي إمام أهل الشام وشيخ الطبراني أيضًا، عن زهير بن حرب، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس.

وأخرجه الترمذي (3): ثنا محمَّد بن بشار، قال: نا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام: "أنه صلى

(1)"صحيح مسلم"(2/ 627 رقم 909).

(2)

"المجتبى"(3/ 129 رقم 1468).

(3)

"جامع الترمذي"(2/ 446 رقم 560).

ص: 322

في كسوف، فقرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم قرأ، ثم ركع، ثم سجد سجدتين، والأخرى مثلها".

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مسدد بن مسرهد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، عن ابن عباس.

وأخرجه أبو داود (1): عن مسدد

إلى آخره نحوه.

ص: حدثنا فهد بن سليمان، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا زهير، عن الحسن بن الحر، قال: ثنا الحكم، عن رجل يُدْعَى حَنْشًا، عن علي رضي الله عنه "أنه صلى بالناس في كسوف الشمس كذلك، ثم حدثهم أن النبي عليه السلام كذلك فعل".

ش: رجاله ثقات، غير أن في حنشٍ مقالًا، وهو بالحاء المهملة والنون، ابن المعتمر الكناني، روى له أبو داود والترمذي والنسائي.

والحكم هو ابن عُتَيْبَة.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث زهير بن معاوية، عن الحسن بن حر، عن الحكم، عن رجل يقال له حنش، عن عليّ رضي الله عنه قال:"كسفت الشمس فصلّى عليّ للناس، فقرأ {وَالْقُرْآنِ} وونحوها، ثم ركع نحوًا من قراءته السورة، ثم رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ثم قام قدر السورة يدعو ويكبر، ثم ركع قدر قراءته، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام أيضًا قدر السورة، ثم ركع قدر ذلك أيضًا، حتى ركع أربع ركعات، ثم قال: سمع الله لمن حمده. ثم سجد، ثم قام في الركعة الثانية ففعل كفعله في الركعة الأولى، ثم جلس يدعو ويرغب حتى انكشفت الشمس، ثم حدثهم أن رسول الله عليه السلام كذلك فعل" انتهى.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 308 رقم 1183).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 330 رقم 6120).

ص: 323

وقال ابن قدامة: وحكي عن إسحاق أنه قال: وجه الجمع بين هذه الأحاديث: أن النبي عليه السلام إنما كان يزيد في الركوع إذا لم يرَ الشمس قد انجلت، فإذا انجلت سجد، فمن ها هنا صارت زيادة الركعات، ولا تجاوز أربع ركعات في كل ركعة؛ لأنه لم يأتنا عن النبي عليه السلام أكثر من ذلك.

قلت: فيه نظر؛ لأن أبا عمر ذكر في "التمهيد": روي عن أبي بن كعب، عن النبي عليه السلام عشر ركعات في ركعتي الكسوف وأربع سجدات. ثم قال: وهو حديث لين.

ص: وخالف هؤلاء آخرون فقالوا: بل هي ست ركعات في أربع سجدات.

ش: أي خالف الفريقين المَذْكورين جماعة آخرون وأراد بهم: قتادة وعطاء بن رباح وإسحاق وابن المنذر، فإنهم قالوا: صلاة الكسوف ركعتان، في كل ركعة ثلاث ركعات وسجدتان، فالجميع ست ركعات وأربع سجدات.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبى عليه السلام يَقومُ فيركع يعني ثلاث ركعات، ثم يَسْجد سجدتين، ثم يقوم فيركع ثلاث ركعات، ثم يسجد سجدتين- يعني في صلاة الخسوف".

حدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا مسلم بن إبراهيم، قال: ثنا هشام، عن قتادة، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة في صلاة الآيات قال:"ستّ ركعات وأربع سجدات".

ش: أي احتج الآخرون المذكورون فيما ذهبوا إليه بحديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن قتادة بن دعامة، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير بن قتادة بن سعد المكي روى له الجماعة، عن عائشة.

ص: 324

وأخرجه مسلم (1): ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا محمَّد بن بكر، قال: أنا ابن جريج، قال: سمعت عطاء يقول: سمعت عبيد بن عمير، حدثني مَنْ أصدق -حسبته يريد عائشة-: "أن الشمس تكسفت على عهد رسول الله عليه السلام فقام قيامًا شديدًا، يقوم قائمًا، ثم يركع، ثم يقوم، ثم يركع، ثم يقوم، ثم يركع، ركعتين في ثلاث ركعات وأربع سجدات، فانصرف وقد تجلت الشمس

" الحديث.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا إسماعيل بن عُليّة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، قال: أخبرني من أصدق -فظننا أنه يريد عائشة- قالت: "كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، فقام النبي عليه السلام قيامًا شديدًا، يقوم بالناس، ثم يركع ثم يقوم، ثم يركع ثم يقوم، ثم يركع، فركع ركعتين، في كل ركعة ثلاث ركعات، يركع الثالثة ثم يسجد، حتى إن رجالًا يومئذٍ ليُغشى عليهم، فأقام بهم حتى إن سجال الماء لَتُصبّ عليهم، يقول إذا ركع: الله أكبر، وإذا رفع: سمع الله لمن حمده. حتى تجلت الشمس، ثم قال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، يخوّف بهما عباده، فإذا كسفا فافزعوا إلى الصلاة".

وأخرجه النسائي (3) أيضًا.

وقال أبو عُمر: وسَماع قتادة عندهم من عطاء غير صحيح، وقتادة إذا لم يقل: سمعتُ، وخولف في نقله فلا تقوم به حجة؛ لأنه يدلس كثيرًا عمن لم يسمع منه، وربما كان بينهما غير ثقة.

قلت: أراد بهذا الكلام سقوط الاحتجاج بالحديث المذكور، ولكن الذي أخرجه

(1)"صحيح مسلم"(2/ 620 رقم 901).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 305 رقم 1177).

(3)

"المجتبى"(3/ 129 رقم 1470).

ص: 325

مسلم في الرواية المذكورة ليس فيه كلام؛ لأنه أخرجه من حديث ابن جريج عن عطاء، وكذلك أخرجه أبو داود والنسائي.

الثاني: عن محمَّد بن خزيمة، عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): حدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن مثنى، قالا: نا معاذ وهو ابن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير، عن عائشة:"أن نبي الله صلى ست ركعات وأربع سجدات".

وأخرجه النسائي (2): أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: نا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة في صلاة الآيات، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة:"أن النبي صلى عشر ركعات في أربع سجدات. قلت لمعاذ: عن النبي عليه السلام؟ قال: لا شك ولا مِرْية".

قوله: "في صلاة الآيات" أي العلامات مثل الخسوف والكسوف والظلمة الشديدة والريح الشديد والزلزلة ونحو ذلك.

ص: حدثنا أحمد بن الحسن الكوفي، قال: ثنا أسباط بن محمَّد، قال: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن الشمس انكسف يوم مات إبراهيم عليه السلام ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس

" فذكر مثل حديث ربيع عن أسد وزاد أن رسول الله عليه السلام قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فصلّوا حتى تنجلي".

ش: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأسباط بن محمَّد بن عبد الرحمن الكوفي روى له الجماعة، وعبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العَززمي أبو محمَّد الكوفي روى له الجماعة البخاري مستشهدًا، وعطاء هو ابن أبي رباح المكي.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 621 رقم 901).

(2)

"سنن النسائي الكبري"(1/ 570 رقم 1855).

ص: 326

والحديث أخرجه مسلم (1): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا عبد الله بن نمير.

ونا محمد بن عبد الله بن نمير -وتقاربا في اللفظ- قال: نا أبي، قال: نا عبد الملك، عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: "انكسفت الشمس في عهد رسول الله عليه السلام يوم مات إبراهيم بن رسول الله عليهما السلام، فقال الناسُ: إنما انكسفت لموت إبراهيم. فقام النبي عليه السلام فصلّى بالناس ست ركعات بأربع سجدات، بدأ فكبر، ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءة دون القراءة الأولى، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع فقرأ قراءة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه من الركوع، ثم انحدر بالسجود، فسجد سجدتين، ثم قام فركع أيضًا ثلاث ركعات ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها، وركوعه نحوًا من سجوده، ثم تأخر وتأخرت الصفوف خلفه حتى انتهينا -وقال أبو بكر: حتى انتهينا إلى النساء- ثم تقدم وتقدم الناس معه حتى قام في مقامه، فانصرف حين انصرف وقد أضاءت الشمس، وقال: يا أيها الناس، إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحدٍ من الناس -وقال أبو بكر: لموت بشر- فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فصلوا حتى تنجلي

" الحديث.

وأخرجه أبو داود (2): نا أحمد بن حنبل، نا يحيى، عن عبد الملك، نا عطاء، عن جابر بن عبد الله قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، وكان ذلك اليوم الذي مات فيه إبراهيم بن رسول الله عليه السلام، فقال الناس: إنما كسفت لموت إبراهيم، فقام النبي عليه السلام، فصلى بالناس ست ركعات في أربع سجدات، كبّر ثم قرأ فأطال القراءة، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه، فقرأ دون القراءة الأولى، ثم ركع نحوًا مما قام، ثم رفع رأسه، فقرأ قراءة الثالثة دون القراءة الثانية، ثم ركع نحوًا مما

(1)"صحيح مسلم"(2/ 623 رقم 904).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 306 رقم 1178).

ص: 327

قام، ثم رفع رأسه فانحدر للسجود، فسجد سجدتين، ثم قام فركع ثلاث ركعات قبل أن يسجد، ليس فيها ركعة إلا التي قبلها أطول من التي بعدها إلا أن ركوعه نحو من قيامه، قال: ثم تأخر من صلاته، فتأخرت الصفوف معه، ثم تقدم فقام في مقامه وتقدمت الصفوف، فقضى الصلاة وقد طلعت الشمس، فقال: يا أيها الناس، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينكسفان لموت بشر، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فصلوا حتى تنجلي

" وساق بقية الحديث.

قوله: "إبراهيم بن رسول الله عليهما السلام" أمه مارية القبطية، وُلد في ذي الحجة سنة ثمان، وتوفي سنة عشر وهو ابن ثمانية عشر شهرا، هذا هو الأشهر، وقيل: ستة عشر شهرًا، وقيل: سبعة عشر شهرًا، وقيل: ستة عشر شهرًا وثمانية أيام، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وتوفي يوم الثلاثاء لعشر ليالٍ خلت من ربيع الأول سنة عشر، وقد صحَّت الأحاديث أن الشمس كسفت يوم وفاته.

فإن قيل: الكسوف في الشمس إنما يكون في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين في آخر الشهر العربي فكيف تكون وفاته في العاشر؟

قلت: هذا التاريخ يحكي عن الواقدي، وهو ذكر ذلك بغير إسناد، وقد تكلموا فيما يُسنده الواقدي، فكيف فيما يرسله؟!

وقال البيهقي: باب "ما يدل على جواز الاجتماع للعيد وللخسوف لجواز وقوع الخسوف في العاشر"، ثم روى عن الواقدي ما ذكرناه من تاريخ وفاة إبراهيم.

وقال الذهبي في "مختصر السنن": لم يقع ذلك، ولن يقع، والله قادر على كل شيء لكن امتناع وقوع ذلك كامتناع رؤية الهلال ليلة الثامن والعشرين من الشهر.

قوله "آيتان" أي: علامتان.

قوله: "لموت أحد" أي: لأجل موت أحد، وهذا ردّ لما قالوا: كسفت الشمس لموت إبراهيم. وقد كان صادف كسوفها يوم موته كما قلنا، ويقال: هذا ردٌّ لكلام

ص: 328

الضلاّل من المنجمين وغيرهم أنهما لا ينكسفان إلا لموت عظيم أو لحدوث أمر عظيم ونحو ذلك.

قوله: "ولا لحياته" أي: ولا ينكسفان لأجل حياته، وهي عبارة عن ولادة أحد.

قوله: "تنجلي" أي: تنكشف.

ص: قالوا: وقد فعل ابن عباس مثل هذا بعد النبي عليه السلام؛ فذكروا ما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا همام، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث قال:"زلزلت الأرض على عهد ابن عباس فقال: ما أدري أبي أرض -أي رعشة، يعني به ما كان به من النقرس، هكذا ذكر الخَصِيب- أو زلزلت الأرض؟ فقيل له: زلزلت الأرض، فخرج فصلى بالناس، فكبّر أربعًا ثم قرأ فأطال القراءة، وكبَّر وركع، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبّر أربعًا، ثم قرأ فأطال القراءة ثم كبر فركع، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر أربعًا، ثم قرأ فأطال القراءة، ثم كبر فركع، ثم سجد، ثم قام ففعل مثل ذلك، فلما سلم قال: هكذا صلاة الآيات، وقرأ في الركعة الأول سورة البقرة، وفي الأواخر سورة آل عمران".

ش: أي قال هؤلاء الآخرون: وقد فعل عبد الله بن عباس مثل ما قلنا من ست ركعات في أربع سجدات بعد النبي عليه السلام.

وأخرجه عن سليمان بن شعيب الكيسْاني، عن الخَصِيب -بفتح الخاء المعجمة- ابن ناصح الحارثي البصري نزيل مصر -وثقه ابن حبان- عن همام في يحيى روى له الجماعة، عن قتادة، عن عبد الله بن الحارث الأنصاري البصري روى له الجماعة.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث معمر، عن قتادة وعاصم، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس: "أنه صلى في زلزلة بالبصرة، فأطال القنوت، ثم ركع، ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع وسجد، ثم قام في الثانية ففعل ذلك، فصارت صلاته ست ركعات وأربع

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 343 رقم 6175).

ص: 329

سجدات -قال قتادة في حديثه: هكذا الآيات- ثم قال ابن عباس: هكذا صلاة الآيات".

قوله: "ما أدري؟ أبي أَرْضٌ؟ " أي: ما أعلم أي رعدة ورعشة، والأرض بسكون الراء: الرعدة قاله ابن الأثير، قال الجوهري: الأرض: النفضة والرعدة. وقال ابن عباس: أزلزلت الأرض؟ أم بي أرضٌ؟

قوله: "من النقرس" بكسر النون داء معروف.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: بل يطيل الصلاة كذلك أبدًا يركع ويسجد، لا توقيت في شيء من ذلك حتى تنجلي الشمس.

ش: أي خالف الفِرَقَ الثلاثة المذكورين جماعةٌ آخرون، وأراد بهم: سعيد بن جبير، وإسحاق بن راهويه في رواية، ومحمد بن جرير الطبري، وبعض الشافعية؛ فإفهم قالوا: لا توقيت في ركوع صلاة الكسوف بل يطيلها أبدًا، يركع ويسجد إلى أن تنجلي الشمس.

وقال القاضي عياض: قال بعض أهل العلم: إنما ذلك على حسب مكث الكسوف، فما طال مكثه زاد تكرير الركوع فيه، وما قصر اقتصر فيه، وما توسط اقتصد فيه. قال: وإلى هذا نحا الخطابي وإسحاق بن راهويه وغيرهما.

وقد يُعترض عليه بأن طولها ودوامها لا يُعلم من أول الحال ولا من الركعة الأولى، والله أعلم.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا الخَصِيب، قال: ثنا همام، عن يَعْلى بن حكيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لو تجلت الشمس في الركعة الرابعة لركع وسجد".

قال أبو جعفر رحمه الله: فهذا سعيد بن جبير يخبر عن ابن عباس أنه قال: لو تجلت الشمس في الركعة الرابعة لركع وسجد، والرابعة هي الأولى من الركعة الثانية، فهذا يدل على أنه لم يكن يقصد في ذلك ركوعًا معلومًا، وإنما يركع ما كانت الشمس

ص: 330

منكسفةً حتى تنجلي فيقطع الصلاة، وذهبوا في ذلك إلى قول النبي عليه السلام:"فصلوا حتى تنجلي".

ش: أي احتج هؤلاء الجماعة الآخرون فيما ذهبوا إليه من عدم التوقيت في ركوع صلاة الكسوف بقول ابن عباس: "لو تجلَّت الشمس

" إلى آخره، وبقوله عليه السلام: "فصلوا حتى تنجلي" أي إلى أن تنجلي الشمس أي تنكشف.

وفيه نظر؛ لأن قوله عليه السلام: "فصلوا حتى تنجلي" لا يدل على أنه يكثر الركعات في كل ركعة إلى أن تنجلي الشمس، بل يجوز أن يكون المراد تطويل الصلاة بتطويل القراءة إلى أن تنجلي الشمس".

ورجال أثر ابن عباس هذا قد ذكروا غير مرة، وهمام هو ابن يحيى، ويعلي بن حكيم الثقفي المكي روى له الجماعة سوى الترمذي.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: صلاة الكسوف ركعتان كسائر صلاة التطوع، إن شئت طولتهما، وإن شئت قصّرتهما، ثم الدعاء من بعدهما حتى تنجلي الشمس.

ش. أي خالف الفِرقَ الأربعة المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: إبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا، فإنهم قالوا: صلاة الكسوف ركعتان كسائر صلاة التطوع، في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان، ويروى ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأبي بكرة، وسمُرة بن جندب، وعبد الله بن عمرو، وقبيصة الهلالي، والنعمان بن بشير، وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهم.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمروى رضي الله عنهما قال:"كُسفت الشمس على عَهْد النبي عليه السلام فقام بالناس فلم يكد يركع، ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع، وفعل في الثانية مثل ذلك، فرفع رأسه وقد أمحصت الشمس".

ص: 331

حدثنا محمَّد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه وعطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا قبيصة، قال: ثنا سفيان الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال:"انكسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فصلى ركعتين".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا الحجاج بن إبراهيم، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو:"أن النبي عليه السلام صلى في كسوف الشمس ركعتين وأربع سجدات، أطال فيهن القراءة والركوع والسجود".

ش: أي احتج هؤلاء الجماعة الآخرون بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

وأخرجه من خمس طرق:

الأول: بإسنادٍ جيّدٍ صحيح، عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب -قالوا: إنه اختلط، فمن سمع منه قديمًا فهو صحيح وما سمع منه جرير فليس بصحيح. قاله يحيى بن معين.

وأما السائب فهو ابن مالك الثقفي الكوفي وثقه ابن حبان.

والدليل على صحة إسناده: أن الحكم أخرجه في "مستدركه"(1) وقال: صحيح ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب.

قلت: قد أخرج البخاري لعطاء هذا حديثًا مقرونًا بأبي بشر، وقال أيوب: هو ثقة.

(1)"المستدرك على الصحيحين"(1/ 478 رقم 1229).

ص: 332

وأخرج أبو داود (1) أيضًا هذا الحديث وسكت عنه، فهذا دليل على صحته عنده كما هو قاعدته (2) فقال: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فقام رسول الله عليه السلام فلم يكد يركع، ثم ركع فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع، وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم نفخ في آخر سجوده، فقال: أفْ، أفْ. ثم قال: ربِّ، ألم تعِدْني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعِدْني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟! ففرغ رسول الله عليه السلام من صلاته وقد أمحصت الشمس

" وساق الحديث.

قوله: "على عهد النبي عليه السلام" أي في زمانه وأيامه.

قوله: "فلم يكد يركع" يعني لم يكد في القيام واقفًا زمانًا طويلًا، ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه يعني أنه أطال في الركوع.

قوله: "ثم رفع" أي ثم رفع رأسه من الركوع فلم يكد يسجد ووقف زمانًا طويلًا، ثم سجد، فلم يكد يرفع رأسه من السجدة وقعد زمانا طويلًا، ثم رفع رأسه، وفعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى.

قوله: "وقد أمحصت الشمس" معناه: انجلت من الإمْحاص، وأصل المَحص: الخلوص، وقد مَحَّصْتُه مَحْصًا إذا خَلَّصْته، والمحص هو إذا خلص، وقد يدغم فيقال امّحص، ومنه تمحيص الذنوب وهو التطهير منها، وتمحص الظلمة: انكشافها وذهابها، وفي رواية "محضت الشمس" بالضاد المعجمة والمعنى: نصع لونها وخلص نورُها، وكل شيء خلص حتى لا يشوبه شيء يخالطه فهو محضٌ.

(1)"سنن أبي داود"(1/ 310 رقم 1194).

(2)

قد ذكرنا غير مرة في هذا الكتاب أن سكوت أبي داود ليس تصحيحًا منه للحديث، فنص كلامه:"ما فيه ضعف شديدٌ بيَّنته وما سكتُّ عنه فهو صالح". وهذا يقتضي أن ما فيه ضعف ليس بشديد يسكت عنه أيضًا، فسكوت أبي داود لا يفيد إلا أنه ليس فيه ضعف شديد.

ص: 333

الثاني: أيضًا مثله، عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الحجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فقام وقمنا معه، فأطال القيام حتى ظننا أنه ليس براكع ثم ركع فلم يكد يرفع رأسه، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سَجَد فلم يكد يرفع رأسه، ثم جلس فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع رأسه، ثم فعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى

" الحديث بطوله.

الثالث: كذلك أيضًا عن أبي بكرة بكار، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن يَعْلى بن عطاء، عن أبيه، وعن عطاء بن السائب عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث العَقَدي، عن سفيان، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، وعطاء بن السائب عن أبيه، جميعًا عن عبد الله بن عمرو:"انكسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فأطال القيام حتى قيل: لا يركع، فركع فأطال الركوع حتى قيل: لا يرفع، ورفع فأطال حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد حتى قيل: لا يرفع، ثم جلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد فأطال السجود، ثم رفع، وجعل في الأخرى مثل ذلك حتى انجلت الشمس" ثم قال: رواه مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان فزاد:"ثم رفع رأسه فأطال القيام حتى قيل: لا يركع، ثم ركع فأطال الركوع حتى قيل: لا يرفع".

وأخرجه ابن خزيمة في "مختصره الصحيح"(3).

(1)"مسند أحمد"(2/ 159 رقم 6483).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 324 رقم 6106).

(3)

"صحيح ابن خزيمة"(2/ 323 رقم 1393).

ص: 334

الرابع: أيضًا كذلك، عن علي بن شيبة بن الصلت، عن قبيصة بن عقبة، عن الثوري

إلى آخره.

وأخرجه الطبراني: من حديث شعبة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال:"كسفت الشمس، فصلى النبي عليه السلام ركعتين".

الخامس: أيضًا كذلك، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن الحجاج بن إبراهيم الأزرق أبي محمَّد البغدادي نزيل طرسوس، وثقه أبو حاتم والعجلي وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي.

وهو يروي عن خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن يزيد الطحان، روى له الجماعة.

وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن الثوري، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو:"أن النبي عليه السلام يوم كسفت الشمس -يوم مات إبراهيم ابنه- فقام بالناس فقيل: لا يركع، وركع فقيل: لا يرفع، ورفع فقيل: لا يسجد، وسجد فقيل: لا يرفع، وجلس فقيل: لا يسجد، وسجد فقيل: لا يرفع، ثم قام في الثانية ففعل مثل ذلك وتَجلّت الشمس".

ص: حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عمرو بن خالد، قال: ثنا ابن لهيعة، عن موسى بن أيوب، عن عمه إياس بن عامر، أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول:"فرض النبي عليه السلام أربع صلوات، صلاة الحضر أربع ركعات، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الكسوف ركعتين، وصلاة المناسك ركعتين".

ش: عمرو بن خالد بن فروخ أبو الحسن الجزري الحراني نزيل مصر وشيخ البخاري، قال العجلي: مصري ثبت ثقة.

وعبد الله بن لهيعة المصري وإن كان فيه مقال فقد وثقه أحمد وكفى به شاهدًا.

(1)"مصنف عبد الرزاق"(3/ 103 رقم 4938).

ص: 335

وموسى بن أيوب بن عامر الغافقي المصري، وثقه يحيى وأبو داود وابن حبان، وروى له أبو داود والنسائي في "مسند علي" وابن ماجه.

وإياس بن عامر الغافقي المصري، وثقه ابن حبان، وروى له هؤلاء.

قوله: "فرض النبي عليه السلام" معناه: قدّر، وهو معناه اللغوي، وهو المراد ها هنا، وأراد بصلاة المناسك الركعتين اللتين تُصليان عقيب الأطوفة السبعة.

فإن قيل: ما وجه الاستدلال به على أن صلاة الكسوف مثل ما ذهب إليه هؤلاء الآخرون الذين خالفوا الفِرق الأربعة المذكورين، وليس فيه ما يدلّ على ما قالوا؟

قلت: وجه ذلك من وجهين:

أحدهما: أنه نصّ على صلاة الكسوف بأنها ركعتان مطلقًا، والمطلق ينصرف إلى الصلاة المعهودة وهي أن يكون في كل ركعة ركوع واحد وسجدتان.

والآخر: أنها قرنت في الذكر بصلاة السفر وصلاة المناسك وفي ركعة كل واحدة من هاتين الصلاتين ركوع واحد بلا خلاف، فكذلك صلاة الكسوف، ولاسيّما على قول مَنْ يقول: إن القِران في النظم يُوجب القِران في الحكم.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأسود ابن قيس، عن ثعلبة بن عِبَاد، عن سَمُرة بن جُنْدَب رضي الله عنه قال: "تكسفت الشمس على عهد النبي عليه السلام

" فذكر عن النبي عليه السلام أنه صلّى بهم مثل ما ذكر عبد الله بن عمرو سواءً.

حدثنا حسين بن نصر، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا زهير قال: حدثنا الأسود

ثم ذكر بإسناده مثله.

ش: أخرج حديث سمرة بن جندب من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق بن دينار، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي عوانة الوضّاح بن عبد الله اليشكري،

ص: 336

عن الأسود بن قيس العبدي الكوفي روى له الجماعة، عن ثعلبة بن عِبَاد -بكسر العين وتخفيف الباء الموحدة- العبدي البصري، روى له الأربعة.

وأخرجه الأئمة الأربعة (1): قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

والثاني: عن حسين بن نصر بن المعارك، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود، عن زهير بن معاوية، عن الأسود بن قيس

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2) بهذا الإسناد، فقال: ثنا أحمد بن يونس، ثنا زهير، نا الأسود بن قيس، حدثني ثعلبة بن عِبَاد العَبدي ثم من أهل البصرة: "أنه شهد خطبة يومًا لسمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال سمرة بن جندب: بينما أنا وغلامٌ من الأنصار نَرْمي غَرَضيْن لنا حتى إذا كانت الشمس قيد رمحين أو ثلاثة في عين الناظر من الأفق اسودت حتى آضت كأنها تَنُّومَةُ، فقال أحدنا لصاحبه: انطلق بنا إلى المسجد فوالله لَيُحدثنَّ شأن هذه الشمس لرسول الله عليه السلام في أمته حدثًا، قال: فدفعنا فإذا هو بارز، فاستقدم فصلَّى، فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا، قال: ثم ركع بنا كأطول ما ركع بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا، قال: ثم سجد بنا كأطول ما سجد بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا، قال: ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك، قال: فوافق تجلّي الشمس جلوسُه في الركعة الثانية، قال: ثم سلّم، فحمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أنه عبد الله ورسوله

" ثم ساق أحمد بن يونس خطبة النبي عليه السلام.

قوله: "قِيد رمحين" بكسر القاف أي قدر رمحين.

قوله: "حتى آضت" أي رجعت من آض يئض أيضًا.

(1)"جامع الترمذي"(2/ 541 رقم 562)، و"المجتبى"(3/ 152 رقم 1501)، و"سنن ابن ماجه"(1/ 402 رقم 1264).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 308 رقم 1184).

ص: 337

قوله: "تَنُّومَة" بفتح التاء ثالثة الحروف وتشديد النون وضمها وبعدها واو ساكنة وميم: نوع من نبات الأرض فيها وفي ثمرها سواد قليل، ويقال: هو شجر له ثمر كمِدُ اللون.

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن يونس ابن عُبيد، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال:"انكسفت الشمس على عهد النبي عليه السلام فصلّى ركعتين".

حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا المُعلّى بن منصور، قال: أنا يزيد بن زريع، قال: ثنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال:"كنا عند النبي عليه السلام فكُسفت الشمس، فقام بلى المسجد يجرُّ ردائه من العجلة، وثار الناس إليه، فصلّى كما تصلون".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هُشَيم، قال: أنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة:"أن الشمس أو القمر انكسفت على عهد النبي عليه السلام قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم ذلك كذلك فصلّوا حتى تنجلي".

ش: أخرج حديث أبي بكرة نُفَيع بن الحارث بن كلدة الثقفي الصحابي رضي الله عنه من ثلاث طرق رجالها كلهم ثقات، ولكن ذكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه الكبير" عن يحيى: أن الحسن لم يسمع من أبي بكرة، وفي كتاب "التعديل والتجريح" عن الدارقطني: الحسن عن أبي بكرة مرسل.

وقال أبو الوليد في كتاب "الجرح والتعديل": أخرج البخاري (1) حديثًا فيه الحسن سمعت أبا بكرة.

وزعم الدارقطني وغيره من الحفاظ على أن الحسن هذا هو الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ لأن الحسن البصري لم يسمع عندهم من أبي بكرة.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 962 رقم 2557) وقال البخاري: قال لي علي بن عبد الله -وهو ابن المديني-: إنما ثبت سماع الحسن من أبي بكرة بهذا الحديث.

ص: 338

وفي "التلويح شرح البخاري": والصحيح أن الحسن في هذا الحديث هو الحسن بن علي بن أبي طالب، وكذا قاله الداودي فيما ذكره ابن بطال في شرحه.

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي البصري، عن شعبة بن الحجاج، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن الحسن، إما البصري وإما الحسن بن علي كما ذكرنا.

وأخرجه البخاري (1): ثنا محمود بن غيلان، قال: ثنا سعيد بن عامر، عن شعبة، عن يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة رضي الله عنه قال:"انكسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فصلى ركعتين".

فإن قلت: كيف يدل هذا على ما ذهب إليه الفرقة الخامسة من أن الركوع في كل ركعة واحد؟ غاية ما في الباب أنه يدل على أن صلاة الكسوف ركعتان.

قلت: المراد منه ركعتان كل ركعة بركوع واحد، يدل عليه حديثه الآخر "فصلى كما تصلون" وما كانوا يصلون هو كل ركعة بركوع واحد، وبهذا يُردُّ ما زعمه البيهقي من أن المراد ركعتان، في كل ركعة ركوعان كما بَيّنه ابن عباس وغيره.

الثاني: عن علي بن معبد بن نوح المصري

إلى آخره. ويونس هو ابن عبيد.

وأخرجه البخاري (2) بأتمّ منه: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال:"خسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فخرج يجرّ ردائه حتى انتهى إلى المسجد وثاب الناس إليه، فصلى بهم ركعتين، فانجلت الشمس، فقال: إن القمر والشمس آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذاك فصلُّوا وادْعوا حتى يكشف ما بكم. وذاك أن ابنًا للنبي مات يقال له: إبراهيم، فقال الناس في ذاك".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 361 رقم 1013).

(2)

"صحيح البخاري"(1/ 361 رقم 1014).

ص: 339

قوله: "وثار الناس إليه" بالراء من ثار يثور إذا انتشر وارتفع، وأراد به: بادر إليه الناس بالرجوع. وفي رواية البخاري: "وثاب" بالباء الموحدة من ثاب يثوب إذا رجع، وهو أيضًا رجوع إليه بالمبادرة.

الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري، عن سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني شيخ مسلم وأبي داود، عن هشيم بن بشير، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أبي بكرة.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا هشيم، قال: أنا يونس، عن الحسن، عن أبي بكرة قال: "انكسفت الشمس أو القمر على عهد رسول الله عليه السلام فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا كان

كذلك فصلوا حتى تنجلي".

ص: حدثنا إبراهيم بن محمَّد الصيرفي البصري، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا شريك، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام كان يصلي في كسوف الشمس كما تصلون، ركعة وسجدتين".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن عاصم، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير قال:"انكسفت الشمس على عهد النبي عليه السلام فكان يركع ويسجد".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير:"أن النبي عليه السلام صلى في كسوف الشمس نحوًا من صلاتكم، هذه فيركع ويسجد".

حدثنا ابن أبي داود وفهدٌ، قالا: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير أو غيره قال: "كسفت الشمس على عهد النبي عليه السلام فجعل يُصلّي ركعتين ويسلم، ويسأل حتى انجلت، ثم

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 218 رقم 8308).

ص: 340

قال: إن رجالًا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وليس ذلك كذلك، ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل، فإذا تجلى الله عز وجل لشيء من خلقه خشع له".

ش: أخرج حديث النعمان بن بشير الصحابي رضي الله عنه من أربع طرق صحاح.

فإن قلت: كيف حكمت بالصحة لحديث النعمان هذا وقد قال البيهقي: أبو قلابة لم يسمع من النعمان والحديث مرسل؟

قلت: صرّح في "الكمال" بسماعه من النعمان، وقال ابن حزم: أبو قلابة أدرك النعمان وروى هذا الخبر عنه. وصرّح ابن عبد البر بصحة هذا الحديث وقال: من أحسن حديث ذهب إليه الكوفيون حديث أبي قلابة، عن النعمان.

الطريق الأول: عن إبراهيم بن محمَّد الصيرفي البصري، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود، عن شريك بن عبد الله، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجَرْمي أحد الأعلام.

وأخرجه النسائي (1): أنا أحمد بن عثمان بن حكيم، قال: ثنا أبو نعيم، عن الحسن بن صالح، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير:"أن رسول الله عليه السلام صلّى حين انكسفت الشمس مثل صلاتنا، يَركعُ ويَسْجُد".

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن سعيد بن عامر الضبعي

إلى آخره.

وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير:"أن رسول الله عليه السلام صلى في كسوف نحوًا من صلاتهم، يركع ويسجد".

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة

إلى آخره.

(1)"المجتبى"(3/ 145 رقم 1489).

ص: 341

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مسنده" و"مصنفه"(1).

الرابع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلّسي وفهد بن سليمان، كلاهما عن علي بن مَعْبد بن شداد، عن عبيد الله بن عمرو الرَّقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد، عن النعمان بن بشير.

وأخرجه أبو داود (2) مختصرًا: ثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثني الحارث بن عمير البصري، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن النعمان بن بشير قال:"كُسِفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام فجعل يصلى ركعتين ويسأل فيهما حتى انجلت".

وأخرجه النسائي (3): أنا محمَّد بن بشار، قال: نا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن النعمان بن بشير، عن النبي عليه السلام "أنه خرج يومًا مستعجلًا إلى المسجد وقد إنكسفت الشمس، فصلى حتى انجلت، ثم قال: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم من عظماء أهل الأرض، وإن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما خليقتان من خلقه، يُحْدِثُ الله في خلقه ما شاء، فأيهما انخسف فصلّوا حتى تنجلي أو يحدث الله أمرًا".

ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، عن زائدة، عن زياد بن علاقة، قال: سمعت المغيرة بن شعبة قال: "انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم، فقال عليه السلام: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلّوا وادعوا حتى تنكشف".

حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا عبد الرحمن بن زياد (ح).

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 217 رقم 8298).

(2)

"سنن أبي داود"(1/ 310 رقم 1193).

(3)

"المجتبى"(3/ 145 رقم 1490).

ص: 342

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قالا: ثنا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق قال:"انكسفت الشمس، فصلى المغيرة بن شعبة بالناس ركعتين وأربع سجدات".

فدلّ ذلك أن ما كان عَلِمَه من صلاة النبي عليه السلام وحضره مثل ذلك.

ش: هذه ثلاث طرق:

أولها: مرفوع صحيح جدًّا، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك، عن زائدة بن قدمة الثقفي أبي الصلت الكوفي روى له الجماعة، عن زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي أبي مالك الكوفي روى له الجماعة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا عبد الله بن محمَّد، قال: ثنا هاشم بن القاسم، قال: ثنا شيبان أبو معاوية، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:"كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله عليه السلام: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلّوا وادْعوا الله".

وأخرجه مسلم (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير، قالا: ثنا مُصعَب -وهو [ابن](3) المقدام- قال: نا زائدة، قال: ثنا زياد بن علاقة -وفي رواية أبي بكر قال: قال زياد بن علاقة-: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: "انكسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام يوم مات إبراهيم فقال رسول الله عليه السلام إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلّوا حتى تنكشف".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 354 رقم 996).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 630 رقم 915).

(3)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: 343

الثاني: موقوف، عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن عبد الرحمن بن زياد الثقفي الرصاصي، عن زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي

إلى آخره.

وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(1): عن إسماعيل بن عبد الله، عن زكرياء بن أبي زائدة، عن النبي عليه السلام قال:"كسفت الشمس والمغيرة بن شعبة على الكوفة، فقام فصل بالناس، فكنت حيث لا أسمع قراءته، فحزرت قدر سورة من المئين، ثم ركع، ثم رفع فقرأ، ثم ركع، وتجلت الشمس، فركع وسجد، ثم قام في الثانية فقرأ قراءة خفيفة، ثم ركع وسجد".

الثالث: نحوه، عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن زهير بن معاوية

إلى آخره.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده".

قوله: "فدل ذلك

" إلى آخره، إشارة إلى وجه استدلال الفرقة الخامسة بحديث المغيرة بن شعبة، بيانه: أنه روي عن النبي عليه السلام أنه أمر بصلاة الاستسقاء ثم إنه لما صلّى صلاها ركعتين بركوعين وأربع سجدات، فدلّ ذلك أنه إنما صلاّها هكذا؛ لأنه شاهد صلاته عليه السلام هكذا، إذ لو صلاها عليه السلام غير هذا الوجه لما صلاها المغيرة بخلاف ذلك، فافهم.

فإن قلت: حديث عبد الرزاق يدلُّ على أن المغيرة قد صلّى كل ركعة بركوعين.

قلت: يحتمل أن يكون قد صلاها مرتين على الوجهين؛ إذ الروايات في هذا الباب مضطربة، ولكن وجه ترجيح ما ذكرنا سيأتي إن شاء الله تعالى.

ص: حدثنا أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز، قال: ثنا محمَّد بن بشار، قال: ثنا معاذ بن هشام، قال: ثنا أبي، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن قبيصة البجلي قال:"انكسفت الشمس على عهد النبي عليه السلام فصلى كما تصلون".

(1)"مصنف عبد الرزاق"(3/ 104 رقم 4939).

ص: 344

حدثنا ابن أبي داود وفهد، قالا: ثنا ابن معبد، قال: ثنا عبيد الله، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي، أو غيره:"أن الشمس كُسفت على عهد رسول الله عليه السلام فخرج فزعًا يجرّ ثوبه وأنا معه يومئذٍ بالمدينة، فصلى ركعتين أطالهما ثم انصرف وتجلت الشمس، فقال: إنما هذه الآيات يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة".

ش: أخرج أولًا: عن قبيصة البجلي، ثم عن قبيصة الهلالي، وكل منهما صحابي على ما ذكره البعض، وذكر أبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" أولًا قبيصة الهلالي فقال: سكن البصرة وروى عن النبي عليه السلام أحاديث.

ثم ذكر قبيصة آخر فقال: قبيصة يقال: إنه البجلي، ويقال: الهلالي، سكن البصرة، وروى عن النبي عليه السلام حديثًا.

حدثنا أبو الربيع الزهراني، ثنا عبد الوارث، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن قبيصة قال:"انكسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، فنادى في الناس، فصلى بهم ركعتين فأطال فيهما حتى انجلت الشمس فقال: إن هذه الآية تخويفٌ يُخوّف الله تعالى بها عباده، فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأخفّ صلاة صليتموها من المكتوبة".

قال أبو القاسم: روى هذا الحديث عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة وزاد في إسناده: هلال بن عامر، عن قبيصة الهلالي، حدثنيه إبراهيم بن سعيد الطبري، ثنا ريحان بن سعيد، ثنا عباد بن منصور، عن أيوب

وذكر الحديث.

قال أبو القاسم: ولا أعلم لقبيصة الهلالي غير هذا الحديث، انتهى.

وقال أبو نعيم: ذكر بعض المتأخرين قبيصة البجلي وهو عندي قبيصة بن المخارق الهلالي، والبجلي وَهْم.

قلت: كلام البغوي والطحاوي يدل على أنهما اثنان، وأن قبيصة الهلالي هو قبيصة بن المخارق بن عبد الله بن شداد بن معاوية بن أبي ربيعة بن نُهيك بن

ص: 345

هلال بن عامر بن صعصعة الهلالي البصري، وفي "التكميل": روى عنه ابنه قطن وكنانة بن نعيم وهلال بن عامر وأبو عثمان النَّهْدي وأبو قلابة الجَرْمي.

أما حديث قبيصة البجلي فأخرجه عن أبي خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- عبد الحميد بن عبد العزيز، عن محمَّد بن بشار، عن معاذ بن هشام، عن أبيه هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، عن قبيصة البجلي، وهذا إسناد صحيح.

وأما حديث قبيصة الهلالي فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البُرلّسي وفهد بن سليمان، كلاهما عن علي بن مَعْبد بن شداد، عن عبيد الله ابن عمرو الرّقي، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي.

وأشار بقوله: "أو غيره" إلى النعمان بن بشير، كما قال هكذا في حديث النعمان ابن بشير: أو غيره، وأشار به إلى قبيصة الهلالي، وإسناد كل منهما واحدٌ برواة مذكورين في كل منهما.

وأخرجه أبو داود (1): نا موسى بن إسماعيل، نا وهيب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن قبيصة الهلالي قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام

" إلى آخره نحو رواية الطحاوي غير أن في لفظه: "وانجلت".

وأخرجه النسائي (2) أيضًا: أنا إبراهيم بن يعقوب، قال: ثنا عمرو بن عاصم، أن جده عبيد الله بن الوازع حدثه حديث أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: "كسفت الشمس ونحن إذْ ذاك مع رسول الله عليه السلام بالمدينة، فخرج فزعًا يجر ثوبه، فصلى ركعتين أطالهما، فوافق انصرافه انجلاء الشمس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله،

(1)"سنن أبي داود"(1/ 308 رقم 1185).

(2)

"المجتبى"(3/ 144 رقم 1486).

ص: 346

وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم من ذلك شيئًا فصلّوا كأحدث صلاة مكتوبة صليتموها".

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1)، والحكم في "مستدركه" (2): وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.

وقال البيهقي: سقط بين أبي قلابة وقبيصة رجل وهو هلال بن عامر، انتهى.

قلت: أشار بذلك إلى أن الحديث منقطع، وهو صرّح أيضًا بأن أبا قلابة لم يسمع قبيصة، ولكنه غير صحيح؛ لأنه صرّح في "الكمال" وغيره أنه سمع قبيصة، وقال النووي في "الخلاصة": وهذا لا يقدح في صحة الحديث.

قوله: "فَزِعًا" بفتح الفاء وكسر الزاي من الصفات المشبهة.

قوله: "يجر ثوبه" جملة حالية، وكذا قوله:"وأنا معه".

قوله: "إنما هذه العلامات" وهي إشارة إلى كسوف الشمس وغيره نحو خسوف القمر والزلزلة وهبوب الريح الشديدة والظلمة الشديدة، ففي هذه كلها تشرع الصلاة.

وقال ابن قدامة: قال أصحابنا: يصلى للزلزلة كصلاة الكسوف، نصّ عليه أحمد، وهو مذهب إسحاق وأبي ثور.

قال القاضي: ولا يصلى للرجفة والريح الشديدة والظلمة ونحوها.

وقال الآمدي: يُصلّى لذلك ولرَمْي الكواكب والصواعق وكثرة المطر، وحكاه عن ابن أبي موسى.

وقال أصحاب الرأي: الصلاة لسائر الآيات حسنة.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(3/ 334 رقم 6131).

(2)

"المستدرك على الصحيحين"(1/ 482 رقم 1238).

ص: 347

وقال مالك والشافعي: لا يُصلّى لشيء من الآيات سوى الكسوف؛ لأنه عليه السلام لم يصلِّ لغيره.

قلت: الحديث حجة عليهما؛ لأن قوله: "فإذا رأيتموها" أي الآيات عام يتناول كل ما ذكرنا، وقد أمر النبي عليه السلام بالصلاة عند هذه الأشياء، وأمره أقوى من فعله.

وقال أبو عمر: وروي عن ابن عباس أنه صلى في زلزلة.

وقال ابن مسعود: إذا سمعتم هادًّا من السماء فافزعوا إلى الصلاة.

وقال أيضًا: لم يأت عن النبي عليه السلام من وجه صحيح أن الزلزلة كانت في عصره ولا صحت عنه فيها سنة، وقد كانت أول ما كانت في الإِسلام على عهد عمر رضي الله عنه فأنكرها وقال: أحْدَثْتم والله، لئن عادَتْ لأخرُجنّ من بين أظهركم" رواه ابن عيينة.

قوله: "فصلّوا كأحدث صلاة

" إلى آخره يعني كأقرب صلاة، أن حَدَثَ يَحْدُثُ حُدُوثًا وحِدْثَانَا، والحَدَث ضد القدم.

وقال بعضهم: معناه: أن آيةً من هذه الآيات إذا وقعت مثلا بعد الصبح تُصلى ويكون في كل ركعة ركوعان. وإن كانت بعد المغرب يكون في كل ركعة ثلاث ركوعات، وإن كانت بعد الرباعية يكون في كل ركعة أربع ركوعات.

وقال بعضهم: معناه: أن آيةً من هذه الآيات إذا وقعت عقيب صلاة جهرية تصلى ويُجْهَرُ فيها بالقراءة، وإن وقعت عقيب صلاة سرية تُصلَّى ويُخافَت فيها بالقراءة.

قلت: رواية البغوي "كأخف صلاة" تدل على أن المراد كأوقع صلاة من المكتوبة إلى الخفة وهي صلاة الصبح، وأراد به أنها تصلى ركعتان كصلاة الصبح، فافهم، والله أعلم.

ص: 348

ص: فكان أكثر الآثار في هذا الباب هي الموافِقة لهذا المذهب الأخير، فأردنا أن ننظر في معاني الأقوال الأوَل، فكان النعمان بن بشير قد أخبر في حديثه أن رسول الله عليه السلام كان يصلي ركعتين ويُسلِّم ويَسألُ، فاحتمل أن يكون النعمان علِم من النبي عليه السلام السجود بعد كل ركعة، وعلمه مَنْ وافقه على أن النبي عليه السلام صلى ركعتَين ولم يَعْلمه الذين قالوا: ركع ركعتين أو أكثر من ذلك قبل أن يسجد؛ لما كان من طول صلاته، فتصحيح حديث النعمان هذا مع هذه الآثار هو أن يجعل صلاته كما قال النعمان؛ لأن ما روي عن عليّ وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم يدخل في ذلك ويَزيدُ عليه حديث النعمان فهو أولى من كل ما خالفه.

ثم قد شَدَّ ذلك ما حكاه قبيصة من قول رسول الله عليه السلام: "فإذا كان كذلك فصلّوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة فأخْبَرَنا أنه إنما يُصلَّى في الكسوف كما تُصلَّى المكتوبة.

ثم رجعنا إلى قول الذين لم يُوَقِّتُوا في ذلك شيئًا لما رَوَوْه عن ابن عباس، فكان قول النبي عليه السلام في حديث قُبَيصة:"فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" دليلًا على أن الصلاة في ذلك موقتة معلومة لها وقت معلوم وعددٌ معلوم، فبطل بذلك ما ذهب إليه المخالفون لهذا الحديث.

ش: أشار بهذا إلى ترجيح المذهب الأخير وهو المذهب الخامس الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومن تبعه، أي: فكان أكثر الأحاديث التي وردت في باب صلاة الكسوف هي الموافقة لهذا المذهب الأخير وهو مذهب الفرقة الخامسة؛ وذلك لأن أحاديث عبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب وسمرة بن جندب وأبي بكرة نفيع، والنعمان بن بشير، والمغيرة بن شعبة وقبيصة البجلي، وقبيصة الهلالي؛ كلها توافق مذهب هؤلاء كما ذكرنا.

قوله: "فأردنا أن ننظر في معاني الأقوال الأُوَل" إشارة إلى بيان وجه التوفيق بين الأحاديث الواردة في هذا الباب المتضادة بعضها بعضًا، بيان ذلك أن من جملة رواة

ص: 349

صلاة الكسوف النعمان بن بشير؛ فإنه قد أخبر في حديثه أنه عليه السلام كان يُصلي ركعتين ويُسلم، ويسأل حتى انجلت، فيدل ذلك على أنه قد علم من النبي عليه السلام أنه سجد بعد كل ركوع واحد في كل ركعة من الركعتين كما هو كذلك في سائر الصلوات، وعلمه أيضًا كذلك كل مَنْ وافقه من الصحابة في نحو روايته أنه صلى ركعتين.

وأما الذين خالفوه وقالوا: إنه ركع ركوعين أو ثلاثًا أو أربعًا أو أكثر من ذلك قبل أن يسجد فلم يكونوا علموا ذلك من النبي عليه السلام؛ لأجل ما كان يطول صلاته، فإذا كان الأمر كذلك توجّه لنا أن نجعل صلاة النبي عليه السلام في الكسوف كما قال النعمان، وتكون روايته أصلًا في ذلك؛ لأن ما روي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم يدخل فيما قاله النعمان؛ لأن أحاديث الكل تدل على أنه عليه السلام قد صلاها ركعتين، ومع هذا يزيد على أحاديثهم حديث النعمان من قوله:"نحوًا من صلاتكم هذه فيركع ويسجد" وفي رواية: "كما تصلون ركعةً وسجدتين"، وفي رواية:"فجعل يصلي ركعتين ويسلم، ويسأل حتى انجلت"، فإذا كان كذلك يكون الأخذ بحديث النعمان أولى من الأخذ بما خالفه.

فإن قيل: يحتمل أيضًا أن يكون قد ركع ركوعين في كل ركعة في حديث النعمان، ولئن سلمنا عدم احتماله ذلك وتعارض حديثه بأحاديث غيره؛ فالأخذ بأحاديث غيره مثل حديث علي وابن عباس وعائشة أولى لصحتها وشهرتها واشتمالها أيضًا على الزيادة التي ليست في حديث النعمان؛ والزيادة من الثقة مقبولة.

وقد روي عن عروة أنه قيل له: "إن أخاك صلى ركعتين، فقال: إنه أخطأ السنة".

قلت: صريح قول النعمان بن بشير: "صلى في كسوف الشمس نحوًا من صلاتكم هذه، فيركع ويسجد" يقطع الاحتمال المذكور، ولانسلم أولوية الأخذ بأحاديث غيره؛ لما علَّلتم بأنها صحيحة مشهورة؛ لأن حديث النعمان أيضًا صحيح مشهور، وقد ذكرنا أن جماعة من العلماء منهم أبو عمر صححوا حديثه هذا، وأما

ص: 350

الزيادة التي في أحاديث غيره فقد ذكرنا أن رواتها قد ظنوا ذلك لطول قيام النبي عليه السلام فيها، وأما الزيادة التي في حديث النعمان فصريحة ليس فيها مجال للظن والوهم، فحينئذٍ يجب قبول هذه الزيادة لكونها من الثقة.

وأما قول عروة، فقد قال ابن حزم في "المحلى": عروة أحق بالخطأ من أخيه عبد الله الصاحب الذي عمل بعلم، وعروة أنكر ما لم يعلم. وقد ذهب ابن حزم إلى العمل بما صح ورأى عليه أهل بلده، وقد يجوز أن يكون ذلك اختلاف إباحة وتوسعة غير سنة.

قلت: الصواب عندي أيضًا أن لا يقال: اختلفوا في صلاة الكسوف، بل تخيروا، فكل واحد منهم تعلّق بحديث ورآه أولى من غيره بحسب ما أدى اجتهاده إليه في صحته وموافقته للأصول المعهودة في أبواب الصلاة، فأبو حنيفة تعلّق بأحاديث من ذكرناهم من الصحابة رضي الله عنهم ورآها أولى من رواية علي وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم لموافقتها القياس في أبواب الصلاة، على أن في روايتهم احتمالًا وهو ما ذكره محمَّد بن الحسن في "صلاة الأثر" فقال: يحتمل أنه عليه السلام أطال

الركوع زيادة على قدر ركوع سائر الصلوات، فرفع أهل الصف الأول رءوسهم ظنًّا منهم أنه عليه السلام رفع رأسه من الركوع فمَن خلفهم رفعوا رءوسهم، فلما رأى أهل الصف الأول رسول الله عليه السلام راكعًا ركعوا فمَن خلفهم ركعوا، فلما رفع رسول الله عليه السلام رأسه من الركوع رفع القوم رءوسهم ومَنْ خلف الصف الأول ظنوا أنه ركع ركوعين فرووه على حسب ما وقع عندهم، ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة رضي الله عنها كانت واقفةً في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فنقلا كما وقع عندهما، فيحمل على هذا توفيقًا بين الروايات، انتهى.

وفيه نظر؛ لأن هذا الذي ذكره يمكن أن يتمشى في رواية مَنْ روى ركوعين، وأما من روى ثلاث ركوعات أو أربع ركوعات فكيف يتمشى فيه هذا؟! وقد ذكرنا

ص: 351

أنه روي عن أبي بن كعب أنه روى عن النبي عليه السلام عشر ركعات في ركعتي الكسوف وأربع سجدات، ففي هذا ما ذكره من المحال على ما لا يخفى، ولئن سلمنا نقل عائشة وابن عباس لكونهما في صف النساء والصبيان فلا نسلم ذلك في نقل عبد الله بن عمر وغيره.

وقد قال مناظرٌ لمحمد بن الحسن رحمه الله: ألم تعلم أن الحديث إذا جاء من وجهين واختلفا وكانت فيه زيادة كان الأخذ بالزيادة أولى؛ لأن الجائي بها أثبت من الذي نقص الحديث؟ قال: نعم، قال المناظر: ففي حديثنا من الزيادة ما ينبغي أن يرجع إليه، قال محمَّد: فالنعمان بن بشير لا يذكر في كل ركعة ركوعين. قال المناظر: قبلت، فالنعمان يزعم أن النبي عليه السلام صلى ركعتين ثم نظر فلم تنجلِ الشمس فقام فصل ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين، أفنأخذ به؟ قال: لا. قلت: فأنت إذا تخالف قول النعمان وحديثنا. انتهى.

قلت: لقائل أن يقول له كما قال لمحمد سواءً: أنت تأخذ بحديث عائشة وجابر وابن عباس؟ فإن قال نعم. قيل له: قد صحّ عنهم ما ذكر من ثلاث ركعات في كل ركعة وست ركعات، وهذه زيادة، أتأخذ بها؟ فإن قال: لا. قيل له: فأنت إذًا تخالف ما ذكرت أنك اعتمدته، وتخالف أيضًا ما ذهبنا إليه من حجتنا.

وقد رأينا حديث أبي بن كعب حديثًا فيه زيادة.

رواه الحكم (1): من حديث أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال:"انكسفت الشمس فصلى النبي عليه السلام، فقرأ سورة من الطُّوَل وركع خمس ركعات وسجد سجدتين"، وقال: الشيخان لم يخرجا لأبي جعفر الرازي، وحاله عند سائر الأئمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ زائدة ورواته صادقون، وصححه أيضًا أبو محمَّد الأشبيلي، وأقره الحافظان ابن القطان وابن الموَّاق؛ فكان ينبغي أن يَعْمَل بها من قال بقبول الزيادة من الثقة.

(1)"المستدرك على الصحيحين"(1/ 481 رقم 1237).

ص: 352

قوله: "ثم قد شدّ ذلك" أي قد قوّى وأيّد ما ذكرناه من ترجيح حديث النعمان: ما حكاه قبيصة الهلالي من قوله عليه السلام: "فإذا كان كذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة" فإنه أخبر في حديثه أن الذي يُصلي في الكسوف هو كالذي يُصلي من المكتوبة، والباقي ظاهر، والله أعلم.

ص: وأما قولهم: إن النبي عليه السلام قال: "فإذا رأيتم ذلك فصلّوا حتى تنجلي".

فقالوا: ففي هذا دليل على أنه لا ينبغي أن يَقطع الصلاة إذا كان ذلك حتى تنجلي.

فيقال لهم: فقد قال في بعض هذه الأحاديث: "فصلّوا وادعوا حتى تنكشف".

وقد حدثنا فهدٌ، قال: ثنا أحمد بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد -أراه قال: ولا لحياته- فإذا رأيتم ذلك فعليكم بذكر الله والصلاة".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو كريب قال: ثنا أبو أسامة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بُردة، عن أبي موسى رضي الله عنه قال:"خسفت الشمس على زمان النبي عليه السلام، فقام فزعًا -يخْشى أن تكون الساعة- حتى أتى المسجد، فقام فصلى أطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: إن هذه الآيات التي يرسل الله عز وجل لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يُخوّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا منها فافزعوا إلى ذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره".

فأمر النبي عليه السلام بالدعاء عندها والاستغفار كما أمر بالصلاة، فدل ذلك أنه لم يُرد منهم عند الكسوف الصلاة خاصّةً، ولكن أريد منهم ما يتقربون به إلي الله عز وجل من الصلاة والدعاء والاستغفار وغير ذلك.

ص: 353

وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الربيع بن يحيى الأُشْنَاني، قال: ثنا زائدة بن قدامة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة، عن أسماء قالت:"أمر النبي عليه السلام بالعتاقة عند الكسوف"، فدل ذلك على ما ذكرناه.

ش: هذا جواب عما أوردوه على قوله: "فكان قول النبي عليه السلام في حديث قبيصة

" إلى آخره.

تقرير السؤال أن يقال: إن قوله عليه السلام: "فإذا رأيتم ذلك فصلّوا حتى تنجلي" يدل على أنه لا ينبغي أن تقطع الصلاة عند الكسوف ونحوه حتى تنجلي الشمس؛ لأن كلمة "حتى" للغاية، فينبغي أن يكون انتهاء الصلاة عند الانجلاء فتصلّى إلى أن تنجلي، ولا يكون ذلك إلا بتكرار الركوع وتطويل الصلاة وعدم قطعها إلى الانجلاء.

وتقرير الجواب أن يقال: قد ورد أيضًا في بعض الأحاديث "فصلُّوا وادعوا حتى تنكشف"، وفي بعضها:"فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره"، فأمر عليه السلام بالصلاة ثم بالدعاء إلى الانجلاء؛ فدل ذلك على أنه عليه السلام لم يُرِد منهم مجرد الصلاة، بل أراد منهم ما يتقربون به إلى الله تعالى من الصلاة والدعاء والاستغفار وغير ذلك نحو الصدقة والعتاقة ونحوهما، ودل أيضًا على أن الصلاة في ذلك موقتة معلومة لها وقت معلوم وعدد معلوم كما نص عليه حديث قبيصة، فبطل بذلك ما ذهب إليه مَنْ خالفه.

ثم إنه أخرج ها هنا ثلاثة أحاديث -عن ثلاثة من الصحابة وهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما- تدل على ما ذكرنا من أنه عليه السلام لم يُرِد مجرد الصلاة.

أما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه عن فهد بن سليمان، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري وأبي داود، عن أبي بكر بن عياش الأسدي المقرئ الحناط -بالنون- الكوفي روى له الجماعة مسلم في مقدمة كتابه، عن أبي إسحاق

ص: 354

عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن عبد الله بن السائب الشيباني، ذكره ابن أبي حاتم، وقال: يروي عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، وسمعت أبي يقول: هو مجهول.

وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" مطولًا: ثنا زهير بن حرب، ثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا انكسفا فافزعوا إلى، ذكر الله" مختصر من المطول.

قوله: "فإذا رأيتم ذلك" أي كسوف الشمس والقمر.

قوله: "فعليكم" أي الزموا ذكر الله تعالى والصلاة.

وأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فأخرجه بإسناد صحيح: عن فهد بن سليمان أيضًا، عن أبي كريب محمَّد بن العلاء الهمداني الكوفي شيخ الجماعة في الكتب الستة، عن أبي أسامة حماد بن أسامة الكوفي روى له الجماعة، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد المدني روى له الجماعة، عن أبي بردة عامر بن أبي موسى الأشعري روى له الجماعة، عن أبي موسى الأشعري.

وأخرجه البخاري (1): ثنا محمَّد بن العلاء، قال: ثنا أبو أسامة

إلى آخره نحو رواية الطحاوي.

وأخرجه مسلم (2) والنسائي (3) أيضًا.

قوله: "فزعًا" حال، وكذا قوله:"يخشى".

(1)"صحيح البخاري"(1/ 360 رقم 1010).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 628 رقم 912).

(3)

"المجتبى"(3/ 153 رقم 1503).

ص: 355

قوله: "فافزعوا" بالزاي المعجمة أي: الجئوا إلى الذِّكر والدعاء والاستغفار، واستعينوا بها على دفع الأمر الحادث، وأصل الفزع: الخوف ويوضع موضع الإغاثة والنصر والالتجاء؛ لأن مَنْ شأنه الإغاثة والنصر والالتجاء يكون مُراقِبًا حَذِرًا.

وأما حديث أسماء فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح عن محمَّد بن خزيمة بن راشد، عن الربيع بن يحيى الأُشْناني أبي الفضل البصري شيخ البخاري وأبي داود، ونسبته إلى بيع الأُشْنان، عن زائدة بن قدامة الثقفي الكوفي روى له الجماعة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام زوجة هشام بن عروة، روى لها الجماعة، عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.

وأخرجه البخاري (1): ثنا ربيع بن يحيى، ثنا زائدة

إلى آخره نحوه، غير أن لفظه:"كان النبي عليه السلام يأمرنا بالعَتاقة في صلاة الكسوف".

قوله: "بالعَتاقة" بفتح العين، يقال: أعتق العبد يُعتِق -بكسر التاء- عِتقًا وعَتاقًا وعتاقةً، وأعتقتُه أنا.

ص: وروي في ذلك عن أبي مسعود الأنصاري، عن النبي عليه السلام.

ما حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا شجاع بن الوليد، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: سمعت أبا مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلّوا".

فَأُمِروا في هذا الحديث بالقيام عند رؤيتهم ذلك للصلاة، وأُمِروا في الأحاديث الأُوَل بالدعاء والاستغفار بعد الصلاة حتى تنجلي الشمس، فدل ذلك على أنهم لم يؤمروا ألَّا يقطعوا الصلاة حتى تنجلي الشمس، وثبت بذلك أن لهم أن يطيلوا الصلاة إن أحبوا، وإن شاءوا قصّروا ووصلوها بدعاء حتى تنجلي الشمس.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 359 رقم 1006).

ص: 356

ش: أي قد روي أيضًا في الكسوف ما روي عن أبي مسعود الأنصاري واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة، وأراد بتخريج حديثه أن يوفق بينه وبين الأحاديث التي فيها الأمر بالدعاء والاستغفار إلى انجلاء الشمس، وفي حديث أبي مسعود أمر بالقيام إلى الصلاة عند رؤية الكسوف، وجه التوفيق بينه وبين تلك الأحاديث أن هذا الحديث يدل على أن لهم أن يطيلوا الصلاة إلى الانجلاء إذا أحبوا ذلك، وتلك الأحاديث تدل على أن لهم أن يُقصِّروا الصلاة ولكن يَصِلونها بالدعاء والذكر إلى الانجلاء، والمقصود أنه لم يُرِد مجرد الصلاة ولا مجرد الدعاء، بل المراد إشغال الوقت بهما إلى الانجلاء.

فإن قيل: إذا طوّلوا الصلاة إلى الانجلاء لم يكن عملًا بالأحاديث الآخر.

قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الصلاة لا تطول إلا بطول القراءة، أو بكثرة الذكر والثناء في الركوع والسجود، أو بكثرة الأدعية في القعدة، فافهم.

ثم إسناد حديث أبي مسعود صحيح؛ لأن رجاله رجال الجماعة ما خلا ابن مَعْبد.

وأخرجه البخاري (1): ثنا شهاب بن عباد، قال: ثنا إبراهيم بن حميد، عن إسماعيل، عن قيس، قال: سمعت أبا مسعود رضي الله عنه يقول: قال النبي عليه السلام: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموهما فقوموا فصلّوا".

وأخرجه مسلم (2) والنسائي (3) نحوه.

ص: حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا الوُحَاظيُّ، قال: ثنا إسحاق بن يحيى الكلبي، قال: ثنا الزهري، قال: كان كُثيرُ بن العباس يُحَدِّث: "أن عبد الله بن عباس

(1)"صحيح البخاري"(1/ 353 رقم 994).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 628 رقم 911).

(3)

"المجتبى"(3/ 126 رقم 1462).

ص: 357

- رضي الله عنهما كان يُحدِّث عن صلاة النبي عليه السلام يوم خسفت الشمس مثل ما حدَّث به عروة عن عائشة، فقال الزهري: فقلت لعروة: إن أخاك يوم خسفت الشمس بالمدينة لم يزد على ركعتين مثل صلاة الصبح، فقال: أجل، إنه أخطأ السنة".

فهذا عروة والزهري قد ذكرا عن عبد الله بن الزبير أنه صلى لكسوف الشمس ركعتين، وعبد الله بن الزبير رجل له صحبة، وقد حضره أصحاب رسول الله عليه السلام حينئدٍ فلم ينكر ذلك عليه منهم منكر.

فأما قول عروة: "إنه أخطأ السنة" فإن ذلك عندنا ليس بشيء.

ش: ذكر هذا أيضًا تأكيدًا لقوله: فكان قول النبي عليه السلام في حديث قبيصة

إلى آخره، وتأييدًا له، بيان ذلك: أن عروة بن الزبير ومحمد بن مسلم الزهري قد ذكرا عن عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما: "أن النبي صلّى لكسوف الشمس ركعتين"، وعبد الله بن الزبير صحابي مشهور جليل، وقد فعل ذلك كذلك بحضرة أصحاب رسول الله عليه السلام فلم ينكر ذلك عليه أحد منهم، فصار كالإجماع على أن صلاة الكسوف ركعتان.

قوله: "فأما قول عروة

" إلى آخره، جواب عن سؤال مقدر تقريره أن يقال: كيف يكون ما ذكرتم عن عبد الله بن الزبير سُنة والحال أن أخاه عروة قد قال: إنه أخطأ السنة؟

والجواب: أن هذا القول من عروة ليس بشيء؛ لأن عبد الله بن الزبير ما فعل ذلك إلا عن علم، وعروة أنكر ما لم يَعْلم، وقد استوفينا الكلام فيه عن قريب.

ثم إسناد حديث ابن عباس صحيح.

والوُحَاظِيُّ هو يحيى بن صالح أبو زكرياء الدمشقي شيخ البخاري، ونسبته إلى وُحاظة بن سَعْد بضم الواو وبالحاء المهملة والظاء المعجمة.

وإسحاق بن يحيى الكلبي الحمْصي روي له أبو داود والبخاري مستشهدًا، والزهري هو محمَّد بن مسلم بن شهاب، وكثير بن العباس بن عبد المطلب ابن عم

ص: 358

النبي عليه السلام، ممن وُلد على عهد النبي عليه السلام وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وروى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.

وأخرجه البخاري (1) بعد إخراجه حديث عائشة من حديث ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قال: وكان يُحدِّث كثير بن عباس: "أن عبد الله بن عباس كان يحدث يوم خسفت الشمس بمثل حديث عروة عن عائشة، فقلت لعروة: إن أخاك يوم خسفت بالمدينة لم يزد على ركعتين مثل الصبح، قال: أجل؛ لأنه أخطأ السنة".

وأخرجه مسلم (2) وأبو داود (3) والنسائي (4) أيضًا.

ص: وجميع ما بيّناه في هذا الباب من صلاة الكسوف أنها ركعتان، وأن المصلي إن شاء طوّلهما، وإن شاء قصّرهما إذا وصلهما بالدعاء حتى تنجلي الشمس؛ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وهو النظر عندنا؛ لأنا رأينا سائر الصلوات من المكتوبات والتطوع مع كل ركعة سجدتان فالنظر على ذلك أن تكون صلاة الكسوف كذلك، والله أعلم.

ش: [قوله:](5)"وجميع ما بيناه" كلام إضافي مبتدأ، وخبره هو قوله:"قول أبي حنيفة".

قوله: "وهو النظر عندنا" أي: ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن تبعه هو الذي يقتضيه وجه النظر والقياس؛ وذلك لأن سائر الصلوات من الفرائض والسنن والنوافل في كل ركعة منها ركوع واحد وسجدتان، فكذلك ينبغي أن تكون صلاة الكسوف؛ نظرًا وقياسًا عليه، والله أعلم.

(1)"صحيح البخاري"(1/ 355 رقم 999).

(2)

صحيح مسلم (2/ 620 رقم 902).

(3)

"سنن أبي داود"(1/ 307 رقم 1181).

(4)

"المجتبى"(3/ 129 رقم 1469).

(5)

ليست في "الأصل، ك".

ص: 359