المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الرجل يكون في الحرب فتحضره الصلاة وهو راكب، هل يصلى أم لا - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ٥

[بدر الدين العيني]

الفصل: ‌ص: باب: الرجل يكون في الحرب فتحضره الصلاة وهو راكب، هل يصلى أم لا

‌ص: باب: الرجل يكون في الحرب فتحضره الصلاة وهو راكب، هل يصلى أم لا

؟

ش: أي هذا باب في بيان حكم الراكب في الحرب تحضره الصلاة، هل يُصلّي وهو راكب أم لا؟ وإذا صلّى كيف يصلّي. والمناسبة بين البابين ظاهرة لا تخفى.

ص: حدثنا علي بن مَعبد بن نوح، قال: ثنا علي بن مَعبد بن شداد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عدي بن ثابت، عن زرّ، عن حذيفة قال: سمعت النبي عليه السلام يَقولْ يوم الخندق: "شغلونا عن صلاة العصر -قال: ولم يصلها يومئذٍ حتى غابت الشمس- ملأ الله قبورهم نارًا وقلوبهم نارًا وبيوتهم نارًا".

ش: إسناده صحيح ورجاله ثقات.

وأخرجه البزار في "مسنده"(1): ثنا سلمة بن شبيب، نا عبد الله بن جعفر الرقي، نا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسة، عن عديّ بن ثابت، عن ززّ، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا- يعني صلاة العصر".

وهذا الحديث رواه عاصم، عن زر، عن علي رضي الله عنه، وقال عدي عن زر، عن حذيفة. انتهى.

قلت: أخرجه الطحاوي في باب "الصلاة الوسطى" من حديث عاصم، عن زر، عن عليّ رضي الله عنه.

وكذا نحوه أخرجه البخاري (2) ومسلم (3) وأبو داود (4) والترمذي (5) والنسائي (6)

(1)"مسند البزار"(7/ 308 رقم 2906).

(2)

"صحيح البخاري"(3/ 1071 رقم 2773).

(3)

"صحيح مسلم"(1/ 436 رقم 627).

(4)

"سنن أبي داود"(1/ 112 رقم 409).

(5)

"جامع الترمذي"(5/ 217 رقم 2984).

(6)

"المجتبى"(1/ 236 رقم 473).

ص: 272

وأحمد (1) والدارمي (2) والعدني، وقد ذكرنا رواياتهم كلها هناك.

قوله: "يوم الخندق" هو يوم الأحزاب ويوم بني قريظة، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة، وقيل: في الرابعة، والخندق فارسي معرب، وأصله: كَنْده أي: محفور.

قوله: "ملأ الله" جملة دُعائية في صورة الإخبار، والمعنى: اللهم املأ قبورهم نارًا، وإنما جمع في الدعاء بين القبور والقلوب والبيوت؛ ليعمّ ذلك ظواهرهم وبواطنهم في دنياهم وآخرتهم.

وفيه: أن الصلاة قد فاتت من النبي عليه السلام، وعدم جوازها راكبًا في حالة الحرب، وجواز الدعاء على الأعداء بما شاء من الأدعية.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قومٌ إلى أن الراكب لا يُصلّى الفريضة على دابته وإن كان في حال لا يمكنه فيها النزول، قالوا: لأن النبي عليه السلام لم يصل يومئذٍ راكبًا.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: ابن أبي ليلى، والحكم بن عُتَيبة والحسن بن حي؛ فإنهم ذهبوا إلى أن الراكب لا يصلي الفريضة على دابته وإن كان لا يمكنه النزول.

قوله: "قالوا" أي القوم المذكورون؛ لأن النبي عليه السلام لم يصلّ -أي العصر- حال كونه راكبًا فدل على منع ذلك.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: إن كان هذا الراكب يُقاتِل فلا يصلّ، وإن كان راكبًا لا يقاتل ولا يمكنه النزول صلّى.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وزفر ومالكًا وأحمد؛ فإنهم قالوا: إن كان الراكب في الحرب يقاتل لا يصلي، وإن كان راكبًا لا يقاتل ولا يمكنه النزول صلّى، وعند الشافعي يجوز له أن يقاتل وهو في الصلاة من غير تتابع الضربات والطعنات.

(1)"مسند أحمد"(1/ 79 رقم 591).

(2)

"سنن الدارمي"(1/ 306 رقم 1232).

ص: 273

وتحقيق مذاهب العلماء فيه ما ذكره أبو عمر: أما مراعاة القبلة للخائف في الصلاة فساقطة عنه عند أهل المدينة والشافعي إذا اشتد خوفه، كما يسقط عنه النزول إلى الأرض لقوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1) قال ابن عمر رضي الله عنهما: "مستقبل القبلة وغير مستقبلها" وهذا لا يجوز لمصلي الفرض في غير الخوف، وأما قول ابن عمر:"فإن كان خوفًا هو أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها" فإليه ذهب مالك والشافعي وأصحابهما وجماعة غيرهم.

قال مالك والشافعي: يصلي المسافر والخائف على قدر طاقته مستقبل القبلة ومستدبرها وبذلك قال أهل الظاهر.

وقال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه: لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة، ولا يصلي أحد في حال المسايفة.

وقول الثوري نحو قول مالك، ومن قول مالك والثوري: أنه إن لم يقدر على الركوع والسجود فإنه يصلي قائمًا ويومئ بجعل السجود أخفض من الركوع حيث كان وجهه، وذلك عند السلة، والسلة: المسايفة.

قال النووي: وقال الشافعي: لا بأس أن يضرب الضربة أو يطعن الطعنة في الصلاة وإن تابع الضرب أو الطعن أو عمل عملًا بطلت صلاته، وقال الشافعي: لا يجوز لأحدٍ أن يصلي صلاة الخوف إلا بأن يعاني عدوّا قريبًا غير مأمون أن يحمل عليه من موضع يراه، أو يأتيه من يُصدّقه بمثل ذلك من قرب العدو منه ومسيرهم جادّين إليه، فإن لم يكن واحد من هذين المعنيين فلا يجوز له أن يصلي صلاة الخوف، فإن صلوا بالخبر صلاة الخوف ثم ذهب لم يُعيدوا. وقال أبو حنيفة: يعيدون.

وقال الشافعي: الخوف الذي تجوز فيه الصلاة رجالًا وركبانًا إظلال العدو عليهم، فيتراءون معًا والمسلمون في غير حصن حتى ينالهم السلاح من الرَمْي إذا كثر من أن يقرب العدو فيه منهم من الطعن والضرب.

(1) سورة البقرة، آية:[239].

ص: 274

واختلفوا في بناء الصلاة إذا أمن، فقال مالك: إن صلّى آمنًا ركعةً ثم خاف ركب وبنى، وكذلك إن صلى ركعةً راكبًا وهو خائف ثم أمن نزل وبنى، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني.

وقال أبو حنيفة: إذا افتتح الصلاة آمنًا ثم خاف استقبل ولم يبن، وإن صلى خائفًا ثم أمن بنى.

وقال الشافعي: يبني النازل ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف: لا يبني في شيء من هذا كله، انتهى.

وقال أبو بكر الرازي: قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: لا يصلي في حال القتال، فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته.

وقال مالك والليث والثوري: يُصلي إيماءً إذا لم يقدر على الركوع والسجود.

وقال الحسن بن صالح: إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبرّ بدل كل ركعة.

ص: وقد يجوز أن يكون النبي عليه السلام لم يصل يومئذٍ؛ لأنه كان يقاتل، فالقتال عمل، والصلاة لا يكون فيها عمل، وقد يجوزأن يكون لم يصل يومئذٍ؛ لأنه لم يكن أمر حينئذٍ ن يصلي راكبًا، فنظرنا في ذلك.

فإذا ابن مرزوق قد حدثنا، قال: ثنا أبو عامر، وبشر بن عمر، عن ابن أبي ذئب (ح).

وحدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أنا ابن أبي ذئب، عن سعيد المَقبريّ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: "حُبِسْنا يومُ الخندق حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل حتى كُفِينا، وذلك قول الله عز وجل:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (1) قال: فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا فأقام الظهر، فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر، فصلاّها كذلك،

(1) سورة الأحزاب، آية:[25].

ص: 275

ثم أمرَه فأقام المغرب، فصلاّها كذلك، وذلك قبل أن يُنزل الله عز وجل في صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1) ".

فأخبر أبو سعيد رضي الله عنه أن تركهم للصلاة يومئذٍ ركبانًا إنما كان قبل أن يباحَ لهم ذلك، ثم أبيح لهم بهذه الآية، فثبت بذلك أن الرجل إذا كان في الحرب لا يمكنُه النزول عن دابته من خوف العدو، وكذا من سبعٍ، أن له أن يصلي عليها إيماءً، وكذلك لو أن رجلًا كان على الأرض وهو يخاف إن سجد أن يَفْترسه سبع أو يضربه رجل بسيف فله أن يصليّ قاعدًا إن كان يخاف ذلك في القيام، ويومئ إيماءً، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: هذا جواب عما قاله أهل المقالة الأولى، وتقريره من وجهين:

أحدهما: أن ترك النبي عليه السلام الصلاة يومئذٍ إنما كان لأجل كونه مشغولًا بالقتال، فالقتال عمل، وكل عمل يُفسد الصلاة، فالقتال يُفسد الصلاة.

والآخر: يجوز أنه لم يُصلّ حينئذٍ لأنه لم يكن مأمورًا حينئذٍ بالصلاة راكبًا، فلذلك لم يصلّ، ثم أكد صحة الوجه الثاني من التأويل بحديث أبي سعيد الخدري، فإنه صرّح فيه أن تركهم للصلاة ركبانًا يومئذٍ إنما كان لأجل عدم إباحة ذلك لهم، وإنما أبيح ذلك بعد ذلك.

وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي وبشر بن عمر الزّهراني، كلاهما عن محمَّد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه أبي سعيد سعد بن مالك الخدريّ.

وأخرجه النسائي (2) نحوه، ولفظه: "شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة

(1) سورة البقرة، آية:[239].

(2)

"المجتبى"(2/ 17 رقم 661).

ص: 276

الظهر حتى غربت الشمس، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنزل الله عز وجل {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (1) فأمر رسول الله عليه السلام بلالًا فأقام لصلاة الظهر، فصلاها كما كان يُصليها في وقتها، ثم أقامَ للعصر، فصلاها كما كان يصليها في وقتها، ثم أقام للمغرب، فصلاها كما كان يُصليها في وقتها".

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى المصري، عن عبد الله بن وهب، عن محمَّد بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا يحيى، نا ابن أبي ذئب، حدثني سعيد بن أبي سعيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: "حُبِسْنا يوم الخندق عن الصلوات حتى كان بعد المغرب هُوِيًّا، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فلما كفينا القتال وذلك قوله:{وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (1) أمر النبي عليه السلام، بلالًا فأقام الظهر

" إلى آخره نحو رواية النسائي.

قوله: "حُبِسْنا" على صيغة المجهول، أي: منعنا عن الصلوات.

"حتى كان بعد المغرب بهُوِيّ من الليل" أي الزمان الطويل منه، وقال ابن الأثير: يقال: هَوَى يَهْوي هَويًّا -بالفتح- إذا هبط، وهَوَى يَهْوي هُوِيًّا -بالضم- إذا صعد، وقيل بالعكس، وهو يهوي هُويًّا أيضًا إذا أسرع في السير، والهَوِيّ -بالفتح- الحين الطويل من الزمان، وقيل: هو مختص بالليل.

وقال الجوهري: مضى هَوِيٌّ من الليل -على فعيل- أي هزيع منه.

وفي "المطالع": الهُوِيّ قطعة من الليل وقال أيضًا: والهَوِيُّ والهُوِي -يعني بالفتح والضم- المضي والإسراع.

وقال الخليل: هما لغتان بمعنىً، والله أعلم.

(1) سورة الأحزاب، آية:[25].

(2)

"مسند أحمد"(3/ 25 رقم 11214).

ص: 277