الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: التطوع بالليل والنهار كيف هو
؟
ش: أي هذا باب في بيان التطوع كيف يُصلّى في الليل وفي النهار، هل يثنى أو يُربّع؟
والتطوع: ما يفعله الرجل على وَجْه طوعه واختياره من غير إلزام من أحد، ولا موجب له.
والمناسبة بين البابين: من حيث أن كلًا منهما مشتمل على صلاة يؤتى بها على وجه التنفل والتطوع من غير إلزام.
ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال: سمعت علي بن عبد الله البارقي يُحدّث، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وَأُرَاه قد رفعه إلى النبي عليه السلام قال: "صلاة الليل والنهار مَثْنى مَثْنى".
حدثنا فهدٌ، قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الحُنَيْنِي، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام مثله.
ش: هذا طريقان:
أحدهما: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة بن الحجاج، عن يَعْلى بن عطاء العامري روى له الجماعة البخاري في غير "الصحيح"، عن علي بن عبد الله الأزدي البارقي روى له الجماعة سوى البخاري، ونسبته إلى "بارق" جَبل نَزله بَنُو سَعْد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد؛ فسُمّوا به.
وأخرجه أبو داود (1): نا عمرو بن مرزوق، أنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن علي بن عبد الله البارقي، عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام قال:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 29 رقم 1295).
والترمذي (1): نا محمَّد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء
…
إلى آخره نحوه.
والنسائي (2): عن محمَّد بن بشار أيضًا
…
إلى آخره نحوه.
وابن ماجه (3): ثنا علي بن محمَّد، نا وكيع. وثنا محمَّد بن بشار وأبو بكر بن خلاد، قال: ثنا محمَّد بن جعفر، قالا: نا شعبة، عن يعلى بن عطاء
…
إلى آخره.
وقال النسائي (2): هذا الحديث عندي خطأ.
وقال الترمذي (1): اختلف أصحاب شعبة في حديث ابن عمر، فرفعه بعضهم وأوقفه بعضهم وقال: والصحيح ما روي عن ابن عمر، عن النبي عليه السلام أنه قال:"صلاة الليل مثنى مثنى"، وروى الثقات عن عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام ولم يذكروا فيه صلاة النهار.
وقال الخطابي: روى هذا عن ابن عمر: نافعٌ وطاوس وعبد الله بن دينار ولم يذكر فيها أحدٌ "صلاة النهار"، وإنما هو "صلاة الليل مثنى مثنى" إلا أن سبيل الزيادات أن تقبل، وقد قبل.
وسئِل البخاري عن حديث يعلى بن عطاء أصحيح هو؟ فقال نعم.
قلت: لا يلزم من ذلك صحة هذه الزيادة، فيكون قوله: نعم. راجعًا إلى، قوله:"صلاة الليل مثنى مثنى".
والطريق الآخر: عن فهد بن سليمان، عن إسحاق بن إبراهيم الحُنَيْني -فيه مقال، وروى له أبو داود وابن ماجه- وهو يروي عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم والقرشي العَدَويّ العُمريُّ أبي عثمان المدني، عن نافع مولى ابن عمر، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(1)"جامع الترمذي"(2/ 491 رقم 597).
(2)
"المجتبى"(3/ 227 رقم 1666).
(3)
"سنن ابن ماجه"(1/ 419 رقم 1322).
وقد رواه الترمذي مُعلقًا وقال: وقد روي عن عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي عليه السلام نحو هذا.
قوله: "مَثْنى" خبر عن قوله: "صلاة الليل"، و"مثنى" الثاني تأكيد؛ لأنه داخل في حده؛ إذْ معناه اثنين، اثنين، اثنين، اثنين، فعن هذا قالت النحاة: إن مثنى معدول عن اثنين ففيه العدل والصفة.
ص: قال أبو جفر: فذهب قوم إلى هذا فقالوا: هكذا صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، يسلّم في كل ركعتين، واحتجوا بهذه الآثار.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: الحسن البصري وسعيد بن جبير وحماد بن أبي سليمان ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم ذهبوا إلى الحديث المذكور وقالوا: صلاة الليل والنهار ركعتين ركعتين.
وقال ابن قدامة: وصلاة التطوع مثنى مثنى يسلّم من كل ركعتين، والتطوع قسمان: تطوع ليل، وتطوع نهار، فأما تطوع الليل فلا يجوز إلا مثنى مثنى، هذا قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس، والأفضل في تطوع النهار أن يكون مثنى مثنى.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: أما صلاة النهار فإن شئت صليت بتكبيرة ركعتين وإن شئت أربعًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا، واختلفوا في صلاة الليل فقال بعضهم: إن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وإن شئت ستًّا، وإن شئت ثمانيًا، وكرهوا أن يزيد على ذلك شيئًا وممن قال ذلك: أبو حنيفة رضي الله عنه، وقال بعضهم: صلاة الليل مثنى مثنى يُسلّم في كل ركعتين، وممن قال ذلك: أبو يوسف، فإما ما ذكرناه في صلاة النهار فهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الأوزاعي والثوري وعبد الله بن المبارك وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا وإسحاق؛ فإنهم قالوا: صلاة النهار إن شاء يصليها ركعتين وإن شاء يصليها أربعًا، ولكن الأربع أفضل.
ثم اختلف هؤلاء في صلاة الليل، فقال بعضهم -وهم أبو حنيفة وسفيان والحسن بن حي-: إن شئت صليت بتكبيرة واحدة ركعتين وإن شئت صليت أربع ركعات، وإن شئت ست ركعات، وإن شئت ثمان ركعات، وكرهوا أن يزيد على ذلك أي على الثمان.
وقال بعضهم -وهم: أبو يوسف ومحمد وأبو ثور-: صلاة الليل مثنى مثنى، يسلّم في كل ركعتين، وهو قول الطائفة الأولى.
وقال ابن قدامة: وكان إسحاق يقول: صلاة النهار أختار أربعًا، وإن صلى ركعتين جاز، ويشبهه قولُ الأوزاعي وأصحاب الرأي.
وقال بعض أصحابنا: ولا يزاد في الليل على اثنتيْن ولا في النهار على أربع، ولا يصح التطوع بركعة ولا بثلاث، وهذا ظاهر كلام الخرقي.
وقال القاضي: ولو وصل ستًّا في ليل أو نهار كُرهَ وصحّ.
وقال أبو الخطاب: في صحة التطوع بركعة روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لما روى سعيد، قال: ثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه قال:"دخل عمر المسجد، فصلى ركعة ثم خرج، فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعةً. قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص".
قلت: روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي عليه السلام: "أنه نهى عن البُتَيْراء" أخرجه أبو عمر (1)، وقد ذكرناه بإسناده في باب "الوتر".
وفي "التلويح شرح البخاري": قال الثوري: صلِّ ما شئت بعد أن تقعد في كل ركعتين. وهو قول الحسن بن حيّ.
وقال الأوزاعي: صلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة النهار أربع، وبه قال النخعي.
(1) تقدم.
ص: وكان من حجتهم على أهل المقالة الأولى: أن كل من روى حديث ابن عمر رضي الله عنهما سوى عليّ البارقي وسوى ما روى العمريُّ، عن نافع، عن ابن عمر- إنما يُقصد إلى صلاة الليل خاصةً دون صلاة النهار، وقد ذكرنا ذلك في باب "الوتر".
ش: أي وكان من دليلهم -أي دليل أهل المقالة الثانية- على أهل المقالة الأولى، وأشار به إلى الجواب عن الحديث المذكور، وهو أن كل من روى هذا الحديث عن عبد الله بن عمر -غير علي البارقي، وغير عبيد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر لم يذكروا في رواياتهم:"النهار" وإنما ذكروا: "الليل" فقط؛ ولهذا قال الترمذي: ورواه الثقات عن عبد الله بن عمر، عن النبي عليه السلام ولم يذكروا فيه:"صلاة النهار". ولأجل ذلك أيضًا قال النسائي: وهذا الحديث عندي خطأ.
وقال الدارقطني: هذا غير محفوظ، وإنما تعرف:"صلاة النهار" عن يعلى بن عطاء، عن علي البارقي، عن ابن عمر، وقد خالفه نافع -وهو أحفظ منه- فذكر أن صلاة الليل مثنى مثنى والنهار أربعًا، وفي رواية يحيى، عن عبيد الله، عن نافع:"أن ابن عمر كان يصلي بالليل مثنى مثنى وبالنهار أربعًا" ورواه وهب بن وهب القاضي -وهو متروك- عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" ووهم فيه والمحفوظ عن عبيد الله ما ذكرناه.
وروى إبراهيم الحُنيني، عن مالك والعمري، عن نافع، عن ابن عمر يرفعه:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" وكذلك روي عن عبد الله، عن نافع. ولا يثبت عنه، وإنما تعرف هذه اللفظة من رواية الحُنيني.
قال ابن عبد البر: ورواية الحنيني خطأ لم يتابعه عن مالك أحد.
وفي سؤالات "مضر بن محمد": سألت يحيى بن معين عن صلاة الليل والنهار
فقال: صلاة النهار أربع لا يفصل بينهن، وصلاة [الليل](1) ركعتان، فقلت: إن أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. قال: بأيّ حديث؟ قلت: بحديث شعبة، عن يعلى، عن علي الأزدي، عن ابن عمر. فقال: ومَنْ علي الأزدي حتى أقبل منه هذا؟! أَدَعُ يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يتطوع بالنهار أربعًا لا يفصل بينهن" وآخذ بحديث علي الأزدي؟! لو كان حديث علي صحيحًا لم يخالفه ابن عمر.
قال يحيى: وكان شعبة يتقي هذا الحديث وربما لم يرفعه، وقال الفضل بن زياد: قيل لأحمد: رواه أحدٌ عن ابن عمر غير عليّ؟ قال: نعم، إلا أنه أوقفه.
ص: وقد روي عن ابن عمر مِنْ فعله بعد النبي عليه السلام ما يدل على فَسادِ هَذيْن الحَدِيثَيْن أيضًا اللّذَيْن ذكرناهما في أول هذا الباب.
حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يُصلّي بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا".
وحدثنا فهدٌ، قال: ثنا علي بن معبد، قال: ثنا عبيد الله، عن زيْدٍ، عن جَبَلَة بن سُحيم، عن عبد الله بن عمر:"أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعًا لا يفصل بينهن بسلام، ثم بعد الجمعة ركعتين، ثم أربعًا".
فاستحال أن يكون ابن عمر يَرْوي عن النبي عليه السلام ما رواه عنه عليٌّ البارِقيُّ، ثم يفعل هو خلاف ذلك.
ش: هذا جواب آخر عن الحديث المذكور الذي احتجت به الطائفة الأولى، بيانه: أنه قد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يُصَلي بالليل ركعتين وبالنهار أربعًا وذلك بعد النبي عليه السلام، وهذا يدل على فساد الحديث المذكور الذي روي من حديث علي البارقي، عن ابن عمر، ومن حديث العمري، عن نافع، عن ابن عمر؛ وذلك
(1) في "الأصل، ك": النهار. والمثبت هو الصواب.
لأنه يستحيل أن يكون ابن عمر يَرْوي عن النبي عليه السلام ذلك ثم يفعل هو بخلاف ذلك، فلو كان ابن عمر حفظ عن النبي عليه السلام:"صلاة النهار مثنى" لم يكن يرى أن يصلي بالنهار أربعًا.
وقال أبو داود: وفي هذا توهين لحديث علي الأزدي البارقي.
ثم إنه أخرج أثر ابن عمر من طريقين صحيحين:
أحدهما: عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عبيد الله بن عَمْرو الرقي روى له الجماعة، عن نافع، عن ابن عمر.
والآخر: عن فهد أيضًا، عن علي بن معبد بن شداد، عن عبيد الله بن عَمْرو الرقي، عن زيد بن أبي أُنَيْسة الجَزَرِي، عن جبلة بن سُحَيم التَيْمي، عن عبد الله ابن عمر.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه كان يصلي بالنهار أربعًا أربعًا".
ص: وأما ما روى في ذلك عن غير ابن عُمَر، عن النبي عليه السلام:
فحدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أنا عُبَيدة الضبّيُ (ح).
وحدثنا ربيعٌ الجيزيُّ، قال: ثنا علي بن مَعْبد، قال: ثنا عبيد الله بن عمرو، عن زبد بن أبي أُنَيْسة، عن عبيدة (ح).
وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن عبيدة، عن إبراهيم النخعي، عن سهم بن منجاب، عن قزَعة، عن القَرْثعَ، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: "أدمن رسول الله عليه السلام أربع ركعات بعد زوال الشمس، فقلت: يا رسول الله عليه السلام إنك تُدمِنُ هؤلاء الأربع ركعات؟ فقال: يا أبا أيوب، إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء فلم تُرْتَجْ حتى يُصلَّى
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 74 رقم 6635).
الظهرُ، فأحب أن يصعد لي فيهن عمل صالح قبل أن تُرْتَجَ. فقلت: يا رسول الله عليه السلام، في كلهن قراءة؟ قال: نعم، قلت: بينهن تسليمٌ فاصل؟ قال: لا، إلا التشهد".
فقد ثبت بهذا الحديث أنه قد يجوز أن يتطوع بأربع ركعات بالنهار لا يُسلَّم بينهن، مثبت بذلك قول مَنْ ذكرنا أنه ذهب إلى ذلك.
ش: أي: وأما ما روي من التطوع في النهار بأربع ركعات عن غير عبد الله بن عمر من الصحابة رضي الله عنهم فحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
وأخرجه من أربع طرق:
الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت السَّدوسي، عن يزيد بن هارون شيخ أحمد روى له الجماعة، عن عُبَيْدة -بضم العين وفتح الباء- بن مُعَتّب الضبي الكوفي روى له الجماعة سوى مسلم والنسائي، ولكن البخاري مستشهدًا، وفيه كلام كثير، عن إبراهيم النخعي، عن سَهْم بن مَنْجاب بن راشد الضبي الكوفي روى له الجماعة سوى البخاري، عن قَزَعة بن يحيى -ويقال: ابن الأسود- أبي الغادية البصري روى له الجماعة، عن القَرْثَع -بفتح القاف وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة وفي آخره عين مهملة- الضبي، وكان من القراء الأولين، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب "الجرح والتعديل" وسكت عنه، وقال ابن حبان: يروي أحاديث يخالف فيها الثقات.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا أبو معاوية، نا عُبَيْدة، عن إبراهيم، عن سَهْم ابن مَنْجَاب، عن قزعة، عن القَرْثَع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: "أدْمَن رسول الله عليه السلام أربع ركعات عند زوال الشمس، قال: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الركعات التي أراك قد أَدْمَنْتها؟ قال: إن أبواب السماء تفتح عند زوال الشمس فلا تُرْتَجُ حتى يُصلّى الظهر فأُحبُّ أن يَصْعد لي فيها خيرٌ. قال: قلت:
(1)"مسند أحمد"(5/ 416 رقم 23579).
يا رسول الله، تقرأ فيهن كلهن؟ قال: قال: نعم. قال: قلت: ففيها سلامٌ فاصل؟ قال: لا".
وأخرجه أبو داود (1) مختصرًا، وليس في روايته ذكر قَزَعة، وقال: ثنا ابن المثنى، نا محمَّد بن جعفر، نا شعبة، قال: سمعت عُبَيْدة، عن إبراهيم، عن ابن مَنْجَاب، عن قَرْثَع، عن أبي أيوب، عن النبي عليه السلام قال:"أربع قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبوابُ السماء" قال أبو داود: بلغني عن يحيى بن سعيد القطان، قال: لو حَدَّثت عن عُبَيْدة بشيء لحَدّثْتُ بهذا الحديث.
قال أبو داود: عُبيدة ضعيف، وابن منجاب هو سهم.
وقال: البيهقي: وجاء هذا الحديث عن شعبة، وفيه عن سَهْم، عن قزعة، عن قَرْثَع. وقيل: عن قَرْثعَ، عن قزعة.
قوله: "أَدْمَن رسول الله" من قولهم: فلان يُدمن كذا أي يُديمُه.
وقوله: "أربع ركعات" مفعول لقوله: "أدمن".
قوله: "فلم ترتج" أي: فلم تغلق من ارْتَجْتُ الباب إذا أغلقته، والإِرْتاج: الغَلْقُ، ويُرْوَى:"فلن ترتج" ويروى: "فلا تُرتج".
الثاني: عن ربيع بن سليمان الجيزي البصري الأعرج شيخ أبي داود والنسائي -وثقه ابن يونس والخطيب- عن علي بن معبد بن شداد العبدي -وثقه أبو حاتم- عن عُبَيد لله بن عَمرو الرَّقّي روى له الجماعة، عن زيد بن أبي أنيسة الجزري روى له الجماعة، عن عبيدة
…
إلى آخره.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث هشيم وإسماعيل بن زكرياء، كلاهما عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم بن منجاب، عن قزعة، عن قرثع، عن
(1)"سنن أبي داود"(2/ 23 رقم 1270).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(2/ 488 رقم 4356).
أبي أيوب الأنصاري قال: "أدمن رسول الله عليه السلام أربع ركعات يُصلّيهن حين تزول الشمس في منزل أبي أيوب، فقلت: يا رسول الله عليه السلام، ما هذه الصلاة؟ قال: إن أبواب السماء تفتح حين تزول الشمس فلا تُرتَج حتى يُصلّى الظهر، فأحب أن يَصْعَدَ لي فيهن خيرٌ قبل أن تُرتَج أبواب السماء. قال: يا رسول الله عليه السلام، تقرأ فيهن -أو يقرأ فيهن- كلهن؟ قال: نعم. قال: فيهن سلام فاصل؟ قال: لا، إلا في آخرهن".
الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدِي روى له الجماعة، عن إبراهيم بن طهمان بن شعبة الخراساني روى له الجماعة، عن عبيدة
…
إلى آخره.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عبد الرحمن بن سهل الرازي، عن سهل بن عثمان، ثنا محمد بن فضيل، عن عبيدة، عن إبراهيم، عن سهم بن منجاب، عن القَرْثعَ الضبي، عن أبي أيوب قال:"كان رسول الله عليه السلام يصلي أربع ركعات قبل الظهر حين تزول الشمس، فقلت: يا رسول الله، ما هذه الصلاة؟ قال: إن أبواب السماء تفتح عند زوال الشمس حتى يُصلّى الظهر، وإني لأحب أن يرفع لي فيهن عمل صالح".
وفي رواية أخرى له: "قال: تقرأ فيهن؟ قال: نعم. قال: تفصل فيهن بسلام؟ قال: لا".
الرابع: عن عبد العزيز بن معاوية القرشي، عن فهد بن حَيَّان -بالياء آخر الحروف المشددة- النهشلي البصري -ضعفه ابن المديني وأبو حاتم- عن شعبة بن الحجاج، عن عُبَيْدة
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): عن ابن المثنى، عن محمَّد بن جعفر، عن شعبة
…
إلى آخره وقد ذكرناه.
(1)"معجم الطبراني الكبير"(4/ 168 رقم 4031).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 23 رقم 1270).
وأخرجه ابن ماجه (1): عن علي بن محمَّد، عن وكيع، عن عبيدة بن مُعَتّب الضبي، عن إبراهيم، عن سهم بن مِنْجاب، عن قزعة، عن قَرْثَع، عن أبي أيوب الأنصاري:"أن النبي عليه السلام كان يصلي قبل الظهر أربعًا، إذا زالت الشمس لا يفصل بينهن بسلام، وقال: إن أبواب السماء تفتح إذا زالت الشمس".
قوله: "فقد ثبت بهذا الحديث" أي بحديث أبي أيوب الأنصاري، أنه قد يجوز أن يتطوع الرجل بالنهار بأربع ركعات بتسليمة واحدةٍ في آخرهن، فثبت بذلك -أي بحديث أبي أيوب- قول مَنْ ذكرنا أنه ذهب إلي ذلك أي إلى أن التطوع بالنهار هو أربع ركعات بتسليمة واحدة، وهو قول أصحابنا، فإذا كان حجة لهم يكون حجة على مَنْ خالفهم في ذلك.
فإن قيل: قال أبو جعفر المعروف بالإمام: رأيت أبا عبد الله وإسحاق بن أبي إسرائيل في المسجد الجامع قبل الصلاة، فصلى أبو عبد الله عشر ركعات ركعتن ركعتين، وصلى إسحاق ثمان ركعات أربعًا أربعًا لم يفصل بينهن بسلام. فقلت لإسحاق، فقال: حديث أبي أيوب أن النبي عليه السلام كان يصلي قبل الظهر أربعًا لا يفصل بينهن بسلام. فجئت إلى أبي عبد الله فسألته فقال: حديث شعبة عن يعلى بن عطاء، فذكر الحديث الذي مضى ذكره في أول الباب، قال: فقلت: فحديث أبي أيوب في الأربع؟ قال: هذا رواه قَرْثعَ وقَزْعة، ومن قَرْثَع وقَزْعة؟! انتهى.
وفي "صحيح ابن خزيمة"(2): وأما الخبر الذي احتج به بعض الناس في الأربع قبل الظهر بتسليمة -حديث أبي أيوب- فإنه روي بسند لا يَحتَجُّ بمِثله مَنْ له معرفة برواية الآثار، وروي شبيهًا به عن المسيب بن رافع، عن علي بن الصلت، عن أبي أيوب مرفوعًا إلا أنه ليس فيه:"لا يسلم بينهن" ولست أعرف عليًّا هذا
(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 365 رقم 1157).
(2)
"صحيح ابن خزيمة"(2/ 223 رقم 1215).
ولا أدري من أيّ بلاد الله تعالى، ولا أفهم أَلقِيَ أبا أيوب أم لا؟ ولا يحتج بمثل هذه الأسانيد إلا معاند أو جاهل.
قلت: الجواب عليه من وجهين:
الأول: بطريق المنع، فنقول: قول أبي عبد الله: "مَنْ قَرْثَع وقَزْعة؟ " لا يلزم منه تضعيفهما ولا تضعيف الحديث بهما؛ لأن قزعة روى له الجماعة، وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأما قَرْثَع فإنه تابعي، ولما أخرج أبو داود حديثه عن أبي أيوب لم يضعفه بقرثع وإنما ضَعّفه بعُبَيْدة بن معتب.
فإن قيل: فحينئذٍ ثبت المدعى، وصار الحديث ضعيفًا وهو الوارد عليكم.
قلت: يحتمل أن يكون عبيدة ثقة عند الطحاوي، وقال أبو زرعة: ليس بقوى. وقال ابن عدي: يكتب حديثه.
وأما تشنيع ابن خزيمة فغير رائج ولا طائل؛ لأنه متحامِلٌ فيما قاله، وقد قال أبو نعيم الحافظ في كتاب "قربان المتقين": روى حديث أبي أيوب عنه أبو أسامة، عن ابن زَحْر، عن علي بن القاسم، والشعبي من حديث السريّ بن إسماعيل ومحمد بن أيوب من حديث السكن بن أبي كريمة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه.
ورواه ثوبان عن النبي عليه السلام كرواية أبي أيوب من حديث صالح بن جبير، ثنا أبو أسماء الرحبي، عنه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه من رواية عبد الله بن محمَّد بن فاختة، ثنا هارون، ثنا علي بن عاصم، عن يحيى البكاء، عن ابن عمر، عنه.
وعبد الله بن السائب من رواية ابن أبي ليلى، عن عبد الكريم، عن مجاهد، عنه.
والعباس بن عبد المطلب من رواية موسى بن عبيدة، عن سعيد بن أبي سعيد مولى أبي بكر، ثنا محمَّد بن عمرو بن حزم، عن أبي رافع، عنه.
والفضل بن عباس من رواية عبد الرحمن بن حميد الطائي، عن أبيه، عن أبي رافع، عنه.
وأم سلمة من رواية عمر بن قيس، عن ابن جبير، عنها.
الجواب الثاني: بطريق التسليم وهو أن نقول: ولئن سلمنا ضعف هذا الحديث، فالأحاديث الضعيفة يحتج بها في أبواب الفضائل والرغائب، وما نحن فيه من هذا القبيل، وأيضًا يجوز أن يكون ذُكِرَ هذا الحديث متابعة لا روى في هذا الباب من الصحيح، فافهم.
ص: وقد روي هذا أيضًا عن جماعة من المتقدمين، حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن عُبَيدة، عن إبراهيم قال:"كان عبد الله يُصلي أربع ركعات قبل الظهر، وأربع ركعات بعد الجمعة، وأربع ركعات بعد الفطر والأضحى، ليس فيهن تَسليم فاصل، وفي كلهن القراءة".
حدثنا أبو بشر الرّقي، قال: ثنا أبو معاوية الضرير، عن مُحِلّ الضبي، عن إبراهيم:"أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا لا يفصل بينهن بتسليم".
حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حُصَيْن، عن إبراهيم قال:"ما كانوا يسلّمون في الأربع قبل الظهر".
حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا يوسف بن عدي، قال: ثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، قال:"سأل محل الضَبيٌّ إبراهيم عن الركعات قبل الظهر أيُفْصَلُ بينهن بتسليم؟ فقال: إن شئت اكتفيت بتسليم التشهد وإن شئت وصلت".
حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا سعيد بن عامر، قال: ثنا شعبة، عن أبي معشر، أن إبراهيم قال:"صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، إلا أنك إن شئت صليت من النهار أربع ركعات لا تسلم إلا في آخرهن".
قال أبو جعفر رحمه الله: فقد ثبت حكم صلاة النهار على ما ذكرنا وروينا في هذه الآثار، لم يَدْفع ذلك ولم يعارضه شيء، وأما صلاة الليل فقد ذكرنا فيها من الاختلاف ما ذكرنا في أول هذا الباب.
ش: أي وقد روي التطوع بالنهار بأربع ركعات بتسليمة واحدة في آخرهن عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وأخرج عن الصحابة: عن ابن مسعود رضي الله عنه من طريقين:
أحدهما: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن إبراهيم بن طهمان الخراساني، عن عُبَيْدة بن مُعَتّب الضبي الكوفي، عن إبراهيم النخعي قال: كان عبد الله
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): عن عباد بن عوّام، عن حصين، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: "أربع قبل الظهر لا يُسلّم بينهن إلا أن يتشهد" انتهى.
قلت: رواية إبراهيم عن عبد الله مرسلة.
والآخر: عن أبي بشر عبد الملك بن مروان الرقي، عن أبي معاوية الضرير محمَّد ابن خازم روى له الجماعة، عن مُحِل -بضم الميم وكسر الحاء المهملة- بن محرز الضبي الأعور الكوفي -وثقه ابن معين وأحمد، وقال النسائي: ليس به بأس.
وأخرج عن إبراهيم من ثلاث طرق:
الأول: عن علي بن شيبة بن الصلت، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي روى له الجماعة.
وهذا إسناد صحيح.
الثاني: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي روى له الجماعة، عن مغيرة بن مقسم الضبي روى له الجماعة.
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(2/ 17 رقم 5945).
قوله: "أَيُفْصلُ" الهمزة فيه للاستفهام.
الثالث: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن سعيد بن عامر الضُّبَعي، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي معشر زياد بن كليب الكوفي، أحد مشايخ أبي حنيفة، روى له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
قوله: "لم يدفع ولم يعارضه" تنازعا في قوله: شيء، وقد عُرِفَ أن الإعمال في مثل هذا للثاني عند البصرية، وللأول عند الكوفية.
ص: وكان من حجة الذين جعلوا له أن يُصلي بالليل ثمانيًا لا يَفْصِل بينهن بتسليم: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة منها الوتر ثلاث".
فقيل لهم: فقد روى الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها:"أنه كان يُسَلِّم بين كل اثنين منهن".
وهذا الباب إنما يؤخذ من جهة التوقيف والاتباع لِمَا فعل النبي عليه السلام وأمر به وفعله أصحابه من بعده، فلم نجد عنه من قوله ولا من فعله أنه أباح في الليل بتكبيرة أكثر من ركعتين، فبذلك نأخذ، وهو أصح القولين عندنا في ذلك، والله أعلم.
ش: أراد بهؤلاء الذين جعلوا للمتطوع أن يُصلي بالليل ثمان ركعات بتسليمة واحدة: الثوري والحسن بن حيّ وأبا حنيفة رحمهم الله؛ فإنهم استدلوا على ذلك بما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعةً منها الوتر ثلاث.
وقد أخرجه مسندًا في باب الوتر، ولما كان اختيار الطحاوي في هذا ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد من أن التطوع بالليل لا يزاد على ركعتين بتسليمة واحدة، ذكر استدلال هؤلاء، ثم أجاب عنه بقوله:"فقيل لهم" أي لهؤلاء الذين جعلوا له أن يصلي بالليل ثمانيًا بتسليمة واحدة: "فقد روى الزهري، عن عروة، عن عائشة
…
" إلى آخره.
وقد أخرجه في باب "الوتر" بقوله: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس وعمرو بن الحارث وابن أبي ذئب، عن ابن شهاب أخبرهم، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله عليه السلام يُصلّى فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يُسلِّم بين كل ركعتين
…
" الحديث.
وقد ذكرنا هناك أن مسلمًا (1) وأبا داود (2) أخرجاه أيضًا.
قوله: "وهذا الباب" أشار به إلى باب كيفية إقامة النوافل.
قوله: "فبذلك نأخذ" أي بما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يسلم بين كل ركعتين من النوافل.
قوله: "وهو أصح القولين عندنا في ذلك" أي هذا الذي أخذنا هو أصح القولين، وأراد بهما قول أبي حنيفة ومن تبعه، وقول أبي يوسف ومحمد، وبقولهما قال الشافعي ومالك وأحمد أيضًا كما ذكرناه، والله أعلم.
(1)"صحيح مسلم"(1/ 508 رقم 736).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 39 رقم 1336).