المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأذكار الشريفة بين القديم والحديث - نسيمات من عبق الروضة

[أمل طعمة]

الفصل: ‌الأذكار الشريفة بين القديم والحديث

‌الأذكار الشريفة بين القديم والحديث

(برمجة العقل وتعديل السلوك)

كثر في هذا الزمان أهمية علم النفس، وذاع صيت البرمجة العصبية التي تناولت مواضيع النفس وتعديل سلوكها من خلال تعديل القناعات الشخصية.

ولعل مثل هذه الأبحاث ليست جديدة في علم النفس وتعديل السلوك، إلا أن طرحها لغير المختصين وبطريقة مبسطة وضمن خطوات وإطارات جديدة هو الذي جعل منها حديث الألسن.

ويقصد بمفهوم تعديل السلوك في علم النفس: تغيير السلوك من خلال تغيير ظروف البيئة المحيطة.

واختلفت نظريات تعديل السلوك وفق اتجاه المدارس في علم النفس. فالمدرسة السلوكية تركّز على الجانب الذي تستحق من أجله إجراء التغيير، وهي البيئة بمثيراتها المختلفة مثل التعزيز الإيجابي .. أما أصحاب النظرية المعرفية فمركز اهتمامهم الرئيسي هو تغيير إدراك

ص: 9

الفرد للمواقف التي يسلك فيها سلوكاً ما، والاهتمام هنا منصب على تعديل قناعات الفرد وافتراضاته التي قد تكون غير صحيحة نحو الأشياء أو الآخرين أو الحياة. أما أصحاب النظريات الإنسانية فيركّزون على تغيير إدراك الفرد لذاته، فهي تفترض أن مفهوم الفرد لذاته هو العامل الرئيسي وراء أنماط سلوكه المختلفة.

وهذه النظريات تستخدم أساليب كثيرة في تعديل السلوك من تعزيز وعقاب، أو أسلوب الإطفاء (الإمحاء) وهو الذي يستند إلى أن السلوك الذي يعزّز يقوى ويستمر، والذي لا يُعزّز يضعف وقد يتوقف نهائياً.

وإن المتصفح لهذه العلوم ليجد جلّ تركيزها يتجه نحو توجيه الفرد نحو قناعات وتكرارها حتى تصبح جزءاً من بنائه المعرفي وطريقة تفكيره.

ولعل ما دعاني أن أتحدث عن هذا الموضوع هو تشابه عمل الأذكار اليومية في حياتنا لكثرة تكرارها، وعمق معانيها، وطريقة معالجتها الصحيحة للقناعات ووجهة التفكير في كل ظرف وفق الحاجة، مع نظريات تعديل السلوك الحديثة، مما يجعلها أول من استخدم طريقة

ص: 10

البرمجة وعلم النفس الحديث من أجل بناء التفكير السليم وتعزيز السلوك الصحيح في الفرد.

هذا هو الجانب المعرفي الحديث للأذكار، أما الجانب الروحي فقد عرفه الأولون وتمسكوا به ففازوا ونجوا من الأمراض النفسية التي يعاني منها الكثيرون في عصر باتت فيه العيادات النفسية كثيرة وأساسية في حياة الناس سيما في الغرب .. ولم يضر الأولين عدم معرفتهم بأصول هذا العلم، إذ عملوا به فأخذوا الوقاية قبل العلاج، فعاشوا سعداء وبنوا حضارة ما عرف التاريخ أزهى وأبهى منها.

وقد ذكر ابن القيم في كتابه (الوابل الصيب من الكلم الطيب) تسعاً وسبعين فائدة لذكر الله. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن معاذاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلى اللهِ عز وجل؟ قال: " أَنْ تَمُوْتَ وَلِسَانَكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عز وجل"(1). وعنه أيضاً رضي الله عنه مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم " لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الجَْنَّةِ إِلا عَلَىْ سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوْا اللهَ فِيْهَا"(2).

(1) ابن حبّان الحديث: 818.

(2)

شعب البيهقي الحديث: 538.

ص: 11

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:

" لِكُلِّ شَيْءٍ صِقَالَةً، وإِنَّ صِقَالَةَ الْقُلُوْبِ ذِكْرُ اللهِ عز وجل. وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَنْجَىْ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ " قالوا: وَلا الْجِهَادَ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ؟ قال:" وَلا الْجِهَادَ إِلا أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّىْ يَنْقَطِعَ"(1). ويذكر ابن القيم أن في القلب قسوة لايذيبها إلا ذكر الله تعالى، فقد ذكر حماد بن زيد عن المعلى بن زياد أن رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي. قال: أذبه بالذكر.

والذكر أصل موالاة الله عز وجل ورأسها، والغفلة أصل معاداته ورأسها، فإن العبد لايزال يذكر ربه عز وجل حتى يحبه فيواليه، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه. (2)

فكأن العلم الشرعي قديماً كان يركّز على تقديم العمل عن التفكّر في فوائده وآثاره، وذلك لكثرة التصاقهم بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وحبهم الشديد للاقتداء به، أما في عصرنا الحديث فقد قست القلوب وشردت عن الحبيب الحقيقي، وثقلت بالارتباط الأرضي المادي عن السباحة في الملكوت العلوي والاتصال بالمصدر الأصيل للسعادة

(1) الدعوات الكبير الحديث: 18.

(2)

انظر كتاب: الوابل الصيب من الكلم الطيب. للإمام ابن قيم الجوزية. ص 66.

ص: 12

والحبور. فما وجدنا الصحابة يعدّدون فوائد العبادة والأذكار، فهو شيء بديهي لأن الآمر هو الله الخالق العليم الحكيم، كان جل اهتمامهم أن تقع قدمهم فوق قدم الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتلامس أرواحهم ملكوت السموات والأرض وتلتقي هناك مع المصطفى صلى الله عليه وسلم، فحصدوا الثمار الطيبة من غير عنت. أما نحن فقد ألهتنا الجواذب الأرضية فانشغلنا في النظر بالشكل والهيئة عن الجوهر والمضمون، وبالعلم العقلي عن تذوق هذا العلم والعمل به، فجاء علمنا ناقصاً لا فائدة منه سوى تسطير السطور وقراءة الحروف من غير طعم أو رائحة، إلا من رحم ربي. والبون شاسع بين الأولين والآخرين! إلا أن نعود إلى تذوقه كما ذاقه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وننهل من نفس النبع قبل أن يصيبه الكدر وتشوبه المشارب الأخرى.

ص: 13