المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ما يقول إذا لبس ثوبا - نسيمات من عبق الروضة

[أمل طعمة]

الفصل: ‌ما يقول إذا لبس ثوبا

‌ما يقول إذا لبس ثوباً

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا لبس ثوباً أو قميصاً أو رداءً أو عمامة يقول:

((اللهم إني أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما هو له)).

وروى معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لبس ثوباً جديداً فقال:

((الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، غفر الله له ما تقدم من ذنبه)).

حالان ومعنيان مختلفان في هذين الدعاءين. وصورتان متناقضتان يمكن أن تمرا في الخيال .. الصورة الأولى صورة فتاة بثوب جميل فتّان تسير بزهو وافتخار، والصورة الثانية لفتاة ترتدي من اللباس الجميل تعلوها السكينة والوقار.

ص: 21

هاتان الصورتان شديدتا الصلة بالدعاء الأول فهو تذكير بغاية اللباس للإنسان، فهو كساء لستر العورة هو (لباس التقوى) هذا هدفه.

لذا فهو يسأل الله عز وجل الخير من هذا اللباس، لا لأجل عرض الأزياء ولا لكسب مزيد من الإعجاب وجمع ألسنة الثناء على هيئته ولونه و (موديله) .... إنه تذكير بالهدف الأساسي من اللباس.

(يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سواتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون)(1).

أما التعوّذ من شره فهو يذكّر المسلم أن اللباس قد يكون شراً للإنسان .... كيف ذلك؟

عندما يتجاوز هدفه الخيّر في الستر إلى التأنق والتفاخر بين الناس

يقول صلى الله عليه وسلم:" مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ، لَمْ يَنْظُرِ الله إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(2).

وقد يتعدى الشر إلى لبس لباس غير محتشم وإثارة الفتنة بين الناس فيكون سبباً في تحريض الغرائز وبداية للرذائل والعياذ بالله

(1) سورة الأعراف: 26

(2)

أخرجه البخاري 10/ 223 في اللباس.

ص: 22

تخيل فتاة تدخل محل ألبسة تجول بين بضائعه المتنوعة من ألبسة الكاسيات العاريات إلى ألبسة محتشمة، أيهما تختار؟ وهي في حيرتها هذه همست إحدى صديقاتها .. البسي على الموضة، انظري ما أجمل هذا الثوب جربيه سيكون جميلاً عليك

وبين تردد النفس ووسوسة شياطين الإنس اندفعت تلك الفتاة إلى غرفة القياس لتجربه .. وعندما لبسته تذكرت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، كيف سيكون قرارها إن ذاقت معاني هذا الدعاء؟

إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم صمام أمان للمسلم الحريص على دينه المتبع لهديه، فهو يعصمه من الزلل قبل أن يقع فيه، لذا زوّده بهذه الكنوز .... في كل موقف دعاء يمثل الحالة الإيمانية التي يجب أن يكون عليها ليكون ممن (أتى الله بلقب سليم)(1).

إن من يعيش مع أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم تكون له بوصلة لما يجب أن يكون حاله مع الله في حياته ولو في أصغر تفاصيلها، وكل ذلك حتى لا يشذ عن الطريق قيد أنملة ولا تكون الدنيا بملهياتها حاجباً عن الله.

(1) سورة الشعراء: 89

ص: 23

تُرى ما هي الصورة التالية التي ستتخيلون بها الفتاة لو تذكرت هذه المعاني؟

صورة شراء هذا اللباس أم البحث عن آخر يحقق شرط الدعاء؟

ثم لننتقل إلى صورة أخرى وموقف آخر .. صورة فتاة تلبس لباساً يحقق الشرط وجميل

فتلبسه معجبة به تتبختر كالعروس ثم تتذكر الدعاء فيلفظه لسانها فإذا بلون وجهها يشحب وببسمتها تتلاشى .. ماذا حصل؟ لقد خشيت من (من شره). أليس الله يقول بكتابه العزيز أن أغلب وسائل الغفلة عن الله هما حب التكاثر والتفاخر؟ تكاثر في الأموال والأولاد، وكل هذا وذاك يعني الانشغال بالنعمة في الحياة الدنيا ونسيان المنعم. وماذا يعني هذا؟ إنه يعني البعد عن الله والانقياد وراء الشهوات والغفلة عن حقيقة الدنيا على الوصول إلى المقابر دون زاد.

(ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر) (1).

(اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم

(1) سورة التكاثر: 1 - 2.

ص: 24

يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) (1).

صحيح أن الدعاء قد غيّر من تعابير وجه تلك الفتاة، لكن هذا الحزن الذي دام للحظات قد حجبها عن الحزن يوم القيامة، عندما لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، إذ إنه قد أعانها ومنعها من التردي في مهالك (ألهاكم التكاثر).

إنّ هذه الصمامات معينة للإنسان المسلم على هذه الحياة وملهياتها فهي تحجزه عن الغلو والذنوب والتنكّب عن الطريق وتحذّره قبل الوقوع

إنها رحمة نبوية وهدي شريف كريم

رحيم بالمسلم.

هذا سر أن لكل عمل نقوم به دعاء شريف، إنه مفتاح الخير للمسلم ومغلق الشر قبل أن يقع، شرط أن تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتفتح عقلك وقلبك عندما يلهج لسانك بذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم. أما الدعاء الثاني فإن ثوابه وأجره غفران من الله لذنبه .... إنه ثواب عظيم. لماذا يستحقه المسلم يا ترى إن ألزم لسانه بقوله؟

(الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة)

(1) سورة الحديد: 20

ص: 25

إنه الحمد .. على ماذا؟ على الكساء من غير كسب مني ..... لكن الإنسان هو الذي كدّ وتعب حتى جمع المال الذي اشترى به هذا الثوب فكيف يقول (من غير حول مني ولا قوة).

ولماذا عليه أن يردد ذلك عند لباسه؟

من الذي أعطانا القوة حتى عملنا بعمل كسبنا منه المال والثروة؟ أليس الله؟ ومن الذي أعطانا العقل لنتعلّم العلم الذي عملنا به فأخذنا الدنانير والدراهم؟ أليس الرزاق؟!

(إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين)(1).

إنه ردّ النعمة للمنعم الحقيقي وللرزاق الأصيل.

وماذا يحصل للمسلم إن تذكّر أن المنعم الحقيقي هو الله؟ إن من يتذكر أن صاحب النعمة الحقيقي هو الله عز وجل هل يغتر بهذا المال؟ هل يلهيه كسب المال وتكاثره عن الآخرة والعمل لها؟

هل تفتنه الدنيا والمال وتجعله يلهث طوال حياته وراءها متناسياً حقوق الله وحقيقة الحياة الدنيا بفنائها وحقيقة دار الخلود؟ هل يقع في (ألهاكم التكاثر (1) حتى زرتم المقابر) (2)

(1) سورة الذاريات: 58

(2)

سورة التكاثر: 1 - 2.

ص: 26

ألم يقل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أنه لا يخشى على أمته أن تعود إلى الكفر بل يخشى عليها فتنة الدنيا أو الدنيا أن تنافسوها؟

فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ:" صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ:" إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ، وَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْحَوْضُ وَإِنِّي لَأَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوهَا". (1)

ألم يقل الله عز وجل (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ وأن الله عنده أجرٌ عظيمٌ)(2).

ما صمام الأمان من هذه الفتنة؟ وهذا الشر؟

(يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون)(3).

تذكّر المنعم، وتذكّر أنها نعمة من الله

وسيلة وليست غاية.

فمن تذكّر بداية يومه يوم الحشر ثم تذكّر المنعم وفضله، هل يلبس

(1) صحيح البخاري: كتاب المغازي: 3763

(2)

سورة الأنفال: 28

(3)

سورة المنافقون: 9

ص: 27

لباساً يعصيه فيه أم لباس التقوى؟ وهل يختار من الثياب أحشمه وأقربه رضى لله أم أقربه رضى للناس؟ ولو لليلة واحدة ليلة العرس .. أو حفلة عرس. هل يطيق أن يسخط الله عليه ويُعرِض عنه هذه الليلة؟

ما أرحمك يا الله وما أرأفك يا رسول الله بالمسلم أعطيته صمامات أمان ليواجه الدنيا دون أن يخشى أن تهلكه .. إذا اعتصم بالسنة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيْبُهُ)(1)

لذا فقد أعطانا مفاتيح الخير ومغاليق الشر لئلا نصيب الذنب فيضيّق علينا الرزق.

وبعد هذه المعاني كلها والأحوال التي سيمر بها المسلم إن تلّفظ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وانشغل بها قلبه وانفعلت الجوارح وفقها

أليس يستحق (غفر الله ذنبه)! إنه عطاء فوق عطاء مع أن المعطي الحقيقي هو من أعطاه مفتاح الخير الذي يحجبه عن الخطأ والنسيان والغفلة فهو عطاء من الله ورسوله لا نستحقه وثواب على عطاء الخالق المنعم الرزاق. سبحانه هو المتفضل فوق فضله والمنعم الذي يجب ألا يغفل عنه كل ذي لبّ.

(1) صحيح ابن حبان حديث: 872.

ص: 28