الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[عدول المؤلف عن رأيه الأول]:
ثم تأملتُ بعدُ ونظرت، وراجعتُ الفكْرَ وتفكرت، فرأيت أن ما ألَّف فيه ابنُ حجر إنما هو في أمر رُفع للسلطان وبرز أمره بالعمل، ثم اختُلف بعد تحقق وجود الأمر السلطاني الذي يرجع فيه إلى ذلك: أيكفي مسوِّغًا لهدم ما آل إلى السقوط وقال أهل الخبرة به؟ أو لا بدَّ بعد تحقُّق الإِذن من وجود السقوط بالفعل؟
فموضوع رسالته في حكم ما خُشي سقوطه ولم يسقُط بعد، وقد رُفع للسلطان فأذن بالهدم (1).
وكون ابن حجر لما نقل أقوال الأئمة بعدُ لم يذكر اعتبار ذلك لا يضر، لأن الأصل الانسحاب والاستصحاب حتى يأتي ما يعارضه. وأيضًا، فانظر لجميع عماراته منذ أيام قريش إلى الآن، لم ينقل أنه عمل فيها إلَّا بعد عرض ذلك الداعي للعمل على السلطان في ذلك، والوقوف عند أمره. ولما كان الأمر زمن قريش منتشرًا في بطونه، لم يعمرها إلَّا مجموع البطون الذي لهم الأمر بمكة، ومن أراد ذلك فلينظر "تاريخ الفاسي" وغيره، وقد لخصه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"(2).
[الرد على من أنكر جواز تأخير العمارة إلى ورود أمر السلطان]:
وقول بعض الناس أن يؤدي عدم المبادرة بعمارتها إلى سقوط منزلتها ونقصان هيبتها، وقد جاء في حديث مرفوع حسن رواه الإِمام أحمد وابن ماجه:
= اهتدوا إلى الرأي الأول، ثم خالفهم المصنف إلى غير ذلك، وصنف هذه الرسالة. منائح الكرم: 4/ 72، 73.
(1)
وبيان ذلك من قول ابن حجر في مقدمة "المناهل العذبة": [1 / ب]: وبعد: فإنه ورد
…
أوامر مولانا سلطان الإِسلام والمسلمين
…
بترميم ما تشعث في الكعبة المعظمة
…
إلخ. فهذا شاهد ما ذكره المصنف رحمه الله.
(2)
ينظر: كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، الأحاديث 1582 - 1586، فتح الباري: 4/ 229 - 243 ط الفكر.
"لا تزال هذه الأمة بخير ما عظموا هذه الحرمة حق تعظيمها فإذا ضيَّعوها هلكوا"(1)، يُرَدُّ بأن ذلك ليس بالقوي كما أشار إليه ابن حجر الهيتمي بقوله بعد سوقه:(إنه استدلال لا بأس به عند من يراعي المصالح المرسلة التي قال المحققون أنها لا تختص بالمالكية بل ما من مذهب من المذاهب الأربعة إلَّا وعمل بها في مسائل كثيرة، لكن المالكية لما أكثروا من رعايتها نسب القول بها إليهم). انتهى (2).
فتأمل قوله: (إنه استدلال لا بأس به)، ولم يصفه بالدقة أو القوة أو نحو ذلك، مما يدل على وقعه عنده، فإن نفي البأس إنما يستعمل في محل يتوهم فيه ثبوته ويقوى ذلك الوهم، فيحتاج للنص على نفيه.
ويبين ذلك ابن حجر نفسه، قال في رد قول من قال بأن منع مالك للمنصور أو لولده من الهدم والإِعادة علي بناء ابن الزبير خوف ذهاب الهيبة، ما لفظه:(إذ تغيير الملوك لها حتى تذهب هيبتها من القلوب مع ما استقر في النفوس من تعظيمها، بعيد جدًّا، فهو متوهم لا مظنون). انتهى (3).
(1) ابن ماجه حديث (3110)، وأحمد في مسند عياش بن أبي ربيعة حديث (19072).
(2)
المناهل العذبة: 9 / ب.
(3)
المناهل العذبة: 10 / ب. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح": 4/ 242: حكى ابن عبد البر وتبعه عياض وغيره عن الرشيد أو المهدي أو المنصور، أنه أراد أن يعيد الكعبة على ما فعله ابن الزبير، فناشده مالك في ذلك، وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك، فتركه. قلت: وهذا بعينه خشيه جدهم الأعلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأشار على ابن الزبير لما أراد أن يهدم الكعبة ويجدد بناءها بأن يرم ما وهي منها، ولا يتعرض لها بزيادة ولا نقص
…
إلخ. ومثله في المناهل العذبة: ص 24 / أ.
ومناسبة إيراد المصنف هذه النقول إرادته تأييد ما ذهب هو إليه من منع هدم ما آل إلى السقوط من جدران الكعبة، وله في ذلك رسالة تقدم ذكرها في ترجمته، ولكن الاستفتاء الذي جرى بعد ذلك جرى أفتى فيه بقية العلماء بالجواز، وهدم فعلًا كل ما كان آيلًا للسقوط في جمادى الآخرة 1040 هـ. ينظر تفاصيل تلك الفتاوى في:"التاريخ القويم": 3/ 209 - 211.