الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحريق على سائر سقف المسجد، وبدأوا منه لما أصبحوا بطفئ ما وقع على القبة اللطيفة التي جعلت بدلًا عن سقف الحجرة الشريفة. وكان الساقط عليها حريق القبة الزرقاء الطاهرة بالسقف الأعلى ورضاضها وسقف المسجد الذي كان بين القبتين، ولم يصل إلى جوف الحجرة شيء من هدم هذا الحريق لسلامة القبة السفلى المذكورة وعدم تأثير النار فيها مع ما سقط عليها كأمثال الجبال، مع أن بعضها من الحجر الأبيض الذي يسرع تأثره بالنار.
وقد أثرت هذه النار في أحجار الأساطين وهي من الحجر الأسود حتى تفتت بعضها وتهشم، وعدة ما سقط منها مائة وبضع وعشرون أسطوانة، وَمَنَّ الله بسلامة الأسطوانات الملاصقة للحجرة الشريفة، ثم كتبوا لسلطان زماننا الأشرف قايتباي ذلك، ونظفوا مقدم المسجد ونقلوا هدمه إلى مؤخره.
وفي ذلك كله عبرة تامة وموعظة أبرزها الله للإِنذار، فخص بها حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أن أعمال أمته تعرض عليه، فلما ساءت منا الأعمال المعروضة ناسب ذلك الإِنذار بظهور عنوان النار المجازى بها في موضع عرضها، وأنا وجل مما يعقب ذلك حيث لم يحصل الاتعاظ والانزجار، قال الله تعالى:{وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إلا تَخْوِيفًا (59)} [الإسراء: 59]، وقال تعالى:{ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)} [الزمر: 16]، انتهى كلام المحقق السيد السمهودي ملخصًا.
وجه الاستشهاد لما قلناه:
أنه كان بالمدينة من العلماء الكرام والأولياء الفخام في الحريق الأوّل (1) ما ينبيءُ عنهم ذِكْرُ ابن فرحون لخلَفِهم في "تاريخه" لمن أدركه من أهل المدينة تركَهُم المبادرةَ لعمارةٍ ذلك الموضع اللطيف بالقبر الذي هو أشرف من الكعبة
(1) الذي شب سنة 654 هـ.
اتفاقًا بل ومن العرش والكرسي (1)، ورفعهم أمر ذلك للخليفة، وانتظارهم لما برز منه من الأمر دليل أنهم رأوا الخطاب بعمارة مثل ذلك المحل الجليل العظيم ليس متوجهًا لكل ذي قدرة من المسلمين بل لخليفتهم القائم بإقامة أحكام شريعتهم وملتهم.
وكان بالمدينة في الحريق الثاني (2) محققُها السيدُ السَّمهوديُّ الذي قال في حقه الحافظ السيوطي (3): (وناهيك به حافظ طيبة، وقد كان من أئمة الدين علمًا ودينًا، وعدم مبالاة في إقامة الحق بأحد)، فموافقته على ترك التعمير لما احترق منه ورفع الأمر لسلطان عصره شاهدٌ وأيُّ شاهد.
وقول بعض الأفاضل لما استشهدت بذلك: -هذا سَوقُ حكايةِ ما وقع لا شاهدَ فيه للمدَّعَى- مردودٌ، فإن سياقَه قضيةٌ لما صدر في الحريق الثاني أنه ممن أقرَّ على ما فعلوه في كَتْبِهم بذلك لسلطان عصره ورضاهُ به، وأنه الشرعُ، إذ لو كان غير مُقِرٍّ على ذلك لأنكره عليهم باللسان [
…
] (4) إنه منكر كما أنكر غيره، وألف فيه وما خاف من معارضه.
وبفرض وجود ما يمنع من التصريح بالإِنكار على الكاتبين في ذلك فكان يذكره في أنهم ارتكبوا بالتأخير للعمل انتظارًا لمجيء جواب السلطان ترك ما توجه عليهم من الخطاب بالفرض الكفائي بعمل ذلك، كما ذكر فيه أشياء من
(1) أول من قال بهذا القول هو الإِمام أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي صاحب "الفنون"، وللعلامة الشيخ الفقيه محمَّد بن سليمان الكردي المدني الشافعي تفصيل وبحث في المسألة في كتابه "الفوائد المدنية بمن يفتي بقوله من متأخري الشافعية"، مطبوع بهامش فتاواه بمصر.
(2)
الذي وقع سنة 886 هـ.
(3)
الحافظ الجلال السيوطي، أشهر من أن يعرف، توفي هو السمهودي في سنة واحدة عام 911 هـ، رحمهما الله تعالى.
(4)
غير واضحة بالأصل، ولعلها:
…
ولقال.
المنكرات وحذر منها، وحرص على إزالتها. فعَدَمُ إنكاره ذلك دليلٌ على أنه رأَى توجُّه فرضِ عمارةِ ذلك وما شاكله للسلطان دون غيره.
وقد ذكر الشيخ ابن حجر الهيتمي في رسالته نظير ذلك في أول المقدمة فقال ما لفظه: (وما يقال: يحتمل أنهم كانوا -يعني جماعة القضاة بمكة إذ ذاك- مُكرَهِين فهو فاسد!، وما الحاملُ للإِمام الفاسيّ على أن يحضر هو والقضاةَ مكْرَهين ثم لا يدركون ذلك؟، بل يذكُرُ ما هو صريح في رضي الحاضرين وأن ذلك ما فعل إلَّا بإذنهم
…
)، انتهى (1).
وقال في أثناء البحث الثالث في الكلام على أن يحتمل أن عدم إنكار العلماء لعلمهم بعدم التأثير ما لفظه: (ولئن تنزّلنا فالإِنكار لا ينحصر في ذلك، بل من جملته بيان حكم ذلك في كتبهم وأنه منكر وممنوع)، انتهى (2)، وهو مؤيِّد لما ذكرته من الاستشهاد بإقرارِ السيد السمهودي، والحمد لله.
وقد أفتى شيخنا شيخ الإِسلام علي بن جار الله الحنفي (3)، والشيخ
(1) المناهل العذبة: 3 / أ - 3 / ب. ولتمام الفائدة ننقل عبارته بنصها، قال رحمه الله: (المقدمة: اعلم أن الذي أقوله وأفتي به على قواعد أئمتنا أنه يجوز بل يطلب إصلاح ما تشعث من سقف الكعبة وجدارها وميزابها وعتبتها ورخامها، كما وقع عليه الإجماع العقلي الآتي بيانه وتقرير العلماء عليه من لدن ابن الزبير رضي الله عنهما إلى يومنا هذا، وأنه يجوز التوصل إلى بناء حقيقة ما ظن اختلاله من نحو سقفها بكشف ما يعلم به أمره، كما وقع نظيره مما يأتي بيانه أيضًا، بل سيأتي عن الفاسي أنه وجماعة من قضاة مكة وأمير العمارة الذي ندبه لها برسباي وأعيانها، اجتمعوا بالكعبة لما خافوا من سارية من سواريها ظهر بها ميل، فكشفوا من فوقها فوجدت صحيحة، وردت حتى استقامت، وهذا منه كالقضاة وغيرهم صريح فيما قلته آخرًا من جواز الكشف المذكور، فتأمله فإنه واضح، وما يقال: يحتمل
…
إلخ) انتهى.
(2)
المناهل العذبة: ورقة 7، وجه أ.
(3)
هو الفقيه العلامة الإِمام علي بن جار الله بن ظهيرة القرشي الحنفي المكي، الخطيب العالم البحر العمدة، توفي بمكة سنة 1010 هـ، له مصنفات. وأخذ عنه جماعة من علماء مكة.
خلاصة الأثر: 3/ 150، والمختصر لمرداد: 361 - 362.