الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَلَا إِلَه إِلَّا الله الْحق الْمُبين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله وَصَحبه وَأهل بَيته أَجْمَعِينَ وعَلى التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان إِلَى يَوْم الدّين
وَبعد فَإنَّا نشْهد الله سبحانه وتعالى وَمَلَائِكَته وأنبياءه وَرُسُله وَجَمِيع خلقه أَنا رَضِينَا بِاللَّه رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ صلى صلى الله عليه وسلم نَبيا وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وبالشريعة هاديا ودليلا وبآل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أَوْلِيَاء وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا وَأَنا حامدون لله على نعمائه راضون بتقديره وكل قَضَائِهِ معتقدون أَن الله سُبْحَانَهُ عدل فِي جَمِيع أقضيته حَكِيم فِي كل مَا قدره فِي بريته لَا يعْتَرض عَلَيْهِ فِيمَا قضى بل يجب تلقي ذَلِك بالرضى إِذْ أَفعاله سُبْحَانَهُ كلهَا عدل وَمَا أعْطى فَهُوَ مِنْهُ بر وَفضل
وَهُوَ تبارك وتعالى أعلم بمصالح خلقه فَيجب على
كل عَاقل الرِّضَا برزقه وَمن اعْتقد هَذَا فقد أَفْلح وأنجح فَإِن الله تَعَالَى لَا يقْضِي لِلْمُؤمنِ إِلَّا مَا هُوَ لَهُ أصلح قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (عجبا لأمر الْمُؤمن إِن أمره كُله خير وَلَيْسَ ذَاك لأحد إِلَّا لِلْمُؤمنِ إِن أَصَابَته سراء شكر فَكَانَ خيرا لَهُ وَإِن أَصَابَته ضراء صَبر فَكَانَ خيرا لَهُ) رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه
فالمؤمن متقلب بَين خيرين اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من حالتين إِن أنعم عَلَيْهِ فَشكر أجر وَإِن ابْتُلِيَ فَصَبر أجر
فَالْحَمْد لله على مَا أنعم صلى الله عليه وسلم
وَقد أرسل الله سُبْحَانَهُ وَله الْحَمد رَسُوله مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم على حِين فَتْرَة من الرُّسُل وضلالة فِي السبل وعماية فِي الْقبل وَجَهل فِي الْجَاهِلِيَّة الجهلا وانصراف عَن الطَّرِيقَة المثلى
فَدَعَا الْخلق كلهم إِلَى الله تَعَالَى وَإِلَى طَاعَته وَأمرهمْ بامتثال أَمر الله تَعَالَى ومتابعته وَشرع لَهُم من دين الله مَا وصّى بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى بِإِقَامَة الدّين
وتقوى الله رب الْعَالمين وأوضح صلى الله عليه وسلم لَهُم الطَّرِيق وأخرجهم من الْمضيق وهداهم إِلَى الصَّوَاب بِمَا أنزل عَلَيْهِ من الْكتاب وَشرع لَهُم الشَّرِيعَة المطهرة وسلك بهم الطَّرِيق الميسرة
وَلم يزل صلى الله عليه وسلم يبين لَهُم الْأَحْكَام وَينصب لَهُم الْأَعْلَام ويوضح لَهُم شرائع الْإِسْلَام
وَأنزل الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ امتنانا وإيضاحا وتبيينا {الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا} ثمَّ دَعَاهُ الله تَعَالَى إِلَيْهِ وَنَقله من الدُّنْيَا وأزلفه لَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم
فَترك بعده الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَالْأَئِمَّة الهداة المهتدين الحماة على الشَّرِيعَة وَالدّين رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ فتبعوا سَبيله المستبين وبينوا الشَّرِيعَة للْمُسلمين وَوَضَعُوا لَهَا قَوَاعِد وقوانين وَجعلُوا يهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِه يعدلُونَ
ودعوا إِلَى الْحجَج الْوَاضِحَة المنيعة وَأَقَامُوا الْخلق على قانون الشَّرِيعَة
وَلم يزل الْأَمر يزكو وينمو وَالدّين يَعْلُو ويسمو
قد شرف الله سُبْحَانَهُ وَله الْحَمد الْعلم وَالْعُلَمَاء وجعلهم أفضل من تَحت أَدِيم السَّمَاء وَأثْنى الله سُبْحَانَهُ
على الْعلمَاء بِنَفسِهِ فِي الْآيَات الزاهرة وَرفع مَنَازِلهمْ وَجعلهَا بَيِّنَة ظَاهِرَة وَأَعْلَى مَرَاتِبهمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة
وَأوجب الله تَعَالَى على جَمِيع عباده وعَلى الْمُلُوك الَّذين مكنهم الله فِي بِلَاده طَاعَة الْعلمَاء والانقياد لأمرهم وجعلهم حجَّة على خلقه بأسرهم فهم النُّور الَّذِي يستضيئون بِهِ فِي برهم وبحرهم
وهم خلفاء الله وخلفاء رسله فِي أرضه وهم أمناؤه فِي تَبْيِين شَرعه وفرضه وهم حجَّته على عباده اكْتفى بهم عَن بعث نَبِي وإرسال نَذِير كَمَا قيل
(حجج الْإِلَه على الورى علماؤهم
…
فِي كل عصر بعد كل رَسُول)
قَالَ أَبُو الْأسود الدؤَلِي الرَّاوِي عَن عَليّ رضي الله عنهما لَيْسَ شَيْء أعز من الْعلم
الْمُلُوك حكام على النَّاس وَالْعُلَمَاء حكام على الْمُلُوك ذكره الثعالبي فِي تَفْسِيره سُورَة النِّسَاء وَذكره صَاحب كتاب زهرَة الْعُيُون وَغَيرهمَا
فَمَا زَالَ الْعلمَاء حكاما على السلاطين والسلاطين سَيْفا ونصرة للدّين وَمَا برح الْمُلُوك بالعلماء يقتدون
وبقولهم يَهْتَدُونَ لَا يضع الْمُلُوك سَيْفا وَلَا يغمدونه إِلَّا بِمَا قَالَه علماؤهم لَا يعتدونه
قد عرفُوا للْعُلَمَاء حُقُوقهم وسلكوا بأفعالهم طريقم وأذلوا من رام عقوقهم
ونصروا الشَّرِيعَة بِالسَّيْفِ وردوا إِلَيْهَا من أظهر الحيف وَلم يَقُولُوا لم هَذَا وَلَا كَيفَ بل مهدوا الأَرْض للْعُلَمَاء تمهيدا وتبعوا أحكامهم وقلدوهم تقليدا ونصروا الشَّرْع وَالْعُلَمَاء نصرا حميدا
علمُوا أَن الْعلمَاء هم الوسائط بن الله وَبَين خلقه وَأَنَّهُمْ العارفون بِمَا يجب من رِعَايَة حَقه
فقدروهم قدرهم وشدوا بهم أزرهم وَجعلُوا من طَاعَة الله نَصرهم
وتواضعوا للْعلم وَالْعُلَمَاء وَلم يتكبروا وانقادوا تَحت أَمر عُلَمَائهمْ وَلم يتجبروا
رُوِيَ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ هَارُون الرشيد لما قدم الْمَدِينَة حَاجا وَجه الْبَرْمَكِي إِلَى الإِمَام مَالك بن أنس الْفَقِيه رضي الله عنهما وَقَالَ لَهُ يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ احْمِلْ إِلَيْهِ الْكتاب الَّذِي صنفته يَعْنِي الْمُوَطَّأ ليسمعه عَلَيْك فَقَالَ لَهُ مَالك أقرئه السَّلَام وَقل لَهُ إِن الْعلم يزار وَلَا يزور وَيُؤْتى وَلَا يَأْتِي
فَرجع الْبَرْمَكِي إِلَى هَارُون فَأخْبرهُ ثمَّ قَالَ لَهُ الْبَرْمَكِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يبلغ أهل الْعرَاق أَنَّك وجهت إِلَى مَالك بِأَمْر فخالفك اعزم عَلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيك
فَبينا هم كَذَلِك إِذْ بِمَالك رحمه الله قد دخل وَلَيْسَ مَعَه الْكتاب جَاءَ مُسلما على الْخَلِيفَة فَسلم وَجلسَ فَقَالَ لَهُ هَارُون يبلغ أهل الْعرَاق أَنِّي سَأَلتك أمرا من الْأُمُور سهلا فأبيت عَليّ فَقَالَ مَالك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الله قد جعلك فِي هَذَا الْموضع لعلمك فَلَا تكن أول من يضع الْعلم فيضعك الله وَلَقَد رَأَيْت من لَيْسَ هُوَ فِي حَسبك ونسبك يعز هَذَا الْعلم ويجله فَأَنت أَحْرَى أَن تجله
وَلم يزل يعدد عَلَيْهِ من ذَلِك أَشْيَاء حَتَّى بَكَى هَارُون ثمَّ قَالَ مَالك أَخْبرنِي الزُّهْرِيّ عَن خَارِجَة قَالَ قَالَ زيد بن ثَابت كنت أكتب بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْوَحْي فِي كتف {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ من الْمُؤمنِينَ غير أولي الضَّرَر وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيل الله} وَابْن أم مَكْتُوم عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله أَنا رجل ضَرِير الْبَصَر فَهَل لي
من رخصَة يَعْنِي فِي ترك الْجِهَاد
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم (لَا أَدْرِي قَالَ زيد وقلمي رطب مَا جف حَتَّى غشي النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْوَحْي فَوَقَعت فَخذه على فَخذي فَكَادَتْ تندق من شدَّة الْوَحْي ثمَّ سري عَنهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ اكْتُبْ يَا زيد {غير أولي الضَّرَر}
قَالَ فحرف وَاحِد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بعث فِيهِ جِبْرِيل عليه السلام وَالْمَلَائِكَة من مسيرَة خمسين ألف عَام حَتَّى نزل على النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَفلا يَنْبَغِي لي أَن أعزه وأجله قَالَ بلَى ثمَّ إِن هَارُون أَتَى إِلَى منزل مَالك ليسمع مِنْهُ الْكتاب وَالله الْمُوفق للصَّوَاب
وَلما رَحل الإِمَام الشَّافِعِي رحمه الله إِلَى الْعرَاق أَتَاهُ رَسُول مُحَمَّد بن الْحسن وَأبي يُوسُف يطلبانه الْقدوم عَلَيْهِمَا ليسألاه عَن الشَّيْء من الْعلم فَقَالَ لرسولهما قل لَهما إِن من حكم الْعلم أَن يُؤْتى وَلَا يَأْتِي فَإِن كَانَ لَهما حَاجَة فليأتياني فَرد عَلَيْهِمَا الْجَواب فَأتيَاهُ لذَلِك
وَقد قيل بَقَاء الدُّنْيَا بسيوف الْأُمَرَاء ولسان الْعلمَاء فَعَلَيْك بطاعتهما إِلَّا فِي مَعْصِيّة الله سُبْحَانَهُ
وروى أَبُو نعيم فِي كتاب حلية الْأَوْلِيَاء أَن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد أرسل إِلَى أبي حَازِم رحمه الله أَن ائتنا حَتَّى نَسْأَلك وتحدثنا فَقَالَ أَبُو حَازِم معَاذ الله أدْركْت أهل الْعلم لَا يحملون الدّين إِلَى أهل الدُّنْيَا فَلَنْ أكون أول من فعل ذَلِك فَإِن كَانَ لَك حَاجَة فأبلغنا فتصدى لَهُ أَبُو عبد الرَّحْمَن وَقَالَ ازددت بهَا علينا كَرَامَة
وروينا فِي كتاب تَقْيِيد المهمل لِلْحَافِظِ الجباني رحمه الله بِإِسْنَادِهِ أَن الْأَمِير خَالِد بن أَحْمد الذهلي وَالِي بُخَارى بعث إِلَى الإِمَام البُخَارِيّ رحمه الله أَن احْمِلْ إِلَيّ كتاب الْجَامِع والتاريخ وَغَيرهمَا لأسْمع فَقَالَ البُخَارِيّ لرَسُوله أَنا لَا أذلّ الْعلم وَلَا أحملهُ إِلَى أَبْوَاب النَّاس فَإِن كَانَ لَك إِلَى شَيْء مِنْهُ حَاجَة فاحضرونى فِي مجلسي فِي دَاري فَإِن لم يُعْجِبك هَذَا فَأَنت سُلْطَان فامنعني من الْمجْلس ليَكُون عذرا لي عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة
وَمن أَمْثَال الْعَرَب الْمَشْهُورَة المتداولة بَينهم فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام قَوْلهم فِي بَيته يُؤْتى الحكم حَتَّى إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه كَانَ بَينه وَبَين أبي رضي الله عنه خُصُومَة فِي مَوَارِيث فَأتيَا
زيد بن ثَابت رضي الله عنه فِي منزله ليحكم بَينهمَا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو أَمرتنِي لجئتك قَالَ عمر فِي بَيته يُؤْتى الحكم
وَقَالَ بعض الْحُكَمَاء من الشَّرِيعَة أَن يجل أهل الشَّرِيعَة ويحكى أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور خرج حَاجا إِلَى بَيت الله الْحَرَام فَلَمَّا قرب من الْمَدِينَة تَلقاهُ وُجُوه أَهلهَا من قُرَيْش وَالْأَنْصَار وَغَيرهم وَكَانَ فِيمَن تَلقاهُ عبد الله بن الْحسن بن الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنهم فِي رجال من قُرَيْش ووجوه بني هَاشم مشَاة ولقيه مُحَمَّد بن عمرَان رَاكِبًا وَكَانَ قاضيه على الْمَدِينَة وَكَانَ رجلا بدينا فغاظ أَبَا جَعْفَر الْمَنْصُور تلقيه لَهُ رَاكِبًا وَبلغ مِنْهُ كل مبلغ وَقَالَ لوزيره الرّبيع يتلقاني سراة قُرَيْش وَالْأَنْصَار ورؤوس الْعَرَب مشَاة ويتلقاني عبد الله بن الْحسن رَاجِلا فِي بني هَاشم ويتلقاني ابْن عمرَان رَاكِبًا وَالله لأعاقبنه ولأنكلن بِهِ أَو يخرج مِمَّا فعل
قَالَ فَلَمَّا اسْتَقر قراره وَجه إِلَيْهِ فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَمثل
بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ يَا ابْن عمرَان بَلغنِي أَن فِيك ثَلَاث خِصَال لتخْرجن مِنْهَا أَو لأجعلنك نكالا قَالَ وَمَا هن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ بَلغنِي أَنَّك لَا تصلي فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَّك لَا تخالط أَشْرَاف النَّاس وَلَا سوقتهم تيها وكبرا وَأَنَّك بخيل بِذَات يدك
فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما تركي للصَّلَاة فِي مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي مَا تركت ذَلِك رَغْبَة عَنهُ وَلَا جهلا بفضيلته وَلَكِنِّي رجل بدين لَا ألحق الإِمَام فِي رُكُوعه وَسُجُوده وَلَا قِيَامه وقعوده فلزمت الصَّلَاة فِي منزلي لأؤدي فَرضِي كَمَا وَجب عَليّ وَأتم ركوعي وسجودي وَلَوْلَا ذَلِك مَا تلقيت أَمِير الْمُؤمنِينَ رَاكِبًا
وَأما مَا ذكره أَمِير الْمُؤمنِينَ من تركي مُخَالطَة أَشْرَاف النَّاس وسوقتهم تيها وكبرا فَإِنَّمَا تركت ذَلِك خوفًا أَن أخالط أَشْرَاف النَّاس فيجترئوا على ضعافئهم أَو أخالط ضعفاءهم فيجترئوا على أَشْرَافهم وَأَنا عَامل من عُمَّال أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يسعني فِيمَا استرعاني فِيهِ إِلَّا الْعدْل فِيمَا بَينهم فَتركت هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء لذَلِك
وَأما قَول أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنِّي بخيل بِذَات يَدي فَإِنِّي مَا أَحْمد فِي حق وَلَا أَذمّ فِي بَاطِل وَإِنَّمَا هُوَ رزق أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أملك غَيره فَإِن تفضل أَمِير الْمُؤمنِينَ بِزِيَادَة سمحت وَبسطت يَدي وَلَكِن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن رَأَيْت أَن تنظر فِي أَمر بني مَخْزُوم فَإِنَّهُم ذكرُوا أَن عينا وَنَخْلًا لَهُم فِي يدك وَقد أَكْثرُوا فِي ذَلِك وَذكروا أَنَّهَا لَهُم وَأَن مَعَهم بذلك بَيِّنَة عادلة تشهد لَهُم
فَقَالَ الْمَنْصُور يَا ابْن عمرَان تِلْكَ الْعين وَالنَّخْل كَانَت للْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ اثْبتْ على حجتك وتقيم وَكيلا وَتشهد لَهُ شَاهِدين مِمَّن حضر مجلسك فيتكلم بحجتك وَمَا قضي لَهُ أَو عَلَيْهِ كَانَ لَك أَو عَلَيْك
قَالَ أَبُو جَعْفَر قد أَقمت وَكيلا وأشهدت لَهُ فلَانا وَفُلَانًا فَقَالَ ابْن عمرَان للشاهدين اشهدا على أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا وَجب لَهُ أَو عَلَيْهِ فلأمير الْمُؤمنِينَ أَو عَلَيْهِ قَالَا نعم قَالَ ابْن عمرَان فَإِنِّي أشهدكما وَمن حضر أَنِّي قد حكمت بِالْعينِ وَالنَّخْل الَّتِي فِي يَده لبني مَخْزُوم بِمَا صَحَّ عِنْدِي لَهُم
قَالَ فَرَأَيْت أَبَا جَعْفَر وَقد نزل بِهِ من الغيظ مَا
لم يملك نَفسه مَعَه ثمَّ قَامَ فَدخل وَقَامَ ابْن عمرَان إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جلس يحكم بن النَّاس
قَالَ فَجَاءَهُ قوم من الجمالين فَقَالُوا أصلح الله القَاضِي إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَنْصُور اكترى منا جمالنا على أَن لانقيم فِي الْمَدِينَة إِلَّا ثَلَاثَة أَيَّام وَهَذَا الْيَوْم الثَّالِث فإمَّا رَحل بِنَا ووفى لنا وَإِلَّا علف لنا جمالنا فَقَالَ لكَاتبه قُم مَعَهم إِلَى بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ فإمَّا أنصفهم وَإِمَّا حضر مَعَهم مجْلِس الحكم وَأَعْطَاهُ خَاتمًا بإحضاره
فَقَامَ الْكَاتِب مَعَ الجمالين إِلَى بَاب الْملك فَوَافى الرّبيع فَقَالَ لَهُ أصلحك الله أَنا رَسُول القَاضِي ابْن عمرَان مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْم إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ بِكَذَا وَكَذَا وَلَا أَحسب القَاضِي إِلَّا قد خولط فِي عقله وَمَعِي خَاتمه وَدفعه إِلَى الرّبيع فَدخل الرّبيع مغضبا فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك بسطت لِابْنِ عمرَان حَتَّى تناولك بِمثل هَذَا قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ إِنَّه وَجه كَاتبه مَعَ الجمالين وَمَعَهُ خَاتمه بجلبك إِلَى مَجْلِسه مَعَ خصمائك قَالَ الرّبيع فَنَظَرت إِلَى وَجه الْمَنْصُور وَهُوَ يَتلون يحمر ويصفر ثمَّ قَالَ لِخَادِمِهِ
يَا مسرور ائْتِنِي بجبة أسماط بَيْضَاء أضعها فَوق ثِيَابِي وقلنسوة طَوِيلَة وعكاز أتوكأ عَلَيْهِ ونعلين عربيتين وناد فِي النَّاس بَرِئت الذِّمَّة من رجل قَامَ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي هَذَا الْيَوْم إِذا رَآهُ فَلَيْسَ ذَلِك
ثمَّ خرج من دَار الْإِمَارَة حَتَّى دخل مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأتى سَارِيَة عَليّ رضي الله عنه فصلى عِنْدهَا رَكْعَتَيْنِ وَكَانَ ابْن عمرَان جَالِسا ينظر فِي أُمُور النَّاس لَا يلْتَفت يَمِينا وَلَا شمالا وَلَا يحول وَجهه إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلَا يَدْعُو بِهِ فَلَمَّا فرغ الْمَنْصُور من ركعتيه قَالَ للربيع لَئِن زادني ابْن عمرَان على حَقي شَيْئا لأجعلنه نكالا فِي هَذَا الْيَوْم
قَالَ الرّبيع فَقلت فِي نَفسِي لأَنْت أَهْون عَلَيْهِ من ذَلِك فَلَمَّا خف مَجْلِسه دَعَا بالجمالين ثمَّ نَادَى مناديه أَيْن عبد الله بن مُحَمَّد بن عَليّ فَلم يقم الْمَنْصُور ثمَّ قَالَ الْمُنَادِي أَيْن عبد الله بن مُحَمَّد الْهَاشِمِي فَقَامَ الْمَنْصُور قَائِما فَدخل فَجَلَسَ بَين يَدَيْهِ فَقَالَ ابْن عمرَان تكلمُوا فَقَالُوا أصلح الله القَاضِي هَذَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
اكترا منا جمالنا إِلَى مَكَّة على أَن لَا نُقِيم بِالْمَدِينَةِ إِلَّا ثَلَاثًا وَهَذَا الْيَوْم الثَّالِث فإمَّا وفى لنا بشرطنا وَإِمَّا علف لنا جمالنا
فَقَالَ القَاضِي لأبي جَعْفَر مَا تَقول أَنْت قَالَ مَا هَكَذَا شارطناهم فَقَالَ للجمالين قد سَمِعْتُمْ مقَالَته فَهَل عنْدكُمْ بَيِّنَة تشهد عَلَيْهِ قَالُوا لنا وَلَكِن يحلف قَالَ لأبي جَعْفَر قد سَمِعت مَا قَالُوا قَالَ لَهُ لَا أَحْلف لَهُم وَلَكِن أعلف لَهُم جمَالهمْ مَا أَقَامُوا بِالْمَدِينَةِ ثمَّ نَهَضَ الْمَنْصُور
فَلَمَّا فرغ ابْن عمرَان من نظره بَين النَّاس قَامَ من مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَدخل إِلَى منزله فَبكى بكاء شَدِيدا ثمَّ اغْتسل وتطيب وَركب إِلَى الْخَلِيفَة فَاسْتَأْذن عَلَيْهِ فَدخل وَسلم عَلَيْهِ بالخلافة ووقف بَين يَدَيْهِ يبكي فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور مَالك يَا ابْن عمرَان قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّك قد قلدتني الحكم وجعلتني حجَّة بَين الله وَبَيْنك فَلم يسعني فِي الحكم عَلَيْك وعَلى رعيتك إِلَّا الْعدْل والإنصاف
قَالَ لَهُ الْمَنْصُور وَالله يَا ابْن عمرَان مَا أردْت بذلك إِلَّا الله وَمَالك عِنْدِي إِلَّا الْمُكَافَأَة بِالْإِحْسَانِ فجزاك الله
خيرا
…
وَإِنِّي لأعْلم أَنَّك صَادِق أَمِين ارْجع إِلَى حكمك بَين النَّاس فقد أمرت لَك بِعشْرَة آلَاف دِينَار فاصرفها فِي حوائجك وزد فِي بسط يدك واحكم بَين النَّاس بِالسَّوِيَّةِ وَلَا تأخذك فِي الله لومة لائم فَأَخذهَا ابْن عمرَان وَانْصَرف فَهَكَذَا كَانُوا فِي اتِّبَاع شَرِيعَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَفِي التَّوَاضُع لَهَا واحترامها واحترام أَهلهَا