المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل   وَاعْلَم أَنه لاطاعة إِلَّا لله سُبْحَانَهُ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه - نشر طي التعريف في فضل حملة العلم الشريف والرد على ماقتهم السخيف

[الوصابي]

الفصل: ‌ ‌فصل   وَاعْلَم أَنه لاطاعة إِلَّا لله سُبْحَانَهُ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه

‌فصل

وَاعْلَم أَنه لاطاعة إِلَّا لله سُبْحَانَهُ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم

فَيجب على كل أحد وضع الْأَشْيَاء على موَاضعهَا الَّتِى وَضعهَا الله سبحانه وتعالى وَأمر بهَا رَسُوله صلى الله عليه وسلم من إعزاز من أعزه الله وإهانة من أهانه الله

وَمن خَالف ذَلِك فقد أَسَاءَ وظلم وتعدى حُدُود الله وهتك وَالْحرم {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ}

وَقد أعز الله سُبْحَانَهُ الْعلم وَأَهله وَشرف حامله وَأَبَان فَضله

فَلَيْسَ يُوجد فِي الدُّنْيَا أشرف مِنْهُ خلة وَلَا أكْرم مِنْهُ نحلة وَلم يزل صَاحبه مُعظما فِي كل مِلَّة وَفِي زمن الْجَاهِلِيَّة وَالزَّمَان قبله

قَالَ الشَّافِعِي رحمه الله سَمِعت

ص: 122

سُفْيَان بن عُيَيْنَة رضي الله عنه يَقُول لم يُعْط أحد فِي الدُّنْيَا شَيْئا أعظم من النُّبُوَّة وَلم يُعْط بعد النُّبُوَّة أفضل من الْعلم وَالْفِقْه

فَيَنْبَغِي للْعَالم أَن لَا يضع نَفسه فِي مَوضِع هوان وَلَا يذلها لأهل الْجَهْل والعدوان

بل ينزه نَفسه أَولا عَمَّا ينقص الْمُرُوءَة وَيذْهب الفتوة

ثمَّ يصونها ثَانِيًا عَن الأدناس ومخالطة الفسقة والأنجاس

ثمَّ يحملهَا ثَالِثا على الْهَيْئَة الْعلية وَالْأَفْعَال المرضية

ويجملها رَابِعا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار فِي الحضرة والأسفار وإطراق الرَّأْس وَضبط الْحَواس وتحسين الزي واللباس والهيبة الْحَسَنَة عِنْد النَّاس

فقد كَانَ أَوَائِل هَذِه الْأمة لَيْسَ لَهُم فِي طلب الزي همة إِذْ كَانُوا قد رسخ الْإِسْلَام فِي قُلُوبهم فَكَانَ الْعلم وَالدّين غَايَة مطلوبهم فزهدوا فِي الدُّنْيَا بالكثير واكتفوا من حطامها باليسير لما وَقع فِي قُلُوبهم من الْجد والتشمير

ثمَّ لما حدثت الفترة بعده فِي الطالبين ندب الشَّرْع إِلَى إِقَامَة صُورَة الإئمة المتصدرين وَالْعُلَمَاء والمدرسين والقضاة والمفتين

على خلاف مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ

وَسبب ذَلِك أَن الْمَقَاصِد والمصالح الشَّرْعِيَّة وقمع

ص: 123

الْمَفَاسِد والشبه البدعية لَا تحصل إِلَّا بعظمة الْقَائِم بذلك فِي نفوس النَّاس وَكَانُوا فِي زمن الصَّحَابَة رضي الله عنهم مُعظم تعظيمهم إِنَّمَا هُوَ الدّين وسابق الْهِجْرَة

فَلَمَّا ذهب ذَلِك الْقرن الَّذِي صحبوا الرَّسُول وشاهدوا هَيْبَة الْوَحْي والتنزيل حدث من مداخلة فَارس وَالروم وَنَحْوهم من الأغشام الَّذين داخلوا أهل الْإِسْلَام مَا تغير بِسَبَبِهِ شَيْء من حسن النظام إِذْ صَارُوا لَا يعظمون إِلَّا بالصور فَتعين تَعْظِيم الصُّور وتحسين الزي على الْوَجْه الشَّرْعِيّ

حَتَّى قَالَ الإِمَام الرَّافِعِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي كتاب الْفَتْح الْعَزِيز فِي شرح الْوَجِيز لَا يجب على الْأَئِمَّة الإكتفاء بِمَا اكْتفى بِهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَالْخُلَفَاء الراشدون من بعده رضي الله عنهم

قَالَ لِأَن النَّاس قد تغيرُوا بعدوا عَن الْعَهْد بِزَمَان النُّبُوَّة الَّذِي كَانَت النُّصْرَة فِيهِ بإلقاء الرعب والهيبة فِي الْقُلُوب

قَالَ وَلَو اقْتصر الإِمَام على مثل ذَلِك الْيَوْم لم يطع

وتعطلت الْأُمُور فَيَأْخُذ لنَفسِهِ مَا يَلِيق بِهِ من الْخَيل والغلمان وَالدَّار الواسعة

انْتهى كَلَامه رحمه الله

فَكَذَلِك الْعَالم والمفتي وَالْقَاضِي يَنْبَغِي أَن يتَّخذ كل وَاحِد مِنْهُم مَا يَلِيق بِحَالهِ وَحَال أَمْثَاله فيوسعوا الْقَمِيص

ص: 124

والأكمام ويعظموا العمائم والطيلسان ويحسنوا المركوب ويكثروا الأخدام بِحَسب الْحَال الَّذِي يَنْبَغِي من إشادة الْعلم وتجليله وتوقيره وتعظيمه وتبجيله كَمَا رُوِيَ عَن الإِمَام أبي حنيفَة رضي الله عنه أَنه قَالَ عظموا عمائمكم ووسعوا أكمامكم

قَالَ أَبُو اللَّيْث رحمه الله وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِئَلَّا يستخف بِالْعلمِ وَأَهله

وَرُوِيَ عَن الإِمَام مَالك رضي الله عنه أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ أَن يحدث بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تطيب وتلبس ثيابًا جدادا ويلبس تاجه ويتعمم وَيَضَع رِدَاءَهُ على رَأسه وتلقى لَهُ منصة فَيخرج وَيجْلس عَلَيْهَا

وَلَا يزَال يبخر بِالْعودِ حَتَّى يفرغ من حَدِيثه إعزازا لحَدِيث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَكَانَ الشَّافِعِي رضي الله عنه يَأْمر غُلَامه أَن يَأْتِي السارية الَّتِي كَانَ يقْعد عِنْدهَا الشَّافِعِي لتعليم الْفِقْه فيلطخها بالغالية كل يَوْم إِكْرَاما للْعلم وحاضريه فَفِي تَعْظِيم الْعلم يَقع تَعْظِيم الله وَفِي إعزازه طَاعَة الله

وَلِهَذَا قَالُوا إِن على كل أحد أَن يخْفض صَوته فِي مجَالِس أهل الْعلم وَأَن ينزهها

ص: 125

ويتواضع لَهَا وَلَا يتخطى حلقها

قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (من غض صَوته عِنْد الْعلمَاء جَاءَ مَعَ الَّذين امتحن الله قُلُوبهم للتقوى من أَصْحَابِي)

رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي كِتَابه رياضة المتعلمين بِإِسْنَادِهِ

فَيَنْبَغِي لكل أحد أَن يستمع الْعلم وَالْحكمَة بالتعظيم والتوقير وَالْحُرْمَة

وَلَو رددت الْكَلِمَة وَالْمَسْأَلَة ألف مرّة

فَإِن لله سُبْحَانَهُ مَلَائِكَة كراما يحْضرُون مجَالِس الذّكر وَالْعُلَمَاء

قَالَ ابْن سِيرِين رحمه الله أَتَانِي آتٍ فِي الْمَنَام فَقَالَ أما إِنَّك لَو أتيت الْحلقَة الَّتِي يذكر فِيهَا الْفِقْه لوجدت جِبْرِيل عليه السلام مَعَهم جَالِسا

ذكره صَاحب تَنْبِيه الغافلين

ثمَّ قَالَ أَبُو اللَّيْث رحمه الله وَإِنَّمَا يتَعَلَّم الْعلم بِوَاسِطَة ملك

فالعالم مَأْمُور بتحسين لبسته والتوقر فِي حركته وجلسته لِأَن مَلَائِكَة الرَّحْمَة تحضر حلقته وتحفه وتحف درسته كَمَا ورد فِي الحَدِيث الصَّحِيح فَيجب الإستحياء من الْمَلَائِكَة الْكِرَام الْحَاضِرين وتوقيرهم مِنْهُ وَمن السامعين وَالله المرشد بكرمه وَهُوَ خير معِين

وَلِأَن النَّاس مجبولون على تَعْظِيم الصُّور الظَّاهِرَة

ص: 126

فَيجب تفخيمها وتبجيلها حَتَّى لَا تختل الْمصَالح الموصلة إِلَى خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ رحمه الله فِي أَوَائِل كتاب الْإِحْيَاء عَن أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رضي الله عنها أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم (أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الْجَمَاعَة فَجعل يُسَوِّي من رَأسه ولحيته فَقلت أَو تفعل ذَلِك يَا رَسُول الله قَالَ نعم يَا عَائِشَة إِن الله يحب من عَبده أَن يتجمل لإخوانه إِذا خرج إِلَيْهِم

قَالَ الْغَزالِيّ رحمه الله وَكَانَ من وظائفه صلى الله عليه وسلم أَن يسْعَى فِي تَعْظِيم أَمر نَفسه فِي قُلُوب النَّاس كي لَا تزدريه نُفُوسهم وَفِي تَحْسِين صورته فِي أَعينهم كي لَا تستصغره أَعينهم فينفرهم ذَلِك عَنهُ وَهُوَ مَأْمُور بدعوتهم

قَالَ الْغَزالِيّ رحمه الله وَهَذَا الْقَصْد وَاجِب على كل عَالم يتَصَدَّى لدَعْوَة الْخلق إِلَى الله تعال وَهُوَ أَن يُرَاعِي من ظَاهره مَا لَا يُوجب نفرة النَّاس عَنهُ

انْتهى كَلَامه رحمه الله

وَكَانَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه يَقُول أحب أَن يكون الْقَارئ أَبيض الثِّيَاب يَعْنِي ليعظم فِي نفوس النَّاس فيعظم مَا لَدَيْهِ من الْحق وَقد أَمر الْقَارئ أَيْضا

ص: 127

والمؤذن بتحسين الصَّوْت فِي الْقُرْآن وَالْأَذَان ليؤثر فِي قُلُوب السامعين وَأمر الْكَاتِب بتحسين الْخط

وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (الْخط الْحسن يزِيد الْحق وضوحا)

رَوَاهُ الثعالبي بِإِسْنَادِهِ فِي تَفْسِير سُورَة الْمَلَائِكَة فَثَبت أَن لكل شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء وَقعا فِي الْقُلُوب

وَكَانَ عمر رضي الله عنه يَأْكُل خبز الشّعير وَالْملح ويفرض لعامله فِي كل يَوْم نصف شَاة وَذَلِكَ لعلمه رضي الله عنه بِأَن الْحَالة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا لَو عَملهَا غَيره لهان فِي نفوس النَّاس وَلم يحترموه ولتجاسروا عَلَيْهِ بالمخالفة وَلم يعظموه فَاحْتَاجَ رضي الله عنه إِلَى أَن يضع غَيره فِي صُورَة أُخْرَى لحفظ النظام وَإِقَامَة شَرِيعَة الْإِسْلَام

وَلِهَذَا لما قدم رضي الله عنه الشَّام وجد مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان قد اتخذ الْحجاب والمراكب النفيسة وَالثيَاب والهائلة الرفيعة وسلك مَا سلكه الْمُلُوك فَسَأَلَهُ عمر رضي الله عنه عَن ذَلِك فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة إِنَّا بِأَرْض نَحن محتاجون لهَذَا

فَقَالَ عمر رضي الله عنه لَا آمُرك وَلَا أَنهَاك

قَالَ الإِمَام شهَاب الدّين الْقَرَافِيّ رحمه الله مَعْنَاهُ أَنْت أعلم بحالك هَل أَنْت مُحْتَاج إِلَى هَذَا فَيكون حسنا

ص: 128

أَو أَنْت غير مُحْتَاج إِلَيْهِ قَالَ فَدلَّ هَذَا من عمر رضي الله عنه وَغَيره على أَن أَحْوَال الْأَئِمَّة وولاة الْأُمُور والقضاة تخْتَلف باخْتلَاف الْأَمْصَار والأعصار والقرون وَالْأَحْوَال

وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيد زخارف وسياسات لم تكن قَدِيما وَرُبمَا وَجَبت فِي بعض الْأَحْوَال

انْتهى كَلَامه رحمه الله

وروى أَبُو نعيم الْحَافِظ فِي حليته عَن سُفْيَان الثَّوْريّ رحمه الله قَالَ دخلت على جَعْفَر بن مُحَمَّد يَعْنِي الصَّادِق رضي الله عنهما وَعَلِيهِ جُبَّة خَز وَكسَاء خَز قَالَ فَجعلت أنظر إِلَيْهِ مُتَعَجِّبا فَقَالَ لي يَا ثوري مَا لَك تنظر إِلَيّ لَعَلَّك تعجب مِمَّا ترى قلت يَا ابْن رَسُول الله لَيْسَ هَذَا من لباسك وَلَا لِبَاس آبَائِك

فَقَالَ يَا ثوري كَانَ ذَلِك زَمَانا مقترا وَكَانُوا يعْملُونَ على قدر إقفاره وإقتاره

وَهَذَا زمَان قد أسبل كل شَيْء عز إِلَيْهِ ثمَّ حسر عَن ردن جبته فَإِذا تحتهَا جُبَّة صوف بَيْضَاء ثمَّ قَالَ يَا ثوري هَذَا لله وَهَذَا لكم فَمَا كَانَ لله أخفيناه وَمَا كَانَ لكم أبديناه

انْتهى كَلَامه رحمه الله

فَعرف بِهَذَا أَن لكل مقَام مقَالا وَلكُل مُبَاح ومستحب ومكروه حَالا فحالا يخْتَلف ذَلِك باخْتلَاف الْأَحْوَال

ص: 129

وَالْأَيَّام كَمَا قَالَ الإِمَام ابْن عبد السَّلَام رَحمَه الله تَعَالَى إِن لله سُبْحَانَهُ أحكاما تحدث بحدوث أَسبَاب لم تكن فِي الْعَصْر الأول

فَيَنْبَغِي لكل عَاقل أَن يعرف الْحَال الْمُوجبَة للتحليل وَالتَّحْرِيم وَالْكَرَاهَة والإستحباب حَتَّى يعْمل بِمُوجب مَا يحدث من الْأَسْبَاب على مَا جرت بِهِ الْقَوَاعِد وتمشت بِهِ الشواهد

وَهَذِه الْأَشْيَاء لَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَلَا ينكرها إِلَّا الجهلة الغافلون وَالله الْمُوفق بمنه وَكَرمه

ص: 130