الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: قِيَاسُ النَّصَارَى كُتُبَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ قِيَاسٌ بَاطِلٌ]
فَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُمْ: إِنَّا نَعْجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ عَلَى عِلْمِهِمْ وَذَكَائِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ كَيْفَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ؟
وَذَلِكَ أَنَّا أَيْضًا إِذَا قُلْنَا وَاحْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ إِنَّ الْكِتَابَ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ يَوْمَنَا هَذَا قَدْ غَيَّرُوهُ وَبَدَّلُوهُ وَكَتَبُوا فِيهِ مَا أَرَادُوا وَاشْتَهَوْا هَلْ كَانُوا يُجَوِّزُونَ كَلَامَنَا؟
قَالَ الْحَاكِي عَنْهُمْ: فَقُلْتُ لَهُمْ هَذَا مَا لَا يَجُوزُ وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَهُ وَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ.
فَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ! إِذَا كَانَ الْكِتَابُ الَّذِي لَهُمْ، الَّذِي هُوَ بِاللِّسَانِ الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهُ، وَلَا تَغْيِيرُ حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَغْيِيرُ كُتُبِنَا الَّتِي هِيَ مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا وَفِي كُلِّ لِسَانٍ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا أَلْفِ نُسْخَةٍ وَجَازَ عَلَيْهَا إِلَى مَجِيءِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ مِنْ سِتِّمِائَةِ سَنَةٍ، وَصَارَتْ فِي أَيْدِي النَّاسِ يَقْرَءُونَهَا بِاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِهِمْ عَلَى تَشَاسُعِ بُلْدَانِهِمْ.
فَمَنِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا؟ وَمَنْ هُوَ الَّذِي حَكَمَ عَلَى الدُّنْيَا جَمِيعِهَا مُلُوكِهَا وَقَسَاوِسَتِهَا وَغَالِبِهَا حَتَّى حَكَمَ عَلَى جَمِيعِهَا فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَجَمَعَهَا فِي أَرْبَعِ زَوَايَا الْعَالَمِ حَتَّى يُغَيِّرَهَا؟
وَإِنْ كَانَ غَيَّرَ بَعْضَهَا، وَتَرَكَ بَعْضَهَا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّ كُلَّهَا قَوْلٌ وَاحِدٌ وَلَفْظٌ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْأَلْسُنِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَهُ أَبَدًا
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ:
أَوَّلًا: هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ جَهْلِهِمْ بِمَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ فِي كُتُبِهِمْ، وَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ - لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ - يَظُنُّونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ مَقَالَةً لَا يَخْفَى فَسَادُهَا عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ الْأُمَمِ عُقُولًا وَأَفْهَامًا وَأَتَمُّهُمْ مَعْرِفَةً وَبَيَانًا وَأَحْسَنُ قَصْدًا وَدِيَانَةً وَتَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَحْصُلْ فِي النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ أُمَّةٌ أَكْمَلُ مِنْهُمْ وَلَا نَامُوسٌ أَكْمَلُ مِنَ النَّامُوسِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَحُذَّاقُ الْفَلَاسِفَةِ مُعْتَرِفُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ لَمْ يَقْرَعِ الْعَالِمَ نَامُوسٌ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ.
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَعَارِفِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَنْوَاعِهَا فَإِنَّ النَّاسَ نَوْعَانِ:
أَهْلُ كِتَابٍ وَغَيْرُ أَهْلِ كِتَابٍ، كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْهُنُودِ.
وَالْعِلْمُ يُنَالُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَا يُحَصَّلُ بِهِمَا وَبِوَحْيِ اللَّهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَمَّا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
وَلِهَذَا قِيلَ: الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ الْبَصَرُ، وَالنَّظَرُ، وَالْخَبَرُ: الْحِسُّ، وَالْعَقْلُ وَالْوَحْيُ: الْحِسُّ وَالْقِيَاسُ، وَالنُّبُوَّةُ.
فَأَهْلُ الْكِتَابِ امْتَازُوا عَنْ غَيْرِهِمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ.
وَالْمُسْلِمُونَ حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ النَّبَوِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَا كَانَ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَامْتَازُوا عَنْهُمْ بِمَا لَا تَعْرِفُهُ الْأُمَمُ وَمَا اتَّصَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عَقْلِيَّاتِ الْأُمَمِ هَذَّبُوهُ لَفْظًا وَمَعْنًى حَتَّى صَارَ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ وَنَفَوْا عَنْهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَضَمُّوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ مَا امْتَازُوا بِهِ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ.
وَكَذَلِكَ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مَا لَمْ يُعْطِهِ أُمَّةً قَبْلَهُمْ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ مَعَ تَدَبُّرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ فَضْلِ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَا لَا يَخْفَى إِلَّا عَلَى الْعُمْيَانِ.
فَكَيْفَ يُظَنُّ مَعَ هَذَا بِالْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ فَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ظَنَّهُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ:
وَيُقَالُ: ثَانِيًا الْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَدَّعُوا أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ حُرِّفَتْ بَعْدَ انْتِشَارِهَا، وَكَثْرَةِ النُّسَخِ بِهَا، وَلَكِنَّ جَمِيعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُقُوعِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا، وَكَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِهَا.
وَهَذَا مِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى جَمِيعُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْيَهُودَ بَدَّلُوا كَثِيرًا مِنْ مَعَانِيهَا وَأَحْكَامِهَا.
وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ النَّصَارَى فِي فِرَقِهِمْ، أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تُخَالِفُ الْأُخْرَى فِيمَا تُفَسِّرُ بِهِ الْكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ، وَمِمَّا تُسَلِّمُهُ الْيَهُودُ أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى تُفَسِّرُ التَّوْرَاةَ وَالنُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْإِنْجِيلِ بِمَا يُخَالِفُ مَعَانِيهَا وَأَنَّهَا بَدَّلَتْ أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ فَصَارَ تَبْدِيلُ كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى.
وَأَمَّا تَغْيِيرُ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ بُدِّلَ بَعْضُ أَلْفَاظِهَا، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قِيَاسَهُمْ كُتُبَهُمْ عَلَى الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ كَمَا
لَا تُسْمَعُ دَعْوَى التَّبْدِيلِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ - قِيَاسٌ بَاطِلٌ فِي مَعْنَاهُ وَلَفْظِهِ.
أَمَّا مَعْنَاهُ: فَكُلُّ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ دِينِهِمْ إِجْمَاعًا ظَاهِرًا مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ فَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الرَّسُولِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، بَلْ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِ، فَإِنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَالزَّكَاةَ، وَصِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَوُجُوبَ الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ، وَتَحْرِيمَ الشِّرْكِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، بَلْ وَتَحْرِيمَ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالرِّبَا، وَغَيْرَ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (نَقْلًا مُتَوَاتِرًا كَنَقْلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ عُمُومُ رِسَالَتِهِ صلى الله عليه وسلم) وَأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ إِلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَأَنَّهُ كَانَ يُكَفِّرُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ لَمْ يَتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يُكَفِّرُ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ جَاهَدَهُمْ وَأَمَرَ بِجِهَادِهِمْ.
فَالْمُسْلِمُونَ - عِنْدَهُمْ مَنْقُولًا عَنْ نَبِيِّهِمْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا - ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: لَفْظُ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَهِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ غَيْرَ الْقُرْآنِ.
كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 151] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [البقرة: 231] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] .
وَبِذَلِكَ دَعَا الْخَلِيلُ حَيْثُ قَالَ لَمَّا بَنَى - هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ - الْكَعْبَةَ
بِأَرْضِ فَارَانَ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ قَالَ - تَعَالَى -:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127](127){رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128](128){رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ( «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» ) .
فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ عَنْ نَبِيِّهِمْ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَبِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ مِثْلُ: كَوْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَرْبَعًا، وَكَوْنِ الْمَغْرِبِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَكَوْنِ الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ وَمِثْلُ الْجَهْرِ فِي الْعِشَائَيْنِ وَالْفَجْرِ وَالْمُخَافَتَةِ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَمِثْلُ كَوْنِ الرَّكْعَةِ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ، وَكَوْنِ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، وَرَمْيِ الْجَمَرَاتِ كُلُّ وَاحِدَةٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَالْمُسْلِمُونَ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ فِي صُدُورِهِمْ حِفْظًا يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنِ الْمَصَاحِفِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ رَبِّي قَالَ لِي إِنِّي مُنَزِّلٌ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَأُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانًا» .
يَقُولُ: وَلَوْ غُسِلَ بِالْمَاءِ مِنَ الْمَصَاحِفِ لَمْ يُغْسَلْ مِنَ الْقُلُوبِ كَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ عُدِمَتْ نُسَخُهَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَنْقُلُهَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا مَحْفُوظَةً فِي الصُّدُورِ.
وَالْقُرْآنُ مَا زَالَ مَحْفُوظًا فِي الصُّدُورِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا حَتَّى لَوْ أَرَادَ مُرِيدٌ أَنْ يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنَ الْمَصَاحِفِ، وَعَرَضَ ذَلِكَ عَلَى صِبْيَانِ الْمُسْلِمِينَ
لَعَرَفُوا أَنَّهُ قَدْ غَيَّرَ الْمُصْحَفَ، لِحِفْظِهِمْ لِلْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلُوهُ بِمُصْحَفٍ، وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ.
وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ مِنْهُمْ أَنْ يَكْتُبَ نُسَخًا كَثِيرًا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَيُغَيِّرُ بَعْضَهَا، وَيَعْرِضُهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ مَا غَيَّرَ مِنْهَا إِنْ لَمْ يَعْرِضُوهُ عَلَى النُّسَخِ الَّتِي عِنْدَهُمْ.
وَلِهَذَا لَمَّا غَيَّرَ مَنْ نَسَخَ التَّوْرَاةَ رَاجَ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا التَّغْيِيرَ.
(وَأَيْضًا فَالْمُسْلِمُونَ لَهُمُ الْأَسَانِيدُ الْمُتَّصِلَةُ بِنَقْلِ الْعُدُولِ الثِّقَاتِ لِدَقِيقِ الدِّينِ كَمَا نَقَلَ الْعَامَّةُ جَلِيلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ) .
وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ كُتُبَهُمْ مَكْتُوبَةٌ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى التَّغْيِيرِ مِنَ الْكِتَابِ الْوَاحِدِ بِاللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ; فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَحْفَظُهُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَهُ.
وَأَمَّا الْكُتُبُ الْمَكْتُوبَةُ بِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ لِسَانًا فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ النُّسَخِ الْمَوْجُودَةِ بِبَعْضِ الْأَلْسِنَةِ غُيِّرَ بَعْضُ مَا فِيهَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْأَلْسُنِ الْبَاقِيَةِ، بَلْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ النُّسَخِ الْأُخْرَى فَالتَّغْيِيرُ فِيهَا مُمْكِنٌ كَمَا يُمْكِنُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ.
وَمَا ادَّعَوْهُ مِنْ تَعَذُّرِ جَمْعِ جَمِيعِ النُّسَخِ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ
ذَلِكَ إِذَا كَانَ مُتَعَذِّرًا لَمْ يُمْكِنِ الْجَزْمُ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ النُّسَخِ لِوَاحِدٍ، حَتَّى يَشْهَدَ بِأَنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، بَلْ إِمْكَانُ التَّغْيِيرِ فِيهَا أَيْسَرُ مِنْ إِمْكَانِ الشَّهَادَةِ بِاتِّفَاقِهَا.
وَلِهَذَا لَا يُمْكِنُ أَحَدًا تَغْيِيرُ الْقُرْآنِ، مَعَ كَوْنِهِ مَحْفُوظًا فِي الْقُلُوبِ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ، مَعَ أَنَّا لَا نَشْهَدُ لِجَمِيعِ الْمَصَاحِفِ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ قَدْ يَقَعُ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَاحِفِ مَا هُوَ غَلَطٌ يَعْلَمُهُ حُفَّاظُ الْقُرْآنِ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ بِمُصْحَفٍ آخَرَ.
وَتِلْكَ الْكُتُبُ لَا يَحْفَظُ كُلًّا مِنْهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّوَاتُرِ حَتَّى تُعْتَبَرَ النُّسَخُ بِهَا، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ عليهم السلام فِيهِمْ مَوْجُودِينَ، كَانُوا هُمُ الْمَرْجِعُ لِلنَّاسِ فِيمَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ إِذَا غَيَّرَ بَعْضُ النَّاسِ شَيْئًا مِنَ الْكُتُبِ، فَلَمَّا انْقَطَعَتِ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ أَسْرَعَ فِيهِمُ التَّغْيِيرُ.
فَلِهَذَا بَدَّلَ كَثِيرٌ مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ عليه السلام بَعْدَ رَفْعِهِ بِقَلِيلٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَصَارُوا يُبَدِّلُونَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَتَبْقَى فِيهِمْ طَائِفَةٌ مُتَمَسِّكَةٌ بِدِينِ الْحَقِّ إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
وَقَدْ بَقِيَ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ:
وَقَدْ أَدْرَكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ - وَكَانَ قَدْ تَنَصَّرَ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَجُوسِيًّا - طَائِفَةً مِمَّنْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِدِينِ الْمَسِيحِ عليه السلام وَاحِدًا بِالْمَوْصِلِ وَآخَرَ بِنَصِيبِينَ وَآخَرَ بِعَمُّورِيَّةَ.
وَكُلٌّ مِنْهُمْ يُخْبِرُهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - إِلَّا قَلِيلٌ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ آخِرُهُمْ: لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يُبْعَثُ نَبِيٌّ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ جِهَةِ الْحِجَازِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ هِجْرَةِ سَلْمَانَ إِلَيْهِ وَإِيمَانِهِ بِهِ.
فَالدِّينُ الَّذِي اجْتَمَعَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمُونَ اجْتِمَاعًا ظَاهِرًا مَعْلُومًا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ نَبِيِّهِمْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا نَقَلُوا الْقُرْآنَ وَنَقَلُوا سُنَّتَهُ، وَسُنَّتُهُ مُفَسِّرَةٌ لِلْقُرْآنِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ كَمَا قَالَ - تَعَالَى - لَهُ:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
فَبَيَّنَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ فَصَارَ مَعَانِي الْقُرْآنِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ اتِّفَاقًا ظَاهِرًا مِمَّا تَوَارَثَتْهُ الْأُمَّةُ عَنْ نَبِيِّهَا كَمَا تَوَارَثَتْ عَنْهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَكُنْ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ شَيْءٌ مُحَرَّفٌ مُبَدَّلٌ مِنَ الْمَعَانِي فَكَيْفَ بِأَلْفَاظِ تِلْكَ الْمَعَانِي.
فَإِنَّ نَقْلَهَا وَالِاتِّفَاقَ عَلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْهُ فِي الْأَلْفَاظِ فَكَانَ الدِّينُ الظَّاهِرُ لِلْمُسْلِمِينَ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِمَّا نَقَلُوهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَا تَبْدِيلٌ لَا لِلَّفْظِ وَلَا لِلْمَعْنَى بِخِلَافِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَإِنَّ مِنْ أَلْفَاظِهَا مَا بَدَّلَ مَعَانِيَهُ وَأَحْكَامَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَوْ مَجْمُوعُهُمَا تَبْدِيلًا ظَاهِرًا مَشْهُورًا فِي عَامَّتِهِمْ كَمَا
بَدَّلَتِ الْيَهُودُ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الْبِشَارَةِ بِالْمَسِيحِ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ، وَمَا فِي التَّوْرَاةِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَأَمْرِهِ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ.
وَكَمَا بَدَّلَتِ النَّصَارَى كَثِيرًا مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالنُّبُوَّاتِ مِنَ الْأَخْبَارِ وَمِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ يُغَيِّرْهَا الْمَسِيحُ، فَإِنَّ مَا نَسَخَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ الْمَسِيحِ مِنَ التَّوْرَاةِ يَجِبُ اتِّبَاعُ الْمَسِيحِ فِيهِ.
وَأَمَّا مَا بُدِّلَ بَعْدَ الْمَسِيحِ مِثْلُ اسْتِحْلَالِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يُبِحْهُ الْمَسِيحُ وَمِثْلُ إِسْقَاطِ الْخِتَانِ وَمِثْلُ الصَّلَاةِ إِلَى الْمَشْرِقِ (وَزِيَادَةِ الصَّوْمِ وَنَقْلِهِ مِنْ زَمَانٍ إِلَى زَمَانٍ) وَاتِّخَاذِ الصُّوَرِ فِي الْكَنَائِسِ وَتَعْظِيمِ الصَّلِيبِ وَاتِّبَاعِ الرَّهْبَانِيَّةِ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا شَرَائِعُ لَمْ يَشْرَعْهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَا الْمَسِيحُ، وَلَا غَيْرُهُ خَالَفُوا بِهَا شَرْعَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرَعَهَا اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ - لِلْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ - أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ وَكَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ مِنَ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِيهِ تَصْدِيقًا وَعَمَلًا.
فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَ أُمَّتَهُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] .
وَقَالَ - تَعَالَى -:
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] .
وَقَالَ - تَعَالَى -: عَنِ الْخَلِيلِ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ.
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128](128){رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] .
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» فَكَانَ يُعَلِّمُ أُمَّتَهُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ الَّذِي أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُ وَهُوَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ:
وَهُوَ الَّذِي شَرَّعَ لِأُمَّتِهِ أَنْ تَقْرَأَهُ فِي صَلَاتِهِمْ فَلَا تَصِحُّ صَلَاةٌ إِلَّا بِهِ وَعَلَّمَهُمْ مَعَ ذَلِكَ الْحِكْمَةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقُرْآنِ مِنْ وُجُوهٍ.
مِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الَّذِي يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ دُونَهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيَّةَ مُنَزَّلَةٌ عَلَى تَرْتِيبِ الْآيَاتِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُغَيِّرَهَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ يَجُوزُ تَفْسِيرُهَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَتَرْجَمَتُهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا تِلَاوَتُهَا بِالْعَرَبِيِّ بِغَيْرِ لَفْظِهَا، فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ مَا عَلَّمَهُمْ مِنَ الْحِكْمَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ حُكْمُ أَلْفَاظِهَا حُكْمَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا طَاهِرٌ، وَلَا يَقْرَأُهُ الْجُنُبُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّتُهُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أُمَّتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ.
وَالْقُرْآنُ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ مِنْهُ حِفْظًا فِي حَيَاتِهِ، وَحَفِظَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ فِي حَيَاتِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَا مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا مَنْ حَفِظَ بَعْضَهُ وَكَانَ يَحْفَظُ بَعْضُهُمْ مَا لَا يَحْفَظُهُ الْآخَرُ فَهُوَ جَمِيعُهُ مَنْقُولٌ سَمَاعًا مِنْهُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُ.
وَفِي الْقُرْآنِ - مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ - نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ وَكَانَ الَّذِينَ رَأَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَنَقَلُوا مَا عَايَنُوهُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمَا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَحَدِيثِهِ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ رَأَوْهُ وَآمَنُوا بِهِ.
وَأَمَّا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى: فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنَاجِيلَ إِنْجِيلُ مَتَّى وَيُوحَنَّا
وَلُوقَا وَمُرْقُسَ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ لُوقَا وَمُرْقُسَ لَمْ يَرَيَا الْمَسِيحَ، وَإِنَّمَا رَآهُ مَتَّى وَيُوحَنَّا، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْإِنْجِيلَ، وَقَدْ يُسَمُّونَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِنْجِيلًا، إِنَّمَا كَتَبَهَا هَؤُلَاءِ بَعْدَ أَنْ رُفِعَ الْمَسِيحُ، فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا أَنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ، وَلَا أَنَّ الْمَسِيحَ، بَلَّغَهَا عَنِ اللَّهِ، بَلْ نَقَلُوا فِيهَا أَشْيَاءَ مِنْ كَلَامِ الْمَسِيحِ، وَأَشْيَاءَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوا كُلَّ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ وَرَأَوْهُ فَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا يَرْوِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ وَالْمَغَازِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ الَّتِي لَيْسَتْ قُرْآنًا.
فَالْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ شِبْهُ كِتَابِ السِّيرَةِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ مِثْلُ هَذِهِ الْكُتُبِ وَإِنْ كَانَ غَالِبُهَا صَحِيحًا.
وَمَا قَالَهُ عليه السلام فَهُوَ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللَّهِ يَجِبُ فِيهِ تَصْدِيقُ خَبَرِهِ وَطَاعَةُ أَمْرِهِ كَمَا قَالَهُ الرَّسُولُ مِنَ السُّنَّةِ فَهُوَ يُشْبِهُ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ مِنَ السُّنَّةِ فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَذْكُرُ الرَّسُولُ أَنَّهُ قَوْلُ اللَّهِ كَقَوْلِهِ.
يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُ بِالْحَرْبِ» وَنَحْوُ ذَلِكَ
وَمِنْهَا مَا يَقُولُهُ هُوَ وَلَكِنْ هُوَ أَيْضًا مِمَّا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، فَهَكَذَا مَا يُنْقَلُ فِي الْإِنْجِيلِ وَهُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ فَإِنَّهُ كَانَ أَمْرًا مِنَ الْمَسِيحِ فَأَمْرُ الْمَسِيحِ أَمْرُ اللَّهِ وَمَنْ أَطَاعَ الْمَسِيحَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ.
وَمَا أَخْبَرَ بِهِ الْمَسِيحُ عَنِ الْغَيْبِ فَاللَّهُ أَخْبَرَهُ بِهِ فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ أَنْ يَكْذِبَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ الْإِنْجِيلُ يُشْبِهُ السُّنَّةَ الْمُنَزَّلَةَ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا غَلَطٌ كَمَا يَقَعُ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ، ثُمَّ هَذِهِ الْكُتُبُ قَدِ اشْتُهِرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ (فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا - بَعْدَ اشْتِهَارِهَا وَكَثْرَةِ النُّسَخِ بِهَا - أَنْ يُبَدِّلَهَا كُلَّهَا.
لَكِنْ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهَا غَلَطٌ وَقَعَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تُشْتَهَرَ، فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ - وَإِنْ كَانَ عَدْلًا - فَقَدْ يَغْلَطُ) لَكِنْ مَا تَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ مِنَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ مِمَّا يَجْزِمُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ بِصِدْقِهِ عَنْ نَبِيِّهِمْ.
هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَعَامَّةِ الطَّوَائِفِ كَجُمْهُورِ الطَّوَائِفِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنَ الْكِلَابِيَّةِ وَالْكَرَامِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنْ ظَنَّ بَعْضُ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِصِدْقِهَا لِكَوْنِ الْوَاحِدِ قَدْ يَغْلَطُ أَوْ يَكْذِبُ، وَهَذَا الظَّنُّ إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ فِي الْوَاحِدِ الَّذِي لَمْ يُعْرَفْ صِدْقُهُ وَضَبْطُهُ
أَمَّا إِذَا عُرِفَ صِدْقُهُ وَضَبْطُهُ، إِمَّا بِالْمُعْجِزَاتِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَإِمَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ لَهُ فِيمَا يَقُولُ وَإِمَّا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ عَلَى صِدْقِهِ وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ، أَوِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَإِقْرَارِهِ، وَذَكَرَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، أَوْ ظُهُورِ دَلَائِلَ وَشَوَاهِدَ وَقَرَائِنَ احْتَفَّتْ بِخَبَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِ الْمُخْبِرِ، فَهَذِهِ يَجِبُ مَعَهَا الْحُكْمُ بِصِدْقِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يَغْلَطْ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ تِلْكَ الدَّلَائِلِ أَمْكَنَ كَذِبُهُ أَوْ غَلَطُهُ كَمَا أَنَّ الْخَبَرَ الْمُجَرَّدَ لَا يُجْزَمُ بِكَذِبِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا قِيَامِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ عَلَى أَنَّهُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ فَيُجْزَمُ بِبُطْلَانِ خَبَرِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْمُخْبِرُ إِمَّا كَاذِبًا أَوْ غَالِطًا، وَقَدْ يُعْلَمُ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ.
فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْ نَبِيِّهِمْ مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ وَمَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ الْمَعْصُومَةُ عَلَى تَصْدِيقِهِ، وَمَا قَامَتْ دَلَائِلُ صِدْقِهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ مِثْلُ: أَنْ يُخْبِرَ وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ كَثِيرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَاطَئُوا عَلَى الْكَذِبِ بِخَبَرٍ يَقُولُونَ إِنَّ أُولَئِكَ عَايَنُوهُ وَشَاهَدُوهُ فَيُقِرُّونَهُمْ عَلَى هَذَا وَلَا يُكَذِّبُ بِهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَيُعْلَمُ بِالْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا لَامْتَنَعَ اتِّفَاقُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ تَكْذِيبِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.
وَإِذَا نَقَلَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ مَا تُوجِبُ الْعَادَةُ اشْتِهَارَهُ وَظُهُورَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ، وَنَقَلُوهُ مُسْتَخْفِينَ بِنَقْلِهِ لَمْ يَنْقُلُوهُ عَلَى رُءُوسِ الْجُمْهُورِ، عُلِمَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ.
وَدَلَائِلُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ وَكَذِبِهِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَعِنْدَهُمْ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةَ الصِّدْقِ بِطُرُقٍ مُتَنَوِّعَةٍ كَتَصْدِيقِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ وَدَلَالَةِ الْعَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُمْ يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ فِي صُدُورِهِمْ لَا يَحْتَاجُونَ فِي حِفْظِهِ إِلَى كِتَابٍ مَسْطُورٍ، فَلَوْ عُدِمَتِ الْمَصَاحِفُ مِنَ الْأَرْضِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِيمَا حَفِظُوهُ.
بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَوْ عُدِمَتْ نُسَخُ الْكُتُبِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِهِ نَقْلٌ مُتَوَاتِرٌ بِأَلْفَاظِهَا إِذْ لَا يَحْفَظُهَا - إِنْ حَفِظَهَا - إِلَّا قَلِيلٌ لَا يُوثَقُ بِحِفْظِهِمْ فَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ انْقِطَاعِ النُّبُوَّةِ عَنْهُمْ يَقَعُ فِيهِمْ مِنْ تَبْدِيلِ الْكُتُبِ إِمَّا تَبْدِيلِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا وَمَعَانِيهَا، وَإِمَّا تَبْدِيلِ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا مَا لَمْ يَقُومُوا بِتَقْوِيمِهِ.
وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِيهِمِ الْإِسْنَادُ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا لَهُمْ كَلَامٌ فِي نَقَلَةِ الْعِلْمِ وَتَعْدِيلِهِمْ وَجَرْحِهِمْ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ نَقَلَةِ الْعِلْمِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَامَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى خَطَأٍ، بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ لَمَّا كَذَّبُوا الْمَسِيحَ.
ثُمَّ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَإِذَا كَانَتِ الْكُتُبُ الْمَنْقُولَةُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ جِنْسِ الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَلَمْ تَكُنْ مُتَوَاتِرَةً عَنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ حُجَّةً لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِنَ
الْعِلْمِ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.
فَهَذِهِ الْأَنَاجِيلُ الَّتِي بِأَيْدِي النَّصَارَى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ فِيهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَفْعَالِهِ وَمُعْجِزَاتِهِ وَفِيهَا مَا هُوَ غَلَطٌ عَلَيْهِ، بِلَا شَكٍّ، وَالَّذِي كَتَبَهَا فِي الْأَوَّلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ وَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ وَالْأَرْبَعَةَ لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ مِنْهُمْ لَا سِيَّمَا مَا سَمِعَهُ الْإِنْسَانُ وَرَآهُ ثُمَّ حَدَّثَ بِهِ بَعْدَ سِنِينَ كَثِيرَةٍ، فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرٌ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أُمَّةٌ مَعْصُومَةٌ يَكُونُ تَلَقِّيهَا لَهَا بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِهَا لِئَلَّا تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ الْمَعْصُومَةُ عَلَى الْخَطَأِ وَالْحَوَارِيُّونَ كُلُّهُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا.
وَقِصَّةُ الصَّلْبِ مِمَّا وَقَعَ فِيهَا الِاشْتِبَاهُ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَصْلُوبَ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَسِيحَ عليه السلام، بَلْ شَبَهَهُ وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ الْمَسِيحُ وَالْحَوَارِيُّونَ لَمْ يَرَ أَحَدٌ مِنْهُمُ الْمَسِيحَ مَصْلُوبًا، بَلْ أَخْبَرَهُمْ بِصَلْبِهِ بَعْضُ مَنْ شَهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ.
(فَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُونَ: إِنَّ أُولَئِكَ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] عَنْ أُولَئِكَ، وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي (شُبِّهَ
لَهُمْ) عَنِ السَّامِعِينَ لِخَبَرِ أُولَئِكَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَغْلَطُوا فِي هَذَا، وَلَمْ يَكُونُوا مَعْصُومِينَ فِي نَقْلِهِ جَازَ أَنْ يَغْلَطُوا فِي بَعْضِ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي رِسَالَةِ الْمَسِيحِ، وَلَا فِيمَا تَوَاتَرَ نَقْلُهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، سَوَاءٌ صُلِبَ أَوْ لَمْ يُصْلَبْ، وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، سَوَاءٌ صُلِبَ أَوْ لَمْ يُصْلَبْ.
وَالْحَوَارِيُّونَ مُصَدَّقُونَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهُ لَا يُتَّهَمُونَ بِتَعَمُّدِ الْكَذِبِ عَلَيْهِ لَكِنْ إِذَا غَلِطَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ مَا يَنْقُلُهُ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَعْلُومًا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الَّذِي غَلِطَ فِيهِ مِمَّا تَبَيَّنَ غَلَطُهُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّصَارَى فِي عَامَّةِ مَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ حَتَّى فِي الصَّلْبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمَصْلُوبُ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحَ، بَلِ الشَّبَهَ كَمَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِعُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَيُنْكِرُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ كَالْأَرْيُوسِيَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الِاتِّحَادَ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْحُلُولِ كَالنَّسْطُورِيَّةِ
وَأَمَّا الشَّرَائِعُ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا فَعُلَمَاؤُهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَكْثَرَهَا لَيْسَ عَنِ الْمَسِيحِ عليه السلام فَالْمَسِيحُ لَمْ يَشْرَعْ لَهُمُ الصَّلَاةَ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَلَا الصِّيَامَ الْخَمْسِينَ وَلَا جَعَلَهُ فِي زَمَنِ الرَّبِيعِ، وَلَا عِيدَ الْمِيلَادِ وَالْغِطَاسِ، وَعِيدَ الصَّلِيبِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ
أَعْيَادِهِمْ، بَلْ أَكْثَرُ ذَلِكَ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ بَعْدَ الْحَوَارِيِّينَ، مِثْلَ عِيدِ الصَّلِيبِ فَإِنَّهُ مِمَّا ابْتَدَعَتْهُ هِيلَانَةُ الْحَرَّانِيَّةُ أُمُّ قُسْطَنْطِينَ وَفِي زَمَنِ قُسْطَنْطِينَ غَيَّرُوا كَثِيرًا مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ وَالْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ فَابْتَدَعُوا الْأَمَانَةَ الَّتِي هِيَ عَقِيدَةُ إِيمَانِهِمْ وَهِيَ عَقِيدَةٌ لَمْ يَنْطِقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ، وَلَا هِيَ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَحَدِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ الَّذِينَ صَحِبُوا الْمَسِيحَ،، بَلِ ابْتَدَعَهَا لَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَكَابِرِهِمْ قَالُوا كَانُوا ثَلَاثَ مِائَةٍ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ.
وَاسْتَنَدُوا فِي ذَلِكَ إِلَى أَلْفَاظٍ مُتَشَابِهَةٍ فِي الْكُتُبِ وَفِي الْكُتُبِ أَلْفَاظٌ مُحْكَمَةٌ تُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ عَامَّةُ شَرَائِعِهِمُ الَّتِي وَضَعُوهَا فِي كِتَابِ " الْقَانُونِ " بَعْضُهَا مَنْقُولٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْضُهَا مَنْقُولٌ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ وَكَثِيرٌ مِنْهَا مِمَّا ابْتَدَعُوهُ لَيْسَتْ مَنْقُولَةً عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا عَنِ الْحَوَارِيِّينَ وَهُمْ يُجَوِّزُونَ لِأَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ أَنْ يُغَيِّرُوا مَا رَأَوْهُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَيَضَعُوا شَرْعًا جَدِيدًا فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ شَرْعِهِمْ مُبْتَدَعًا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا شَرَعَهُ نَبِيٌّ.