الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: قَوْلُ زَكَرِيَّا وَيَحُلُّ هُوَ وَهُمْ فِيكِ وَتَعْرِفِينَ أَنِّي أَنَا اللَّهُ الْقَوِيُّ السَّاكِنُ فِيكِ]
قَالُوا: وَقَالَ زَكَرِيَّا النَّبِيُّ: (افْرَحِي يَا بَيْتَ صِهْيُونَ، لِأَنِّي آتِيكِ وَأَحُلُّ فِيكِ وَأَتَرَايَا، قَالَ اللَّهُ: وَيُؤْمِنُ بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْأُمَمُ الْكَثِيرَةُ، وَيَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا وَاحِدًا، وَيَحُلُّ هُوَ وَهُمْ فِيكِ، وَتَعْرِفِينَ أَنِّي أَنَا اللَّهُ الْقَوِيُّ السَّاكِنُ فِيكِ، وَيَأْخُذُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمُلْكَ مِنْ يَهُوذَا، وَيُمَلَّكُ عَلَيْهِمْ إِلَى الْأَبَدِ.
فَيُقَالُ: مِثْلُ هَذَا قَدْ ذُكِرَ عِنْدَهُمْ عَن إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ اللَّهَ تَجَلَّى لَهُ، وَاسْتَعْلَنَ لَهُ، وَتَرَايَا لَهُ، وَنَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى حُلُولِهِ فِيهِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ.
وَكَذَلِكَ إِتْيَانُهُ، وَهُوَ لَمْ يَقُل: إِنِّي أَحُلُّ فِي الْمَسِيحِ وَأَتَّحِدُ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَنْ بَيْتِ صِهْيُونَ:(آتِيكِ وَأَحُلُّ فِيكِ) كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى حُلُولِهِ فِي بَشَرٍ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:(وَتَعْرِفِينَ أَنِّي أَنَا اللَّهُ الْقَوِيُّ السَّاكِنُ فِيكِ) لَمْ يُرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ حُلُولَهُ فِي الْمَسِيحِ، فَإِنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يَسْكُن بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهُوَ قَوِيٌّ، بَلْ كَانَ يَدْخُلُهَا وَهُوَ مَغْلُوبٌ مَقْهُورٌ حَتَّى أُخِذَ وَصُلِبَ أَوْ شِبْهُهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا حَصَلَتْ مَعْرِفَتُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ فِي الْقُلُوبِ اطْمَأَنَّتْ وَسَكَنَت.
وَكَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ لَمَّا ظَهَرَ فِيهِ دِينُ الْمَسِيحِ عليه السلام بَعْدَ رَفْعِهِ حَصَلَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَجِمَاعُ هَذَا أَنَّ النُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ وَالْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، وَسَائِرِ نُبُوَّاتِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَخُصَّ الْمَسِيحَ بِشَيْءٍ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِاتِّحَادِ اللَّاهُوتِ بِهِ وَحُلُولِهِ فِيهِ كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى، بَلْ لَمْ تَخُصَّهُ إِلَّا بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171] .
فَكُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَسَائِرُ النُّبُوَّاتِ مُوَافِقَةٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَسَائِرُ مَا تَسْتَدِلُّ بِهِ
النَّصَارَى عَلَى إِلَهِيَّتِهِ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ يُوجَدُ مِثْلُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَسِيحِ، فَتَخْصِيصُ الْمَسِيحِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَدُونَ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ مِثْلُ اسْمِ الِابْنِ وَالْمَسِيحِ وَمِثْلُ حُلُولِ رُوحِ الْقُدُسِ فِيهِ، وَمِثْلُ تَسْمِيَتِهِ إِلَهًا، وَمِثْلُ ظُهُورِ الرَّبِّ أَوْ حُلُولِهِ فِيهِ أَوْ سُكُونِهِ فِيهِ أَوْ فِي مَكَانِهِ.
فَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ وَمَا أَشْبَهَهَا مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَسِيحِ عِنْدَهُم، وَلَمْ يَكُونُوا بِذَلِكَ آلِهَةً.
وَلَكِنِ الْقَائِلُونَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
وَهَذَا الْمَذْهَبُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَإِنْ كَانَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَقُولُ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا يَحُلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَنُورِهِ وَهُدَاهُ وَالرُّوحِ مِنْهُ، وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ.
وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ ذَاتُ الرَّبِّ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ بِالِاسْمِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقَلْبِ، أَوْ نَفْسَ الْخَطِّ هُوَ نَفْسُ اللَّفْظِ، وَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَاتَ الْمَحْبُوبِ حَلَّتْ فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ وَاتَّحَدَتْ بِهِ، أَوْ نَفْسَ الْمَعْرُوفِ الْمَعْلُومِ حَلَّ فِي ذَاتِ الْعَالِمِ الْعَارِفِ بِهِ وَاتَّحَدَ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ أَنَّ نَفْسَ الْمَحْبُوبِ الْمَعْلُومِ بَايِنٌ عَنْ ذَاتِ الْمُحِبِّ رُوحِهِ وَبَدَنِهِ، لَمْ يَحُلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] .
فَالْمُؤْمِنُونَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيُحِبُّونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيُقَالُ هُوَ فِي قُلُوبِهِم، وَالْمُرَادُ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَعِبَادَتُهُ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْعِلْمِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ ذَاتِهِ، كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ فِي قَلْبِي، وَمَا زِلْتَ فِي قَلْبِي وَبَيْنَ عَيْنَيَّ، وَيُقَالُ:
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ
…
لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَيُقَالُ:
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ
…
غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ
وَمِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ:
وَمِنْ عَجَبِي أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ
…
وَأَسْأَلُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيتُ وَهُمْ مَعِي
وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا
وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي
وَقَالَ:
مِثَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي
…
وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟
وَالْمَسَاجِدُ: هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] .
قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] .
ثُمَّ قَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .
فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ نُورَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِ، كَذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْأُولَى.
وَأَمَّا الْإِتْيَانُ وَالْمَجِيءُ وَالتَّجَلِّي فَعِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ يَقُولُ اللَّهُ لِمُوسَى: إِنِّي آتِي إِلَيْكَ فِي غِلَظِ الْغَمَامِ لِكَيْ يَسْمَعَ الْقَوْمُ مُخَاطَبَتِي لَكَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: اجْمَعْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنْ شُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَخُذْهُم
إِلَى خِبَاءِ الْعَرَبِ يَقِفُونَ مَعَكَ حَتَّى أُخَاطِبَهُم.
وَفِي السِّفْرِ الرَّابِعِ لَمَّا كَلَّمَ مَرْيَمَ وَهَارُونَ فِي مُوسَى: (حِينَئِذٍ تَجَلَّى اللَّهُ بِعَمُودِ الْغَمَامِ قَائِمًا عَلَى بَابِ الْخِبَاءِ وَنَادَى يَا هَارُونُ وَيَا مَرْيَمُ، فَخَرَجَا كِلَاهُمَا فَقَالَ: اسْمَعَا كَلَامِي إِنِّي أَنَا اللَّهُ فِيمَا بَيْنَكُم) .
وَفِي الْفَصْلِ الثَّالِثَ عَشَرَ: (إِنْ أَصْعَدْتَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِقُدْرَتِكَ، فَيَقُولُونَ لِأَهْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّذِينَ سَمِعُوا أَنَّكَ اللَّهُ فِيمَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ يَرَوْنَهُ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَغَمَامُكَ يُقِيمُ عَلَيْهِم، وَبِعَمُودِ غَمَامٍ يَسِيرُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ نَهَارًا وَبِعَمُودِ نَارٍ لَيْلًا) .
وَفِي السِّفْرِ الْخَامِسِ قَوْلُ مُوسَى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: (لَا تَهَابُوهُمْ وَلَا تَخَافُوهُم، لِأَنَّ اللَّهَ رَبَّكُمُ السَّائِرَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ هُوَ يُحَارَبُ عَنْكُم) .
وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ مُوسَى: (إِنَّ الشَّعْبَ هُوَ شَعْبُكَ، فَقَالَ: يَا مُوسَى أَنَا أَمْضِي أَمَامَكَ فَارْتَحِل، فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَمْضِ أَنْتَ مَعَنَا وَإِلَّا فَلَا تُصْعِدْنَا مِنْ هَاهُنَا، وَكَيْفَ أَعْلَمُ أَنَا وَهَذَا الشَّعْبُ أَنِّي وَجَدْتُ أَمَامَكَ نِعْمَةَ كَذَا بِعِلْمِكَ إِلَّا بِسَيْرِكَ مَعَنَا؟) .
وَفِي الْمَزْمُورِ الرَّابِعِ مِنَ الزَّبُورِ عِنْدَهُمْ يَقُولُ: (وَلِيُفْرِحَ الْمُتَّكِلُونَ عَلَيْكَ إِلَى الْأَبَدِ وَيَبْتَهِجُونَ وَيَحُلُّ فِيهِمْ وَيَفْتَخِرُونَ) فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَحُلُّ فِي جَمِيعِ الصِّدِّيقِينَ، أَيْ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ، فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ لَمْ تَحُلَّ فِي الصِّدِّيقِينَ، وَكَذَلِكَ فِي رَسَائِلِ يُوحَنَّا الْإِنْجِيلِيِّ:(إِذَا أَخْفَى بَعْضُنَا بَعْضًا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَلْبَثُ فِينَا) أَيْ مَحَبَّتَهُ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.