الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: رَدُّ دَعْوَى النَّصَارَى أَنَّ الْقُرْآنَ سَوَّى بَيْنَ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ]
قَالُوا وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:
فَسَاوَى بِهَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ سَائِرِ النَّاسِ: الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ:
أَوَّلًا: لَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَطْلُوبِكُمْ، فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالصَّابِئِينَ، وَأَنْتُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ
كُفَّارٌ مِنْ حِينِ بُعِثَ الْمَسِيحُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُ.
وَكَذَلِكَ الصَّابِئُونَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ فَكَذَّبُوهُ، فَهُمْ كُفَّارٌ. فَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مَدْحٌ لِدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ فَفِيهَا مَدْحُ دِينِ الْيَهُودِ أَيْضًا، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَدْحُ الْيَهُودِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ فَلَيْسَ فِيهَا مَدْحٌ لِدِينِ النَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْيَهُودِيِّ، إِنِ احْتَجَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ دِينِهِ.
وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّصَارَى يُكَفِّرُونَ الْيَهُودَ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُمْ حَقًّا لَزِمَ كُفْرُ الْيَهُودِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَزِمَ بُطْلَانُ دِينِهِمْ فَلَابُدَّ مِنْ بُطْلَانِ أَحَدِ الدِّينَيْنِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَدَحَتْهُمَا، وَقَدْ سَوَّتْ بَيْنَهُمَا.
فَعُلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَمْدَحْ وَاحِدًا مِنْهُمَا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالَّذِينَ هَادُوا الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُوسَى عليه السلام، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرْعِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْمَسِيحَ عليه السلام، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَتِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ.
وَالصَّابِئِينَ وَهُمُ الصَّابِئُونَ الْحُنَفَاءُ، كَالَّذِينَ كَانُوا مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ قَبْلَ التَّبْدِيلِ وَالنَّسْخِ.
فَإِنَّ الْعَرَبَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَغَيْرِهِ الَّذِينَ كَانُوا جِيرَانَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ كَانُوا حُنَفَاءَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ غَيَّرَ دِينَهُ بَعْضُ وُلَاةِ خُزَاعَةَ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ بِالشِّرْكِ، وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ - أَيْ أَمْعَاءَهُ - فِي النَّارِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ
السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ» .
وَكَذَلِكَ بَنُو إِسْحَاقَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ مُوسَى مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ كَانُوا مِنَ السُّعَدَاءِ الْمَحْمُودِينَ، فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى دِينِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ وَإِبْرَاهِيمَ، وَنَحْوُهُمْ هُمُ الَّذِينَ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:
فَأَهْلُ الْكِتَابِ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَيْسُوا مِمَّنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَفَّرَ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ بَدَّلُوا دِينَ مُوسَى وَالْمَسِيحِ، وَكَذَّبُوا بِالْمَسِيحِ أَوْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَتِلْكَ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ، وَنُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى سَلَكُوا فِي الْقُرْآنِ مَا سَلَكُوهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَدَعُونَ النُّصُوصَ الْمُحْكَمَةَ الصَّرِيحَةَ الْبَيِّنَةَ الْوَاضِحَةَ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا، وَيَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ الْمُحْتَمَلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِمْ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِيهِمْ وَفِي أَمْثَالِهِمْ: