الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: دَلَائِلُ وُجُودِ اللَّهِ وَحَيَاتِهِ]
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: وَرَأَيْنَا الْأَشْيَاءَ الْمَخْلُوقَةَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: شَيْءٌ حَيٌّ، وَشَيْءٌ غَيْرُ حَيٍّ، فَوَصَفْنَاهُ بِأَجَلِّ الْقِسْمَيْنِ فَقُلْنَا إِنَّهُ حَيٌّ لِنَنْفِيَ الْمَوْتَ عَنْهُ.
فَيُقَالُ: لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ كُتُبُهُ الْمُنَزَّلَةُ الَّتِي هِيَ آيَاتُهُ الْقَوْلِيَّةُ، وَدَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتُهُ كَمَخْلُوقَاتِهِ، الَّتِي هِيَ آيَاتُهُ الْفِعْلِيَّةُ، قَالَ - تَعَالَى -:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] .
أَيِ الْقُرْآنُ حَقٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ:
فَاللَّهُ - تَعَالَى - يُرِي عِبَادَهُ مِنْ آيَاتِهِ الْمُشَاهَدَةِ الْمُعَايَنَةِ الْفِعْلِيَّةِ، مَا يُبَيِّنُ صِدْقَ آيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ الْمَسْمُوعَةِ الْقَوْلِيَّةِ.
قَالَ - تَعَالَى -: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]
وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] .
وَالدَّلَائِلُ عَلَى حَيَاتِهِ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَالِمٌ، وَالْعِلْمُ لَا يَقُومُ إِلَّا بِحَيٍّ، وَثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ مُخْتَارٌ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ، وَالْقَادِرُ الْمُخْتَارُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَيًّا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ خَالِقُ الْأَحْيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْخَالِقُ أَكْمَلُ مِنَ الْمَخْلُوقِ، فَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَهُوَ مِنَ الْخَالِقِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْ خَالِقِهِ، وَكَمَالُهُ أَكْمَلَ مِنْهُ.
وَالْمُتَفَلْسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ يُسَلِّمُونَ هَذَا، وَيَقُولُونَ: كَمَالُ الْمَعْلُولِ مُسْتَفَادٌ مِنْ عِلَّتِهِ فَإِذَا كَانَ خَالِقًا لِلْأَحْيَاءِ كَانَ حَيًّا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْحَيَّ أَكْمَلُ مِنْ غَيْرِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -:
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22] .
فَلَوْ كَانَ الْخَالِقُ غَيْرَ حَيٍّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُمْكِنُ الْمُحْدَثُ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنَ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ، فَيَكُونُ أَنْقَصُ الْمَوْجُودَيْنِ أَكْمَلَ مِنْ أَكْمَلِهَا، وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَنَاوَلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُبَيِّنُوهُ بَيَانًا تَامًّا، لَكِنَّ قَوْلَهُمْ قُلْنَا إِنَّهُ حَيٌّ لِنَنْفِيَ الْمَوْتَ عَنْهُ.
كَلَامٌ مُسْتَدْرَكٌ فَإِنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الثُّبُوتِيَّةِ كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، فَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا سَلْبُ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ لَا يُمْدَحُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ إِلَّا لِتَضَمُّنِهَا الْمَعَانِي الثُّبُوتِيَّةَ، فَإِنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ وَالسَّلْبَ الصِّرْفَ لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ، إِذْ كَانَ الْمَعْدُومُ يُوصَفُ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ لَا كَمَالَ فِيهِ، إِنَّمَا الْكَمَالُ فِي الْوُجُودِ.
وَلِهَذَا جَاءَ كِتَابُ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيَصِفُ سُبْحَانَهُ نَفْسَهُ بِالصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَبِصِفَاتِ السَّلْبِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلثُّبُوتِ كَقَوْلِهِ:
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] .
فَنَفْيُ أَخْذِ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ، إِذِ النَّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ مَعَ كَمَالِ الرَّاحَةِ، كَمَا لَا يَمُوتُونَ.
وَالْقَيُّومُ: الْقَائِمُ الْمُقِيمُ لِمَا سِوَاهُ، فَلَوْ جُعِلَتْ لَهُ سِنَةٌ أَوْ نَوْمٌ لَنَقَصَتْ حَيَاتُهُ وَقَيُّومِيَّتُهُ، فَلَمْ يَكُنْ قَائِمًا وَلَا قَيُّومًا، كَمَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، لَمَّا سَأَلُوا مُوسَى: هَلْ يَنَامُ رَبُّكَ؟ فَأَرَّقَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَعْطَاهُ قَوَارِيرَ فَأَخَذَهُ النَّوْمُ فَتَكَسَّرَتْ.
بَيَّنَ بِهَذَا الْمَثَلِ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ لَوْ نَامَ لَنَفِدَ الْعَالَمُ، ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] .
فَإِنْكَارُهُ وَنَفْيُهُ أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ مُلْكِهِ لِمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، فَإِنَّ مَنْ شَفَعَ عِنْدَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَقَبِلَ شَفَاعَتَهُ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ إِذْ صَارَتْ شَفَاعَتُهُ سَبَبًا لِتَحْرِيكِ الْمَشْفُوعِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالْمُلْكِ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] .
فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ لَيْسَ إِلَّا أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِالتَّعْلِيمِ، فَهُوَ الْعَالِمُ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ شَيْئًا إِلَّا بِتَعْلِيمِهِ، كَمَا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:
{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] ثُمَّ قَالَ - تَعَالَى -:
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]
أَيْ لَا يَكْرُثُهُ وَلَا يَثْقُلُ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ أَدْنَى مَشَقَّةٍ، وَلَا أَيْسَرُ كُلْفَةٍ فِي حِفْظِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
بَيَّنَ بِذَلِكَ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ اللُّغُوبُ فِي الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ مِثْلِ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، كَمَا يَلْحَقُ الْمَخْلُوقَ اللُّغُوبُ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا عَظِيمًا، وَاللُّغُوبُ: الِانْقِطَاعُ وَالْإِعْيَاءُ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِذَاتِهِ وَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُهُ بِنَقَائِضِهَا، وَإِذَا وُصِفَ بِالسُّلُوبِ، فَالْمَقْصُودُ هُوَ إِثْبَاتُ الْكَمَالِ، وَهَؤُلَاءِ قَالُوا: قَدْ وَصَفْنَاهُ بِالْحَيَاةِ لِنَنْفِيَ عَنْهُ الْمَوْتَ، كَمَا قَالُوا: هُوَ شَيْءٌ لِنَنْفِيَ الْعَدَمَ عَنْهُ، وَالْحَيَاةُ صِفَةُ كَمَالٍ يَسْتَحِقُّهَا بِذَاتِهِ، وَالْمَوْتُ مُنَاقِضٌ لَهَا، فَلَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لِأَجْلِ نَفْيِ الْمَوْتِ، بَلْ وَصْفُهُ بِالْحَيَاةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَوْتِ، فَيَنْفِي عَنْهُ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ حَيٌّ، لَا يُثْبِتُ لَهُ الْحَيَاةَ لِنَفْيِ الْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ لِتُثْبِتَ لَهُ أَنَّهُ شَيْءٌ مَوْجُودٌ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْعَدَمِ عَنْهُ، لَا أَنَّ إِثْبَاتَ وُجُودِهِ لِأَجْلِ نَفْيِ الْعَدَمِ، بَلْ نَفْيُ الْعَدَمِ عَنْهُ
لِأَجْلِ وُجُودِهِ، كَمَا أَنَّ نَفْيَ الْمَوْتِ عَنْهُ لِأَجْلِ حَيَاتِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: قُلْنَا إِنَّهُ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ وَذَلِكَ لِنَنْفِيَ الْعَدَمَ عَنْهُ، لَكِنْ كَانَ مُرَادُهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهُمْ قَاصِرَةً - إِثْبَاتَ الْوُجُودِ، وَنَفْيَ الْعَدَمِ، وَإِثْبَاتَ الْحَيَاةِ وَنَفْيَ الْمَوْتِ.