الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: مُنَاقَشَتُهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْأَقَانِيمَ صِفَاتٌ جَوْهَرِيَّةٌ تَجْرِي مَجْرَى الْأَسْمَاءِ]
وَأَمَّا قَوْلُهُم: هَذِهِ صِفَاتٌ جَوْهَرِيَّةٌ تَجْرِي مَجْرَى أَسْمَاءٍ.
فَإِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِم: جَوْهَرِيَّةً أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ جَوْهَرٌ، فَهَذَا كَلَامٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ الصِّفَةَ الْقَائِمَةَ بِغَيْرِهَا لَا تَكُونُ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ حَرَارَةَ النَّارِ الْقَائِمَةَ بِهَا جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَالنَّارِ، فَهُوَ إِمَّا مُصَابٌ فِي عَقْلِهِ وَإِمَّا مُسَفْسِطٌ مُعَانِدٌ.
وَالْأَوَّلُ: يَسْتَحِقُّ عِلَاجَ الْمَجَانِينِ.
وَالثَّانِي: يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ الَّتِي تَرْدَعُهُ عَنِ الْعِنَادِ.
ثُمَّ إِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ جَوْهَرًا كَانَتِ الْقُدْرَةُ أَيْضًا جَوْهَرًا.
وَإِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِم: جَوْهَرِيَّةً أَنَّهَا صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ، وَغَيْرُهَا صِفَاتٌ فِعْلِيَّةٌ كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ مِنْهَا الْقُدْرَةُ وَغَيْرُهَا فَلَمْ تَنْحَصِرْ فِي هَذِهِ.
وَأَيْضًا فَالْكَلَامُ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ، فَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَالْمُتَكَلِّمُ قِيلَ: هُوَ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَقِيلَ: الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ
بِهِ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَكْثَرِينَ، فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَإِنْ أَرَادُوا بِالْجَوْهَرِيَّةِ أَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ مُقَوِّمَةٌ، وَبَاقِي الصِّفَاتِ عَرَضِيَّةٌ عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِ الَّذِينَ يُفَرِّقُونَ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَانَ هَذَا فَاسِدًا مِنْ وُجُوهٍ:
مِنْهَا: أَنَّ تَفْرِيقَ هَؤُلَاءِ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ بَيْنَ صِفَةٍ وَصِفَةٍ، وَجَعْلَ بَعْضِهَا ذَاتِيًّا مُقَوَّمًا دَاخِلًا فِي الْمَاهِيَّةِ، وَبَعْضِهَا عَرَضِيًّا لَاحِقًا خَارِجًا عَنِ الْمَاهِيَّةِ - كَلَامٌ بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ نُظَّارِ الْأُمَمِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَبَيِّنٌ أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَرْكِيبِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْأَجْنَاسِ وَالْفُصُولِ إِنَّمَا هُوَ تَرْكِيبٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ، وَأَنَّ مَا يَقُومُ بِالْأَذْهَانِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَصَوُّرِ الْأَذْهَانِ.
فَتَارَةً يَتَصَوَّرُ الشَّيْءَ مُجْمَلًا، وَتَارَةً يَتَصَوَّرُهُ مُفَصَّلًا، وَمَا سَمَّوْهُ تَمَامَ الْمَاهِيَّةِ، وَالدَّاخِلَ فِي الْمَاهِيَّةِ، وَالْخَارِجَ عَنْهَا، اللَّازِمَ لَهَا - يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِالْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ.
وَمَدْلُولُ اللَّفْظِ هُوَ بِحَسَبِ مَا يَعْنِيهِ الْمُتَكَلِّمُ وَيَقْصِدُهُ وَيَتَصَوَّرُهُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ إِرَادَاتِ النَّاسِ لَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى حَقِيقَةٍ عَقْلِيَّةٍ وَلَا صِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ لِلْمَوْجُودَاتِ.
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ كَلَامُهُمْ بَاطِلًا لَمْ يُمْكِنْهُمْ ذِكْرُ فَرْقٍ صَحِيحٍ بَيْنَ
الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ إِذَا كَانَ كِلَاهُمَا لَازِمًا لِلْمَوْصُوفِ، بَلْ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ، وَالثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ، وَاعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِبُطْلَانِهَا، كَقَوْلِهِم: إِنَّ الذَّاتِيَّ يَثْبُتُ لِلْمَوْصُوفِ، بِلَا وَسَطٍ، وَالْعَرَضِيَّ اللَّازِمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِوَسَطٍ.
ثُمَّ حُذَّاقُهُمْ يُفَسِّرُونَ الْوَسَطَ بِالدَّلِيلِ، كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ سِينَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ الْوَسَطَ بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ لِلْمَوْصُوفِ، كَمَا يُفَسِّرُهُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَ أُولَئِكَ فَزَادَ غَلَطُهُم، وَأُولَئِكَ أَرَادُوا بِالْوَسَطِ الدَّلِيلَ، كَمَا يُرِيدُونَ بِالْحَدِّ الْأَوْسَطِ مَا يُقْرَنُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِكَ: لِأَنَّهُ، فَصَارَ الْعَرَضِيُّ اللَّازِمُ عِنْدَهُمْ مَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ لِلْمَوْصُوفِ بِدَلِيلٍ، وَهَذَا لَا يَرْجِعُ إِلَى حَقِيقَةٍ ثَابِتَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ هَذَا أَمْرٌ يَتَعَلَّقُ بِالْعَالِمِ بِالصِّفَاتِ.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ تَامَّ التَّصَوُّرِ فَيَعْلَمُ لُزُومَ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ، بِلَا دَلِيلٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ تَامَّ التَّصَوُّرِ فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ كُلُّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِهِ تَحَقُّقُ الْمَدْلُولِ، فَيَكُونُ الْوَسَطُ كُلَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْعَرَضِ، فَيَكُونُ الْعَرَضُ لَازِمَ اللَّازِمِ.
وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ مِنَ الْعَرَضِيَّاتِ مَا يَلْزَمُ، بِلَا وَسَطٍ، وَقَدْ مَثَّلُوا ذَلِكَ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْفَرْدِيَّةِ فِي الْعَدَدِ، كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ زَوْجٌ، وَالثَّلَاثَةَ فَرْدٌ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ خَمْسَمِائَةٍ وَثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نِصْفُ أَلْفٍ وَسِتَّةٍ وَثَمَانِينَ، قَدْ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، وَقَدْ يَفْتَقِرُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَفِكْرٍ.
وَهُمْ يَقُولُونَ مَا يَقُولُ ابْنُ سِينَا أَفْضَلُ مُتَأَخِّرِيهِم، وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْعَرَضَ الْمُنْقَسِمَ إِلَى الْكَيْفِ وَالْكَمِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ هُوَ ذَاتِيٌّ لِمَوْصُوفَاتِهِ.
وَاللَّوْنُ الْمُنْقَسِمُ إِلَى السَّوْدَاءِ وَالْبَيَاضِ هُوَ ذَاتِيٌّ لِلْمُتَلَوِّنِ، وَالسَّوَادِيَّةُ وَالْبَيَاضِيَّةُ صِفَتَانِ ذَاتِيَّتَانِ، بِخِلَافِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْفَرْدِيَّةِ.
قَالُوا: لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَعَرَضًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اسْتِدْلَالٍ وَنَظَرٍ بِخِلَافِ كَوْنِ هَذَا الْعَدَدِ زَوْجًا أَوْ فَرْدًا، فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ لَا يَنْقَسِمُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فَرْقٌ يَعُودُ إِلَى عِلْمِ الْعَالِمِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، هَلْ هُوَ جَلِيٌّ أَوْ خَفِيٌّ، وَهَلْ يَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ أَوْ لَا يَفْتَقِرُ، لَيْسَ هُوَ فَرْقًا يَعُودُ إِلَى الصِّفَةِ فِي نَفْسِهَا وَلَا إِلَى مَوْصُوفِهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ مَا جَعَلُوهُ ذَاتِيًّا مُقَوِّمًا دَاخِلًا فِي الْمَاهِيَّةِ، وَمَا جَعَلُوهُ عَرَضِيًّا لَازِمًا خَارِجًا عَنِ الْمَاهِيَّةِ - فَرْقٌ يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي هِيَ الذَّاتُ الْمَوْصُوفَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ، وَلَا إِلَى صِفَاتِهَا، بَلْ جَمِيعُ صِفَاتِهَا اللَّازِمَةِ لَهَا - سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَتِ الْمَاهِيَّةُ مُرَكَّبَةً مِنْ هَذَا دُونَ هَذَا، وَلَا فِيهَا شَيْءٌ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الذَّاتِيَّ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ وَالذِّهْنِ.
وَلَا الصِّفَاتُ جَوَاهِرُ مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ لَهَا أَجْزَاءٌ كَأَجْزَاءِ الْأَجْسَامِ الْمُرَكَّبَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِالْمَوْصُوفِ يَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى الْمَوْصُوفِ.
وَلَكِنْ إِذَا قِيلَ فِي الْإِنْسَانِ: هُوَ جِسْمٌ حَسَّاسٌ تَامٌّ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ نَاطِقٌ - فَهُنَا قَدْ يَتَصَوَّرُ الذِّهْنُ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَيُعَبِّرُ عَنْهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الَّتِي فِي ذِهْنِهِ وَلِسَانِهِ.
وَالْجُمْلَةُ الَّتِي فِي ذِهْنِهِ وَلِسَانِهِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ لَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمَوْجُودَ فِي الْخَارِجِ مُرَكَّبٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ، وَأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهَا جَوَاهِرُ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةَ الْيُونَانَ وَمَنِ اتَّبَعَهُم - كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَصَوَّرُونَهُ فِي الْأَذْهَانِ بِمَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ، كَمَا أَثْبَتَ مَنْ أَثْبَتَ مِنْ قُدَمَائِهِمْ مِثْلُ
فِيثَاغُورْسَ وَأَتْبَاعِهِ - أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً مَوْجُودَةً فِي الْخَارِجِ.
وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ، كَمَا رَدَّهُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْهُم.
وَقَالُوا: إِنَّ الْعَدَدَ الْمُجَرَّدَ، وَالْمِقْدَارَ الْمُجَرَّدَ إِنَّمَا يُوجَدُ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ الْمَعْدُودَاتُ وَالْمُقَدَّرَاتُ، مِثْلُ الْأَجْسَامِ الْمُتَفَرِّقَةِ الَّتِي تُعَدُّ كَالْكَوَاكِبِ، أَوِ الْمُتَّصِلَةِ الَّتِي تُقَدَّرُ كَالْأَفْلَاكِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْكَمِّ الْمُتَّصِلِ وَالْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ.
وَأَثْبَتَ أَصْحَابُ أَفْلَاطُونَ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ فِي الْخَارِجِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ الْأَفْلَاطُونِيَّةَ وَزَعَمُوا أَنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ، وَأَثْبَتُوا بُعْدًا
مَوْجُودًا مُجَرَّدًا جَوْهَرًا: هُوَ الْخَلَاءُ، وَجَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، هُوَ الدَّهْرُ، وَجَوْهَرًا مُجَرَّدًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ: هُوَ الْمَادَّةُ وَالْهَيُولَى الْأَزَلِيَّةُ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا إِنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ، بَلْ وَمَا أَثْبَتُوهُ مِنَ الْعُقُولِ الْمُجَرَّدَةِ الْعَشْرَةِ هِيَ أَيْضًا عِنْدَ التَّحْقِيقِ تَرْجِعُ إِلَى مَا يُجَرِّدُهُ الذِّهْنُ، وَيُقَدِّرُهُ فِيهِ، لَا إِلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ.
وَأَصْلُ قَوْلِهِمُ: الْمُجَرَّدَاتُ وَالْمُفَارِقَاتُ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُفَارَقَةِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ لِلْبَدَنِ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُم، وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الرُّوحَ تُفَارِقُ الْبَدَنَ، وَتَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ، وَمَنْ قَالَ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْمِلَلِ إِنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبَدَنِ رُوحٌ تُفَارِقُهُ، وَإِنَّ الرُّوحَ جُزْءٌ مِنَ الْبَدَنِ أَوْ عَرَضٌ مِنْ أَعْرَاضِ الْبَدَنِ، فَقَوْلُهُ - مَعَ أَنَّهُ خَطَأٌ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ - هُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِكُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ وَلِرُسُلِهِ، وَلِمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ تَفْرِيقَ هَؤُلَاءِ الْيُونَانِيِّينَ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ اللَّازِمَةِ، وَجَعْلَهُمُ اللَّازِمَةَ: مِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِلْمَاهِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ لَازِمٌ لِوُجُودِهَا - هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ فَاسِدَيْنِ لَهُم، خَالَفَهُمْ فِيهَا جُمْهُورُ عُقَلَاءِ الْأُمَمِ مِنْ نُظَّارِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِم.
أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ: هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ جَعْلِهِمُ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةَ لِلْمَوْصُوفِ هِيَ فِي الْخَارِجِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى ذَاتِيٍّ، جُزْءٌ مِنَ الْمَاهِيَّةِ دَاخِلٌ فِيهَا، وَإِلَى عَرَضِيٍّ خَارِجٍ عَنْهَا لَازِمٍ لَهَا.
وَالثَّانِي: زَعْمُهُمْ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ وَلَهُ فِي الْخَارِجِ مَاهِيَّةٌ هِيَ ذَاتُهُ وَحَقِيقَتُهُ - غَيْرُ الْمَوْجُودِ الْمَعْلُومِ الْمُعَيَّنِ الثَّابِتِ فِي الْخَارِجِ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ فِيهِ مَا فِي الذِّهْنِ بِمَا فِي الْخَارِجِ.
فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِالْمَاهِيَّةِ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ، وَهُوَ الْمَقُولُ فِي جَوَابِ مَا هُوَ، وَبِالْوُجُودِ مَا هُوَ ثَابِتٌ مُتَحَقِّقٌ فِي الْخَارِجِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا غَيْرُ هَذَا، كَمَا يَقُولُونَ: إِنَّا نَتَصَوَّرُ الْمُثَلَّثَ قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ، فَعُلِمَ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْمُثَلَّثِ غَيْرُ الْمُثَلَّثِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ.
فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الذِّهْنِ مِنَ الْمُثَلَّثِ غَيْرُ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ فَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْخَارِجِ عَنِ الذِّهْنِ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَاهِيَّةُ الْمُثَلَّثِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ.
الثَّانِي: الْمُثَلَّثُ الْمَوْجُودُ الَّذِي هُوَ زَاوِيَةُ الْحَائِطِ.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ فِي الْخَارِجِ شَيْئَيْنِ، فَهَذَا غَلَطٌ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النُّظَّارِ حَتَّى صَارَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ حَائِرًا مُتَوَقِّفًا.
وَبَعْضُهُمْ يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ وَيَتَنَاقَضُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ عَدَمُ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ وَبَيْنَ مَا يُوجَدُ فِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ هَذَا الْمَوْضُوعُ
نَقَلُوهُ إِلَى الْكَلَامِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ اللَّازِمَةِ لَهُ، كَحَيَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، هَلْ هِيَ ذَاتِيَّةٌ أَوْ عَرَضِيَّةٌ؟
فَإِنْ قِيلَ: ذَاتِيَّةٌ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَجْزَاءٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ تَرَكَّبَ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَرَضِيَّةً لَازِمَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا وَفَاعِلًا، فَإِنَّ كَوْنَهُ فَاعِلًا غَيْرُ كَوْنِهِ قَابِلًا، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ جِهَتَانِ، وَهَذَا مِنَ التَّرْكِيبِ الَّذِي زَعَمُوهُ مُنْتَفِيًا، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ، وَهُوَ التَّرْكِيبُ مِنَ الذَّاتِيَّاتِ، وَقَدْ بُيِّنَ فَسَادُ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
مِنْهَا: أَنَّ التَّرْكِيبَ الْمَعْقُولَ هُوَ تَرْكِيبُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ مِنْ أَبْعَاضِهِ وَأَخْلَاطِهِ، وَتَرْكِيبُ الْمَبْنِيَّاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَالْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ مِنْ أَبْعَاضِهَا وَأَخْلَاطِهَا.
وَأَمَّا تَرْكِيبُ الْأَجْسَامِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ، وَكَذَلِكَ تَرْكِيبُ الشَّيْءِ مِنَ الْمَوْجُودِ، وَالْمَاهِيَّةُ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُمْكِنًا هُوَ مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ، وَكَذَلِكَ تَرَكُّبُهُ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُمَيَّزَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا: الْجِنْسَ، وَالْفَصْلَ.
وَأَمَّا اتِّصَافُ الذَّاتِ بِصِفَاتٍ تَقُومُ بِهَا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ، وَلَكِنْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا تَرْكِيبًا، فَمَنْ سَمَّاهُ تَرْكِيبًا لَمْ يَكُنْ نِزَاعُهُ اللَّفْظِيُّ قَادِحًا فِيمَا عُلِمَ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ.
ثُمَّ هُمْ يَقُولُونَ: الْمُرَكَّبُ يَفْتَقِرُ إِلَى أَجْزَائِهِ، وَأَجْزَاؤُهُ غَيْرُهُ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذِهِ كُلُّهَا أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ، فَإِنَّ لَفْظَ الِافْتِقَارِ هُنَا لَمْ يَعْنُوا بِهِ افْتِقَارَ الْمَفْعُولِ إِلَى فَاعِلِهِ، وَلَا الْمَعْلُولِ إِلَى عِلَّتِهِ الْفَاعِلِيَّةِ، فَإِنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ فَاعِلَهُ وَلَا عِلَّتَهُ الْمُوجِبَةَ لَهُ، بَلْ يُرِيدُونَ بِهِ التَّلَازُمَ وَالِاشْتِرَاطَ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَجْمُوعِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ أَجْزَائِهِ، وَهُوَ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ لَفْظَ الْجُزْءِ لَيْسَ مُرَادُهُمْ جُزْءًا مُبَايِنًا لِلْجُمْلَةِ، فَإِنَّ جُزْءَ الْجُمْلَةِ لَيْسَ مُبَايِنًا لَهَا.
وَمِنْهَا لَفْظُ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ يُرَادُ بِالْغَيْرَيْنِ مَا يَجُوزُ مُبَايَنَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، أَوْ مُفَارَقَتُهُ لَهُ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ وُجُودٍ، وَيُرَادُ بِهِمَا مَا يَجُوزُ الْعِلْمُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَبَعْضُ الْمَجْمُوعِ وَصِفَةُ الْمَوْصُوفِ لَا يَجِبُ أَنْ تُفَارِقَهُ وَتُبَايِنَهُ، بَلْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تُبَايِنَهُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا تُبَايِنَهُ.
فَصِفَاتُ الرَّبِّ عز وجل اللَّازِمَةُ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُفَارِقَهُ وَتُبَايِنَهُ، وَحِينَئِذٍ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّيهَا غَيْرًا لَهُ، وَمَنْ سَمَّاهَا غَيْرًا لَهُ فَذَاتُهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا، لَيْسَتِ الصِّفَاتُ فَاعِلَةً لِلَذَّاتِ، وَلَا عِلَّةً مُوجِبَةً لَهَا.
وَلَفْظُ وَاجِبِ الْوُجُودِ يُرَادُ بِهِ الْمَوْجُودُ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا فَاعِلَ لَهُ، وَلَا عِلَّةَ فَاعِلَةً لَهُ، وَذَاتُ الرَّبِّ عز وجل وَصِفَاتُهُ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَيُرَادُ بِهِ مَعَ ذَلِكَ الْمُسْتَغْنِي عَنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ، وَالذَّاتُ
بِهَذَا الْمَعْنَى وَاجِبَةٌ دُونَ الصِّفَاتِ، وَيُرَادُ بِهِ مَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَخْلُوقَاتِهِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ لِلْأَفْلَاكِ مُسْتَلْزِمٌ لَهَا، فَيَجْعَلُونَهُ مَلْزُومًا لِمَفْعُولَاتِهِ، فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ ذَاتُهُ مَلْزُومَةً لِصِفَاتِهِ؟
وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْيُونَانِيُّونَ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْمَشَّائِينَ أَتْبَاعُ أَرِسْطُو صَاحِبِ التَّعَالِيمِ: الْمَنْطِقُ الطَّبِيعِيُّ، وَالرِّيَاضِيُّ، وَالْإِلَهِيُّ، يَقُولُونَ: إِنَّ مَوْضُوعَ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَادَّةِ فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ مِنَ الْجِسْمِ وَأَحْكَامِهِ.
وَالثَّانِي الرِّيَاضِيُّ: وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَادَّةِ فِي الْخَارِجِ لَا فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِدُ عَدَدًا وَلَا مِقْدَارًا فِي الْخَارِجِ إِلَّا فِي جِسْمٍ فِي الْخَارِجِ أَوْ عَرَضٍ مَعْدُودٍ، أَوْ مُقَدَّرٍ مُنْفَصِلٍ، بِخِلَافِ الذِّهْنِ، فَإِنَّهُ يُجَرِّدُ أَعْدَادًا وَمَقَادِيرَ مُجَرَّدَةً عَنِ الْمَعْدُودَاتِ وَالْمُقَدَّرَاتِ.
وَالثَّالِثُ: الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِلْمَ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ بِاعْتِبَارِ السُّلُوكِ الْعِلْمِيِّ، وَهُوَ عِلْمُ مَا قَبْلَهَا بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ، وَيُسَمُّونَهُ أَيْضًا الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ، وَمَوْضُوعُهُ عِنْدَهُمُ: الْمُجَرَّدُ عَنِ الْمَادَّةِ فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْجُودٌ، وَانْقِسَامُهُ إِلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ، وَانْقِسَامُ الْجَوْهَرِ إِلَى جِسْمٍ وَغَيْرِ جِسْمٍ، وَانْقِسَامُ الْجِسْمِ إِلَى الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ.
وَالْعِلَّةُ الْأُولَى يُسَمِّيهَا أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ جَوْهَرًا، وَلَا يُسَمِّيهَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَأَمَّا مُتَأَخِّرُوهُم كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ يُسَمُّونَهَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَلَا يُسَمُّونَهَا جَوْهَرًا، وَالْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، إِذِ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي يَقُولُونَ هِيَ مَوْضُوعُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ، وَهِيَ الْمُجَرَّدَةُ عِنْدَهُمْ عَنِ الْمَادَّةِ فِي الذِّهْنِ وَالْخَارِجِ، هِيَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ وُجُودُهَا فِي الْأَذْهَانِ، لَا فِي الْأَعْيَانِ.
فَإِنَّ الْوُجُودَ الْعَامَّ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ عَامًّا كُلِّيًّا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْعَامَّ الْكُلِّيَّ، وَالْحَيَوَانَ الْعَامَّ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ عَامًّا كُلِّيًّا إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ، لَا فِي الْأَعْيَانِ.
وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَبَيِّنٌ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ فِي الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْهُم.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَكِنْ نَبَّهْنَا عَلَيْهَا لِتَعَلُّقِهَا هُنَا بِقَوْلِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى: إِنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ الثَّلَاثَ هِيَ جَوْهَرِيَّةٌ دُونَ غَيْرِهَا، وَأَنَّهُمْ إِنْ عَنُوا بِذَلِكَ مَا يَعْنِيهِ هَؤُلَاءِ بِالذَّاتِيَّةِ، فَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ بَاطِلٍ.
فَإِنَّ تَفْرِيقَ هَؤُلَاءِ الْيُونَانِ فِي الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ لِلْمَوْجُودِ، وَالْعَرْضِيِّ اللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ، وَالْعَرْضِيِّ اللَّازِمِ
لِلْمَوْصُوفِ - فَرْقٌ بَاطِلٌ، وَقَدْ ذَكَرُوا ثَلَاثَ فُرُوقٍ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ:
الْأَوَّلُ: الْوَسَطُ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: تَقَدُّمُ الذَّاتِيِّ ذِهْنًا وَوُجُودًا، بِخِلَافِ اللَّازِمِ الْعَرَضِيِّ.
وَالثَّالِثُ: تَوَقُّفُ الْحَقِيقَةِ عَلَى الذَّاتِ.
وَقَدْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالنَّصَارَى لَيْسَ مُرَادُهُمْ بِالْجَوْهَرِيَّةِ مَا يُرِيدُهُ هَؤُلَاءِ بِالذَّاتِيَّةِ، فَلِهَذَا لَمْ نَبْسُطِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ،، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ الثَّلَاثَةَ جَوَاهِرُ، وَهَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ، وَاللَّازِمِ لِوُجُودِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِي الْخَارِجِ شَيْئَيْنِ: الْوُجُودُ، وَمَاهِيَّةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْوُجُودِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ صِفَاتِ الْمَوْصُوفَاتِ اللَّازِمَةَ لَهَا تَنْقَسِمُ إِلَى ذَاتِيٍّ مُقَوِّمٍ، وَعَرَضِيٍّ لَازِمٍ، وَأَنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ ذَاتِيٌّ أَوْلَى مِنَ الْقُدْرَةِ، فَلَيْسَ ذِكْرُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الْحَيِّ الْعَالِمِ بِأَوْلَى مِنْ ذِكْرِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ الْحَيِّ الْقَادِرِ.
وَالنَّصَارَى لَمَّا كَانَتِ الْأَقَانِيمُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةً، وَزَعَمُوا أَنَّ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانُوا فِي ذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلشَّرْعِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِم،
كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ - صَارَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ: مَوْجُودٌ حَيٌّ عَالِمٌ، وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ: مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ، فَيَجْعَلُونَ الْقَادِرَ مَكَانَ الْحَيِّ، وَيَجْعَلُونَ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ الْقُدْرَةَ.
وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ تَفْسِيرَ رُوحِ الْقُدُسِ بِالْقُدْرَةِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ الَّذِي يَظْهَرُ فَسَادُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ إِثْبَاتِ أُقْنُومِ الْكَلِمَةِ الَّذِي يَقُولُونَ تَارَةً: هِيَ الْعِلْمُ، وَتَارَةً: هِيَ الْحِكْمَةُ، وَيُسَمُّونَهَا تَارَةً: النُّطْقَ كَمَا سَمَّوْهَا فِي كِتَابِهِمْ هَذَا، لِأَنَّ الَّذِي اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ عِنْدَهُمْ هُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ، فَصَارُوا تَارَةً يَضُمُّونَ إِلَيْهَا الْحَيَاةَ، وَتَارَةً يَضُمُّونَ إِلَيْهَا الْقُدْرَةَ.
وَالْأَبُ تَارَةً يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: الذَّاتُ، وَتُسَمَّى الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ بِالسُّرْيَانِيَّةِ: الْكِيَانَ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: الْجُودَ.
وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ ثَلَاثَ مَعَانٍ هِيَ الْمُسْتَحِقَّةَ لِأَنْ تَكُونَ جَوْهَرِيَّةً دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ، سَوَاءٌ فُسِّرَتِ الْجَوْهَرِيَّةُ بِأَنَّهَا جَوَاهِرُ، أَوْ بِأَنَّهَا ذَاتِيَّةٌ مُقَوِّمَةٌ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُم: تَجْرِي مَجْرَى أَسْمَاءٍ، فَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ أَوْ جَامِدَةً، وَسَائِرُهَا صِفَاتٌ، فَاسْمُ الْحَيِّ وَالْعَالِمِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ، كَمَا يَدُلُّ الْقَدِيرُ عَلَى الْقُدْرَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُسَمَّى بِهَا، فَلِلَّهِ تَعَالَى أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ الْقَدِيرُ، وَالْقُدْرَةُ تَسْتَلْزِمُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعِلْمُ، وَخَلْقُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ يَدُلُّ عَلَى قُدْرَتِهِ أَبْلَغَ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى عِلْمِهِ، وَاخْتِصَاصُهُ بِالْقُدْرَةِ أَظْهَرُ مِنَ اخْتِصَاصِهِ بِالْعِلْمِ، حَتَّى إِنَّ طَائِفَةً مِنَ النُّظَّارِ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ يَقُولُ: أَخَصُّ وَصْفِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ، فَلَا يُوصَفُ بِذَلِكَ غَيْرُهُ.
وَالْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ قَبْلَهُ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَادِرٌ غَيْرُهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ قُدْرَةٌ، وَالْأَشْعَرِيُّ وَإِنْ أَثْبَتَ لِلْمَخْلُوقِ قُدْرَةً، لَكِنْ يُثْبِتُ قُدْرَةً لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَقْدُورِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ: إِنَّ أَخَصَّ وَصْفِهِ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ، وَلَا إِنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِحَيٍّ وَلَا عَالِمٍ، فَكَانَ جَعْلُ الْقَدِيرِ اسْمًا وَغَيْرِهِ صِفَةً - إِنْ كَانَ الْفَرْقُ حَقًّا - أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْفَرْقُ بَاطِلًا فَإِنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى الَّتِي يَعْرِفُهَا النَّاسُ هِيَ أَسْمَاءٌ، وَهِيَ صِفَاتٌ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ، هِيَ صِفَاتُهُ الْقَائِمَةُ بِهِ.
فَالْحَيُّ يَدُلُّ عَلَى الْحَيَاةِ، وَالْعَلِيمُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ، وَالْقَدِيرُ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ، هَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَجَمَاهِيرِ الْأُمَمِ، وَمِنَ النَّاسِ فِرْقَةٌ شَاذَّةٌ تَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَا يُسَمَّى بِهِ سُبْحَانَهُ، وَيُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ كَالْحَيِّ وَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ.
فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَأَبِي الْعَبَّاسِ النَّاشِيِّ: إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الرَّبِّ عز وجل مَجَازٌ فِي الْمَخْلُوقِ،
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ عَكْسَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالْمُتَفَلْسِفَةِ: إِنَّهَا مَجَازٌ فِي الرَّبِّ عز وجل حَقِيقَةٌ فِي الْمَخْلُوقِ، وَالْأَوَّلُونَ هِيَ عِنْدَهُمْ مُتَوَاطِئَةٌ، وَقَدْ يُسَمُّونَهَا مُشَكِّكَةً لِمَا فِيهَا مِنَ التَّفَاضُلِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ مُشْتَرِكَةٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا.