الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصواب كالذي يراه لنفسه، وهذا الشعور كفيل بالحفاظ على احترام كل من المختلفين لأخيه، والبعد عن التعصب للرأي.
5 الالتزام بالتقوى وتجنب الهوى، وذلك من شأنه ان يجعل الحقيقة وحدها هدف المختلفين حيث لا يهم أي منهما ان تظهر الحقيقة على لسان او على لسان اخيه.
6 التزامهم بآداب الاسلام من انتقاء اطايب الكلم وتجنب الالفاظ الجارحة بين المختلفين مع حسن استماع كل منهما للآخر،
7 تنزههم عن المماراة ما أمكن وبذلهم اقصى انواع الجهد في موضوع البحث مما يعطي لرأي كل من المختلفين صفة الجد والاحترام من الطرف الآخر ويدفع المخالف لقلوبه او محاولة تقديم الرأي الافضل منن.
تلك هي ابرز معالم «ادب الاختلاف» التي يمكن ايرادها.. استخلصناها من وقائع الاختلاف التي ظهرت في عصر الرسالة.
الاختلاف في عصر الصحابة وآدابه:
حاول بعض الكتاب على الساحة الاسلامية ان يصوروا جيل الصحابة رضوان الله عليهم بصورة جعلت العامة ترى ان ذلك الجيل ليس متميزا فحسب بل هو جيل يستحيل تكراره وفي هذا من الاساءة للاسلام ما لا يقل عن اساءة اولئك الضالين الذين يزعمون ان استئناف الحياة الاسلامية في ظل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد عصر الصحابة
ضرب من المستحيل يجب الا تتسامى نحوهن الاعناق وبذلك يطفئون جذوة الامل في نفوس لا تزال تتطلع الى الحياة في ظل الشريعة السمحاء.
ان الصحابة رضوان الله عليهم امة صنعها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانينا ولايزالان قادرين على صنع امة ربانية في أي زمان وفي أي مكان اذا اتخذا منهجا وسبيلا وتعامل الناس معهما كما كان الصحابة يتعاملون، سيظلان كذلك الى يوم القيامة، وادعاء استحالة تكرار الرعيل الاول انما هو بمثابة نسبة العجز الى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك محاولة لاثبات أن اثرهما الفعال في حياة الناس كان تبعا لظروف معينة، وأن زماننا هذا قد تجاوزهما بما ابتدع لنفسه من انظمة حياة وتلك مقولة تنتهي بصاحبها الى الكفر الصراح.
ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في امور كثيرة واذا كان هذا الاختلاف وقع في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وان كان عمره لا يمتد الى اكثر من لقائه عليه الصلاة والسلام، فكيف لا يختلفون بعده؟ انهم قد اختلفوا فعلا ولكن كان لاختلافهم اسباب وكانت له آداب وكان مما اختلفوا فيه من الامور الخطيرة:
اختلافهم في وفاته عليه الصلاة والسلام:
فقد كان اول اختلاف بينهم بعد وفاته عليه الصلاة والسلام حول حقيقة وفاته صلى الله عليه وسلم فان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه اصر على ان رسول الله لم يمت واعتبر القول بوفاته ارجافا من المنافقين توعدهم
عليه حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه وقرأ على الناس قوله تعالى:
(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي الله الشاكرين)«آل عمران 144» وقوله تعالى:
(انك ميت وانهم ميتون)«الزمر 30» . فسقط السيف من يد عمر وخر الى الارض واستيقن فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، وقال عن الآيات التي تلاها أبو بكر «كأني، والله، لم أكن قرأتها قط» (25) .
ويروي ابن عباس رضي الله عنهما عن سيدنا عمر رضي الله عنه انه قال في خلافته:
«ايا ابن عباس هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين انت اعلم. قال: فانه والله ان كان الذي حملني على ذلك الا اني كنت اقرأ هذه الآية: (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) «البقرة 143» . فوالله ان كنت لاظن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبقى في امته حتى يشهد عليها بآخر اعمالها، فانه الذي حملني على ان قلت ما قلت» (26) فكأنه رضي الله عنه قد اجتهد في معنى الآيات الكريمة، وفهم ان المراد منها: الشهادة في الدنيا،
(25) تنظر الإحكام (2/125) وتفسير ابن كثير (4/52) وتحسن مراجعة تفسير الطبري (24/302) وسيرة ابن هشام (2/655) .
(26)
سيرة ابن هشام (2/661، 666) وقد نقل عنه أنه قال نحو ذلك عند مبايعة الصديق في المسجد.
وذلك يقتضي بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الى آخر ايامها.
2 اختلافهم في دفنه عليه الصلاة والسلام:
ثم اختلفوا في المكان الذي ينبغي ان يدفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائلا: «ندفنه في مسجده، وقال قائل: بل ندفنه مع اصحابه. فقال أبو بكر رضي الله عنه: اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قبض نبي الا دفن حيث يقبض» فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي عليه، فحفر له تحته» (27) .
فهذان امران خطيران زال الخلاف فيهما بمجرد الرجوع الى الكتاب والسنة.
3 اختلافهم في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فقد اختلفوا فيمن تكون الخلافة فيهم، أفي المهاجرين ام في الانصار؟ أتكون لواحد ام لأكثر؟ كما وقع الاختلاف حول الصلاحيات التي ستكون للخليفة، أهي الصلاحيات نفسها التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته حاكما واماما للمسلمين أم تنقص عنها وتختلف؟!
يقول ابن اسحاق: «ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم انحاز هذا الحي من الانصار الى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين الى أبي بكر وانحاز معهم اسيد بن حضير في بني عبد الاشهل» (28) واوشكت فتنة كبرى ان تقع ولو وقعت لما كان
(27) المصدر السابق وسنن الترمذي الحديث (1018) .
(28)
سيرة ابن هشام (2/656) .
ذلك بالامر المستغرب كثيرا فالفراغ الذي تتركه شخصية عظمى من رسول الله صلى الله عليه وسلم في امة كان لها النبي والقائد لا يمكن ان يملأ بسهولة ولاسيما ان فيهم رجالا، مثل: عمر كان قد وقر في أذهانهم استحالة موته صلى الله عليه وسلم في تلك الظروف فكل فرد في الامة كان يحبه عليه الصلاة والسلام اكثر مما يحب نفسه التي بين جنبيه وهم الذين كانوا يبتدرون قطرات وضوئه عليه الصلاة والسلام قبل ان تسقط على الارض فلا تكاد تسقط الا في يد احدهم وما من امة على الارض احبت نبيها وقائدها محبة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كان احدهم لا يستطيع ان يملأ عينيه من النظر اليه من حبهم له وهيبته التي ملأت قلوبهم وجوانحهم رغم تواضعه الشديد وان وقع الصدمة بوفاته عليه الصلاة والسلام كان حريا بأن يفقد الكثيرين منهم صوابهم بل وقد فعل ولا غرو في ذلك فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم اليد الحانية التي حملت اليهم عز الدنيا وسعادة الآخرة. ومع ذلك فقد تعالوا على مض الحزن وألم الفراق، وتلوا قوله الله تعالى:(ومامحمد الا رسول قد خلت من قبله الرسول أفإن مات او قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين)«آل عمران 144» ثم توجهوا لاحتواء الامر وحفظ الرسالة الخالدة، والحيلولة دون أسباب الفتنة.
صحيح أن هناك زعامة واقعية كانت لأبي بكر لم لعمر رضي الله عنهما، ولم يكن من المسلمين من تنقطع الاعناق اليه مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأبو بكر كان وزير الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه ورفيق
هجرته ووالد زوجته الاثيرة لديه وهو الذي لم يكن يفارقه في أي امر مهم. وعمر رضي الله عنه هو من هو؟ فقد كان في اسلامه عزة للمسلمين وفي هجرته ارغام لانوف المشركين وفي رأيه تأييد من رب العالمين
…
وكثيرا ما ورد «
…
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ابو بكر وعمر» و «ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر» و «غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر»
…
وهذا كله قد يخفف من الكارثة التي زلزلت الاقدام والقلوب بيد أن الاحساس بالفراغ في مثل هذه المواقف قد يتجاوز الفضائل والمناقب، ويؤدي الى ارتباك ليس من السهل احتواؤه والسيطرة عليه وهنا فان الرجال الذين تربوا في ظلال النبوة قد حكمتهم آدابها في سائر الاحوال
…
حال الاتفاق وحال الاختلاف.. وفي كل شأن من شؤون الحياة هذه الداب كانت كفيلة بدء سائر الاخطار المحتملة، والحفاظ على الرسالة، وحماية وحدة الامة وتسيير الامور بشكل مماثل لما كانت تسير عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرواة «أتى آت الى أبي بكر وعمر فقال: ان هذا الحي من الانصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة قد انحازوا اليه فان كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل ان يتفاقم امرهم» .
جاء هذا الخبر الى الشيخين ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهز ولم يدفن بعد قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا الى اخواننا هؤلاء من الانصار حتى ننظر ما هم عليه. ولندع سيدنا عمر يروي بقية ما حدث، حيث قال:
…
ان الانصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة فاطلقنا نؤمهم، حتى لقينا منهم رجلان صالحها فذكرا لنا ما تمالأ
عليه القوم وقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين. قلنا: نريد اخواننا هؤلاء من الانصار قالا: فلا عليكم الا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا امركم. قال: قلت: والله لنأتينهم فانطلقنا حتى اتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فاذا بين ظهرانينا رجل مزمل فقلت: من هذا الرجل؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت ماله؟ فقالوا: وجع فلما جلسنا نشهد خطيبهم
…
ثم ذكر مآثر الانصار وفضائلهم، وما يدل على أنهم أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرهم.
وهنا لابد من وقفة فالانصار اهل البل وهم فيها الغالبية المطلقة كما يقال اليوم وهم الذين آووا ونصروا وتبوؤوا الدار والايمان وفتحوا للاسلام قلوبهم قبل بيوتهم وليس هناك مهاجر واحد الا ولأخ له من الانصار عليه فضل كبير ولو كان في أمر الخلافة نص قاطع من كتاب الله او سنة رسوله عليه الصلاة والسلام لانتهى الامر بذكره والاحتكام اليه وارتفع الخلاف ولكن ليس هناك شيء من ذلك فلم يبق الا التحلي بكل خصال الحكمة والحنكة، وأدب الاختلاف والحوار العقلاني الهادئ القائم على إثارة أنبل المشاعر وافضلها لدى كل من الطرفين، لتجاوز العقبة، واحتواء الأزمة، والخروج منها، وذلك ما كان يقول سيدنا عمر.
ولما سكت أي خطب الأنصار أردت أن أتكلم وقد زورت (هيأت وحسنت) في نفسي مقالة أعجبتني. فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر؛ فكرهت أن أغضبه، وهو كان أعلم مني وأوقر فوالله ما ترك كلمة أعجبتني من تزويري الا قالها في بديهته، أو مثلها أو أفضل
حتى سكت، ومما قال رضي الله عنه:«أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم به أهل» واشاد بهم وبما قدموا لدينهم ولإخوانهم المهاجرين، وذكر من فضائلهم ومآثرهم مالم يذكره خطباؤهم، ثم بدأ في إخراج الأمر من الاطار الذي وضعه خطيب الأنصار فيه، فالأمر ليس قاصرا على المدين وحدها فالجزيرة العربية اليوم كلها تستظل بظل الإسلام، وإذا كان المجاهرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلموا لإخوانهم الأنصار بالخلاف، ويعرفوا لهم فضلهم، فإن بقية العرب لن تسلم لغير قريش، وما لم تتوحد الكلمة فلن يكتب لرسالة الإسلام تجاوز الحدود والانتشار خارج الجزيرة، إذن فمصلحة الدعوة تقتضي أن يكون الخليفة من قريش لتستمر الرسالة، وتتحد الكلمة، وتجتمع القلوب، ويستمر المد الإسلامي، ثم خيرهم بين أحد قرشيين لا يماري أحد في فضل أي منهما: عمر وأبي عبيدة، ونزع نفسه من الأمر.
يقول سيدنا عمر: «ولم أكره شيئا مما قاله غيرها أي: غير ترشيحه لعمر وأبي عبيدة وكان والله ان أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر
…
» .
ثم قام من الأنصار خطيب آخر يريد ان يرجع الأمر إلى الإطار الأول الذي وضعه خطيبهم الأول فيه.. فقال: «
…
منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش» قال عمر: «فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات حتى تخوفت الاختلاف» (29) فقلت: «ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده
(29) يريد التنازع والشقاق.
فبايعته، ثم بايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار» (30) وقد كاد سعد بن عبادة مرشح الأنصار رضي الله عنه أن يقتل في الزحام «فقد تدافع الناس لمبايعة أبي بكر حتى كادوا يقتلون سعدا دون أن ينتبهوا له» (31) .
وهكذا استطاع الصحابة رضوان الله عليهم حسم هذا الخلاف دون أن تبقى في النفوس رواب الإحن، وتوحدت كلمة المسلمين للمضي برسالة الحق الى حيث شاء الله لها أن تنتشر.
4 اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة:
كان هذا الأمر رابع الأمور الخطيرة التي اختلف فيها الصحابة، واستطاعوا التغلب عليها بما تحلّوا به من صدق النية الى جانب أدب الاختلاف؛ فبعد أن بويع أبو بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض القبائل حديثة العهد بالإسلام عنه، وتابع بعض من كان ادّعى النبوة، مثل: مسيلمة الكذاب وغيره، كما امتنعت بعض القبائل عن اداء الصلاة والزكاة، وامتنعت بعض القبائل عن اداء الزكاة فقط، وكان سبب امتناع بعضهم عن أداء الزكاة أنفة واستكبارا أن يدفعوا لأبي بكر رضي الله عنه، وسوّل الشيطان لبعضهم بتأويل فاسد، حيث زعموا أنها، في أصل الشريعة، لا تدفع لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه هو المخاطب بأخذها، ومجازاتها عليها بالتطهير والتزكية، والدعاء لهم في قول الله تعالى:(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم)
(30) تنظر سيرة ابن هشام (2/656 661) .
(31)
المرجع السابق.
(التوبة: 103) ونسي المانعون للزكاة أو تناسوا أن هذا الخطاب لم يكن مقصورا على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يتناول من يلي الأمر بعده عليه الصلاة والسلام لأنه خطاب له صلى الله عليه وسلم بصفته حاكما وإماما للمسلمين؛ فإن أخذ الزكاة من أهلها وتسليمها لمستحقيها من الأمور الداخلة ضمن تنظيم المجتمع وإدارته كإقامة الحدود ونحوها، تنتقل مسؤوليتها الى القائمين بأمر المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم نيابة عن الأمر.
كما أن كل مسلم كان يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبايعه على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مما لا يترك مسوّغا للتفريق بينهما، وحرصا من الخليفة الأول على استمرار مسيرة الإسلام يقرر ابو وبكر الصديق رضي الله عنه قتلاهم لحملهم على التوبة وأداء الزكاة، والعودة إلى حظيرة الإسلام، والالتزام بكل ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (32)، وإزاء الموقف الذي اتخذه الخليفة الأول يقع الخلاف بينه وبين عمر رضي الله عنهما الذي تراءى له للوهلة الأولى عدم جواز مقاتلة مانعي الزكاة. يقول أبو هريرة رضي الله عنه:«لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب، فقال عمر: فكيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله تعالى» ؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلاّ أن قد شرح الله صدر
(32) يراجع البخاري بهامش الفتح (3/212) .
أبي بكر رضي الله عنه للقتال فعرفت أنه الحق» (33) .
وقال ابن يزيد: «افترضت الصلاة والزكاة جميعا لم يفرق بينهما وقرأ: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (التوبة: 11) . وأبى أن يقبل الصلاة إلاّ بالزكاة، وقال: رحم الله أبا بكر ما كان افقهه يريد بذلك إصراره على مقاتلة من فرق بين الصلاة والزكاة» (34) . وكان سبب الخلاف بين ابي بكر وعمر رضي الله عنهما أن سيدنا عمر ومن معه تمسكوا بظاهر لفظ الحديث، واعتبروا مجرد دخول الإنسان الإسلام بإعلان الشهادتين عاصما لدمه وماله ومحرّما لقتاله. أما الصديق رضي الله عنه فقد تمسك بقوله صلى الله عليه وسلم «إلاّ بحقها» واعتبر الزكاة حق المال الذي تفقد بالامتناع عن أدائه عصمة النفس والمال، كما فهم من اقتران الصلاة والزكاة في معظم آي الكتاب، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنهما مثلان لا فرق بينهما.
وما داموا متفقين على أن الامتناع عن الصلاة دليل ارتداد واتباع لمدعي النبوة، فإن الامتناع عن الزكاة ينبغي أن يعتبر كدليل ارتداد يقاتل مرتكبه، وبذلك استطاع الصديق رضي الله عنه أن يقنع بقية الصاحبة بصواب اجتهاده في وجوب قتال مانعي الزكاة (35) . واعتبارهم مرتدين ما لم يتوبوا، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة
…
وبذلك ارتفع الخلاف
(33) المرجع السابق (3/211) .
(34)
تفسير الطبري (10/62) .
(35)
تستحسن مراجعة تفاصيل مناظرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتفاصيل أقوال العلماء في ذلك في نيل الأوطار، باب الحث على الزكاة والتشديد في منعها (4/175 وما بعدها) .
في هذه المسألة الشائكة، واتفقت الكلمة على قتال مانعي الزكاة، كما اتفقت على قتال المرتدين ردة كاملة، وحفظ الإسلام من محاولات العبث والإتيان عليه ركنا ركنا بعد أن أخفقوا في الإتيان عليه كاملا، ولولا هذا الموقف من الصدّيق ثم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قامت للإسلام قائم ولا نحصر في المدينة ومكة وأرز إليهما، وسادت الرّدة والفتنة سائر أرجاء الجزيرة (36) .
5 اختلافهم في بعض المسائل الفقهية:
إذا تركنا الأمور الخطيرة التي احتويت، وبحثنا في غيرها نجد ما لا ينقضي منه العجب في أدب الاختلاف وتوقير العلماء بعضهم بعضها، فمما اختلف فيه الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما غير ما ذكرنا.. سبي أهل الرّدة، فقد كان أبو بكر يرى سبي نساء المرتدين على عكس ما يراه عمر الذي نقض في خلافته حكم ابي بكر في هذه المسألة، وردهن إلى أهليهن حرائر إلاّ من ولدت لسيدها منهن، ومن جملتهن كانت خولة بنت جعفر الحنفية أم محمد بن علي رضي الله عنهما.
كما اختلفا في قسمة الاراضي المفتوحة: فكان ابو بكر يرى قسمتها وكان عمر يرى وقفها ولم يقسمها.
وكذلك اختلفا في المفاضلة في العطاء، فكان ابو بكر يرى التسوية في الأعطيات حين كان يرى عمر المفاضلة وقد فاضل بين المسلمين في أعطياتهم.
(36) يستحسن مراجعة ذلك وتفاصيل ما حدث في كتب التاريخ مثل البداية والنهاية (6/311) ومابعدها.