الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: أسباب الاختلاف وتطوره
أسباب الاختلاف من عهد النبوة حتى عهد الفقهاء:
اذا سلمنا أن الاختلاف في القضايا الفكرية التي منها القضايا الفقهية أمر طبيعي لما فطر عليه الناس من تباين في عقولهم وأفهامهم ومداركهم وجب أن نقر بأن الاختلاف في عهد النبوة والخلافة الراشدة بين عديد من الصحابة كان أمرا واقعا تشهد له جملة من الاحداث، وليس في نفيه ما يخدم هذا الدين، كما أننا لا نرى في بيانه مساسا بمثالية هذه الدعوة، وصدق نية أولئك الرجال الذين كانوا يختلفون، بل
يمكن القول: ان في ذكر هذه الاختلافات بيانا لواقعية هذا الدين، فهو يتعامل مع الناس على أنهم بشر، تتنازعهم عوامل مختلفة مما فطر الله تعالى خلقه عليه ولكن الذي تطمئن اليه النفس المؤمنة أن ذلك الاختلاف لم ينشأ عن ضعف في العقيدة، او شك في صدق ما يدعو اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان تحري الحق الرغبة في اصابة قصد الشارع من الحكام بغية جميع المختلفين.
ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر تلك الاحكام لم يكن عمر الخلاف يمتد لاطول من الطرق المؤدية الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأينا من خلال الاحداث التي مرت أن أسباب الاختلاف في مجموعها لم تكن تخرج عن تباين في فهم النص لأسباب لغوية او اجتهادية، وذلك في تفسير ما بين أيديهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم تكن هذه الاسباب لتخفي وراءها أية نوايا تحاول انماء بذرة الخلاف التي كان المنافقون يحرصون على تعهدها.
لذلك سرعان ما كانت هذه الاختلافات تضمحل بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم او الاحتكام الى نص ادركه بعضهم وغاب عن الآخرين لان غاية ذي الفطرة السليمة نشدان الحق حيثما وجد.
من الطبيعي ان تنتقل بعض الاسباب الموضوعية للاختلاف من عصر لآخر حيث يصعب وضع حواجز تحصر خلفها أسباب الاختلاف من عصر لآخر حيث يصعب وضع حواجز تحصر خلفها أسباب الاختلاف في كل عصر، ولكن هناك امورا كانت تستجد على الساحة الاسلامية، نتجت عنها أسباب وعوامل تذكي روح الاختلاف.
فمنذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه تعرضت الامصار الاسلامية لهزات عنيفة افرزت بعض الاحداث التي ادخلت الى دائرة الاختلاف امورا كانت خارجها ربما أدت الى انطواء اهل كل بلد او مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الوضع والدس كما أشرنا من قبل.
وظهرت مدرستا الكوفة والبصرة كبيئة خصبة لتفاعل الافكار السياسة وتعددت الفرق المختلفة كالخوارج والشيعة والمرجئة (106) وظهرت المعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل الاهواء والبدع.
وتعددت المناهج العقلية والفكرية بتعدد تلك الفرق وأصبح لكل فرقة منطلقات وقواعد تنطلق منها في تعاملها مع نصوص الشارع وفي تفسيرها للمصادر الشرعية، وفي مواقفها من القضايا المختلفة التي استجدت وبدأت الحاجة تظهر الى وضع الضوابط والقيود وتحديد المناهج وطرق استنباط احكام الوقائع من الوحي الالهي، وتحديد ما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز.
ولعل من فضل الله تعالى أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز
(106) المرجئة: هم الذين ينسب إليهم القول بالإرجاء في الإيمان والإرجاء في اللغة: التأخير، وأما في الإصلاح: فهو تأخير العمل عن الإيمان. وذلك أنهم يقولون بأن المعصية مع الإيمان لا تضر كما لا تنفع الطاعة مع الكفر وهذا خلاف ما عليه أهل القبلة، قد انقسموا إلى فرق خمس، انظر لمعرفة فرقهم ومقالاتهم: التبصير في الدين (97) واعتقادات الفرق للرازي (107 وما بعدها) والمواقف لعضد الدين الإيجي (427 المتن وحده) .
فيه الاختلاف وذلك لأن «الفقه» عبارة عن معرفة الفقيه حكم الواقعة من دليل من الادلة التفصيلية الجزئية التي نصبتها الشارع للدلالة على احكامه من آيات الكتاب، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يصيب الفقيه حكم الشارع او يوافقه وقد لا يوافق ذلك ولكنه في الحالتين غير مطالب بأكثر من أن يبذل اقصى طاقته العقلية والذهنية للوصول الى حكم، فان لم يكن ما وصل اليه حكم الشارع فهو أقرب ما يكون اليه في حقيقته وغاياته وآثاره، ولذلك كان الاختلاف امرا مشروعا وذلك لتوفر امرين فيه:
الاول: أن لكل من المختلفين دليلا يصح الاحتجاج به، فما لم يكن له دليل يحتج به سقط ولم يعتبر اصلا.
الثاني: ألاّ يؤدي الاخذ بالمذهب المخالف الى محال او باطل فان كان ذلك بطل منذ البداية، ولم يسع لأحد القول به بحال، وبهذين الامرين يغاير «الاختلاف» «الخلاف» .
فالاختلاف ما توافر فيه الشرطان المذكوران، وهو مظهر من مظاهر النظر العقلي والاجتهاد وأسبابه منهجية موضوعية في الغالب.
اما الخلاف فهو الذي يفقد الشرطين او احدهما، وهو مظهر من مظاهر التشنج والهوى والعناد، وليس له من سبب يمت الى الموضوعية.