الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسباب الاختلافات الفقهية في عصر الفقهاء:
حرص الفقهاء الذين اجمعت الامة على الأخذ بمذاهبهم، على التزام الشرطين السابقين، وقد اختلف الناس في تحديد أسباب الاختلافات الفقهية في هذا العصر اختلافا بينا: فمن مكثر في ذكر هذه الاسباب الى مقتصد فيها، ومع ذلك فان من الممكن اعادة هذه الاسباب الى الامور التالية:
1 اسباب تعود الى اللغة:
وذلك كأن يرد في كلام الشارع لفظ مشترك، وهو ما وضع لمعان متعددة ومختلفة، كلفظة «عين» التي تستعمل في الباصرة والجارية، وفي الذهب الخالص، وفي الرقيب، وغيرها من المعاني.
فاذا وردت في كلام الشارع مجردة عن القرينة تساوت المعاني التي وضعت لها في احتمال كون كل منها مرادا - فيختلف المجتهدون في حمل ذلك اللفظ على أي من معانيه التي وضع لها، أو عليها كلها.
فقد اختلف الفقهاء في مراد الشارع من لفظ «القرء» في قوله تعالى: (والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء)«البقرة 228» فلفظ «القرء» مشترك بين الطهر والحيض، فاختلف الفقهاء في عدة المطلقة أتكون بالحيض ام بالاطهار؟ فذهب الحجازيون منهم الى أن عدة المطلقة ثلاثة أطهار، وذهب العراقيون
الى أنها ثلاث حيض (107) .
واحيانا يكون للفظ استعمالان: حقيقي، ومجازي، فيختلفون في ايهما استعمل اللفظ في ذلك النص من نصوص الشارع.
وقد اختلف العلماء بادئ ذي بدء في جواز وقوع المجاز في لفظ الشارع، فأثبته الاكثرون، ونفاه الاقلون، كالاستاذ أبي اسحاق الاسفراييني وشيخ الاسلام ابن تيمية.
والذين نفوه استدلوا بأن المجاز هو اطلاق اللفظ على غير ما وضع له في الاصل كاطلاق لفظ «الاسد» وارادة الرجل الشارع ونصوص الشارع جاءت لبيان الاحكام الشرعية واطلاق اللفظ وارادة غير ما وضع له مناف للبيان المقصود ولسنا بصدد مناقشة هذا الموضوع فان جماهير العلماء قد ذهبوا الى ورود المجاز في لفظ الشارع واعتبر ابن قدامة وغيره من الاصوليين انكار وقوعه في نصوص الشارع نوعا من المكابرة (108)(108) .
وعلى هذا فقد يختلف العلماء في فهم المراد من كلام الشارع اذا ورد بتركيب متردد بين الحقيقة والمجاز، او ورد لفظ مفرد يحتمل الامرين فيحمله بعضهم على المعنى الحقيقي، ويحمله آخرون على المعنى المجازي وذلك كلفظ «الميزان» فحقيقته تلك الارادة التي يزن الناس بها الاشياء.
(107) في تفسير القرطبي (3/113) والمغني لابن قدامة (9/77 وما بعدها) .
(108)
انظر روضة الناظر (35) ط. السلفية.
ويطلق على «العدل» مجازر. قال تعالى:
(والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)«الرحمن 7 9» . فالميزان في الاولى والثانية استعمل في «العدل» كما في قوله تعالى:
(لقد ارسنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)«الحديد: 25» ، وفي الثالثة أريد به المعنى الحسي، وهو الاداة التي توزن بها الاشياء (109) .
كما يقال للعروض «ميزان الشعر» وللنحو «ميزان الكلام» (110) ، ومثله لفظ «السلسلة» وغيرها.
وأحيانا يكون المجاز في التركيب كما في قوله تعالى: (يا بني آدم قد انزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا)«الاعراف 26» فمن المعلوم أن اللباس لا ينزل من السماء وهو لباس، ولا الريش كذلك، ولكن الله تعالى أنزل المطر وأنبت النبات وخلق الحيوان وكساه الصوف والشعر والوبر وأنبت القطن والكتان ليتخذ منه اللباس فأسند الى المسبب وهو اللباس بدلا من السبب وهو الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي.
ومن المعرف ان صيغة «افعل» للأمر «لا تفعل» للنهي ومطلق الامر يفيد الوجوب ومطلق النهي يفيد التحريم، ذلك هو
(109) تفسير ابن كثير (4/270) .
(110)
التنبيه (55) .
الاستعمال الحقيقي لكل من الصيغتين، ولكن قد ترد كل منهما لمعان غير المعنى الذي وضعت له أولا.
فقد يرد الامر للندب مثل قوله تعالى:
(فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا)«النور 33» .
والارشاد نحو قوله تعالى:
(واستشهدوا شهيدين
…
) أو قوله:
(اذا تداينتم بدين الى أجل مسمى فاكتبوه)«البقرة 282» .
والتهديد نحو قوله تعالى:
(اعلموا ما شئتم)«فصلت 4» وغير ذلك (111) .
وكذلك النهي قد يرد لغير التحريم، كالكراهة والتحقير في نحو قوله تعالى:
(لا تمدّن عينيك الى ما متعنا به أزواجا منهم)«الحجر 88» والارشاد كما في قوله تعالى:
(لاتسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)«المائدة 101» وغيرها (112) .
كما أن الامر قد يرد بصيغة الخبر، وكذلك النهي قد يرد ايضا بصيغة الخبر والنفي، وكل ذلك له آثار في اختلاف الفقهاء، وفي طرائقهم وفي استنباط الاحكام الشرعية من النصوص، واحيانا تختلف مذاهب
(111) يراجع المحصول بتحقيقنا (1/ق2/75 وما بعدها) وقد أ» رد خمسة عشر معنى ترد لها صيغة: أفعل.
(112)
المرجع السابق (469) والإحكام للآمدي (2/187) ط. الرياض.
العلماء في فهم النص لاختلاف احوال كلمة واردة فيه، وان لم يختلف معناها، كاختلافهم في قوله تعالى:(ولا يضار كاتب ولا شهيد)«البقرة 282» . حيث ذهب بعضهم الى أن المراد بها صدور الضرر من الكاتب والشهيد وذلك بأن يكتب الكاتب ما لم يمل عليه، ويشهد الشاهد بخلاف الواقع، ودليل هؤلاء قراءة ابن عباس رضي الله عنهما:(ولا يضارر كاتب ولا شهيد) .
وذهب آخرون الى أن المراد ووقوع الضرر عليهما، كأن يمنعا من اشغالهما ويكلّفا الكتابة والشهادة في وقت لا يلائمهما ودليل من ذهب الى هذا قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:(ولا يضار كاتب ولا شهيد) فلما كانت اللفظة مدغمة في لغة تميم احتمل بناء الفعل للمعلوم، وبناؤه للمجهول، فحدث هذا الاختلاف وان كان فك الادغام لغة أهل الحجاز (113) .
والمتتبع لهذا النوع من أسباب الاختلاف يجد أمثلة كثيرة عليه في الكلمات المفردة. وفي التراكيب المختلفة وانواعها، وما يعرض لها من عموم وخصوص، واطلاق وتقييد واجمال وبيان، وغير ذلك.... ولعل فيما ذكرنا ما ينبه الى ما أغفلنا مما يمكن الاطلاع عليه في مظانه (114) .
(113) يراجع التنبيه على أسباب الاختلاف (32 33) .
(114)
نحو كتاب ابن السيد البطليوسي (التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين) .
2 أسباب تعود الى رواية السنن:
وهذا النوع من الاسباب متعدد الجوانب مختلف الآثار واليه ترجع معظم الاختلافات الفقهية التي وقعت لعلماء السلف.
فأحيانا لا يصل الحديث الى مجتهد ما، فيفتي بمقتضى ظاهر آية او حديث آخر او بقياس على مسألة سبق فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء، او بمقتضى استصحاب للحال السابقة (115) ، او بمقتضى أن الاصل البراءة وعدم التكليف (116) او بموجب أي وجه متغير من وجوه الاجتهاد.
وقد يصل في الواقعة موضع البحث الى مجتهد آخر حديث فيفتي بمقتضاه فتختلف فتياهما.
وأحيانا يصل الحديث الى المجتهد، ولكنه يرى فيه علة تمنع من العمل بمقتضاه كاعتقاده عدم صحة اسناده الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجود مجهول او متهم، او سيء الحفظ في سلسلة اسناده او لانقطاعه او ارساله، او لكونه يشترط في خبر الواحد العدل الحفاظ شروطا لا يشترطها غيره، فيعمل أحدهما بالحديث، لأن له طريقا صحيحا متصلا عنده، ولا يعمل الآخر بمقتضاه لعلّة من العلل المذكورة، فتختلف الاقوال.
(115) استصحاب الحال: هو جعل الحكم الثابت في الماضي مستمرا إلى الحاضر لعدم تيقن المغير أو إبقاء ما كان على ما كان.
(116)
الأصل عدم التكليف وبراءة ذمة العبد من التكاليف ولذلك فإنه لا تكليف إلا بدليل.
وقد تختلف اقوال العلماء لاختلاف آرائهم في معاني الحديث ودلالته، وذلك كاختلاف اقوالهم في مسائل:«المزاينة» (117) و «المخابرة» (118) و «المحاقلة» (119) و «الملامسة» (120) و «المنابذة» (121) و «الغرر» (122) لاختلافهم في تفسيرها.
وقد يصل الحديث لبعضهم من طريق بلفظ، ويصل لمجتهد آخر بلفظ مغاير وذلك كأن يسقط احدهما من الحديث لفظا لا يتم المعنى الا به، او يتغير معنى الحديث بسقوطه.
وقد يصل الحديث الى أحد المجتهدين مقترنا بسبب وروده، فيحسن فهم المراد منه، ويصل الى آخر من غير سبب وروده، فيختلف فهمه له.
(117) المزابنة: لغة المدافعة، وفي اصطلاح أهل العلم مثل: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وبيع العنب بالزبيب، وبيع الزرع بالحنطة كيلا، وعند بعضهم يراد بالمزابنة المزارعة، ينظر القاموس الفقهي (158) .
(118)
المخابرة: أن يعطي المالك الفلاح أرضا يزرعها على بعض ما يخرج منها، أو هي العمل في الارض ببعض ما يخرج منها.
(119)
المحاقلة: هي بيع الزرع قبل بدوّ إصلاحه.
(120)
الملامسة: بيع كان في الجاهلية وصورته: أن يلمس الرجل المبيع ومجرد لمسه يعتبر إبراما للبيع من غير أن يفحصه أو ينشره، وغالبا ما يكون بالثياب.
(121)
المنابذة: ان يبيع المرء ثوبه بثوب غيره، أو بثمنه ويعتبر مجرد نبذ الثوب إبراما للبيع.
(122)
بيع ما لا يعلم وجوده وعدمه، أو لا تعلم قلته أو كثرته أو لا يقدر على تسليمه.
وقد يسمع راو بعض الحديث، ويسمع الآخر الحديث كاملا. وقد ينقل الحديث من كتاب بلفظ مصحّف او متغير، ويبني عليه، وينقله آخر بلفظ لم يدخله شيء من ذلك فتختلف الاقوال بناء على ذلك، وقد يصح الحديث عند المجتهد ولكنه يعتقد أنه معارض بما هو أصح منه او اقوى فيرجح الاقوى، او لا يتضح له أقوى الدليلين، فيتوقف عن الاخذ بكل منهما، حتى يظهر له مرجح.
وقد يعثر مجتهد على ناسخ للحديث، او مخصص لعامه، او مقيد لمطلقه ولا يطلع مجتهدا آخر على شيء من ذلك، فتختلف مذاهبهما (123) .
3 أسباب تعود الى القواعد الاصولية وضوابط الاستنباط:
علم اصول الفقه هو: «معرفة ادلة الفقه على سبيل الاجمال، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد) .
فهذا العلم عبارة عن: مجموع القواعد والضوابط التي وضعها المجتهدون لضبط عملية الاجتهاد واستنباط الاحكام الشرعية الفرعية من الادلة التفصيلية، فيحدد المجتهدون في مناهجهم الاصولية الادلة التي تستقى منها الاحكام، ويستدلون لحجية كل منها، ويبيّنون جميع العوارض الذاتية لتلك الادلة لتتضح طرائق استفادة الاحكام منها ويحددون طرق استفادة الحكم الشرعي من كل دليل من تلك القاعدة، والخطوات التي يسلكونها منذ البداية حتى الوصول الى الحكم الشرعي.
(123) انظر رفع الملام (7) المكتب الإسلامي.
وهذه القواعد والضوابط اختلفت مذاهب المجتهدين فيها: فنجم عن الاختلاف فيها اختلاف في المذاهب الفقهية التي يذهب كل منهم اليها فبعض الائمة يذهب الى أن فتوى الصحابي اذا اشتهرت ولم يكن لها مخالف من الصحابة انفسهم حجة لأن الثقة بعدالة الصحابة تشعر بأن الصحابي ما أفتى بما أفتى به الا بناء على دليل، او فهم في دليل، او سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشتهر ولم يصل الينا.
وبعضهم لا يرى في مذهب الصحابي هذا الرأي، ويعتبر الحجة فيما يرويه الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يراه، فتختلف مذاهب الفقهاء بناء على ذلك.
وبعض المجتهدين يأخذ بـ «المصالح المرسلة» أي: تلك الامور التي لم يوجد في الشرع ما يدل على اعتبارها بذاتها كما لم يوجد فيه ما يدل على الغائها بذاتها فهي مرسلة مطلقة عن الالغاء والاعتبار فاذا ادرك المجتهد في تلك الامور ما يحقق مصلحة، قال بمقتضى تلك المصلحة باعتبار أن الشارع ما شرع الاحكام الا لتحقيق مصالح العباد.
وهناك آخرون لا يأخذون بهذا ولا يعتبرونه أمرا تستفاد منه الاحكام فتختلف اقوالهم في الوقائع بناء على ذلك.
وهناك امور اخرى من هذا النوع اختلف المجتهدون فيها، وتعرف في كتب اصول الفقه بـ «الادلة المختلف فيها» كـ «سد الذرائع» و «الاستحسان» و «الاستصحاب» و «الاخذ بالاحوط» و «الاخذ بالاخف» و «الاخذ بالاثقل» و «العرف» و «العادة» وغيرها.
كما أن هناك اختلافا في بعض الامور المتعلقة بدلالات النصوص، وطرق تلك الدلالات، وما يحتج بها منها، وعن كل ذلك نشأت اختلافات فقهية في كثير من الفروع.
تلك هي أهم وأبرز الاسباب التي ترجع اليها الاختلافات الفقهية نبهنا اليها بايجاز ومن أراد الاستقصاء ومعرفة كل تلك الاسباب، او جلها مع امثلتها، فليرجع الى الكتب التي الفت لمعالجة هذا الامر قديما وحديثا (124) .
(124) تنظر نزهة الأولياء (392) . ودائرة معارف القرن العشرين (4/141) .