الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسمعوا احاديث ورووا روايات وأخذ كل قوم بما سبق اليهم وأتوا به من اختلاف الناس فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. فقال الخليفة: وفقك الله يا أبا عبد الله» (127) .
فأي رجل هذا الامام الجليل الذي يأبى أن يحمل الناس على الكتاب الذي أودع فيه أحسن ما سمع من السنة، وأقوى ما حفظ وأدرك من العلم الذي لا اختلاف فيه عند أهل المدينة وذلك الحشد من علماء عصره.
رسالة الليث بن سعد الى الامام مالك:
ولعل من أفضل وأحسن أمثلة أدب الاختلاف تلك الرسالة العلمية الرائعة التي بعث بها فقيه مصر وامامها وعالمها الليث بن سعد الى الامام مالك، يعرض عليه فيها وجهة نظره في أدب جم رفيع حول كثير مما كان الامام مالك يذهب اليه ويخالفه فيه الليث بن سعد، ونظرا لطول الرسالة نقتطف منها ما يشير الى ذلك الادب الرفيع الذي اختلف فيه ظله سلف هذه الامة، وكرام علمائها، يقول الليث بن سعد:
«
…
سلام عليك، فاني احمد الله الذي لا اله الا هو أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة، قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه
(127) المرجع السابق (307) والفكر السامي (1/336) .
بالعون على شكره والزيادة من احسانه
…
ثم يقول: وإنه بلغك أني افتي الناس باشياء مخالفة لما عليه الناس عندكم، وأني يحق عليّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت اليها الهجرة، وبها نزل القرآن، وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله رب العالمين لا شريك له» .
ثم يمضي الإمام الليث بن سعد في رسالته موردا أوجه الاختلاف بينه وبين الإمام مالك رحمهما الله تعالى حول حجية عمل أهل المدينة مبينا أن كثيرا من السابقين الأولين الذين تخرجوا في مدرسة النبوة حملوا الى مشارق الارض ومغاربها، وهم يجاهدون، ما تعلموه من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبيّن أن التابعين قد اختلفوا في أشياء وكذلك من أتى بعدهم من أمثال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث يذكر بعض مآخذه عليه، ثم يقول:«ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن ما عمله» ثم يذكر من أمثلة الاختلاف بينه وبين الإمام مالك قضايا عديدة مثل: الجمع ليلة المطر والقضاء بشاهد ويمين ومؤخر الصداق لا يقيض إلا عند الفراق وتقديم الصلاة على الخطبة في الاستسقاء
…
وقضايا خلافية أخرى، ثم قال في نهاية الرسالة
إن هناك كثيرا من المناظرات العلمية الدقيقة المليئة بأدب الاختلاف حفلت بها كتب التراجم والتاريخ والمناظرات ونحوها، ولا يكاد المرء يفتقد «أدب الاختلاف» بين أهل العلم إلاّ بعد شيوع التقليد وما رافقه من تعصب وتعثر في سلوك أهل العلم، ونظراتهم الى العلم نفسه، ولاسيما بعد أن خلت الساحة من أمثال العلماء الذين يقول فيهم الإمام الغزالي:«وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا» فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، وحل محل هذا الرعيل المبارك طلاب الدنيا بالدين، وحل الذي هو أدنى مكان الذي هو خير، وفي ذلك يقول الإمام الغزالي: «فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة
(128) تلتمس الرسالة كاملة في إعلام الموقعين (3/83 88) والفكر السامي (1/370 376) .
عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا بطلب العلم توصلا إلى نيل العز، ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرفوا اليهم، وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم إلاّ من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله» (129) .
لقد صوّر الإمام الغزالي رحمه الله واقع العلماء بعد أن غدت الدنيا مطلبهم، وصار الدين الطريق الوحيد الموصل إلى أبواب الولاة، كما أصبحت الرغبة في كسب ودّهم هي التي تدفع فئات ممن تزيوا بزي العلماء إلى طلب العلم.
إن الإمام مالكا عليه رحمة الله يقول: «لا يؤخذ هذا العلم من أربعة، ويؤخذ ممن سواهم: لا يؤخذ من سفيه، ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو إلى بدعته، ولا من كذّاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من رجل له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحمل ويحدث به» (130) . وقال أيضا: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين
(129) إحياء علوم الدين (1/41) وما بعدها الباب الرابع في سبب إقبال الخلق على علم الخلاف.
(130)
الانتقاء (16) .