الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، وإن كان لابن عمر فضل صحبة فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله، فسكت الأوزاعي (63) .
ونقل عن أبي حنيفة أنه قال: «هذا الذي نحن فيه رأي لا نجبر أحدا عليه ولا نقول: يجب على أحد قبوله بكراهية فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به» (64) .
فالجميع متبعون، فحين تصح السنة لا يخالفها أحد وإذا حدث فإنه اختلاف في فهمها، يسلم كل للآخر ما يفهمه، ما دام اللفظ يحتمله، ولا شيء من الادلة الصحيحة عند الفريقين يعارضه.
أثر الخلاف السياسي في الاختلافات الاعتقادية والفقهية:
من الأمور التي لابد أن نشير إليها أن ما ذكرناه من اختلافات كان شأن جماهير الأمة وغالبيتها العظمى، حيث لا تتعدى الاختلافات القضايا الفقهية التي تضمحل وتزول حين يحتكم إلى النصوص التي تعلو الشبهات من كتاب وسنة فيذعن الجميع للحق في ظل أدب نبوي كريم، لأن سبب الخلاف لا يعدو أن يكون كما قلنا عدم وصول سنة في الأمر لأحدهم ووصولها للآخر، أو اختلافا في فهم النص أو في لفظه، ولكن
(63) الفكر السامي (1/320) .
(64)
الانتقاء (140) .
هناك أمرا آخر قد استجد وهو: الاختلافات السياسية التي أعقبت فتنة مقتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وانتقال الخلافة إلى الكوفة ثم إلى الشام، وما تخلل ذلك من أحداث جسام، فإن تلك الأحداث التي أدخلت الى دائرة الاختلاف أمرا أخرى كانت خارجها، وساعدت على انطواء أهل كل بلد أو مصر على ما وصلهم من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إلى ما لدى أهل الأمصار الأخرى نظرة مختلفة متحفظة كثيرا ما تؤثر فيها ظروف التأييد السياسي أو المعارضة، واتخذ العراق بمصريه العظيمين (الكوفة والبصرة) بيئة خصبة لتفاعل الأفكار السياسية وتعقيدها وتصديرها إلى جهات مختلفة، ففيه نشأ التشيع (65)
وظهرت
(65) الشيعة: فرقة من الفرق الإسلامية سميت بذلك لإعلانها مشايعة علي وأولاده رضي الله عنهم بالذهاب الى أنهم هم الأحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرون أن الإمامة منصب ديني كالرسالة، فلا تفوض الى البشر، ولا يتوصل إليها بالانتخاب أو نحوه بل هي كالنبوة، اختيار من الله تعالى يكشف عنه النص جليا كان أو خفيا، ويعتقدون بظهور المعجزة على يد الإمام كما تظهر على يد الإمام كما تظهر على يد النبي، والأئمة عندهم معصومون من الصغائر والكبائر كالأنبياء، وهم فرق كثيرة أبرزها الإمامية والزيدية وتجمع فرقهم على اختلافها، إضافة الى ما ذكرنا على القول بالتولي على الائمة من آل البيت والبراءة من مخالفيهم قولا وفعلا وعقدا إلا في حال التقية، واقرب فرقهم الى أهل السنة الزيدية، ثم الإمامية بشيء من التساهل.
تراجع أصول مذاهبهم في كتاب «أصول الكافي» وشروحه وفي «أصول الشيعة وأصولها» ولمعرفة المزيد من مقالاتهم تراجع «الملل والنحل» للشهرستاني (1/234) والفصل لابن حزم (4/179 188) والفرق بين الفرق (29) ، واعتقادات فرق المسلمين (77 95) طبعة مكتبة الكليات الأزهرية، والفرق الإسلامية (33) والحور العين (178) والتبصير في الدين (27 43) طبعة عالم الكتب.
الجهمية (66)
والمعتزلة (67) ، وانتشر الخوارج (68) وجملة من أهل الأهواء والبدع
…
وبدأ وضع الحديث، وتأليف القصص ذات المغزى السياسي، ووضع المنافرات على ألسنة الناس، حتى قال الإمام مالك
(66) الجهمية: فرقة تنسب الى جهم بن صفوان الذي قتل سنة (128 هـ) من أهم آرائها أنها تذهب الى عدم جواز وصف الباري سبحانه بأي صفة يصح أن يشاركه غيره بها، وجواز اتصافه تعالى بما لا يشاركه فيه غيره لكونه خالقا، ويرون أن العبد مجبور على كل ما يفعل، لا اخيار له في شيء اصلا وأن أفعاله مضافة الى الخالق تعالى فقط وإضافتها الى العبد من قبيل المجاز، كما يعتقدون أن الجنة والنار ستفنيان بعد دخل الناس إليهما كما سيفنى الخلق كله.
ويمكن التعرف على المزيد من مقالاتهم: في الزينة في الكلمات الإسلامية العربية لأبي حاتم أحمد بن حمدان الرازي الشيعي (ق3/268) واعتقادات فرق المسلمين (103) والتبصير في الدين (107 108)
(67)
المعتزلة: فرقة يسميهم جماهير المسلمين بالمعتزلة، ويسمون أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وهم يرون أنه لا شيء قديم سوى الله سبحانه وتعالى، ولقد اشتهروا بالقول بخلق القرآن الكريم، وأن الله سبحانه وتعالى متصف بصفات لا تميز لها وإنما هي قائمة بذاته، وأن عليه سبحانه وتعالى اختيار فعل الأصلح لعبده، ولهم أصول عرفت بالأصول الخمسة، يقوم عليها مذهبهم، وهم فرق عدة. راجع لمعرفتهم ومعرفة تفصيل مقالاتهم: اعتقادات الفرق للرازي (23) وما بعدها والتبصير في الدين (63) وما بعدها. والملل والنحل (1/61 132) من طبعة الأزهر، والفرق بين الفرق (93 190) .
(68)
الخوارج: جملة من الفرق، تفرعت عن الذين خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه وعلى معاوية بعد حادثة التحكيم المشهورة، وصارت لهم آراء ومذاهب ومقالات تفصيلية في مسائل مختلفة من أبرزها: قولهم بأن العبد يصير كافرا بمجرد ارتكاب الذنب، ولذلك كفروا معظم الصحابة ومنهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين، انظر لمعرفة فرقهم وتفاصيل مقالاتهم اعتقادات الفرق للرازي (5) وما بعدها والتبصير في الدين (45) وما بعدها والملل والنحل (1/195 256) من طبعة الأزهر، والفرق بين الفرق (54 93) .
في الكوفة: «إنها دار الضرب» (69) وقال الزهري: «يخرج الحديث من عندنا شبرا فيعود في العراق ذراعا» (70) .
وهذه الأمور جعلت الفقهاء العراقيين أنفسهم يتخذون من الاحتياطات ويضعون من الشروط لقبول السنن والأخبار ما لم يكن من سبقهم يلتفت اليه، وذلك حرصا منهم على ألاّ يدخل إلى فقههم من فكر أهل الأهواء والبدع والفرق المتصارعة ما يفسد عليهم دينهم، فما بالك بغير العراقيين الذين بلغ بهم الخوف من الأخذ عن العراقيين مداه، حتى كان أهل الحجاز يرون أن حديث العراقيين أو الشاميين لا يقبل إذا لم يكن له أصل عند الحجازيين (71) .
وقيل لأحد علماء الحجاز: حديث سفيان الثوري عن منصور المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة النخعي، عن عبد الله بن مسعود
…
أي: ما رأيك في إسناد هذه سلسلته، وهو أصح إسناد لدى العراقيين؟ قال: إن لم يكن له اصلا في الحجاز فلا (72) .
واتخذ العباس من ربيعة بن أبي عبد الرحمن (73) وزيرا ومستشارا وهو
(69) الفكر السامي (1/313) .
(70)
الانتقاء.
(71)
الفكر السامي (1/312) .
(72)
الفكر السامي (1/312) .
(73)
ربيعة بن أبي عبد الرحمن: هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي المدني، ويقال له فروخ، يكنى بأبي عثمان، ويلقب بربيعة الرأي، إمام مجتهد، وهو من ابرز شيوخ الإمام مالك. توفي بالهاشمية من الأنبار بالعراق سنة (136 هـ) وقيل (133 142 هـ) له ترجمة في التهذيب (3/258) وتاريخ بغداد (8/420) والحلية (2/259) وصفة الصفوة (2/148) والشذرات (1/194) .
مدني فاستعفاه، وعاد إلى المدينة بعد فترة قصيرة، فقيل له: كيف رأيت العراق وأهلها؟ فقال: رأيت قوما حلالنا حرامهم، وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من اربعين الفا يكيدون هذا الدين!!
…
ونقل عنه قوله: كأن النبي الذي أرسل الينا غير النبي الذي ارسل اليهم (74) .
وهذه الأقوال وإن كان المقصود بها أهل الأهواء والبدع في العراق لا أهل السنة وجماهيرها فيه، إلا أن لها دلالة واضحة على بعض الأمور ذات الآثار البعيدة المدى في الحركة الفقهية، ومواقف فقهاء البلدين وطرائقهم ومناهجهم في الاستنباط.
فأهل الحجاز يعتقدون أنهم قد ضبطوا السنّة، فلم يشذ عنهم منها شيء، فالمدينة كان فيها عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، خلفهم عليه الصلاة والسلام بعد غزوة حنين، عاشوا فيها إلى وفاته. وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى أهل الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ولكنه حين يكتب إلى المدينة فإنه يكتب إليهم يسألهم عمّا مضى وان يعلموه بما عندهم من السنن ليرسل بها إلى الآخرين. وكان حامل السنة وفقه الصحابة وآثارهم في المدينة سعيد بن المسيب وأصحابه الذين أخذ عنهم بعد ذلك المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم، وكان
(74) الفكر السامي (1/312) .
علماء المدينة من التابعين يرون أن السنن والآثار التي بين أيديهم كافية لتلبية الحاجة الفقهية، وأنه لا شيء يدعهم إلى الأخذ بالرأي بكل ضروبه، على حين كان يرى بعضهم خلاف ذلك، ويأخذ بالرأي حتى عرف به وحمله لقبا، مثل: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، شيح مالك الذي لقب بـ «ربيعة الرأي» ولكن الكثرة الغالبة كانت لعلماء السنن والأثار.
أما العراقيون كإبراهيم النخعي (75) وأصحابه فكانوا يرون أن نصيبهم من السنن ليس بقليل، فقد اش بينهم منا لصحابة عدد وافر جاوز الثلاثمائة، وكان كثير منهم من الفقهاء وفي مقدمتهم عبد الله بن مسعود الذي كان من أفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، كما كان بينهم علي رضي الله عنه مدة خلافته، وأبو موسى الأشعري وعمار وغيرهم.
وكان إبراهيم النخعي ومعه معظم علماء العراق يرون أن أحكام الشرع معقولة المعنى، مشتملة على ما فيه مصالح العباد، وأنها بنيت على أصول محكمة، وعلل ضابطة لتلك المصالح والحكماء، تفهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الأحكام الفرعية شرعت من أجل تلك العلل، وأن الفقيه هو ذلك الذي يبحث عن علل الأحكام التي
(75) إبراهيم النخعي: هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي المكنى بابي عمران، رأس مدرسة الرأي، وهو وارث فقه ابن مسعد، توفي سنة (96هـ) كان ممن جمع بين الفقه والحديث، فهو ثقة حجة باتفاق، قال الشعبي حين بلغه موته: ما ترك إبراهيم بعده مثله، له ترجمة في طبقات ابن سعد (6/71) وصفة الصفوة (3/86) والتذكرة (1/73) والحلية (4/217) وتهذيب التهذيب (1/87) .
شرعت لأجلها، ويتفهم غاياتها، ليجعل الأحكام مرتبطة بعللها وجودا وعدما، كما كان علماء العراق يرون أن النصوص الشرعية متناهية لكن الوقائع لاتتناهى، فالنصوص قد توقفت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لم تلاحظ علل الأحكام التي شرعت بالكتاب والسنة فإن من غير الممكن مواجهة الحاجة التشريعية لدى الناس.
عن الحسن بن عبيد الله النخعي، قال: قلت لإبراهيم النخعي: أكل ما أسمعك تفتي به سمعته؟ فقال: لا. قلت: تفتي بما لم تسمع؟ قال: سمعت وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت (76) . تلك كانت سمة مدرسة العراق: الرأي إن غاب الأثر.
أما سعيد بن المسيب وعلماء المدينة منهم فكانا لا يأبهون بالعلل إلا حين يعييهم الوصول الى نص أو أثر، وكيف يعييه ذلك وهو يقول: ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي قضاء إلا وقد علمته (77) !! كما أن بيئة المدينة لم يطرأ عليها ما طرأ على البيئة العراقية من تغيرات، ولم يحدث فيها من الوقائع ما حدث في العراق، ولذلك فإن الكثيرين من علماء المدينة كانوا إذا سئل أحدهم عن شيء لديه فيه أثر أجاب، وإلا اعتذر.. سئل مسروق عن مسالة فقال: لا أدري. فقيل له: فقس لنا برأيك. فقال: أخاف أن تزل قدمي (78) .
(76) الفقيه والمتفقه (1/203) .
(77)
طبقات ابن سعد.
(78)
إعلام الموقعين (1/257) .
ومما يوضح تهيب أهل المدينة من القول بالرأي فيما لا أثر فيه ما قاله ابن وهب: قال مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء، فإذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه، أو بقياس أو تقليد من يحسن به الظن، أو عرف أو عادة أو سياسة أو ذوق، أو كشف أو منام، أو استحسان أو خرص والله المستعان، وعليه التكلان (79) .
ومع أن الخلاف قد احتدم بين المدرستين وجرى تبادل النقد بين الفريقين، لم يتخل أي منهما عن أدب الاختلاف كما تبين لنا مما تقدم من المناظرات، إضافة إلى مناظرات أخرى كثيرة جرت بين رجال المدرستين لم يخرج أحد منهم فيها عن حدود أدب الاختلاف (80) فلا تكفير ولا تفسيق ولا اتهام بابتداع منكر ولا تبرؤ.
عن ابن أبي شبرمة قال: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد بن الحنفية، فسلمت عليه، وكنت له صديقا، ثم أقبلت على جعفر وقلت له: أمتع الله بك، هذا رجل من أهل العراق وله فقه وعقل. فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه؟ ثم قال: أهو النعمان؟ فقال أبو حنيفة: نعم أصلحك الله. فقال جعفر: اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس إبليس، إذ أمره الله بالسجود
(79) إعلام الموقعين (1/256) ط. دار الجيل.
(80)
ينظر في ذلك نحو (إعلام الموقعين1/130 ومابعدها) .
لآدم، فقال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين
…
ثم قال لابي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ قال أبو حنيفة: لا أدري.
قال جعفر: هي «لا إله إلاّ الله» فلو قال: «لا إله» ثم أمسك كان كافرا، فهذه كلمة أن لها شرك وآخرها إيمان. ثم قال له: ويحك أيهما أعظم عند الله: قتل النفس التي حرم الله أو الزنا؟ قال: بل قتل النفس، فقال جعفر: إن الله قد قبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلاّ اربعة، فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيهما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ قال: بل الصلاة. قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة، اتق الله يا عبد الله ولا تقس، فإنا نقف غدا نحن وأنت بين يدي الله فنقول: قال الله عز جل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت وأصحابك: قسنا ورأينا، فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء
…
(81) .
إن أسئلة الإمام جعفر لم تكن مما يعجز واحد مثل أبي حنيفة عن الإجابة عنها، ولكنه الأدب مع آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي جعله يسكت.
نستوحي مما تقدم من المناظرات أن الادب النبوي الرفيع كان معين المتناظرين، وأن الاختلاف لم يبين بين الإخوة حواجز تحول دون الالتقاء، وما تناقله المؤرخون لتلك الفترة من غلظة إنما كان يجري
(81) إعلام الموقعين (1/255 256) .