الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله فقد ان صاحب سنة واثر، وفضل وخير، مع لسان فصيح، وعقل صحيح رصين (148) .
بين الإمام أحمد والشافعي:
عن عبد الله بن الإمام أحمد قال، قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ فقال: يا بني: كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟
وعن صالح بن الإمام أحمد قال: لقيني يحيى بن معين فقال: أما يستحيي ابوك مما يفعل؟ فقلت: وما يفعل؟ قال: رأيته مع الشافعي والشافعي راكب، وهو راجل آخذ بزمام دابته. فقلت لأبي ذلك، فقال: إن لقيته فقل: يقول لك أبي: إذا اردت أن تتفقه فتعال فخذ بركابه من الجانب الآخر (149) .
وعن أبي حميد بن أحمد البصري قال: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث. فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه يقول الشافعي وحجته أثبت شيء فيه. (ثم قال: أي أحمد) قلت للشافعي: ما تقول في مسألة كذا وكذا فأجاب فيها، فقلت: من اين قلت؟ هل فيه حديث أو
(148) المرجع السابق (73) .
(149)
المرجع السابق.
كتاب؟ قال: بلى فنزع في ذلك حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث نص (150) .
وكان أحمد رحمه الله يقول: إذا سئلت في مسالة لا أعرف فيها خبرا قلت فيها: يقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش (151) .
وعن داود بن علي الأصبهاني قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لقيني أحمد بن حنبل بمكة فقال: تعالى حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله
…
فأراني الشافعي.
كان ذلك رأي أحمد بن حنبل في الشافعي، ولا غرو فأن يكون التلميذ معجبا بأستاذه معترفا له بالفضل، ولكن الشافعي نفسه لم يمنع تتلمذ أحمد عليه من أن يعترف به بالفضل والعلم بالسنة فيقول له: أما أنتم فأعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا فأعلموني إن يكن كوفيا أو بصريا أو شاميا، أذهب إليه إذا كان صحيحا (152) .
وكان الشافعي حين يحدث عن أحمد لا يسميه (تعظيما له) بل يقول: «حدثنا الثقة من أصحابنا أو أنبأنا الثقة أو أخبرنا الثقة» (153) .
وبعد: فتلك لمحات خاطفة (154) توضح لنا بعض ما كان عليه
(150) آداب الشافعي ومناقبه (86 87) .
(151)
هامش آداب الشافعي ومناقبه (86) .
(152)
الانتقاء (75) .
(153)
مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (116) .
(154)
ولعل الله تعالى ينسا الأجل، ويمنح من الفراغ نعمة، نجمع فيها ما يمكن جمعه من تراث أئمة الإسلام في هذا المجال.
أسلافنا من أدب جم، وخل عال لا ينال منه الاختلاف، ولا يؤثر فيه تباين الاجتهادات، وتلك آداب الرجال الذين تخرجوا في المدرسة المحمدية، فما عاد للهوى عليهم من سلطان؛ وكتب التراجم والطبقات والمناقب والتاريخ حافلة بما لا يحصى من المواقف النبيلة، والمناظرات الطريفة بين كبار الأئمة والتي كان الأدب سداها، والخلق الإسلامي الرفيع لحمتها، وحري بنا ونحن نعيش الشتات في كل أمورنا أن نعود إلى فيء تلك الدوحة المباركة، ونلتقي على الآداب الكريمة التي خلفها لنا سلفنا الصالح إن كنّا جادين في السعي لاستئناف الحياة الإسلامية الفاضلة.
ونحن لا ننكر أن هناك مواقف لم تلتزم فيها هذه الآداب، أو خلت من تلك السمات الخيرة التي ذكرناها، ولكنها كانت مواقف من أولئك المقلدين أو المتأخرين الذين أشربوا روح التعصب، ومردوا على التقليد، ولم يدركوا حقيقة الروح العلمية العالية الكامنة وراء أسباب اختلاف الفقهاء، ولم يلهموا تلك الآداب الرفيعة التي كانت وليدة النية الصادقة في تحري الحق، وإصابة الهدف الذي رمى إليه الشارع الحكيم، ويبدو أنهم كانوا من أولئك الذين قال فيهم الإمام الغزالي:
فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلّة بالإقبال عليهم.
والمطلوب سيد نفسه لا ينزع إلا عن الحق، الطالب باع نفسه فلا يشدوا إلا بما يطيب لشاريه، فحولوا الاختلاف الذي كان نعمة أثرت
الفقه الإسلامي وأثبت واقعية هذا الدين ورعايته لمصالح الناس إلى عذاب أليم، وصار عاملا من أخطر عوامل الفرقة والتناحر بين المسلمين.. بل تحول إلى نقمة بددت الكثير من طاقات الأمة فيما لا جدوى منه، وشغلتها بما لا ينبغي أن تنشغل به.
والاختلاف الذي تعرضنا لبعض جوانبه في الصفحات السابقة وألمحنا إلى ما كان في رجاله من آداب رفيعة هو الاختلاف الذي وضع فيه الكاتبون كتبهم في «اسباب اختلاف الفقهاء» قديما وحديثا، أما الخلاف الذي لا تلا تلك القرون الخيرة فهو خلاف من نوع آخر، كما أن له اسبابا أخرى مختلفة.